المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة الثامنة عشرة - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - جـ ٣

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة جامع الكتاب

- ‌الرسالة الأولى[الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء]

- ‌الرسالة الثانية[التحرج عن رمي من ظاهره الإسلام بالكفر]

- ‌الرسالة الثالثة[السفر إلى بلاد الأعداء من المشركين والكفار]

- ‌الرسالة الرابعة[حكم من يسافر إلى بلاد المشركين]

- ‌الرسالة الخامسة[الهجرة والإقامة بين أظهر المشركين]

- ‌الرسالة السادسة[شدة ظهور غربة الإسلام وأهله]

- ‌الرسالة السابعة[خطر الفتنة ومضارها والسبيل لنجاة المسلم منها]

- ‌الرسالة الثامنة[التذكير بآيات الله والحث على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة التاسعة[تفنيد رسالة ابن عجلان وما فيها من المفاسد]

- ‌الرسالة العاشرة: [حكم الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام]

- ‌الرسالة الحادية عشرة[الفتنة والشقاق بين آل سعود]

- ‌الرسالة الثانية عشرة[الوصية بلزوم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما]

- ‌الرسالة الثالثة عشرة[دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب هي دعوة إلى التوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الرابعة عشرة

- ‌الرسالة الخامسة عشرة

- ‌الرسالة السادسة عشرة[رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة، والفرق بين صفات المعاني والمعنوية]

- ‌الرسالة السابعة عشرة[تفسير السبحات بالنور]

- ‌الرسالة الثامنة عشرة

- ‌الرسالة التاسعة عشرة[الطعن في كتاب الإحياء]

- ‌الرسالة العشرون[السمت والتؤدة والاقتصاد في الأمور]

- ‌الرسالة الحادية والعشرون[مؤاخذة أنصار الجاني وأقاربه بجريرة فعله]

- ‌الرسالة الثانية والعشرون[إسكان النبي عليه السلام المهاجرات دور أزواجهن ميراثا]

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون[نصيحة الشيخ للإمام فيصل بن تركي]

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون[رسالة الشيخ محمد بن عجلان ورد الشيخ حمد بن عتيق عليها]

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون[حال فتنة الأمراء بنجد وأحوالها ومآلها]

- ‌الرسالة السادسة والعشرون[الفتن الحاصلة بسبب الإمارة]

- ‌الرسالة السابعة والعشرون[مداهنة المشركين والسفر إلى بلادهم وعقاب فاعله]

- ‌الرسالة الثامنة والعشرون: [تكفير الترك للنجديين والتقاتل بينهم]

- ‌الرسالة التاسعة والعشرون[شروط السفر إلى بلد الشرك وحكم الهجرة]

- ‌الرسالة الثلاثون[الحاجة إلى العلم في حال الفتن]

- ‌الرسالة الحادية والثلاثون[التمسك بالميراث النبوي والحث على مذاكرة العلم]

- ‌الرسالة الثانية والثلاثون[الغلظة على الكفار ومتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها]

- ‌الرسالة الثالثة والثلاثون

- ‌الرسالة الرابعة والثلاثون[الأمر بالاعتصام والنهي عن التفرق والاختلاف]

- ‌الرسالة الخامسة والثلاثون[تفسير قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}]

- ‌الرسالة السادسة والثلاثون

- ‌الرسالة السابعة والثلاثون[الرهن وشروطه]

- ‌الرسالة الثامنة والثلاثون

- ‌الرسالة التاسعة والثلاثون

- ‌الرسالة الأربعون[شبهات الجهمية ونفاة الصفات]

- ‌الرسالة الحادية والأربعون[ما جرى من مفاسد العساكر التركية]

- ‌الرسالة الثانية والأربعون[حكم نهب الأعراب]

- ‌الرسالة الثالثة والأربعون[بيان مضار الفتنة ومفاسد العسكر]

- ‌الرسالة الرابعة والأربعون[الظهار وتعليقه بالمشيئة]

- ‌الرسالة الخامسة والأربعون[التحريض على لزوم الجماعة]

- ‌الرسالة السادسة والأربعون[بيان خطبة الشيخ عبد اللطيف في الفتنة بين سعود وأخيه]

- ‌الرسالة السابعة والأربعون[الحث على الجهاد]

- ‌الرسالة الثامنة والأربعون[الحث على الدعوة إلى الله ونشر العلم بين الناس]

- ‌الرسالة التاسعة والأربعون[غربة الدين وقلة الأنصار]

- ‌الرسالة الخمسون[جواب عن سؤال في حديث جابر بن عبد الله والدَين الذي كان عليه لليهودي]

