المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌(4) باب صوم المسافر ‌ ‌{الفصل الأول} 2039- (1) عن - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(4) باب صوم المسافر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب القضاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب صيام التطوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب ليلة القدر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب الإعتكاف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(8) كتاب فضائل القرآن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(9) كتاب الدعوات

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب أسماء الله تعالى

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم ‌ ‌(4) باب صوم المسافر ‌ ‌{الفصل الأول} 2039- (1) عن

بسم الله الرحمن الرحيم

(4) باب صوم المسافر

{الفصل الأول}

2039-

(1) عن عائشة، قالت:((إن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر وكان كثير الصيام. فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فافطر)) متفق عليه.

ــ

(باب المسافر) أي في بيان حكم الصوم للمسافر، من جواز فعله وتركه وبيان الأفضل منهما قال الله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيام أخر} [البقرة: 184]

2039-

قوله: (إن حمزة بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم وبالواو في آخره ابن عويمر (الأسلمي) من ولد أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمر يكنى أبا صالح، ويقال أبومحمد المدني صحابي جليل، له تسعة أحاديث استنارت أصابعه في ليلة ظلماء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسرد الصوم. مات سنة إحدى وستين، وله إحدى وسبعون، وقيل: ثمانون. (أصوم في السفر) أي أأصوم بتقدير همزة الاستفهام. وقال القاري: أي فما حكمه؟ أي فهل على جناح في الصوم أو ضده أو يقدر الاستفهام-انتهى. قلت: كذا وقع في بعض نسخ البخاري أصوم، وهي رواية النسائي أيضاً، ووقع في نسخ القسطلاني والعيني والحافظ أأصوم بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والأخرى همزة المتكلم. وهكذا وقع في جامع الأصول (ج7ص261) وشرح العمدة لابن دقيق العيد (ج2ص223) وفي رواية لمسلم إني رجل أصوم (أي من عادتي ذلك) أفأصوم في السفر، وفي أخرى لهما إني أسرد الصوم، بضم الراء أي اتابعه. واستدل به على أن لا كراهية في صيام الدهر لأنه أخبره بسرده فلم ينكر عليه بل أقره عليه وهو في السفر ففي الحضر بالأولى، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لأن التتابع يصدق بدون صوم الدهر، فإن ثبت النهي عن صوم الدهر لم يعارضه هذا الإذن بالسرد، بل الجمع بينهما واضح-انتهى. وقال شيخنا في شرح الترمذي: في الاستدلال بقوله أسرد على عدم كراهة صوم الدهر نظر، لأنه يحتمل أن يكون المراد به أي أكثر الصيام كما يدل عليه قوله "وكان كثير الصيام" فما لم ينتف هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال-انتهى. (وكان) أي حمزة (كثير الصيام) الجملة معترضة لبيان الحال الحامل له على هذا السؤال (فقال إن شئت فصم وإن شئت فافطر) بهمزة قطع. وفيه دليل على التخيير بين الصوم والفطر واستوائهما في السفر. قال الخطابي: هذا نص في إثبات الخيار للمسافر في الصوم والإفطار، وفيه بيان جواز صوم الفرض للمسافر إذا صامه، وهو قول عامة أهل العلم إلا ما روى عن ابن عمر أنه قال إن صام في السفر قضى في الحضر. وقد روى عن ابن عباس أنه قال لا يجزيه، وذهب إلى هذا داود بن علي-انتهى.

ص: 1

قلت: قال ابن حزم (ج6ص253) حديث حمزة بيان جلي في أنه إنما سأله عليه السلام عن التطوع لقوله في الخبر "إني امرؤ أسرد الصوم" قال الحافظ في التلخيص (ص194) لكن ينتقض عليه بأن عند أبي داود في رواية صحيحة من طريق حمزة بن محمد عن أبيه عن جده ما يقتضي أنه سأله عن الفرض وصححها الحاكم-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص223) ليس في حديث الباب تصريح بأنه صوم رمضان، فلا يكون فيه حجة على من منع صيام رمضان في السفر. قال الحافظ في الفتح: هو كما قال بالنسبة إلى سياق حديث الباب، لكن في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم أنه قال: يا رسول الله! أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل على جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي رخصة من الله-الحديث (وسيأتي في الفصل الثالث) وهذا يشعر بأنه سأل عن صيام الفريضة، وذلك إن الرخصة إنما تطلق في مقابلة ما هو واجب، وأصرح من ذلك ما أخرجه أبوداود والحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبيه أنه قال يا رسول الله! إني صاحب ظهور أعالجه أسافر عليه وأكريه، وأنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره فيكون ديناً علي فقال: أي ذلك شئت يا حمزة-انتهى. وقيل: الظاهر إن حمزة سأله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة عن صيام التطوع، وهو مذكور في حديث عائشة عند الشيخين. ومرة عن صوم رمضان، وهذا مذكور في رواية أبي مرواح عن حمزة عند مسلم، وفي رواية محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه عند أبي داود. وقال الباجي (ج2ص50) سؤال حمزة عام فإذا خرج الجواب مطلقاً حمل على عمومه فحمل على جواز الصوم للفرض والنفل في السفر، ولا يخص صوم إلا بدليل. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أن ذلك محمول على التطوع وهذا تخصيص بغير دليل فوجب أن يكون باطلاً-انتهى. واختلف السلف في صوم رمضان في السفر. فقالت طائفة لا يجزئ الصوم عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاءه في الحضر وهو يقول بعض الظاهرية. قال في الفتح: وحكى عن عمر وابن عمر وأبي هريرة والزهري وإبراهيم النخعي وغيرهم. واحتجوا بقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر} قالوا ظاهره فعليه عدة أو فالواجب عدة وتأوله الجمهور بأن التقدير فأفطر فعدة واحتجوا أيضاً بما في حديث ابن عباس عند الشيخين إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة على رأس ثمان سنين ونصف، ومعه عشرة آلاف إلى مكة يصوم ويصومون، حتى إذا بلغ الكديد أفطر وأفطروا. وإنما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآخر فالآخر، ففيه أن الإفطار في السفر كان آخر الأمرين، وإن الصحابة كانوا يأخذون بالآخر فالآخر من فعله فدل على أن صومه صلى الله عليه وسلم في السفر منسوخ.

