الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واتلوه حق تلاوته، من آناء الليل والنهار، وافشوه وتغنوه وتدبروا ما فيعه لعلكم تفلحون ولا تعجلوا، ثوابه، فإن له ثواباً)) . رواه البيهقي "في شعب الإيمان"
(2) باب
{الفصل الأول}
2233-
(1) عن عمر بن الخطاب، قال: ((سمعت هشام بن حكيم بن حزام
ــ
عن تلاوة القرآن والتغافل عن القيام بحقوقه أي لا تهملوا تلاوة القرآن والانتفاع بهداه فإن الذي يجعل القرآن وسادة أو يضعه تحت وسادته للنوم فإنما يعرض عن الانتفاع بمعانيه وعن الاهتداء بهداه فإن الوسادة ممتهنة جعلت للاتكاء عليها ووضع الرأس في النوم عليها. قال القاري: أي لا تجعلوه وسادة لكم تنامون عليه وتغفلون عنه وعن القيام بحقوقه وتتكاسلون في ذلك بل قوموا بحقه لفظاً وفهماً وعملاً وعلماً (واتلوه حق تلاوته) أي إقرؤه حق قراءته واتبعوه حق متابعته (من آناء الليل والنهار) أي اتلوه تلاوة كثيرة مستوفية لحقوقها في ساعات الليل والنهار أو اتلوه حق تلاوته حال كونها في ساعات هذا وهذا: قال الطيبي: "لا تتوسدوا" يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون كناية رمزية عن التكاسل أي لا تجعلوه وسادة تنامون عنه بل قوموا به واتلوه آناء الليل وأطراف النهار. وثانيهما أن يكون كناية تلويحية عن التغافل فإن من جعل القرآن وسادة يلزم منه النوم فيلزم منه لغفلة يعني لا تغفلوا عن تدبر معانيه وكشف أسراره ولا تتوانوا في العمل بمقتضاه والإخلاص فيه (وافشوه) أي بالاسماع والتعليم والكتابة والتفسير والمدارسة والعمل (وتغنوه) كذا في جميع النسخ الحاضرة وذكره في الكنز بلفظ: تغنوا به أي حسنوا الصوت وترنموا به أو استغنوا به عن غيره (تدبروا ما فيه) أي من الآيات الباهرة والزواجر البالغة والمواعيد الكاملة (ولا تعجلوا) قال القاري: بتشديد الجيم المكسورة وفي نسخة بفتح التاء والجيم المشددة المفتوحة أي لا تستعجلوا (ثوابه) قال الطيبي: أي لا تجعلوه من الحظوظ العاجلة (فإن له ثواباً) أي مثوبة عظيمة آجلة (رواه البيهقي) أي مرفوعاً ورواه موقوفاً أيضاً كما في الإتقان وقد تقدم أنه أخرجه البخاري في التاريخ الكبير موقوفاً والطبراني مرفوعاً وسنده ضعيف وعزاه في الكنز لأبي نعيم وابن عساكر أيضاً.
(باب) بالرفع والوقف أي في توابع أخرى كاختلاف القراءات وجمع القرآن.
2233-
قوله: (سمعت هشام بن حكيم بن حزام) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي المعجمة ابن خويلد
يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه
ــ
ابن أسد القرشي الأسدي صحابي ابن صحابي وكان إسلامهما يوم الفتح وكان هشام من فضلاء الصحابة وخيارهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ذكر الزهري أن عمر بن الخطاب كان يقول إذا بلغه أمر ينكره أما ما بقيت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون ذلك، قال كان هشام بن حكيم في نفر من أهل الشام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليس لأحد عليهم إمارة. قال مالك: كانوا يمشون في الأرض بالإصلاح والنصيحة، قال وكان هشام بن حكيم كالسائح لم يتخذ أهلاً ولا ولداً. قال ابن سعد: وكان رجلاً مهيباً مات قبل أبيه، ووهم من زعم أنه استشهد باجنادين. قال الحافظ ليس له في البخاري رواية وأخرج له مسلم حديثاً واحداً مرفوعاً من رواية عروة عنه وهذا يدل على أنه تأخر إلى خلافة عثمان وعلي، ووهم من زعم أنه استشهد في خلافة أبي بكر أو عمر (يقرأ سورة الفرقان) أي في الصلاة كما في رواية أحمد (ج1ص40)(على غير ما أقرأها) أي من القراءة (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي (أقرأنيها) أي سورة الفرقان، وهذه رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر بن الخطاب، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن البر: في هذه الرواية بيان أن اختلافهما كان في حروف من السورة لا في السورة كلها، وهي تفسير لرواية مالك لأن سورة واحدة لا تقرأ حروفها كلها على سبعة بل لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل (فكدت أن أعجل عليه) بفتح الهمزة وسكون العين وفتح الجيم. قال القسطلاني: ولأبي ذر في نسخة بضم الهمزة وفتح العين وتشديد الجيم المكسورة أي أن أخاصمه وأظهر بوادر غضبي عليه، وقيل كدت أن أعجل عليه أي في الإنكار عليه والتعرض له. قال ابن البر: فيه دليل على تشددهم في أمر القرآن واهتمامهم بحفظ حروفه ولغاته وضبطهم لقراءته المنسوبة حتى بلغ ذلك لهم إن كاد عمر يعجل على هشام بن حكيم في صلاته (ثم أمهلته حتى انصرف) قال العيني: كالكرماني أي من القراءة وفيه نظر، فإن في رواية عقيل عن ابن شهاب "فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم" فيكون المراد هنا حتى انصرف من الصلاة (ثم لببته) بفتح اللام وموحدتين الأولى مشددة، والثانية ساكنة مأخوذ من اللبة بفتح اللام وهي المنحر يقال لببت الرجل بالتشديد تلبيباً إذا جمعت ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جررته (برداءه) أي جمعته في موضع لبته أي عنقه وأمسكته وجذبته به، ووقع في سنن أبي داود "فلببته بردائي" فيمكن الجمع بأن التلبيب وقع بالردائين جميعاً وكان هذا من عمر على عادته في الشدة بالأمر بالمعروف وفعل ذلك عن اجتهاد منه
فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتينها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أنزلت.