- ‌الرسالة الحادية والخمسون[استعمال الماضي موضع المضارع]

- ‌الرسالة الثانية والخمسون

- ‌الرسالة الثالثة والخمسون[إلى علماء الحرمين الشريفين]

- ‌الرسالة الرابعة والخمسون[نصر مذهب السلف على علم الكلام]

- ‌الرسالة الخامسة والخمسون[نصر الدين والسنة من أفضل شعب الإيمان]

- ‌الرسالة السادسة والخمسون

- ‌الرسالة السابعة والخمسون[تحريم تعدد الجمعة في القرية الواحدة]

- ‌الرسالة الثامنة والخمسون[حكم الجهمية والصلاة خلفهم]

- ‌الرسالة التاسعة والخمسون[فشو الشرك والتعطيل]

- ‌الرسالة الستون

- ‌الرسالة الحادية والستون[الفتن والامتحانات التي وقعت بين آل سعود وحكمة الله فيها]

- ‌الرسالة الثانية والستون

- ‌الرسالة الثالثة والستون

- ‌الرسالة الرابعة والستون[تفسير قوله تعالى: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع}]

- ‌الرسالة الخامسة والستون[رد مطاعن على الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة السادسة والستون[رد على الشيخ عثمان بن منصور]

- ‌الرسالة السابعة والستون[رسالة إلى أهل الحوطة بالاعتصام بالتوحيد الخالص]

- ‌الرسالة الثامنة والستون[النصيحة إلى كافة المسلمين]

- ‌الرسالة التاسعة والستون

- ‌الرسالة السبعون[فضل الدعوة إلى الله]

- ‌الرسالة الحادية والسبعون[حال الأمة الإسلامية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب]

- ‌الرسالة الثانية والسبعون[وصف رسالة من رسائل الشيخ ومدحه هو وآله]

- ‌الرسالة الثالثة والسبعون[شبهات في تحريم القهوة]

- ‌الرسالة الرابعة والسبعون[نفي كون ما جاء به الشيخ محمد بن عبد الوهاب مذهبا خامسا]

- ‌الرسالة الخامسة والسبعونفي ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما قام به ودعا إليه

- ‌{ذيل لهذه المجموعة في فتويين للشيخ رحمه الله تعالى وجدتا في أثنائها}

- ‌(1)(سؤال عن بيع عقار الميت لوفاء دينه)

- ‌(2)(سؤال عن تركة ميت قسم ماله بين أولاده وأوصى لصغارهم)

- ‌كلمة في هذه المجموعة

الفصل: ‌الرسالة الثامنة عشرة

‌الرسالة الثامنة عشرة

وله -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة جوابا لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري.

(الأولى) فيمن آمن بلفظ الاستواء، ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء.

(الثانية) عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة.

(الثالثة) عن الفطرة عن صوم رمضان.

(الرابعة) عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن.

(الخامسة) عن الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش.

(السادسة) البداءة بالسلام على الكافر.

فأجاب بما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من: عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم: محمد بن راشد الجابري -سلمه الله تعالى-،

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، والسؤالات وصلت:

[الإيمان بالاستواء وتأويله]

(أما السؤال الأول) فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو الاستيلاء، فهذا جهمي معطل ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وهذا القول هو المعروف عند السلف عن جهم وشيعة الجهمية، فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن كالاستواء وغيره من الصفات، وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد.

وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان تلميذ الجعد

ص: 118

ابن درهم، وكان الجعد قد سكن حران، وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك؛ حتى إن خالد بن عبد الله القسري أمير واسط في خلافة بني أمية قتل الجعد، وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا. ثم نزل فذبحه، وشكره على هذا الفعل وصوبه جميع أهل السنة. وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة والتكليم والاستواء ونحو ذلك من الصفات لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته. ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه. ولو عرفوا أن ما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات.

لو عرفوا هذا لسلموا من التعطيل، وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال، وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم -كما قال بعض العلماء- لا يعبدون واحدا أحدا فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما.

وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه جهم بن صفوان، ولذلك يسمى أهل هذا المذهب عن السلف وأئمة الأمة جهمية نسبة

ص: 119

إلى جهم، ثم أعلن به، وأظهره بشر المريسي وأصحابه في أوائل المئة الثالثة؛ لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم، وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا، وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب. وجرى على إمام السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان، وأعظم بلية، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله حتى أجيبكم إليه، فيأبون، ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والأدلة العقلية الصريحة؛ وصنف في ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم.

والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضُلّال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم. وقد جمع اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم في كتابه الذي سماه:"كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة"، ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل قدم به عبد الله بن معيذر عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف.

[بدعة الجهمية وفتنتهم لأهل السنة]

إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل عصر ومصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي جاء بها الكتاب والسنة، يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وماوصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم

ص: 120

من غير تمثيل ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تشبيه، لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة؛ فإن الله -تعالى- أعظم وأجل وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته بمجرد عقولهم وآرائهم وخيالات أوهامهم، بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الاستواء وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم. وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وظنه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة، وسبب ذلك هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف.

قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه، فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم أن يبحث عن مذهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمدصلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة.

قال -تعالى-: {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقال -تعالى-:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن

1 سورة الأعراف آية: 2.

2 سورة الأنعام آية: 155.

ص: 121

تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة. وإن كان نظر العبد وميله إلى كلام اليونان، وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه. ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته.

[كفر من جحد الاستواء وتأوله بما يخالف النصوص]

وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به فهو أيضا كافر، وكفره أغلظ وأفحش مِنْ كفر مَنْ قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله. ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والجهمي يوافق على كفر هذا؛ ولا يشكل كفر هذا على من عرف شيئا من الإسلام قال -تعالى-:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 1 أي بالقرآن.

وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش، فقد قدمنا أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة وأنهم يقفون، وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة وحيث انتهيا. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله -تعالى- إلا بماوصف به نفسه، ووصفه به رسوله، انتهى، وذلك لعلمهم بالله، وعظمته في صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم جلاله. ولفظ المماسة لفظ مخترع مبتدع لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص من الاستواء والعلووالارتفاع والفوقية فهو قول باطل ضال قائله مخالف للكتاب والسنة،

1 سورة هود آية: 17.

ص: 122

ولإجماع سلف الأمة مكابر للعقول الصحيحة والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب من جنس ما قبله. وإن لم يرد هذا المعنى بل أثبت العلو والفوقية والارتفاع الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما. فهذا اللفظ 1 لا يجوز نفيه ولا إثباته، والواجب في هذا الباب متابعة الكتاب والسنة والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية وترك المتشابه.

وأما من يقول: إذا قلتم: "إن الله على العرش استوى" فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟

فجوابه أن يقال: أما كيف كان، فقد أجاب عنها إمام دار الهجرة الذي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه. فأخبر رحمه الله أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات؛ وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته وعظم جلاله. وعقول العباد لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر. وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان، فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير. ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره، واصف؟

1 يعني قوله: "استوى من غير مماسة للعرش" فإن نفيه قد يستلزم نفي ما هو ثابت بالنصوص القطعية، وإثباته باطل لفظا ومعنى.

2 سورة طه آية: 5.

ص: 123

لأنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 1 {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقد قال بعضهم 2 مخاطبا للزمخشري منكرا عليه نفي الصفات شعرا:

قل لمن يفهم عني ما أقول

قصر القول فذا شرح يطول

أنت لا تفهم إياك، ولا

من أنت ولا كيف الوصول

لا ولا تدري خفايا ركبت

فيك حارت في خباياها العقول

أنت أكل الخبز لا تعرفه

كيف يجري منك أم كيف تبول

أين منك الروح في جوهرها

كيف تسري فيك أم كيف تجول

فإذا كانت طواياك التي

بين جنبيك كذا فيها ضلول 3

كيف تدري من على العرش استوى

لا تقل كيف استوى كيف النّزول

وبالجملة فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه، وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى، وهو يسمع إثبات الاستواء في سبعة مواضع من القرآن.

[إبطال ايرادات على الاستواء على العرش]

وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها مرفوعا من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: "يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في

1 سورة المؤمنون آية: 14.

2 المشهور أنه أبو حامد الغزالي رحمه الله.

3 الرواية التي نحفظها: بها أنت جهول، بدل: كذا فيها ضلول.

ص: 124

عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء"1 انتهى الحديث. فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه، والعماء هو السحاب الكثيف. قال يزيد بن هارون إمام أهل اليمن من أكابر الطبقة الثالثة من طبقات التابعين، ومن سادتهم: معناه ليس معه شيء.