ص: 2

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن هذه الزيادة مدرجة من قول الزهري كما جزم بذلك البخاري في الجهاد، وكذلك وقعت عند مسلم مدرجة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة كما في حديث أبي سعيد عند أحمد ومسلم. أنه صلى الله عليه وسلم صام بعد هذه القصة في السفر، ولفظه سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت رخصة فمنا من صام، ومنا من أفطر فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم مصبحو عدوكم فالفطر أقوى لكم فافطروا، فكانت عزيمة فافطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر. واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم ليس من البر الصوم في السفر ومقابل البر الإثم وإذا كان آثما بصومه وأجاب عنه الجمهور بأنه صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك: في حق من شق عليه الصوم كما سيأتي بيانه ولا شك إن الإفطار مع المشقة الزائدة أفضل، وأيضا نفي البر لا يستلزم عدم صحة الصوم. وقال الشافعي: يحتمل أن يكون المراد ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الكامل الذي هو أعلى المراتب، وليس المراد به إخراج الصوم في السفر عن أن يكون برا، لأن الإفطار قد يكون أبّر من الصوم إذا كان للتقوى على لقاء العدو. وقال الشافعي أيضاً: نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة، وقد روى النسائي الحديث بلفظ ليس البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوا. قال ابن القطان: إسنادها حسن متصل يعني الزيادة ورجح ابن خزيمة الأول. واحتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر في الفصل الثالث: أولئك العصاة أولئك العصاة. وأجاب عنه الجمهور بأنه إنما نسبهم إلى العصيان لأنه عزم عليه فخالفوا واحتجوا أيضاً بحديث عبد الرحمن بن عوف الآتي في الفصل الثالث وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف، والراجح إنه موقوف كما سيأتي وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحالة التي يكون الفطر فيها أولى من الصوم كحالة المشقة جمعاً بين الأدلة واحتجوا أيضاً بحديث أنس بن مالك الكعبي الآتي في الفصل الثاني. وأجيب عنه بأنه مختلف فيه كما سيأتي، وعلى تسليم صحته، فالوضع لا يستلزم عدم صحة الصوم في السفر وهو محل النزاع. وذهب أكثر العلماء منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشق به، ويروي ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص واحتجوا بحديث سلمة بن المحبق الآتي، ولأن الصوم تعلق بالذمة فالمبادرة إلى إبرائها أولى فربما طرأ من الموانع والاشتغال بخلاف القصر فإن الذمة تبرأ فيه بما يؤتي. وقال كثير منهم الفطر أفضل عملاً بالرخصة، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وقال آخرون هو مخير مطلقاً وروى عن ابن عباس وأبي سعيد وسعيد ابن المسيب وعطاء والحسن ومجاهد والليث.

ص: 3

2040-

(2) وعن أبي سعيد الخدري، قال:((غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لست عشرة مضت من شهر رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)) رواه مسلم.