ــ
لظنه أن هشاماً خالف الصواب ولهذا لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بل قال له أرسله (فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية عقيل فلببته برداءه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ قال إقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: قوله: "كذبت" فيه إطلاق ذلك على غلبة الظن أو المراد بقوله: "كذبت أي أخطأت لأن أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، وقوله: "فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها" إلخ. هذا قاله عمر استدلالاً على ما ذهب إليه من تخطئه هشام. وإنما ساغ له ذلك لرسوخ قدمه في الإسلام وسابقته بخلاف هشام فإنه كان قريب العهد بالإسلام فخشى عمر أن لا يكون أتقن القراءة بخلاف نفسه فإنه قد كان أتقن ما سمع وكأن سبب اختلاف قراءتهما إن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً ثم لم يسمح ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشاماً من مسلمة الفتح فكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيراً فنشأ اختلافهما من ذلك ومبادرة عمر للإنكار محمولة على أنه لم يكن سمع حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف إلا في هذه الواقعة (أرسله) بهمزة قطع وهو خطاب لعمر أي أطلق هشاماً لأنه كان ممسوكاً بيده، وإنما أمره بإرسال قبل أن يقرأ لتسكن نفسه ويثبت جاشه ويتمكن من إيراد القراءة التي قرأ لئلا يدركه من الانزعاج ما يمنعه من ذلك قاله الباجي: قال القاري: وإنما سومح عمر في فعله لأنه ما فعل لحظ نفسه بل غضباً لله بناء على ظنه (اقرأ) يا هشام (فقرأ) أي هشام (القراءة التي سمعته) أي سمعت هشاماً إياها على حذف المفعول الثاني قاله القاري (يقرأ) أي يقرؤها (هكذا أنزلت) أي السورة وهذا تصويب منه صلى الله عليه وسلم لقراءة هشام (ثم قال لي إقرأ) أنت يا عمر أمره بالقراءة لأنه يحتمل أن يكون الخطأ والتغيير من جهته (فقرأت) وفي رواية فقرأتها وفي رواية عقيل فقرأت القراءة التي أقرأني (فقال هكذا أنزلت) قال الزرقاني: لم يقع في شي من الطرق تفسير الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان. نعم اختلف الصحابة فمن دونهم في أحرف كثيرة من هذه السورة كما بينه ابن عبد البر في التمهيد بما يطول. وقال الحافظ: لم أقف في شيء من طرق حديث عمر على تعيين الأحرف التي اختلف فيها عمر وهشام من سورة الفرقان وقد تتبع أبوعمر ابن عبد البر ما اختلف
إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف.
ــ
فيه من القراء من ذلك من لدن الصحابة ومن بعدهم من هذه السورة، ثم أورده الحافظ ملخصاً في شرح باب أنزل القرآن على سبعة أحرف من فضائل القرآن، وزاد عليه زيادة كثيرة حتى بلغ جملة ما ذكر مما اختلف فيه من المتواتر والشاذ على نحو من مائة وثلاثين موضعاً. قال ابن عبد البر بعد ذكر ما ذكر من الاختلاف في حروف هذه السورة: والله أعلم بما أنكر منها عمر على هشام وما قرأ به عمر (إن هذا القرآن أنزل إلخ) هذا أورده النبي صلى الله عليه وسلم تطمينا لعمر وتطييباً لقلبه وتبييناً لوجه تصويب الأمرين المختلفين. قال الحافظ: وقد وقع عند الطبري من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه عن جده قال قرأ رجل فغير عليه عمر فاختصماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل ألم تقرئني يا رسول الله! قال بلى، قال فوقع في صدر عمر شي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه قال فضرب في صدره وقال: أبعد شيطاناً قالها ثلاثاً ثم قال يا عمر القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاباً أو عذاباً رحمة. ومن طريق ابن عمر سمع عمر رجلاً يقرأ فذكر نحوه ولم يذكر فوقع في صدر عمر لكن قال في آخره أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف، ووقع لجماعة من الصحابة نظير ما وقع لعمر مع هشام كأبي بن كعب مع ابن مسعود في سورة النحل عند الطبري وعمرو بن العاص مع رجل في آية من الفرقان عند أحمد وابن مسعود مع رجل في سورة من آل حم رواه ابن حبان والحاكم- انتهى. ملخصاً (على سبعة أحرف) قد تواترت الأحاديث بلفظ: سبعة أحرف إلا في حديث الحسن عن سمرة رفعه أنزل القرآن على ثلاثة أحرف رواه الحاكم (ج2ص223) وقال حديث صحيح وليس له علة وأقره الذهبي. قال أبوشامة: يحتمل أن يكون بعضه أنزل على ثلاثة أحرف كجذوة والرهب، أو أراد أنزل ابتداء على ثلاثة أحرف ثم زيد إلى سبعة توسعة على العباد قال القسطلاني والزرقاني والأبي: الأكثر على أن لفظ السبع للحصر. وقيل: ليس المراد حقيقة العدد بل التسهيل والتوسعة والتيسير والشرف والرحمة، وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه. ويرده ما يأتي من حديث ابن عباس وحديث أبي بن كعب. قال الزرقاني: وفي حديث أبي بكرة عند أحمد فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة فهذا يدل على أراد حقيقة العدد وانحصاره- انتهى. قلت: ليس هذا اللفظ في حديث أبي بكرة عند أحمد في مسنده (ص41- 51) ولا ذكره الهيثمي (ج7ص151) هذا وقد تقدم شي من الكلام في بيان معناه وما هو الراجح عندنا في كتاب العلم ولا بأس لو توسع القول ههنا ليزداد بصيرة وطمأنينة من يريد البسط والله الموفق فنقول قد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على أقوال كثيرة بلغها أبوحاتم بن حبان البستي إلى خمسة وثلاثين قولاً حكاها ابن النقيب في مقدمة تفسيره عنه بواسطة الشرف المزني المرسى كما في الإتقان. قال المنذري: وأكثرها غير مختار. وقال ابن العربي: لم يأت في ذلك نص ولا أثر. وقال المرسى
بعد ذكرها: هذه الوجوه أكثرها متداخلة ولا أدري مستندها ولا عمن نقلت ومنها أشياء لا أفهم معناها على الحقيقة وأكثرها معارضة حديث عمر وهشام بن حكيم الذي في الصحيح. وقال السيوطي في الإتقان: اختلف في معنى الحديث على نحو أربعين قولاً. وقال القاري: قيل اختلف في معناه على أحد وأربعين قولاً منها إنه من المشكل الذي لا يدري معناه لأن الحرف يصدق لغة على حرف الهجاء وعلى الكلمة وعلى المعنى وعلى الجهة. قلت: وهذا قول أبي جعفر محمد بن سعد إن النحوي ورجحه السيوطي أيضاً حيث قال المختار إن هذا من المتشابه الذي لا يدري تأويله ومن جملة هذه الأقوال إن المراد بسبعة أحرف سبع لغات مشهورة بالفصاحة من لغات العرب وليس المراد إن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل اللغات السبع مفرقة في القرآن، وإلى هذا ذهب أبوعبيد وآخرون منهم ثعلب وأبوحاتم السجستاني واختاره ابن عطية وصححه البيهقي في الشعب. وقال الأزهري وابن حبان: إنه المختار واختاره أيضاً التوربشتي والسندي ثم اختلف من ذهب إلى ذلك فقال بعضهم سبع لغات منها خمس في هوازن واثنتان لسائر العرب. وقيل سبع لغات متفرقة لجميع العرب كل حرف منها لقبيلة مشهورة. وقيل سبع لغات أربع لعجز هوازن سعد بن بكر وجشم بن بكر ونصر بن معاوية وثقيف وثلاث لقريش وقيل سبع لغات لغة لقريش ولغة