المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{الفصل الأول} 2283- 2284- (1- 2) عن أبي هريرة، وأبي سعيد، - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(4) باب صوم المسافر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب القضاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب صيام التطوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب ليلة القدر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب الإعتكاف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(8) كتاب فضائل القرآن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(9) كتاب الدعوات

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب أسماء الله تعالى

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌{الفصل الأول} 2283- 2284- (1- 2) عن أبي هريرة، وأبي سعيد،

{الفصل الأول}

2283-

2284- (1- 2) عن أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة،

ــ

مع حضور القلب قال: لأن العمل فيه أكثر لأنه زاد باستعمال اللسان فاقتضى زيادة أجر. قال النووي والصحيح أن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده. وقال ابن القيم في الوابل الصيب. الذكر يكون بالقلب واللسان تارة وذلك أفضل الذكر وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة وهي الدرجة الثالثة، فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان. وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة ويثير الحياء ويبعث على المخافة ويدعوا إلى المراقبة ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من هذه الآثار وإن أثمر شيئاً منها فثمرة ضعيفة – انتهى. قال النووي في الأذكار: فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر لله تعالى كذا قاله سعيد بن جبير وغيره من العلماء. وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا. وقال ابن حجر: مجالس الذكر مجالس سائر الطاعات، ومن قال: هي مجالس الحلال والحرام أراد التنصيص على أخص أنواعه. وقال النووي: أيضاً الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له. قال القاري: ومقصودة الحكم الفقهي وهو أنه إذا قرأ في باطنه حال القراءة أو سبح بلسان قلبه حال الركوع والسجود لا يكون آتيا بفرض القراءة وسنة التسبيح لا أن الذكر القلبي لا يترتب عليه الثواب الأخروي هذا، وقد ورد الذكر القرآن على عشرة أوجه يدل كل واحد منها على أهميته وغاية عظمته، وقد سردها ابن القيم في مدارج السالكين وقال في الوابل الصيب بعد سرد، الأحاديث في فضل الذكر: وفي الذكر أكثر من مائة فائدة، ثم ذكر منها تسعاً وسبعين فائدة مع البسط من أحب الوقوف على ذلك رجع إلى هذين الكتابين.

2283-

2284- قوله: (لا يقعد قوم يذكرون الله) قال ابن حجر: التعبير بالقعود للغالب كما هو ظاهر لأن المقصود حبس النفس على ذكر الله مع الدخول في عداد الذاكرين لتعود عليه بركة أنفاسهم ولحظ إيناسهم - انتهى. وقيل: فيه إشارة إلى أن القعود أحسن هيئات الذكر لدلالته على جميعه الحواس الظاهرة والباطنة. وقيل: هو كناية عن الاستمرار ومداومة الأذكار (إلا حفتهم) بتشديد الفاء أي أحاطت بهم (الملائكة) أي

ص: 377

وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة،

ــ

الذين يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر (وغشيتهم) بكسر الشين أي غطتهم (الرحمة) الخاصة بالذاكرين. قال السندي: أي غطتهم الرحمة من كل جانب إذ الغشيان يستعمل فيما يشمل المغشي من جميع جوانبه. وقال الشوكاني: "قوله حفتهم الملائكة" أي أحدقت بهم واستدارت عليهم، ومعنى غشتهم الرحمة سترتهم من التغشي بالثواب. (ونزلت عليهم السكينة) أي الطمأنينة والوقار لقوله تعالى:{ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] ومنه قوله تعالى: {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح:4] وقيل: المراد بالسكينة الرحمة ويرد ذلك عطفها على قوله غشيتهم الرحمة. وقيل: أنها الملائكة وقيل: هي ما يحصل به السكون وقوة القلب وذهاب الظلمة النفسانية. وقال ابن القيم في مدارج السالكين: وقد ذكر الله تعالى السكينة في كتابه في ستة مواضع الأول قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} [البقرة: 248] الثاني قوله تعالى: {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [التوبة:26] الثالث قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} [التوبة: 40] الرابع {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً} [الفتح: 4] الخامس قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً} [الفتح: 18] السادس قوله تعالى: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} الآية [الفتح: 26] وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة وقد جربت أنا أيضاً قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته. وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رؤسهما لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين إذ ولو مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار ودخولهم تحت شروطهم التي تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة. ثم بين ابن القيم الفرق بين السكينة والطمأنينة فقال الفرق بينهما إن السكينة صولة تورث خمود الهيبة الحاصلة في القلب وذلك في بعض الأوقات فليس حكماً دائما مستمراً، وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائماً ويصحبه الأمن والإنس والاستراحة.