ــ

وقال آخرون أفضلهما أيسرهما لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185] فإن كان الفطر أيسر عليه فهو أفضل في حقه، وإن كان الصيام أيسر كمن يسهل عليه حينئذٍ ويشق عليه قضاءه بعد ذلك فالصوم في حقه أفضل، وهو قول عمر بن عبد العزيز واختاره ابن المنذر. قال الشوكاني والأولى أن يقال من كان يشق عليه الصوم ويضره، وكذلك من كان معرضاً عن قبول الرخصة فالفطر أفضل له. أما الطرف الأول فلما تقدم من الأدلة في حجج القائلين بالمنع من الصوم. وأما الطرف الثاني فلحديث: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، وقد تقدم. ولحديث: من رغب عن سنتي فليس مني، وكذلك يكون الفطر أفضل في حق من خاف على نفسه العجب أو الرياء إذا صام في السفر، وقد أشار إلى ذلك ابن عمر، فروى الطبري عن ابن عمر أنه قال: إذا سافرت فلا تصم، فإنك إن تصم. قال أصحابك: اكفوا الصائم ارفعوا للصائم وقاموا بأمرك، وقالوا فلان صائم، فلا تزال كذلك حتى يذهب أجرك. وأخرج نحوه عن أبي ذر، ومثل ذلك حديث أنس الآتي بعد حديثين وما كان من الصيام خاليا عن هذه الأمور أفضل من الإفطار-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه والدارمي والبيهقي وغيرهم.

2040-

قوله: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه تجريد أو تأكيد لأن الغزوة لا تكون إلا معه بخلاف السرية والمراد غزوة فتح مكة (لست عشرة) أي ليلة (مضت من شهر رمضان) كذا في جميع النسخ، وفي مسلم من رمضان أي بإسقاط لفظ شهر، وهكذا وقع في جمع الأصول (ج7ص262) والمصابيح، واختلفت الروايات في تعيين التأريخ ففي رواية لمسلم لثمان عشرة خلت وفي رواية ثنتي عشرة، وفي رواية لسبع عشرة أو تسع عشرة، والمشهور في كتب المغارى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان، ودخلها لتسع عشرة خلت. قال الحافظ: في الصيام من الفتح بعد الإشارة إلى اختلاف الرواة في ضبط ذلك في حديث أبي سعيد ما لفظه، والذي اتفق عليه أهل السير أنه خرج في عاشر رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه. وقال في المغازى: أخرج البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري قال: صبح رسول الله صلى الله عليه مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان، وروى أحمد بإسناد صحيح من طريق قزعة بن يحيى عن أبي سعيد قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمان، هذا يعين يوم الخروج. وقول الزهري يعين يوم الدخول. ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوماً.

ص: 4

2041-

(3) وعن جابر، قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصوم في السفر)) متفق عليه.

ــ

وأما ما قال الواقدي: أنه خرج لعشر خلون من رمضان، فليس بقوى لمخالفته ما هو أصح منه، وفي تعيين هذا التأريخ أقوال أخرى. منها عند مسلم لست عشرة، ولأحمد لثماني عشرة وفي أخرى لثنتي عشرة، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى، والأخرى على ما بقي والذي في المغازى دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى بالشك في تسع عشرة، أو سبع عشرة. وروى يعقوب بن سفيان من رواية ابن إسحاق عن جماعة من مشائخه، إن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير-انتهى. فتأمل. قال ابن الملك: في الحديث دلالة على غلط من قال إن أحداً إذا أنشأ السفر في أثناء رمضان لم يجز له أن يفطر (فمنا من صام) وهم الأقوياء (ومنا من أفطر) وهم الضعفاء (فلم يعب) بفتح الياء وكسر العين أي لم يلم، وفي رواية فلا يجد أي لا يغضب (الصائم على المفطر) لأنه عمل بالرخصة (ولا المفطر على الصائم) لعمله بالعزيمة يعني لم ينكر الصائم على المفطر إفطاره دينا ولا المفطر على الصائم صومه، فهما جائزان وزاد في رواية يرون إن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن ويرون إن من وجد ضعفاً فافطر فإن ذلك حسن. قال النووي: هذا صريح بترجيح مذهب الأكثرين وهو تفصيل الصوم لمن اطاقه بلا ضرر ولا مشقه ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء، لتعادل الأحاديث. والصحيح قول الأكثرين-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: بعد ذكر هذا الحديث ما لفظه، وهذا التفصيل هو المعتمد وهو رافع للنزاع-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي والطحاوي (ج1ص333) والبيهقي (ج4ص244، 245) وفي الباب عن أنس عند الشيخين وأبي داود والطحاوي والبيهقي وعن جابر عند مسلم والنسائي والطحاوي والبيهقي.