لليمن ولغة لحرهم ولغة لهوازن ولغة لقضاعة ولغة لتميم ولغة لطي وقيل لغة الكعبين كعب بن عمرو وكعب بن لوي ولهما سبع لغات وقيل نزل بلغة قريش وهذيل وتيم الرباب والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكر ذلك ابن قتيبة وقال لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش واحتج بقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] فعلى هذا تكون اللغات السبع في بطون قريش وبذلك جزم أبوعلي الأهوازي وأجيب بأنه لا يلزم من هذه الآية أن يكون أرسل بلسان قريش فقط لكونهم قومه بل أرسل بلسان جميع العرب ولا يرد عليه كونه بعث إلى الناس كافة عرباً وعجماً لأن القرآن أنزل باللغة العربية وهو بلغه إلى طوائف العرب وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم وقيل نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر نزل القرآن بلغة مضر. وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر السبع من مضر أنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسد بن خزيمة وقريش فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات ونقل أبوشامة عن بعض الشيوخ إنه قال أنزل القرآن أولاً بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح للعرب أن يقرؤه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والأعراب ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل فهم المراد كل ذلك مع اتفاق
المعنى وزاد غيره إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بأن يغير كل أحد الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعي في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث الباب أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم ولئن سلم إطلاق الإباحة بقراءة المرادف ولو لم يسمع لكن الإجماع من الصحابة في زمن عثمان الموافق للعرضة الأخيرة يمنع ذلك. قال الحافظ: ثبت عن غير واحد من الصحابة إنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعاً له ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته عتى حين، أي حتى حين، وكتب إليه إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقريء الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل وكان ذلك قبل أن يجمع عثمان الناس على قراءة واحدة. قال ابن عبد البر بعد أن أخرجه من طريق أبي داود بسنده: يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز قال، وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل. قال أبوشامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما نزل بلسان قريش، إن ذلك كان أول نزوله ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب عمر إلى ابن مسعود، لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة فلتكن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما العربي المجبول على لغته فلو كلف قراءته قريش لعسر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته. ويشير إلى هذا قوله في حديث أبي هّون على أمتي وقوله "إن أمتك لا تطيق ذلك" وكأنه انتهى عند السبع لعلمه أنه لا تحتاج لفظة من ألفاظه إلى أكثر من ذلك العدد غالباً، وليس المراد إن كل لفظة منه تقرأ على سبعة أوجه. قال ابن عبد البر: وهذا مجمع عليه بل هو غير ممكن بل لا يوجد في القرآن كلمة على سبعة أوجه إلا الشيء القليل مثل عبد الطاغوت. قال الحافظ: وحاصل ما ذهب هؤلاء أي الذين قالوا إن المراد بالأحرف اللغات إن معنى قوله أنزل على سبعة أحرف أي أنزل موسعاً على القاري أن يقرأه على سبعة أوجه، أي يقرأ بأي حرف أراد منها على البدل من صاحبه كأنه قال أنزل على هذا الشرط أو على هذه التوسعة، وذلك لتسهيل قراءته إذ لو أخذوا بأن يقرؤه على حرف واحد لشق عليهم كما تقدم. قال ابن قتيبة: في أول تفسير المشكل له كان من تيسير الله إن أمر نبيه أن يقرأ كل قوم بلغتهم فالهذلي يقرأ عتى حين يريد حتى حين، والأسدي يقرأ تعلمون بكسر أوله، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، قال ولو أراد كل فريق منهم أن يزول عن لغته وما جرى عليه لسانه طفلاً وناشئاً وكهلاً لشق عليه غاية المشقة فيسر عليهم ذلك بمنة. ولو كان المراد إن كل كلمة منه تقرأ على سبعة أوجه لقال مثلاً أنزل سبعة أحرف. وإنما المراد أن يأتي في الكلمة وجه أو وجهان أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة-انتهى. وبعد هذا كله رد هذا القول بأن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة - وقبيلة
واحدة - وقد اختلفت قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات ومن جملة الأقوال المحكية في معنى الأحرف إن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعالى وهلم وعجل وأسرع، وإلى هذا ذهب سفيان بن عيينة وابن جرير وابن وهب وخلائق، ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء لكن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي بل ذلك مقصور على السماع. قال ابن عبد البر: أنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى الأحرف اللغات لما تقدم من اختلاف هشام وعمر ولغتهما واحدة، قالوا وإنما المعنى سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو أقبل وتعالى وهلم، ثم ساق الأحاديث الدالة على هذا، وقد ذكرها السيوطي في الإتقان (ج1ص46، 47) والحافظ في شرح حديث ابن عباس الآتي قال الحافظ: ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون المراد بالأحرف تغاير الألفاظ مع اتفاق المعنى مع انحصار ذلك في سبع لغات- انتهى. ومنها إن المراد بها الأوجه التي يقع التغاير في سبعة أشياء ذكره ابن قتيبة. قال: فأولها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته مثل ولا يضار كاتب بنصب الراء ورفعها. وثانيها ما يتغير بتغير الفعل مثل بعد بين أسفارنا وباعد بلفظ الطلب والماضي. وثالثها ما يتغير بنقط بعض الحروف المهملة مثل ثم ننشرها بالراء والزاي. ورابعها ما يتغير بإبدال حرف قريب من مخرج الآخر مثل طلح منضود في قراءة على وطلع منضود. وخامسها ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل {وجاءت سكرة الموت بالحق} [ق: 19] وجاءت سكرة الحق بالموت. وسادسها ما يتغير بزيادة أو نقصان مثل والذكر والأنثى وما خلق الذكر والأنثى. وسابعها ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] والصوف المنفوش. وقال أبوالفضل الرازي في اللوائح: الكلام لا يخرج عن سبعة أوجه في الاختلاف: الأول الاختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع أو تذكير وتأنيث: الثاني اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر. الثالث وجوه الإعراب. الرابع. النقص والزيادة. الخامس التقديم والتأخير. السادس الإبدال. السابع اختلاف اللغات كالفتح والإمالة والتفخيم والترقيق والإدغام والإظهار ونحو ذلك. قال الحافظ بعد ذكر ذلك: قد أخذ أبوالفضل كلام ابن قتيبة ونقحه. قلت: وقريب من ذلك ما ذكره ابن الجزري حيث قال قد تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هي يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه لا يخرج عنها، وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو البخل بأربعة أوجه ويحسب بوجهين أو بتغير في المعنى فقط نحو {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] وأما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحوه تبلو وتتلو أو عكس ذلك نحو الصراط والسراط أو بتغيرهما نحو فامضوا فاسعوا. وأما في التقديم والتأخير نحو جاءت سكرة الحق بالموت أو في الزيادة والنقصان نحو أوصى ووصى والذكر والأنثى فهذه سبعة لا يخرج الاختلاف عنها قال. وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام
والروم والإشمام والتسهيل والنقل والإبدال مما يعبر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة في أداءه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً ولئن فرض فيكون من الأول - انتهى. ومنها إن المراد بها سبعة أصناف من الكلام أي سبعة أنواع كل نوع منها جزء من أجزاء القرآن. والقائلون به اختلفوا في تعيين السبعة. فقيل أمر ونهى ووعد ووعيد وقصص وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما أخرجه أبوعبيد والحاكم والطحاوي والبيهقي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا {آمنا به كل من عند ربنا} [آل عمران: 7] وقد صححه ابن حبان والحاكم وفي تصحيحه نظر لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود. قال الذهبي بعد ذكر تصحيح الحاكم: قلت منقطع. وقال الطحاوي: كان أهل العلم يدفعون هذا الإسناد بانقطاعه، لأن أبا سلمة لا يتهيأ في سنه لقاء عبد الله ابن مسعود ولا أخذه إياه عنه، وقال ابن عبد البر: هذا حديث لا يثبت لأنه لم يلق أبوسلمة بن عبد الرحمن ابن مسعود، فالحديث ضعيف والقول المبني عليه فاسد. وقد رده قوم من أهل النظر منهم أبوجعفر أحمد بن أبي عمران وابن عطية والماوردي والمازري وأطنب الطبري في مقدمة تفسيره في الرد على من قال به، وحاصله إنه يستحيل أن يجتمع في الحرف الواحد هذه الأوجه السبعة، ومن أراد البسط فليرجع إليه وإلى الفتح والإتقان وسنذكر شيئاً منه في شرح حديث ابن عباس من هذا الفصل. ومنها إن المراد بها سبع قراءات روى ذلك عن الخليل بن أحمد وتعقب بأنه لا يوجد في القرآن كلمة تقرأ على سبعة أوجه إلا القليل مثل عبد الطاغوت {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23] وأجيب بأن المراد إن كل كلمة تقرأ بوجه أو وجهين أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعة، ويشكل على هذا إن في الكلمات ما قري على أكثر كذا في الإتقان. وقال القسطلاني: هذا القول أضعف الوجوه فقد بين الطبري وغيره إن اختلاف القراء إنما هو حرف واحد من الأحرف السبعة. ومنها إن المراد بها الاختلاف في كيفية النطق بكلماتها من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإمالة وإشباع ومد وقصر وتليين وتحقيق وتشديد وتخفيف، لأن العرب كانت مختلفة اللغات في هذه الوجوه فيسر الله تعالى عليهم ليقرأ كل إنسان بما يوافق لغته ويسهل عليه، ذكره النووي في شرح مسلم. وقال الطيبي: هو أصح الأقوال وأقربها إلى معنى الحديث- انتهى. قال القاري بعد ذكره عن شرح مسلم: وفيه إن هذا ليس على إطلاقه فإن الإدغام مثلاً في مواضع لا يجوز الإظهار فيها، وفي مواضع لا يجوز الإدغام فيها، وكذلك البواقي- انتهى. ومن شاء الوقوف على بقية الأقوال رجع إلى الإتقان. تنبيهات الأول قد تقدم في بيان
القول الأول إن أول نزول القرآن كان بلسان قريش ثم سهله الله تعالى على الناس فجوز لهم أن يقرؤه على لغاتهم. قال الحافظ: وذلك بعد أن كثر دخول العرب في الإسلام فقد ثبت إن ورود التخفيف بذلك كان بعد الهجرة كما في حديث أبي كعب، إن جبريل لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند إضاءة بني غفار فقال الله يأمرك أن تقرأ على أمتك القرآن على حرف، فقال أسأل الله معافاته ومغفرته فإن أمتي لا تطيق ذلك- الحديث. أخرجه مسلم وإضاءة بني غفار بفتح الهمزة والضاد المعجمة بغير همز وآخره تاء تأنيث هو مستنقع الماء كالغدير، وجمعه إضاً كعصا. وقيل: بالمد والهمز مثل إناء وهو موضع بالمدينة النبوية ينسب إلى بني غفار بكسر المعجمة وتخفيف الفاء لأنهم نزلوا عنده. الثاني قد اختلفوا إن الأحرف السبعة المذكورة في الحديث هل هي باقية إلى الآن يقرأ بها أم كان ذلك ثم استقر الأمر على بعضها. قال القسطلاني: وإلى الثاني ذهب الأكثر كسفيان بن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي- انتهى. قلت قال الطحاوي. وإنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون كذا في المرقاة والإتقان. قلت: وإلى الأول ذهب الباجي حيث قال فإن قيل هل تقولون إن جميع هذه السبعة الأحرف ثابتة في المصحف فالقراءة بجميعها جائزة قيل لهم كذلك، نقول والدليل على صحة ذلك قول الله عزوجل {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] ولا يصح انفصال الذكر المنزل من قراءته فيمكن حفظه دونها، ومما يدل على صحته ما ذهبنا إليه إن ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف تيسيراً على من أراد قراءته ليقرأ كل رجل منهم بما تيسر عليه وبما هو أخف على طبعه وأقرب إلى لغته، ونحن اليوم مع عجمة ألسنتنا وبعدنا عن فصاحة العرب أحوج إلى ذلك- انتهى بتغيير يسير. وقال العيني: اختلف الأصوليون هل يقرأ اليوم على سبعة أحرف فمنعه الطبري وغيره، وقال إنما يجوز بحرف واحد اليوم وهو حرف زيد ونحى إليه القاضي أبوبكر. وقال الشيخ أبوالحسن الأشعري: اجمع المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسعه الله تعالى من القراءات بالأحرف التي أنزلها الله، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما أطلقه الله بل هي موجودة في قراءتنا وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها فيجوز على هذا، وبه قال القاضي أن يقرأ بكل من نقله أهل التواتر من غير تمييز حرف من حرف فيحفظ حرف نافع بحرف الكسائي وحمزة ولا حرج في ذلك، لأن الله تعالى أنزلها تيسيراً على عبده ورفقاً وقال الخطابي: الأشبه فيه ما قيل إن القرآن أنزل مرخصاً للقاري بأن يقرأ بسبعة أحرف على ما تيسر وذلك إنما هو فيما اتفق فيه المعنى أو تقارب، وهذا قبل إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فأما الآن فلا يسعهم أن يقرؤه على خلاف ما أجمعوا عليه. الثالث اختلف القائلون باستقرار الأمر على بعض الأحرف السبعة هل استقر ذلك في زمن النبوي أم بعده. قال القسطلاني:
والزرقاني: الأكثر على الأول واختاره أبوبكر الباقلاني وابن عبد البر وابن العربي وغيرهم، لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر فإذن. لكل أن يقرأ على حرفه أي طريقته في اللغة إلى أن انضبط الأمر وقد ربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة فعارض جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الأخيرة، واستقر ما هو عليه الآن فنسخ الله تعالى تلك القراءة الماذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس- انتهى. قلت: وهو اختيار الطحاوي كما يدل عليه كلامه الذي ذكرنا في التنبيه الثاني، وحكى السيوطي في الإتقان عن الطبري أنه قال: القراءة على الأحرف السعة لم تكن واجبة على الأمة، وإنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيهم، فلما رأى الصحابة إن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك إجماعاً شائعاً وهم معصومون من الضلالة ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام. ولا شك أن القرآن نسخ منه في العرضة الأخيرة فاتفق رأى الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا إنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك- انتهى. وقال البغوي في شرح السنة كما في الفتح المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر عثمان بنسخة في المصاحف وجمع الناس عليه وأذهب ما سوى ذلك قطعاً لمادة الخلاف فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعد وفي اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم- انتهى. الرابع اختلف في أن القراءات السبعة التي يقرأها الناس اليوم هل هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث أو هي حرف واحد منها؟ قال الأبي في الإكمال: الأول ظاهر قول الباقلاني والثاني نص قول ابن أبي صفرة وهو ظاهر قول الطحاوي، والأظهر في المسألة مختار أبي عبد الله بن عرفة إن المراد بالأحرف المذكورة في الحديث أحرف قراءات السبع اليوم، وقراءة يعقوب داخلة في ذلك، لأنه أخذها عن أبي عمرو ولأن بذلك يظهر التسهيل والتيسير الذي هو سبب نزوله عليها وبه أيضاً معجزة قوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] لأنها محفوظة مع مرور مئين من السنين وبه أيضاً تعرف ضعف قول ابن أبي صفرة لأنها لو كانت واحدة من تلك الأحرف لزم أن توجد بقيتها وإن لم تحفظ لاقتضاء الآية ذلك- انتهى. وقال الحافظ قال أبوشامة: ظن قوم إن قراءات السبع الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل قال وقد بالغ أبوطاهر بن أبي هاشم في الرد على من نسب إلى ابن مجاهد أن مراده بالقراءات السبع الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، قال ابن أبي هاشم: إن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها إن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل قال، فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعاً عن الصحابة بشرط موافقة الخط وتركوا
{فاقرؤا ما تيسر منه} )) . متفق عليه واللفظ لمسلم.
ــ
ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأو في ذلك من الاحتياط للقرآن. فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة. وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ثم ساق نحو ما تقدم قال، وأما من ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع وعاصم هي الأحرف السبعة التي في الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً قال، ويلزم من هذا إن ما خرج من قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة غيرهم ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآناً وهذا غلط عظيم- انتهى. وقد بسط الحافظ الكلام في هذا في الفتح (ج2ص431، 432) فعليك أن تراجعه فإنه مفيد جداً الخامس وهو تتمة الرابع قال أبوشامة المقدسي: قد اختلف السلف في الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن هل مجموعة في المصحف الذي بأيدي الناس اليوم أو ليس فيها الأحرف واحد منها، مال ابن الباقلاني إلى الأول وصرح الطبري، وجماعة بالثاني: قال الحافظ وهو المعتمد قال: والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها قال، وما عدا ذلك من القراءات مما لا يوافق الرسم فهو مما كانت القراءة جوزت به توسعه على الناس وتسهيلاً، فلما آل الحال إلى ما وقع من الاختلاف في زمن عثمان وكفر بعضهم بعضاً اختار الاقتصار على المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خير فيه على خصلة واحدة لأن أمرهم بالقراءة على الأوجه المذكورة لم يكن على سبيل الإيجاب بل على سبيل الرخصة، قال الحافظ: ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب {فاقرؤا ما تيسر منه} [المزمل: 20] وقد قرر الطبري ذلك تقريراً أطنب فيه ووهّى من قال بخلافه ووافقه على ذلك جماعة، منهم أبوالعباس بن عمار في شرح الهداية، وقال أصح ما عليه الحذاق إن الذي يقرأ الآن بعض الحروف السبعة المأذون في قراءتها لا كلها إلى آخر ما قال (فاقرؤا ما تيسر منه) أي من أنواع القراءات بخلاف قوله تعالى {فاقرؤا ما تيسر منه} فإن المراد به الأعم من المقدار والجنس والنوع قاله القاري. وقال القسطلاني: أي من الأحرف المنزل بها فالمراد بالتيسير في الآية غير المراد به في الحديث، لأن الذي في الآية المراد به القلة والكثرة، والذي في الحديث ما يستحضره القاري من القراءات فالأول من الكمية والثاني من الكيفية. وقال الحافظ: قوله" منه" أي من المنزل (بالسبعة) وفيه إشارة إلى الحكمة في التعدد المذكور، وإنه للتيسير على القاري وهذا يقوى قول من قال المراد بالأحرف تأدية المعنى باللفظ المرادف، ولو كان من لغة واحدة، لأن لغة هشام بلسان قريش، وكذلك عمرو، مع ذلك فقد اختلف قراءتهما نبه على ذلك ابن عبد البر- انتهى (متفق عليه) أي معنى (واللفظ لمسلم) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في فضائل القرآن عن يحيى بن يحيى عن مالك عن ابن شهاب، وأخرجه البخاري في
2234-
(2) وعن ابن مسعود، قال: سمعت رجلاً قرأ، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، فقال:
ــ
الخصومات عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك بنحوه، وأخرجه أيضاً في فضائل القرآن والتوحيد من طريق عقيل عن ابن شهاب، وفي فضائل القرآن أيضاً من طريق شعيب عنه وفي استتابة المرتدين من طريق يونس عنه وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص24، 40، 43) ومالك في أواخر الصلاة والترمذي في القراءة، وأبوداود والنسائي في الصلاة، والطيالسي وأبوعوانة وابن حبان وابن جرير والبيهقي (ج2ص383) قال السيوطي في الإتقان: ورد حديث نزل القرآن على سبعة أحرف من رواية جمع من الصحابة فسرد أسمائهم ثم قال فهؤلاء أحد وعشرون صحابياً، وقد نص أبوعبيدة على تواترة. وقال القاري: حديث نزل القرآن على سبعة أحرف ادعى أبوعبيدة تواتره لأنه ورد من أحد وعشرين صحابياً، ومراده التواتر اللفظي، وإما تواتره المعنوي فلا خلاف فيه- انتهى. قلت: ذكر الهيثمي في أواخر التفسير أحاديث ثلاثة عشر صحابياً منهم مع الكلام فيها من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى مجمع الزوائد (ج7ص150- 154) .