ص: 378

وذكرهم الله فيمن عنده)) . رواه مسلم.

2285-

(3) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له: جمدان، فقال: سيروا، هذا جمدان، سبق المفردون.

ــ

والفرق الثاني إن السكينة تكون نعتاً لا تزول وقد تكون حيناً بعد حين. وأما الطمأنينة فهي لا تفارق صاحبها، والفرق الثالث إن السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روحه، والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحاً فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته – انتهى. (وذكرهم الله) أي مباهاة وافتخاراً بهم بما يعظم به شأنهم ويرتفع به مكانهم من الثناء الجميل عليهم ووعد الجزاء الجزيل لهم (فيمن عنده) أي من الملائكة المقربين الذين كانوا يدعون لأنفسهم التسبيح والتقديس ولبني آدم الفساد وسفك الدماء ووجه المفاخرة بهم أنهم مع موانعهم من النفس والشيطان وسائر العلائق والعوائق لا يغفلون عن ذكره ويقومون بوظيفة شكره. وفي الحديث ترغيب عظيم للاجتماع على الذكر، فإن هذه الأربع الخصائص في كل واحدة منها على انفرادها ما يثير رغبة الراغبين ويقوى عزم الصالحين على ذكر رب العالمين. ووقع في حديث أبي هريرة عند مسلم من وجه آخر ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة الخ. قال النووي: في هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال مالك: يكره. وتأوله بعض أصحابه ويلتحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إنشاء الله ويدل عليه الحديث الذي بعده يعني الذي نحن في شرحه، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في هذا الحديث خرج على الغالب لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به – انتهى. (رواه مسلم) في الدعوات وكذا الترمذي وابن ماجه ونسبه الشوكاني في تحفة الذاكرين لأحمد وأبي داود الطيالسي وعبد بن حميد وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي شيبة وابن شاهين في الترغيب في الذكر أيضاً.

2285-

قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة) يحتمل أن يكون ذاهباً إلى مكة أو راجعاً إلى المدينة (فمر على جبل يقال له جمدان) بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره نون جبل على ليلة من المدينة (فقال سيروا) أي سيراً حسناً مقروناً بذكر وحضور وشكر وسرور (هذا جمدان) ومع جماديته يشعر بذكر الرحمن ويستبشر بمن مر عليه من أرباب العرفان، كما ورد أن الجبل ينادي الجبل باسمه أي فلان هل مربك أحد ذكر الله فإذا قال نعم استبشر، رواه الطبراني عن ابن مسعود من قوله. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (سبق المفردون) قال الجزري: هو بضم الميم وفتح الفاء وكسر الراء مشددة كذا روينا وضبطنا

ص: 379

قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله! قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) . رواه مسلم.