2041-

قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر) في غزوة الفتح كما في حديث جابر الآتي في الفصل الثالث. قال الحافظ: تبين من رواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر إنها غزوة الفتح-انتهى. يريد بذلك حديث جابر الآتي فإنه رواه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم، من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر (فرأى زحاما) بكسر الزاي اسم للزحمة، والمراد هنا الوصف لمحذوف أي فرأى قوما مزدحمين. وقيل: أي رأى مزاحمة في الاجتماع على غرض الاطلاع (ورجلا) قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الرجل ولولا ما قدمته من أن عبد الله بن رواحة استشهد قبل غزوة الفتح لأمكن أن يفسر به لقول أبي الدرداء أن لم يكن من الصحابة في تلك السفرة صائماً غيره-انتهى. وقيل: أنه أبوإسرائيل القرشي العامري واسمه قيس، وفيه نظر. فإن بين القصتين مغايرات ظاهرة، أظهرها إن أبا إسرائيل كان في الحضر في المسجد،

ص: 5

ففي مسند أحمد إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وأبوإسرائيل يصلي فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم هو ذا يا رسول الله؟ لا يقعد ولا يكلم الناس ولا يستظل ولا يفطر، فقال ليقعد وليتكلم وليستظل وليفطر. وروى الخطيب عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فنظر إلى رجل من قريش يقال له أبوإسرائيل، فقالوا: نذر أن يصوم ويقوم في الشمس-الحديث. وأما صاحب القصة في حديث جابر فكان في السفر تحت الظل والله أعلم (قد ظلل عليه) بتشديد اللام الأولى على بناء المفعول أي جعل عليه شيء يظله من الشمس لغلبة العطش عليه وحر الصوم، وفي رواية للنسائي رأى ناسا مجتمعين على رجل فسأل فقالوا: رجل أجهده الصوم، وفي أخرى مر برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء. قال ما بال صاحبكم (فقال ما هذا) أي ما حال صاحبكم هذا، وقيل أي ما هذا الزحام أو التظليل (قالوا) أي من حضر من الصحابة (صائم) أي وقد أجهده الصوم وشق عليه (ليس من البر) بكسر الباء أي ليس من الطاعة والعبادة (الصوم في السفر) قال الزركشي:"من" زائدة لتأكيد النفي. وقيل: للتبعيض وليس بشيء، وتعقبه البدر الدماميني، فقال: هذا عجيب لأنه أجاز ما المانع منه قائم، ومنع ما لا مانع منه، وذلك إن من شروط زيادة من أن يكون مجرورها نكرة، وهو في الحديث معرفة. وهذا هو المذهب المعول عليه وهو مذهب البصريين خلافاً للاخفش والكوفيين، وأما كونها للتبعيص فلا لمنعه وجه إذا المعنى إن الصوم في السفر ليس معدودا من أنواع البر كذا ذكره القسطلاني، وقد تقدم إن بعض الظاهرية تمسكوا به على عدم انعقاد صوم الفرض في السفر وسلك المجيزون، وهم عامة أهل العلم فيه طرقا. فقال الخطابي (ج2ص124) هذا الكلام خرج على سبب فهو مقصور عليه وعلى من كان في مثل حاله كأنه قال ليس من البر أن يصوم المسافر، إذا كان الصوم يؤديه إلى مثل هذه الحال بدليل صيام النبي صلى الله عليه وسلم في سفره عام الفتح، وبدليل خبر حمزة الأسلمي وتخييره بين الصوم والإفطار، ولو لم يكن الصوم برا لم يخيره فيه، ولو كان إثما لكان أبعد الناس منه، وإلى هذا جنح البخاري حيث بوب على هذا الحديث بلفظ: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم ذلك ما ذكر من المشقة، وإن كمن روى الحديث مجردا. فقد اختصر القصة، وبما أشار إليه من اعتبار المشقة يجمع بين حديث الباب، والذي يدل على صومه في السفر-انتهى. وقال ابن دقيق العيد (ج2ص225) أخذ من هذا إن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من الصوم من وجوه القرب، فينزل قوله ليس من البر الصوم في السفر على مثل هذه الحالة. قال: والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،

ص: 6

قال: ويجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على سبب، فإن بين العامين فرقا واضحا ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب، فإن مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به كنزول آية السرقة في قصة سرقة رداء صفوان. وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات كما في حديث الباب. وقال ابن المنير: هذه القصة تشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله. وقال الطحاوي: المراد بالبر هنا البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر، وليس المراد بذلك إخراج الصوم في السفر من أن يكون برا، لأنه قد يكون برا، لأنه قد يكون الإفطار إبر منه، إذا كان للتقوى على لقاء العدو، مثلا والمعنى ليس من البر الذي هو إبر البر وأعلى مراتب البر الصوم في السفر، وإن كان الصوم في السفر برا إلا أن غيره من البر وهو الإفطار قد يكون إبر منه إذا كان يراد به القوة للقاء العدو. قال وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم ليس المسكين بالطواف-الحديث. فإنه لم يرد به إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها، ولكنه أراد بذلك ليس هو المسكين المتكامل المسكنة، ولكن المسكين الكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه وحمل الشافعي نفي البر المذكور في الحديث على من أبي قبول الرخصة فقال معنى قوله ليس من البر أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله تعالى له أن يفطر وهو صحيح. قال ويحتمل أن يكون معناه ليس من البر المفروض الذي من خالفه إثم، كذا في الفتح. وقال السندي: ظاهر إن ترك الصوم أولى ضرورة إن الصوم مشروع طاعة فإذا حرج عن كونه طاعة فينبغي أن لا يجوز ولا أقل من كون الأولى تركه ومن يقول إن الصوم هو الأولى في السفر يستعمل الحديث في مورده أي ليس من البر، إذا بلغ الصائم هذا المبلغ من المشقة، وكأنه مبني على تعريف الصوم للعهد، والإشارة إلى مثل صوم ذلك الصائم، نعم الأصل هو عموم اللفظ لا خصوص المورد. لكن إذا أدى عموم اللفظ إلى تعارض الأدلة يحمل خصوص المورد كما هنا. وقيل: من في قوله "ليس من البر" زائدة، والمعنى ليس هو البر بل قد يكون الإفطار إبر منه إذا كان في حج أو جهاد ليقوى عليه. والحاصل إن المعنى على القصر لتعريف الطرفين. وقيل: محمل الحديث على من يصوم ولا يقبل الرخصة-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص329) والبيهقي (ج4ص242) وفي الباب عن ابن عمر عند ابن ماجه والطحاوي وعن كعب بن عاصم الأشعري عند أحمد (ج5ص434) والنسائي وابن ماجه والدارمي وعبد الرزاق والطبراني في الكبير والطحاوي والبيهقي: وعن أبي برزة الأسلمي عند أحمد والبزار والطبراني في الأوسط،