وأما قول السائل

2 وفي زعم هذا القائل أنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش؛ فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب تبارك وتعالى إلى شيء من خلقه؛ فإنه -سبحانه تعالى وتقدس- هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته. والمخلوقات بأسرها، العرش فما دونه، فقيرة محتاجة إليه -تعالى- في إيجادها وفي قيامها لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال -تعالى-:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 3. والسماء اسم لما علا وارتفع، فهو اسم جنس يقع على العرش، قال -تعالى-: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 4 الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش، وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} 5 الآية 6، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة إلى بارئهم وفاطرهم. وقد قرر -سبحانه- كمال غناه، وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته في الرد على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم والشرك الوخيم، قال -تعالى-:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 7 الآية. وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات. ولا

1 الترمذي: تفسير القرآن (3109)، وابن ماجه: المقدمة (182) ، وأحمد (4/ 11 ،4/ 12).

2 لم يذكر مقول القول، والظاهر أنه سقط من الناسخ هنا "وفي أي مكان" فإنه تتمة الأسئلة، والجواب رد له.

3 سورة الروم آية: 25.

4 سورة الملك آية: 16.

5 سورة فاطر آية: 41.

6 أي اقرأ الآية في هذا، وهي {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}

7 سورة يونس آية: 68.

ص: 125

يظن أحد يعرف ربه، أو شيئًا من عظمته وغناه ومجده أنه محتاج إلى العرش وغيره، وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، ومن لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، ومن فسدت فطرته، ومسخ عقله بنظره في كلام الجهمية وأشباههم حتى اجتالته الشياطين؛ فلم يبق معه أثارة من علم ولا نصيب من فهم؛ بل استواؤه على العرش صفة كمال وعز وسلطان، وهو من معنى اسمه الظاهر، ومعناه الذي ليس فوقه شيء، والعلو علو الذات وعلو القهر وعلو السلطان، كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم قال -تعالى-:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 1. وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم؛ حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة إلى ما فهمه سلف الأمة مما ينزه الرب تبارك وتعالى عنه.

[رفع اليدين بالدعاء في الصلاة]

(وأما مسألة) رفع اليدين بالدعاء في الصلاة، فالذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا اجتهد في الدعاء، وليس ذلك من السنن المتعلقة بالصلاة كما يظنه بعض من لم يعرف السنة؛ فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة.

[الفطرة عن صوم رمضان]

وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي إلا صاع كامل من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وابن عمر وغيرهما، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب، وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد، أي

1 سورة الأنعام آية: 68.

ص: 126

قوت كان كالذرة والأرز ونحوهما. وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام، وهي البر (يجزي) عن صاع من غيره، وهذا القول قاله معاوية، ورآه رأيا له، وليس بمرفوع، وقد خالفه أبو سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك، وقليل ما هم.

[الابتداء بفاتحة الكتاب عند تلاوة القرآن]

وأما الابتداء بفاتحة الكتاب كلما أراد تلاوة القرآن، فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة (قل هو الله أحد) في كل ركعة يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لم فعل ذلك؟ فقال: إني أحبها لأن فيها صفة الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه"؛ فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا أو يشابهه فلا حرج عليه. وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقدا أن الله أمر بذلك أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه فهذا يعرف بالسنة، ويخبر بها أنها إنما ابتدئت بها القراءة في الصلاة لا في سائر أحوال التلاوة.

[مخالطة أهل الشرك والبدعة لدعوتهم للإسلام]

وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش، فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والاعتزال، ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يمكن تحصيل المصالح الدينية إلا بذلك؛ فلا حرج عليه بل ربما تأكد واستحب. وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى

ص: 127

حول دمشق، ويجتمع بأميرهم، ويأمره وينهاه، ويرى في خروجه عندهم أشياء من المنكرات، وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في إحدى تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم ما رأوه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل؛ إنهم لو تركوا هذا لزاد شرهم على المسلمين وجرمهم.

[مبادأة الكافر بالسلام]

وأما البداءة بالسلام فلا ينبغي أن يبدأ الكافر بالسلام، بل هو تحية أهل الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة، وفوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيء من أصوله وحقوقه. وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويتلو عليهم القرآن، ويبلغهم ما أمر بتبليغه مع ما هم عليه من الشرك والكفر والرد القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد. والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك، وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمل السيرة النبوية والآثار السلفية يعرف ذلك، ويتحققه. وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة قال -تعالى-:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} 1، وقال -تعالى-:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} 2. والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان. وقد مرصلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، فسلم صلى الله عليه وسلم ونزل عن دابته، ودعاه إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة يعوده في منْزله، والقصة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس

1 سورة يوسف آية: 108.

2 سورة الحج آية: 78.

ص: 128