ــ

عن شيوخنا. وقال النووي في شرح مسلم: بفتح الفاء وكسر الراء المشددة هكذا نقله القاضي عن متقنى شيوخهم وذكر غيره أنه روى بتخفيفها وإسكان الفاء. وقال في الأذكار: روي المفردون بتشديد الراء وتخفيفها والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد، يقال فَرَدَ الرجلُ في رأيه وأْفَرَدَ وفَرَّدَ واْستَفْرَدَ كله بمعنى أي استقل به وتخلى بتدبيره. والمراد به الذين تفردوا بذكر الله تعالى وانفردوا واعتزلوا عن الناس للتعبد. وقيل: هم الذين هلك أترابهم من الناس وذهب القرن الذين كانوا فيه وانفردوا عنهم وبقوا بعدهم يذكرون الله تعالى، وقال ابن الإعرابي: يقال فرد الرجل إذ اتفقه واعتزل الناس وخلا بمراعاة الأمر والنهي (قالوا) أي بعض الصحابة (وما المفردون) أي من هم "فما" بمعنى من كما في قوله تعالى: {والسماء وما بناها} [الشمس: 5] والواو رابطة بين السؤال والجواب. وقيل: الواو للعطف على محذوف كأنهم قالوا: لا نعلم المفردين ونقول ما المفردون. وقيل: الواو زائدة للتحسين، قال التوربشتي: فإن قيل لم قالوا ما المفردون؟ ولم يقولوا من المفردون؟ قلنا: لأنهم فتشوا عن معرفة معنى هذا اللفظ عند الإطلاق ما هو المراد منه لا تعيين المتصفين به وتعريف أشخاصهم يعني أن السؤال عن الصفة أي التفريد أو الإفراد فأجاب صلى الله عليه وسلم بأن التفريد الحقيقي المتعبد هو تفريد النفس بذكر الله تعالى. وقيل: الأظهر إن "ما" ههنا تغليب غير ذوي العقول لكثرتهم على ذوي العقول لقلتهم لما حرر في محله أن الأشياء كلها له حظ من الذكر والتسبيح ومعرفة الرب والخشية منه (الذاكرون الله كثيراً) أي ذكراً كثيراً. واختلف في تفسير الكثرة. فقال ابن عباس: كثرة الذكر يحصل بالذكر في أدبار الصلاة والغدو والعشي وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غداً أو راح من منزله. وقال مجاهد: يحصل بذكره قياماً وقعوداً واضطجاعاً. وقال عطاء: بإقامة الصلوات الخمس مع حقوقها، وسأل ابن الصلاح عن ذلك فقال: بالمواظبة على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساءاً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً وهي مبينة في كتاب عمل اليوم والليلة وهذه الأقوال ذكرها النووي في الأذكار (والذاكرات) قال النووي: تقديره والذاكراته فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والحاكم (ج1ص495) ولفظ الترمذي في الجواب. قال المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافاً، والمستهترون بضم الميم وفتح التاءين. قال في جامع الأصول: المستهتر بالشي المولع به المواظب عليه عن حب ورغبة فيه. وقال في النهاية: يقال أهتر فلان بكذا واستُهتِر فهو مُهتر به ومسْتهتَر أي مولع به لا يتحدث بغيره ولا يفعل غيره – انتهى. وقال المنذري: المستهترون بذكر الله هم المولعون به المداومون عليه لا يبالون ما قيل فيهم ولا ما فعل بهم. وقال ابن القيم في

ص: 380

2286-

(4) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر، مثل الحي والميت)) . متفق عليه.

ــ

الوابل الصيب: اهتر بالشي يرفعه وفيه أولع به ولزمه وجعله دأبه وكذا استهتر فيه وبه أي الذين أولعوا بذكر الله وفيه تفسير آخر إن اهتروا في ذكر الله أي كبروا وهلك أقرانهم وهم في ذكر الله يقال اهتر الرجل فهو مهتر إذا سقط في كلامه من الكبر. والهتر السقط من الكلام كأنه بقي في ذكر الله حتى خرف وأنكر عقله والهتر الباطل أيضاً ورجل مستهتر إذا كان كثير الأباطيل، وحقيقة اللفظ إن الاستهتار الاستكثار من الشيء والولوع به حقا كان أو باطلاً، وغلب استعماله على المبطل حتى إذا قيل فلان مستهتر لا يفهم منه إلا الباطل. وإنما إذا قيد بشي تقيد به نحو هو مستهتر، وقد اهتر في ذكر الله أي أولع به وأغرى به. ويقال استهتر فيه وبه - انتهى. والحديث رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء وفيه ضعف.

2286-

قوله: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر) زاد أبوذر بعد هذه ربه (مثل الحي والميت) بفتح الميم والمثلثة في مثل في الموضعين. وهو لف ونشر مرتب شبه الذاكر بالحي الذي ظاهره متزين بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرف التام فيما يريده وباطنه بنور العلم والفهم والإدراك كذلك الذاكر مزين ظاهره بنور العلم والطاعة، وباطنه بنور العلم والمعرفة فقلبه مستقر في حظيرة القدس، وسره في مخدع الوصل. وغير الذاكر عاطل ظاهره وباطل باطنه. وقيل: موقع التشبيه بالحي والميت لما في الحي من النفع لمن يواليه والضرر لمن يعاديه وليس ذلك في الميت، وفي هذا التمثيل منقبة للذاكر جليلة وفضيلة له نبيلة وإنه بما يقع منه من ذكر الله عزوجل في حياة ذاتية وروحية لما يغشاه من الأنوار ويصل إليه من الأجور كما أن التارك للذكر، وإن كان في حياة ذاتية فليس لها اعتبار بل هو شبيه بالأموات الذين لا يفيض عليهم بشي مما يفيض على الإحياء المشغولين بطاعة الله عزوجل ومثل ما في هذا الحديث قوله تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه} [الأنعام: 123] والمعنى تشبيه الكافر بالميت وتشبيه الهداية إلى الإسلام بالحياة (متفق عليه) واللفظ للبخاري أخرجه في كتاب الدعوات ورواه مسلم في كتاب الصلاة (في باب استحباب صلاة النافلة في بيته) بلفظ: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، وكذا أخرجه الإسماعيلي وابن حبان في صحيحه وأبوعوانة فلعل البخاري رواه بالمعنى، فإن الذي يوصف بالحياة والموت حقيقة هو الساكن لا المسكن وإن إطلاق الحي والميت في وصف البيت إنما يراد به ساكن البيت فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال. وقيل: معنى قوله "مثل الحي والميت، وفي رواية مسلم أي مثل قلبهما أو مثل مكانهما ولذا ورد لا تجعلوا بيوتكم قبوراً أي خالية عن الذكر.