ص: 7

2042-

(4) وعن أنس، قال:((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلا في يوم حار. فسقط الصوامون، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) متفق عليه.

ــ

وعن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير وابن عدي وعن عبد الله بن عمر وعند الطبراني في الكبير، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني أيضاً، وعن أبي هريرة عند ابن عدي. ذكر هذه الأحاديث الهيثمي (ج3ص161) والعيني (ج11ص48) مع الكلام عليها وروى بلفظ: ليس من أمبِرٍ اْمصيامٌ في اْمسَفَرٍٍ أخرجه أحمد (ج5ص434) وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في معجمه من حديث كعب بن عاصم الأشعري. قال الزمخشري: هي لغة طي فإنهم يبدلون اللام ميما. وقال الجزري في جامع الأصول: (ج7ص546) الميم بدل من لام التعريف في لغة قوم من اليمن فلا ينطقون بلام التعريف ويجعلون مكانها الميم-انتهى. ورواه النسائي وابن ماجه والدارمي والطحاوي والبيهقي (ج4ص242) بلفظ: ليس من البر الصوم في السفر.

2042-

قوله: (فمنا الصائم) أريد به الجنس (ومنا المفطر) وفي رواية فصام بعض وأفطر بعض. وفيه دليل على جواز الصوم في السفر لتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم (فنزلنا منزلا في يوم حار) وقع بعد هذا أكثر ناظلا صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده (فسقط الصوامون) جمع صوام بفتح المهملة بصيغة المبالغة كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا وقع في المصابيح، والذي في صحيح مسلم فسقط الصُوام، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص259) والمنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وكذا وقع في عمدة الأحكام، وكذا عند النسائي والطحاوي والبيهقي. والصوام بضم المهملة كحكام جميع صائم، أي عجزوا عن العمل، وما قدروا على قضاء حاجتهم. وقال القاري: أي ضعفوا عن الحركة ومباشرة حوائجهم لأجل ضعفهم (وقام المفطرون) أي بالخدمة (فضربوا الأبنية) أي نصبوا الخيام جمع بناء. والمراد البيوت التي يسكنها العرب في الصحراء كالخباء والقبة (وسقوا الركاب) بكسر الراء أي الإبل التي يسار عليها واحدها راحلة، ولا واحد لها من لفظها (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) الوافر وهو أجر ما فعلوه من خدمة الصائمين بضرب الأبنية والسقي وغير ذلك لما حصل منهم من النفع المتعدي، ومثل أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم وإشغال الصوام. وأما الصائمون فحصل لهم أجر صومهم القاصر عليهم ولم يحصل لهم من الأجر ما حصل للمفطرين من ذلك. قال الحافظ: قوله بالأجر، أي الوافر وليس المراد نقص أجر الصوام بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام لتعاطيهم إشغالهم.

ص: 8

2043-

(5) وعن ابن عباس، قال: ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يده ليراء الناس فأفطر حتى قدم مكة،