2234-
قوله: (سمعت رجلاً قرأ) أي آية كما في رواية وفي أخرى يقرأ آية. قال الحافظ. هذا الرجل يحتمل أن يكون هو أبي بن كعب فقد أخرج الطبري من حديث أبي بن كعب أنه سمع ابن مسعود يقرأ آية قرأ خلافها، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كلا كما محسن- انتهى. قلت: لكن بين الطبري من هذه الطريق إن السورة المذكورة سورة النحل ويظهر من روايات أحمد إن الاختلاف كان في سورة من آل حم يعني الأحقاف فقد روى هو (ج1ص421، 452) من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة. قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف وأقرأها رجلاً آخر فخالفني في آية منها وعنده (ج1ص419) من طريق زر أيضاً اقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم يعني الأحقاف. قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين- الحديث. وعنده أيضاً (ج1ص401) من طريق أبي وائل عن عبد الله قال: سمعت رجلاً يقرأ حم الثلاثين يعني الأحقاف إلخ، وذكر العيني رواية لابن مسعود من صحيح ابن حبان تدل على أن تلك الآية من سورة الرحمن والله أعلم (يقرأ خلافها) أي غير قراءة ذلك الرجل والضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قرأ (فجئت به) أي أحضرته وفي رواية فأخذت بيده فأتيت به (فأخبرته) أي بما سمعت من الخلاف (فعرفت في وجهه الكراهية) بتخفيف الياء أي آثار الكراهة خوفاً من الاختلاف المتشابه باختلاف أهل الكتاب لأن الصحابة كلهم عدول، ونقلهم صحيح فلا وجه للخلاف قاله القاري.
((كلا كما محسن، فلا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) . رواه البخاري.
ــ
وقال الطيبي: أي للجدال الواقع بينهما، وفي رواية زر المذكورة فغضب وتمعر وجهه (كلا كما محسن) قال القاري: أي في رواية القراءة وأفراد الخبر باعتبار لفظ كلا. وقال القسطلاني فإن قلت: كيف يستقيم هذا القول مع إظهار الكراهية، أجيب بأن معنى الإحسان راجع إلى ذلك لقراءته وإلة ابن مسعود لسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تحريه الاحتياط، والكراهية راجعة إلى جداله مع ذلك الرجل كما فعل عمر بهشام، كما تقدم، لأن ذلك مسبوق بالاختلاف. وكان الواجب عليه أن يقره على قراءته ثم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهها. وقال المظهري: الاختلاف في القرآن غير جائز لأن كل لفظ منه إذا جاز قراءته على وجهين أو أكثر فلو أنكر واحد أحداً من ذينك الوجهين أو الوجوه فقد أنكر القرآن ولا يجوز في القرآن القول بالرأي، لأن القرآن سنة متبعة بل عليهما أن يسألا عن ذلك ممن هو أعلم منهما- انتهى. وقال ابن الملك: إنما كره اختلاف ابن مسعود مع ذلك الرجل في القرآن، لأن قراءته على وجوه مختلفة جائزة فإنكار بعض تلك الوجوه إنكار للقرآن وهو غير جائز. قال القاري: هذا وقع من ابن مسعود قبل العلم بجواز الوجوه المختلفة وإلا فحاشاه أن ينكر بعد العلم ما يوجب إنكاره وإنكار القرآن وهو من أجل الصحابة بعلم القرآن وافقهم بأحكامه، ولعل وجه ظهور الكراهية في وجهه عليه الصلاة والسلام إحضاره الرجل، فإنه كان حقه أن يحسن الظن به ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما وقع له، ويمكن أنه ظهرت الكراهية في وجهه عليه الصلاة والسلام عندما صنع عمر أيضاً لكن عمر لشدة غضبه ما شعر أو حلم عليه الصلاة والسلام لما رأى به من الشدة. (فلا تختلفوا) أي أيها الصحابة أو أيها الأمة وصدقوا بعضكم بعضاً في الرواية بشروطها المعتبرة قاله القاري، وقال القسطلاني: أي لا تختلفوا اختلافاً يؤدي إلى الكفر أو البدعة كالاختلاف في نفس القرآن، وفيما جازت قراءته بوجهين وفيما يوقع في الفتنة أو الشبهة. (فإن من كان قبلكم) أي من بني إسرائيل (اختلفوا) بتكذيب بعضهم بعضاً (فهلكوا) أي باختلافهم وفي رواية فأهلكوا بضم أوله وفي أخرى فأهلكهم أي الله بسبب الاختلاف. قال الحافظ: وعند ابن حبان والحاكم (ج2ص224) من طريق زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه القصة فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف-انتهى. وكذا وقع عند أحمد (ج1ص419) وفي رواية أخرى له (ج1ص421، 542) فإنما هلك أو أهلك من كان قبلكم بالاختلاف. قال الحافظ: وفي الحديث الحض على الجماعة والتحذير من الفرقة والاختلاف والنهي عن المراء في القرآن بغير حق، ومن شر ذلك أن يظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي فبتوسل بالنظر وتدقيقه إلى تأويلها وحملها على ذلك الرأي ويقع اللجاج في ذلك والمناضلة عليه- انتهى. (رواه البخاري) في أول الخصومات وفي ذكر بني إسرائيل وفي آخر فضائل القرآن من طريق عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود،
2235-
(3) وعن أبي بن كعب، قال: ((كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية،
ــ
واللفظ المذكور له في الخصومات وأخرجه أيضاً أحمد من هذا الطريق (ج1ص393، 411- 412، 456) قال العيني: وأخرجه النسائي في فضائل القرآن.