ص: 381

2287-

(5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي،

ــ

2287-

قوله: (أنا عند ظن عبدي) المؤمن (بي) قال الطيبي: أخذاً عن التوربشتي الظن لما كان واسطة بين الشك واليقين استعمل تارة بمعنى اليقين، وذلك إن ظهرت إماراته وتارة بمعنى الشك إذا ضعفت علاماته، وعلى المعنى الأول قوله تعالى:{الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة:46] أي يوقنون على ربهم المعنى الثاني قوله تعالى: {وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} [القصص: 39] أي توهموا، والظن في الحديث يجوز إجراءه على ظاهره، ويكون المعنى أنا أعامله على حسب ظنه بي وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر. والمراد الحث على تغليب الرجاء على الخوف وحسن الظن بالله كقوله عليه الصلاة والسلام (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، ويجوز أن يراد بالظن اليقين والمعنى أنا عند يقينه بي وعلمه بأن مصيره إلي وحسابه عليّ وإن ما قضيت به له أو عليه من خير أو شر لا مرد له لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت – انتهى. وقال القرطبي في المفهم: قيل معنى ظن عبدي بي ظن الإجابة عند الدعاء وظن القبول عند التوبة وظن المغفرة عند الاستغفار وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها تمسكاً بصادق وعده قال، ويؤيده في الحديث الآخر ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة قال ولذلك ينبغي للمرأ أن يجتهد في القيام بما عليه موقنا بأن الله يقبله ويغفر له لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فإن اعتقد أو ظن إن الله لا يقبلها وإنها لا تنفعه فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وكل إلى ما ظن كما في بعض طرق الحديث المذكور فليظن بي عبدي ما شاء. قال وأما ظن المغفرة مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والعزة وهو يجر إلى مذهب المرجئة – انتهى. قلت: تغليب الرجاء وترجيحه على الخوف قيده بعض أهل التحقيق بالمحتضر. قال الحافظ: ويؤيد ذلك حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله وهو عند مسلم من حديث جابر، وأما قبل ذلك فأقول ثالثها الاعتدال. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين في شرح هذا الحديث: فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته ويستعين على تحصيل ذلك باستحضار ما ورد من الأدلة الدالة على سعة رحمة الله سبحانه وتعالى في الكتاب والسنة. وقال ابن عباد: حسن الظن يطلب من العبد في أمر دنياه وفي أمر آخرته. أما أمر دنياه فأن يكون واثقاً بالله تعالى في إيصال المنافع والمرافق إليه من غير كد أو بسعي خفيف مأذون فيه ومأجور عليه، وبحيث لا يفوته ذلك شيئاً من فرض ولا نفل فيوجب له ذلك سكوناً وراحة في قلبه وبدنه فلا يستفزه طلب ولا يزعجه سبب. وأما أمر آخرته فإن يكون قوى الرجاء في قبول أعماله الصالحة وتوفية أجوره عليها في دار الجزء فيوجب له ذلك المبادرة لإمثتال الأمر والتكثير من أعمال البر يوجد أن حلاوة ونشاط ومن مواطن حسن الظن بالله تعالى التي لا ينبغي