ــ

وإشغال الصوام، فلذلك قال بالأجر كله لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. وقال القاري: أي بالثواب الأكمل لأن الإفطار كان في حقهم حينئذٍ أفضل. وفي ذكر اليوم إشارة إلى عدم إطلاق هذا الحكم. وقال الطيبي: أي إنهم مضوا واستصحبوا الأجر ولم يتركوا لغيرهم شيئاً منه على طريقة المبالغة، يقال ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه-انتهى. يعني بالأجر كله أو بكل الأجر مبالغة-انتهى كلام القاري. وقال ابن دقيق العيد: فيه وجهان: أحدهما، أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها والمصالح التي جرت على أيديهم ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم. والثاني أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغا ينغمر فيه أجر الصوم، فتحصل المبالغة بسبب ذلك ويجعل كأن الأجر كله للمفطر-انتهى. وفي الحديث إنه إذا تعارضت المصالح قدم أولالها وأقواها. قال الحافظ: وفيه الحض على المعاونة في الجهاد، وإن الفطر في السفر أولى عن الصيام وإن الصيام في السفر جائز خلافاً لمن قال لا ينعقد وليس في الحديث بيان كونه إذ ذاك كان صوم فرض أو تطوع (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب فضل الخدمة في الغزو من كتاب الجهاد، وهو من الأحاديث التي أوردها في غير مظنتها لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا، وأخرجه مسلم في الصيام وكذا النسائي والطحاوي (ص333) والبيهقي (ج4ص243) واللفظ المذكور لمسلم. ولفظ البخاري قال أنس كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلاً الذي يستظل بكساءه. وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً. وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر.

2043-

قوله: (عن ابن عباس) قال أبوالحسن القابسي: هذه الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيماً مع أبويه بمكة فلم يشاهد هذا القصة فكأنه سمعها من غيره من الصحابة (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة) أي في غزوة الفتح في رمضان كما في رواية (فصام حتى بلغ عسفان) بضم العين وسكون السين المهملتين. قيل: هو موضع على مرحلتين من مكة. وقال عياض: هي قرية جامعه بها منبر على ستة وثلاثين ميلاً من مكة. قال النووي بعد ذكره: والمشهور أنها على أربعة برد من مكة وكل بريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال، فالجملة ثمانية وأربعون ميلاً هذا هو الصواب المعروف الذي قاله الجمهور-انتهى.

ص: 9

ووقع في رواية للشيخين حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال الأولى وهو موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها وبينه وبين مكة قريب من مرحلتين قاله النووي. وقال عياض: هي عين جارية على اثنين وأربعين ميلاً من مكة. وقال الحافظ: وقع في رواية حتى بلغ عسفان بدل الكديد، وفيه مجاز القرب لأن الكديد أقرب إلى المدينة من عسفان، وبين الكديد ومكة مرحلتان. قال البكري: هو بين أمج بفتحتين وجيم وعسفان وهو ماء عليه نخل كثير-انتهى. ووقع في رواية لأحمد والنسائي حتى أتى قديداً بضم القاف على التصغير، وهو موضع قرب عسفان. ووقع حديث جابر الآتي. فلما بلغ كراع الغميم هو بضم الكاف والغمم بفتح المعجمة، وهو اسم واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع، وهو جبل أسود متصل به. وقال في المجمع: كراع الغميم اسم موضع بين مكة والمدينة، والكراع جانب مستطيل من الحرة تشبيها بكراع الغنم، وهو ما دون الركبة من الساق، والغميم بالفتح واد بالحجاز. قال عياض: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر صلى الله عليه وسلم فيه والكل في سفر واحد في غزاة الفتح. قال وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها وإن كانت عسفان متباعدة شيئاً عن هذه المواضع. لكنها كلها مضافة إليها ومن عملها فاشتمل اسم عسفان عليها. قال وقد يكون علم حال الناس ومشقتهم في بعضها فافطروا في بعضها-انتهى. (ثم دعا بماء) وفي رواية للبخاري دعا بإناء من لبن أو ماء بالشك، وفي رواية لأحمد والنسائي ثم أتى بقدح من لبن وكذا وقع عند الطحاوي. قال الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا أي الماء مرة وبهذا أي اللبن مرة، وتعقبه الحافظ بأنه لا دليل على التعدد فإن الحديث واحد والقصة واحدة. وإنما وقع الشك من الراوي فتقدم عليه رواية من جزم، وأبعد ابن التين فقال: كانت قصتان إحداهما في الفتح والأخرى في حنين-انتهى. ولم يجب الحافظ عن روايات الجزم باللبن. وقيل: في توجيهها أنه شرب الماء في موضع أو في مواضع وشرب اللبن في موضع آخر وأراهم الفطر مرتين أو مرات لكثرة الناس والله اعلم (فرفعه) أي الماء منتهيا (إلى) أقصى حد (يده) بالأفراد وفي رواية يديه بالتثنية. قال القاري: الجار والمجرور حال أي رفع الماء منتهيا إلى أقصى مديده أي إلى غاية طولها. قال الزركشي والبرماوي: كذا للأكثرين وفي رواية ابن السكن إلى فيه وهو الأظهر إلا أن تؤول لفظة إلى في رواية الأكثرين بمعنى على ليستقيم الكلام، وتعقبه في المصابيح بأنه لا يعرف أحداً ذكر "إلى" بمعنى على قال، والكلام مستقيم بدون هذا التأويل. وذلك إن إلى لانتهاء الغاية على بابها، والمعنى فرفع الماء ممن أتى به رفعاً قصد به رؤية الناس له، فلا بد أن يقع ذلك على وجه يتمكن فيه الناس من رؤيته ولا حاجة مع ذلك إلى إخراج إلى عن بابها. وقال الكرماني: كالطيبي أو فيه تضمين، أي-انتهى.