2235-
قوله: (كنت في المسجد) أي النبوي (فدخل رجل) وعند أحمد (ج5ص124) والطبري والبيهقي (ج2ص385) من وجه آخر إن هذا الرجل هو عبد الله بن مسعود والله أعلم (يصلي) استئناف أو حال (فقرأ قراءة أنكرتها عليه) أي بالجنان أو باللسان (ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه) أي فانكرتها عليه أيضاً. وقيل: الظاهر إنه لم تكن قراءة هذا الآخر منكرة عند أبي وإلا لذكر الإنكار عليه أيضاً (فلما قضينا الصلاة) دل على أن أبيا أيضاً كان في الصلاة، والظاهر إنها صلاة الضحى أو نحوها من النوافل قاله القاري (دخلنا جميعاً) أي كلنا أو مجتمعون (على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في حجرة من حجراته (فقرأ) بلفظ التثنية أي كلاهما (فحسن) من التحسين (شأنهما) أي قال كلا كما محسن أو قال لكل واحد منهما أحسنت وعند البيهقي فقال أحسنتما أو أصبتما، وفي رواية لعبد الله بن أحمد قال: قد أحسنتم (فسقط في نفسي من التكذيب) أي خطر في قلبي من التكذيب من جهة تحسينه صلى الله عليه وسلم قراءتهما ظناً مني إن كلام الله الواحد يكون على وجه واحد ولا يجوز أن يقرأه كل رجل كيفما شاء (ولا إذ كنت في الجاهلية) أي ولا وقع في نفسي التكذيب والوسوسة إذ كنت في الجاهلية وهذا مبالغة "لأنه كان في الجاهلية جاهلاً فلا يستبعد وقوع التكذيب والوسوسة إذ ذاك. وأما بعد حصول اليقين والمعرفة فهو بعيد وأمر عظيم. قال النووي: معناه وسوس لي الشيطان تكذيباً للنبوة أشد مما كنت عليه في الجاهلية، لأنه في الجاهلية كان غافلاً أو متشككاً فوسوس له الشيطان الجزم بالتكذيب. وقال القاضي عياض: معنى قوله "سقط في نفسي" إنه اعترته حيرة ودهشة قال: وقوله: "ولا إذ كنت في الجاهلية" معناه إن الشيطان نزغ في نفسه تكذيباً لم يعتقده قال: وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها لا يواخذ بها. قال القاضي قال المازري: معنى هذا إنه وقع في نفس أبي بن كعب نزغة من الشيطان غير مستقرة ثم زالت في الحال حين ضرب
فلما رآى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشبني، ضرب في صدري، ففضت عرقاً، وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، فقال لي: يا أبي: أرسل إلى: أن أقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هون على
أمتي،
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدره ففاض عرقاً- انتهى. وقال الطيبي: يعني وقع في خاطري من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لتحسينه بشأنهما تكذيباً أكثر من تكذيبي إياه قبل الإسلام لأنه كان قبل الإسلام غافلاً أو مشككاً. وإنما استعظم هذه الحالة لأن الشك الذي داخله في أمر الدين إنما ورد على مورد اليقين. وقيل: فاعل سقط محذوف أي وقع في نفسي من التكذيب ما لم أقدر على وصفه ولم أعهد بمثله ولا وجدت مثله إذ كنت في الجاهلية وكان أبي من أكابر الصحابة وكان ما وقع له نزغة من نزغات الشيطان، فلما ناله بركة يد النبي صلى الله عليه وسلم زال عنه الغفلة والإنكار وصار في مقام الحضور والمشاهدة-انتهى. قلت: وفي رواية عند أحمد ما تخلج في نفسي من الإسلام ما تخلج يومئذ، وفي أخرى ما حك في صدري شيء منذ أسلمت إلا إني قرأت آية وقرأها رجل آخر غير قراءتي-الحديث. وفي رواية عند الطبري فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى أحمر وجهي فضرب في صدري فقال اللهم اخسأ عنه الشيطان (فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني) أي اعترافي وحصل لي من وسوسة الشيطان ونزغته (ضرب في صدري) قال القاضي: ضربه صلى الله عليه وسلم في صدره تثبيتاً له حين رآه قد غشيه ذلك الخاطر المذموم (ففضت) بكسر الفاء الثانية وسكون الضاد المعجمة (عرقاً) بالتحريك تمييز أي فجري وسأل عرقي من جميع بدني من فاض الماء يفيض فيضاً إذا كثر حتى سأل وهذا أبلغ من فاض عرقي، فإن في الأول إشارة إلى أن العرق فاض منه حتى كأن النفس فاضت منه، ومثله قول القائل سألت عيني دمعاً (وكأنما أنظر إلى الله فوقاً) أي خوفاً. قيل: تمييز والأظهر إن نصبه على المفعول له قاله القاري. قال التوربشتي. الفرق بالتحريك الخوف أي أصابني من خشية الله والهيبة فيما قد غشيني ما أوقفني موقف الناظر إلى الله إجلالاً وحياء. وقال الطيبي: كان أبي رضي الله عنه من أفضل الصحابة ومن الموقنين وإنما طرأ عليه ذلك التلويث بسبب الاختلاف نزغة من الشيطان، فلما أصابته بركة ضربه صلى الله عليه وسلم بيده على صدره ذهبت تلك الهاجسة وخرجت مع العرق فرجع إلى اليقين، فنظر إلى الله تعالى خوفاً وخجلاً مما غشيه من الشيطان (فقال لي) أي تسكيناً وتبييناً (أرسل إلى) على بناء المجهول أي أرسل الله جبريل، وفي بعض النسخ من المشكاة على بناء المعلوم أي أرسل الله إلى قاله القاري قلت: وعند أحمد إن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى (أن أقرأ القرآن) بلفظ الأمر أو المتكلم المعلوم. قال الطيبي: "إن" مفسرة وجوز كونها مصدرية على مذهب سيبويه وإن كانت داخلة على الأمر (فرددت إليه) أي جبريل إلى الله تعالى (أن هون) أي سهل ويسر. قال
فرد إلى الثانية: أقرأه على حرفين: فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثالثة: أقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألينها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي،
ــ
القاري "أن" مصدرية ولا يضر كون مدخولها أمراً، لأنها تدخل عليه عند سيبويه، أو مفسرة لما في رددت من معنى القول يقال رد إليه إذا رجع قلت قال الأبي: إن مفسرة لأن رددت في معنى القول وهو رجع أي فرجعت إليه القول إن هوّن من معنى قوله في الحديث الآخر (عند مسلم) فقلت اسأل الله معافاته ومغفرته (فرد إلى الثانية) ماض مجهول أو معلوم أي رد الله إلى إلإرسالة الثانية (اقرأه) بصيغة الأمر أو المتكلم وهو بدون إن في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وفي مسلم إن أقرأه أي بإثبات أن وكذا نقله في جامع الأصول (ج3ص34) وهكذا وقع في مسند الإمام أحمد والسنن للبيهقي. (فرد إلى الثالثة أقرأه على سبعة أحرف) كذا في هذه الرواية، وهي رواية عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن أبي بن كعب، ووقع في طريق مجاهد عن ابن أبي ليلي عند مسلم أيضاً بعده ثم جاءه الرابعة، فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أن أمتك القرآن على سبعة أحرف. قال النووي: هذا مما يشكل معناه. وأقرب ما يقال في الجمع بين الروايتين إن قوله في الرواية الأولى "فرد إلى الثالثة" المراد بالثالثة الأخيرة وهي الرابعة فسماها ثالثة مجازاً، وحملنا على هذا التأويل تصريحه في الرواية الثانية إن الأحرف السبعة إنما كانت في المرة الرابعة وهي الأخيرة ويكون قد حذف في الرواية الأولى أيضاً بعض المرات- انتهى (ولك بكل ردة رددتكها) قال النووي: هذا يدل على سقط في الرواية الأولى ذكر بعض الرواة الثلاث وقد جاءت مبينة في الرواية الثانية- انتهى. أي لك بمقابلة كل دفعة رجعت إلى ورودتكها بمعنى أرجعتك إليها بحيث ما هونت على أمتك من أول الأمر (مسألة تسألنيها) أي إجابة مسألة أي مسألة كانت. وقال النووي: معناه مسألة مجابة قطعاً. وأما باقي الدعوات فمرجوة ليست قطعية الإجابة. وقال الأبي تقدم (أي في كتاب الإيمان) ما في حديث لكل نبي دعوة إن معناه إن تلك الدعوة محققة الإجابة وإن غيرها على الرجاء وإن كونها محققة الإجابة لا يمنع من قبول غيرها ومن قبول غيرها هذا الحديث، لأنه لو لم تكن الأولى والثانية هنا مقبولتين لم يكن لقوله لك بكل ردة مسألة فائدة. وقال الطيبي: أي ينبغي لك أن تسألنيها فأجيبك إليها (اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي) قالها مرتين قيل: الأولى لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر. وقيل: بالعكس. وقيل: لما انقسم المحتاج إلى المغفرة من أمته إلى مُفَرِّط ومُفْرِط استغفر صلى الله عليه وسلم للمقتصد المَفّرِّط في الطاعة وأخرى للظالم المفرط في المعصية، أو الأولى للخواص لأن كل أحد لا يخلو عن تقصير ما في حقه تعالى كما قال تعالى:{كلا لما يقض ما أمره}
وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه السلام) . رواه مسلم.