ص: 382

وأنا معه

ــ

للعبد أن يفارقه فيها أوقات الشدائد والمحن، وحلول المصائب في الأهل والمال والبدن لئلا يقع بعدم ذلك في الجزع والسخط. وقيل: الظن تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظناً بل عرة وتمنياً، والمعنى المشهور أنا له كما يظن بي فإن ظن إني أصنع به خيراً صنعت به خيراً، وإن ظن إني أصنع به شراً صنعت به شراً. ويشكل على هذا نصوص كثيرة كقوله تعالى:{يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا} [الأعراف: 169] وقوله تعالى: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] وفي الحديث "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من اتبع نفسه هواه وتمنى على الله الأماني" وقد ورد في الأمن من مكر الله وقد جاءت نصوص كثيرة في مدح الخشية من الله عزوجل والخوف منه، وجاء عن أكابر الصحابة وخيار التابعين آثار كثيرة في شدة خوفهم، فمنهم من تمنى إن أمه لم تلده وإن كان شجرة تعضد، والقاعدة في هذا إن المحمود أن يكون العبد بين الخوف والرجاء ولا يبلغ به الخوف أن ييأس من رحمة الله عزوجل ولا يبلغ به الرجاء أن يأمن من مكره، وعلامة ذلك أن يكون دائباً في عمل الخير واجتناب الشر فإن من أيس من رحمة الله فلا يبعد أن يدع ذلك قائلا أنا معذب في الآخرة لا محالة لكثرة ذنوبي فلماذا امنع نفسي هواها فأعذبها في الدنيا بترك شهواتها؟ ومن أمن مكر الله تعالى قال إنه ناج لا محالة فلا يضره أن يتبع نفسه هواها ولم يخلق الله شيئاً إلا للبشر ويقرأ {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] وينسى إن قليلة يدعوا إلى كثيرة والاسترسال إلى الحلال الكثير يعسر عليه الاجتناب من الحرام فيغلب فيجترىء على ما لم يكن له أن يجترىء عليه ويقول إنا مؤمن وكل مؤمن حبيب الله ومن شأن المحبوب أن لا يمنع محبة ما تهواه نفسه ولا يكلفه ما يشق عليه وأشباه ذلك. وقد أجيب بأن الحديث خاص بحال لاحتضار فالمؤمن المحسن يبدو له من مبشرات تضطره إلى ظن الخير، وإن كان قبل ذلك من أشد الخائفين وغيره يبدو له من المنذرات ما يضطره إلى ظن سوء مصيره، وإن كان قبل ذلك آمناً من مكر الله وهذا كما حمل حديث إذا أحب عبدي لقائي أحببت لقاءه، وفيه إن لفظ الحديث عام فالتخصيص بلا دليل لا يجوز، وقد يقال أن المراد بالعبد المؤمن الصالح كما تشعر الإضافة في قوله عبدي فهو الذي يكون الله عزوجل عند ظنه به إذ لا يظن به إلا الخير والحق وهو أهل أن لا يخيب رجاءه كما جاء في من لو أقسم على الله لأبره والله اعلم كذا في شرح الأدب المفرد (وأنا معه) أي عوناً ونصراً وتائيداً وتوفيقاً وتحصيلاً لمرامه وهو كقوله تعالى:{إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وهي معية خصوصية أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية والإعانة فهي أخص من المعية التي في قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} [الحديد: 4] وقوله {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] فإن معناها المعية بالعلم والإحاطة. قال الشوكاني: هذه معية عامة وتلك معية خاصة حاصلة