ص: 10

وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفطر. فمن شاء صام ومن شاء أفطر)) . متفق عليه.

ــ

الرفع إلى أقصى غايتها، ويمكن أن يكون بمعنى "في" للظرفية كقوله تعالى:{ليجمعنكم إلى يوم القيامة} [النساء: 87] أي فرفعه حال كونه في يده (ليراه الناس) بفتح التحتية والراء والناس بالرفع، لأنه فاعله، والضمير المنصوب فيه مفعوله. قال الحافظ: كذا للأكثر وفي رواية المستملى ليريه بضم أوله وكسر الراء وفتح التحتانية، والناس نصب على أنه مفعول ثان، ليريه لأنه من الإراءة وهي تستدعى مفعولين، واللام للتعليل في الوجهين. والمعنى رفع الماء حتى ينظر الناس إليه فيقتدوا به في الإفطار لأن الصيام أضّر بهم، وكان لا يأمن الضعف عن القتال عند لقاء عدوهم، يفهم منه إن أفضلية الفطر لا تختص بمن أجهده الصوم أو خشي العجب والرياء، أو ظن به الرغبة عن الرخصة بل يلحق بذلك من يقتدي به ليتابعه من وقع له شيء من الأمور الثلاثة ويكون الفطر في حقه في تلك الحالة أفضل البيان (فافطر) أي بعد العصر كما في حديث جابر واستمر مفطراً (حتى قدم مكة وذلك) أي ما ذكر من الصوم والإفطار كان (في رمضان) سنة ثمان (فكان ابن عباس يقول قد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في رمضان سنة ثمان حال السفر (فمن شاء صام ومن شاء أفطر) أي لا حرج على أحدهما، وفيه دلالة لمذهب الجمهور في جواز الصوم والفطر جميعا. قال الحافظ: فهم ابن عباس من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك إنه لبيان الجواز لا للأولوية. وقد تقدم في حديث أبي سعيد عند مسلم ما يوضح المراد، وسيأتي أيضاً في حديث جابر. قال في شرح السنة: لا فرق عند عامة أهل العلم بين من ينشيء السفر في شهر رمضان، وبين من يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر. وقال عبيدة السلماني: إذا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الإفطار لظاهر قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وهذا الحديث حجة على القائل. ومعنى الآية الشهر كله، فأما من شهد بعضه فلم يشهد الشهر-انتهى. قال القاري: والأظهر إن معنى الآية فمن شهد منكم شيئاً منه من غير مرض وسفر-انتهى. وقال الحافظ: استدل بالحديث على أن للمسافر أن يفطر في أثناء النهار، ولو استهل رمضان في الحضر. والحديث نص في الجواز إذ لا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم استهل رمضان في عام غزوة الفتح وهو بالمدينة ثم سافر في أثنائه، وقد ترجم عليه البخاري بلفظ: باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر. قال الحافظ: كأنه أشار إلى تضعيف ما روى عن علي وإلى رد ما روى عن غيره في ذلك. قال ابن المنذر: روى عن علي بإسناد ضعيف، وقال به عبيده بن عمر وأبومجلز وغيرهما إن من استهل عليه رمضان في الحضر ثم سافر بعد ذلك فليس له أن يفطر لقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} قال: وقال أكثر أهل العلم لا فرق بينه وبين من استهل رمضان في السفر، ثم ساق ابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} نسخها قوله،