2236-
(4) وعن ابن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني: حتى انتهت إلى سبعة أحرف. قال ابن شهاب،
ــ
[عبس:23] والثانية للعوام، أو الأولى في الدنيا، والأخرى في العقبي. (وأخرت الثالثة) أي المسألة الثالثة وهي الشفاعة الكبرى (ليوم) أي لأجل يوم أو إلى يوم (يرغب إلى) بتشديد الياء أي يحتاج إلى شفاعتي (الخلق كلهم) حين يقولون نفسي نفسي (حتى إبراهيم عليه السلام بالرفع معطوف على الخلق، وفيه دليل على رفعة إبراهيم على سائر الأنبياء وتفضيل نبينا على الكل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (رواه مسلم) من طريق عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلي عن أبي بن كعب، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص127، 128، 129) والبيهقي (ج2ص383) وأخرجه أبوداود والنسائي في الصلاة والطحاوي في مشكله (ج4ص191) ومسلم وأحمد (ج5ص127) أيضاً من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلي نحوه.
2236-
قوله: (وعن ابن عباس قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) قال الحافظ: هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه سمعه من أبي بن كعب فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب نحوه، والحديث مشهور عن أبي أخرجه مسلم وغيره من حديثه كما تقدم وسيأتي أيضاً (أقرأني جبريل) عليه السلام القرآن (على حرف) واحد أي أولاً (فراجعته) أي الله أو جبريل، وفي رواية أبي التقدمة فرددت عليه أن هون على أمتي، وفي رواية له عند مسلم أيضاً إن أمتي لا تطيق ذالك (فلم أزل أستزيده) أي أطلب من الله الزيادة أو أطلب من جبريل أن يطلب من الله الزيادة في الأحرف للتوسعة والتخفيف (ويزيدني) أي ويسأل جبرئيل ربه تعالى فيزيدني (حتى انتهي) أي طلب الزيادة والإجابة أو أمر القرآن (إلى سبعة أحرف) أي أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها. وقد تقدم الكلام في المراد منه وتحقيق ما هو الراجح منه، وفي رواية سليمان بن صرد عن أبي عند عبد الله بن أحمد (ج5ص124) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبي إن ملكين أتياني فقال أحدهما أقرأ على حرف فقال الآخر زده فقلت زدني قال اقرأ على حرفين فقال الآخر زده قال اقرأ على ثلاثة فقال الآخر زده فقلت زدني قال اقرأ على أربعة أحرف قال الآخر زده قلت زدني، قال اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر زده قلت زدني، قال اقرأ على ستة، قال الآخر زده قال اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف (قال ابن شهاب) أي الزهري راوي الحديث (عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس)
بلغني أن تلك السبعة الأحرف إنما هي في الأمر تكون واحداً لا تختلف في حلال ولا حرام.
ــ
(بلغني) وجعل في رواية أحمد والبيهقي القول الآتي من كلام الزهري نفسه حيث وقع فيها عقب الحديث.
قال الزهري: وإنما هذه الأحرف الخ (إن تلك سبعة الأحرف) بالنصب على الوصفية. وقيل: بالجر على الإضافة (في الأمر تكون واحداً لا تختلف في حلال ولا حرام) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة والذي في صحيح مسلم "في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال ولا حرام" وهكذا وقع في جامع الأصول (ج3ص38) والفتح، وعند الطحاوي "إن تلك السبعة الأحرف إنما تكون في الأمر الذي يكون واحداً لا يختلف في حلال ولا حرام" ولأحمد والبيهقي "وإنما هذه الأحرف في الأمر الواحد وليس يختلف في حلال ولا حرام" ومعنى هذا الكلام إن مرجع الجميع واحد في المعنى، وإن اختلف اللفظ في هيأته، وأما الإختلاف بأن يصير المثبت منفياً والحلال حراماً فذلك لا يجوز في القرآن. قال تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] وهذا لما كان من عند الله فلم يجدوا فيه اختلافاً يسيراً، وكأن ابن شهاب قصد بذلك رد ما سبق في شرح حديث عمر من قول طائفة في بيان معنى الحديث، إن المراد بالأحرف السبعة إن القرآن أنزل على سبعة أصناف من الكلام. واختلف القائلون به فقيل أمر ونهى وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال، واحتجوا بما ذكرنا هناك من حديث ابن مسعود، وعند أبي عبيد وغيره مرفوعاً. قال كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال-الحديث. وقد تقدم إن هذا الحديث منقطع وأجاب عنه آخرون من جهة النظر فقال البيهقي: إن صح فمعنى قوله في هذا الحديث سبعة أحرف أي سبعة أوجه كما فسرت في الحديث، وليس المراد الأحرف السبعة التي تقدم ذكرها في الأحاديث الأخرى، لأن سياق تلك الأحاديث يأبى حملها على هذا، بل هي ظاهرة في أن المراد إن الكلمة الواحدة تقرأ على الوجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة تهوينا وتيسيراً، والشيء الواحد لا يكون حراماً وحلالاً في حالة واحدة. وقال ابن أبي عمر: إن من أول السبعة الأحرف بهذا فهو عندي فاسد، وممن ضعف هذا القول ابن عطية، فقال الإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا تحريم حلال ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة، وبه صرح الماوردي حيث قال هذا القول خطأ لأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف. وقد اجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال بآية أحكام. وقال أبوعلي الأهوازي وأبوالعلاء الهمداني: قوله في الحديث زاجر وآمر الخ. استئناف كلام آخر أي هو زاجر أي القرآن ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد، ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه زاجراً وآمراً بالنصب أي نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف حال كونه زاجراً الخ. وقال أبوشامة: يحتمل أن التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف أي هي سبعة أبواب من