ص: 11

ومن كان مريضاً أو على سفر الآية ثم احتج للجمهور بحديث ابن عباس هذا-انتهى. واستدل به على أن للمرء أن يفطر ولو نوى الصوم من الليل وأصبح صائماً فله أن يفطر في أثناء النهار وهو قول الجمهور، وقطع به أكثر الشافعية، وفي وجه ليس له أن يفطر وكأن مستند قائله ما وقع في البويطي من تعليق القول به على صحة حديث ابن عباس هذا، وهذا كله فيما لو نوى الصوم في السفر. قال ابن قدامة (ج3ص101) إن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدأ له أن يفطر فله ذلك. واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة: لا يجوز له الفطر. وقال مرة أخرى، إن صح حديث الكديد لم أر به بأساً أن يفطر. وقال مالك: إن أفطر فعليه القضاء والكفارة، ولنا حديث ابن عباس وهو حديث صحيح متفق عليه. ثم ذكر حديث جابر في إفطاره بعد العصر ثم قال: وهذا نص صريح فلا يعرج على من خالفه-انتهى. وأجاب المانعون من الفطر عن حديث ابن عباس بأنه ليس بنص في أنه صلى الله عليه وسلم بيت الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون لم ينو الصيام في ذلك اليوم، لما كان من قصده أن يظل مفطراً وشرب الماء بعد العصر ليريهم كونه غير صائم. قال الحافظ: واعترض بعض المانعين في أصل المسألة فقال ليس في الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم نوى الصيام في ليلة اليوم الذي أفطر فيه، فيحتمل أن يكون نوى أن يصبح مفطراً ثم أظهر الإفطار ليفطر الناس، لكن سياق الأحاديث ظاهر في أنه كان أصبح صائماً أفطر. وقد روى ابن خزيمة وغيره عن أبي هريرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران فأتى بطعام، فقال لأبي بكر وعمر ادنوا فكلا، فقالا اعملوا لصاحبيكم ارحلوا لصاحبيكم ادنوا فكلا. قال ابن خزيمة: فيه دليل على أن للصائم في السفر الفطر بعد مضى بعض النهار-انتهى. وأجاب بعض المالكية عن حديث عباس بأنه إنما أفطر بعد أن بيت الصيام للضرورة كالتقوى للعدو والمشقة الحاصلة له ولهم. ولو نوى الصوم من الليل وهو مقيم ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر في ذلك النهار، منعه الجمهور. وقال أحمد وإسحاق: بالجواز، واختاره المزني محتجا بهذا الحديث، ظنا منه أنه صلى الله عليه وسلم أفطر في اليوم الذي خرج فيه من المدينة وليس كذلك، فإن بين المدينة والكديد عدة أيام. قال النووي: قد غلط بعض العلماء في فهم هذا الحديث، فتوهم أن الكديد وكراع الغميم قريب من المدينة، وإن كان بلوغه الكديد الغميم كان في اليوم الذي خرج فيه من المدينة، فزعم أنه خرج من المدينة صائما، فلما بلغ كراع الغميم في يومه أفطر من نهاره. واستدل به على أنه إذا سافر بعد طلوع الفجر صائماً له أن يفطر في يومه، ومذهب الشافعي والجمهور أنه لا يجوز الفطر في ذلك اليوم، وإنما يجوز لمن طلع عليه الفجر في السفر، واستدلاله بهذا الحديث من العجائب الغريبة. لأن الكديد وكراع الغميم على سبع مراحل أو أكثر من المدينة-انتهى.

ص: 12

2044-

(6) وفي رواية لمسلم عن جابر، أنه شرب بعد العصر.

ــ

قلت: لأحمد روايتان، فيما إذا نوى الصوم من الليل وهو مقيم، ثم سافر في أثناء النهار. قال ابن قدامة (ج3ص100) في إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان، إحداهما له أن يفطر، وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق وداود وابن المنذر لحديث أبي بصرة الغفاري، إذ أكل الغداء في السفينة حين رفع من الفسطاط في شهر رمضان، وكان يرى البيوت أخرجه أبوداود، والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم، وهو قول مكحول والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر. قال ابن قدامة: والأول أصح للخبر-انتهى. ووافق الحنفية والمالكية في المسئلتين لكن لا كفارة عند الحنفية. قال ابن عابدين: لو سافر بعد الفجر لا يحل الفطر، وكذا لو نوى المسافر الصوم لا يحل فطره في ذلك اليوم، فلو أفطر لا كفارة عليه-انتهى. وقال صاحب فتح الملهم: وذهب الحنفية إلى عدم الجواز في الصورتين، ولهذا استشكل ابن الهمام أحاديث الباب، ثم أجاب عنها بما لا يقبله الوجدان السليم، نعم نقل الشيخ الأنور رحمه الله عن التتار خانية أنه يحل الفطر للغزاة عند مسيس الحاجة إليه مطلقاً للتقوى على الجهاد والتأهب له، وحمل حديث الباب على تلك الحالة، وكذا حققه الحافظ بن القيم في الهدي-انتهى. قلت: والراجح عندي في المسئلتين هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصيام وفي الجهاد وفي المغازي، ومسلم في الصيام واللفظ المذكور للبخاري في الصيام، وأخرجه أحمد سبع عشرة مرة، ومالك وأبوداود والنسائي والدارمي والطحاوي (ج1ص331) والبيهقي (ج4ص240- 243) بألفاظ مطولا ومختصرا.

2044-

قوله: (وفي رواية لمسلم عن جابر) أي في هذه القصة (إنه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (شرب بعد العصر) يعني كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً إلى وقت العصر، ثم أفطر ليعلم الناس إن الإفطار في السفر جائز بل أولى عند المشقة. وأخرج هذه الرواية مسلم من طريق عبد العزيز الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بلفظ: فقيل إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر. وأخرجها أيضاً الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4ص241) وذكر المصنف هذه الرواية لأنها أقرب بل أصرح في الدلالة، على أن من أصبح صائماً في السفر جاز له أن يفطر خلافاً للحنفية والمالكية وبعض الشافعية.

ص: 13