ص: 383

إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ. ذكرته

ــ

للذاكر على الخصوص بعد دخوله مع أهل المعية العامة، وذلك يقتضي مزيد العناية ووفور الإكرام له والتفضل عليه ومن هذه المعية الخاصة ما ورد في الكتاب العزيز من كونه مع الصابرين وكونه مع الذين اتقوا فلا منافاة بين إثبات المعية الخاصة وإثبات المعية العامة (إذا ذكرني) بلسانه أو قلبه أو بهما (فإن ذكرني) تفريع يفيد أنه تعالى مع الذاكر سواء ذكره في نفسه أو مع غيره (في نفسه) أي سراً وخفية وهو يحتمل أن يكون ذكراً قلبياً أو لسانياً إخفائياً، أي ذكراً شفاهياً على جهة السر دون الجهر، قال الشوكاني: ويدل على هذا الاحتمال الثاني قوله وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه فإنه يدل على أن العبد قد جهر بذكره سبحانه وتعالى بين ذلك الملأ الذي هو فيهم فيقابله الأسرار بالذكر باللسان لا مجرد الذكر القلبي فإنه لا يقابل الذكر الجهري بل يقابل مطلق الذكر اللساني أعم من يكون سراً أو جهراً (ذكرته في نفسي) أي في ذاتي من غير إطلاع أحد من مخلوقاتي أو المراد في غيبي أي إذا ذكرني خالياً أثبته وجازيته عما عمل بما لا يطلع عليه أحد وفيه جواز إطلاق النفس على الله تعالى باعتبار معنى الذات خلافاً لمن منع وحمله على المشاكلة كما في قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك} [المائدة: 116] لكن يرد عليه قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 28] وقوله صلى الله عليه وسلم (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) . قال الحافظ: أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سراً ذكرته بالثواب والرحمة سراً. وقال التوربشتي: الذكر من الله تعالى هو حسن قبوله والمجازاة له بالحسنى، فالمراد من قوله هذا إن العبد إذا ذكره في السر آتاه الله ثواب ذلك سراً على منوال عمله أي ويتولى بنفسه إثابته لا يكله إلى غيره. فإن قيل قد عرفنا فائدة الذكر الخفي من العبد وذلك أنه يكون من الآفات الداخلة على الأعمال بمعزل، ومن الإخلاص بمكان فما فائدة ذكر الله تعالى عبده في الغيب؟ قلنا الاصطفاء والاستئثار فإن الله تعالى إنما يدع علم الشيء بمكان من الغيب استئثاراً به واصطفاء له وفيه أيضاً صيانة سر العبد عن إطلاع الملأ الأعلى عليه وتوقي عمله عن إحاطة علم الخلق بكنه ثوابه، وفيه أيضاً تنبيه على كون العبد من الله بمكان تكّنه الغيرة عن الأغيار (وإن ذكرني في ملأ) بفتح الميم واللام مهموز أي مع جماعة من المؤمنين أو في حضرتهم. قال الجزري: الملأ أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى أقوالهم. وفيه دليل على جواز الذكر بالجهر. واختلفوا في ذلك فمنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من فصل كصاحب الفتاوى الخيرية، فقال إن كان الجهر مفرطاً منع عنه وإلا جاز، نعم السر أفضل من الجهر لكنه أمر آخر وهذا هو المعتمد عند محققي الحنفية (ذكرته) قال الشوكاني: معناه إن الله يجعل ثواب ذلك الذكر بمرأى ومسمع من ملائكته أو يذكره عندهم بما يعظم به شأنه ويرتفع به مكانه ولا مانع من أن يجمع بين الأمرين. وقيل: المراد منه مجازاة العبد بأحسن مما

ص: 384

في ملأ خير منهم)) . متفق عليه.

2288-

(6) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}

ــ

جاء به وأفضل مما يقرب به إلى ربه (في ملأ خير منهم) أي من ملأ الذاكرين وهم الملأ الأعلى ولا يلزم منه تفضيل الملائكة على بني آدم كما ذهب إليه المعتزلة لاحتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من ملأ الذاكرين الأنبياء والشهداء فلم ينحصر ذلك في الملائكة وأيضاً فإن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معاً فالجانب الذي فيه رب العزة خير من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب فالخيرية حصلت بالنسبة للمجوع على المجموع، وهذا قاله الحافظ مبتكراً لكن قال إنه سبقه إلى معناه الكمال بن الزملكاني في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى. وقال الطيبي: الملأ الموصوف بأنه خير منهم هم الملائكة المقربون وأرواح المرسلين فلا دلالة على كون الملائكة أفضل من البشر. قال في اللمعات: والأحسن أن يقال الخيرية من جهة النزاهة والتقدس والعلو، وهي لا تنافي أفضلية البشر من جهة كثرة الثواب على الطاعة مع وجود الموانع والعوارض الجسمانية. وقال ابن الملك: اختلف هل البشر خير من الملائكة أم لا، رجح كلا مرجحون. قيل: والمختار إن خواص البشر كالأنبياء خير من خواص الملائكة كجبريل. وأما عوام البشر فليسوا بخير من الملائكة أصلاً فقوله في ملأ خير منهم أي خير منهم حالاً فإن حال الملائكة خير من حال الإنس في الجد والطاعة قال الله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم} [التحريم: 6] وأحوال المؤمنين مختلفة بين طاعة ومعصية وجد وفترة – انتهى. قلت: قد بسط الحافظ الكلام في ذكر الاختلاف في ذلك مع سرد أدلة قول أهل السنة وقول المعتزلة من شاء الوقوف على ذلك رجع إلى الفتح (متفق عليه) أخرجه البخاري في التوحيد، ومسلم في الذكر والدعاء. وتمام الحديث (وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) . وقد أخرجه أيضاً أحمد (ج2ص251) والترمذي في الزهد والنسائي في الكبرى وابن ماجه في ثواب التسبيح، وروى البزار عن ابن عباس. قال المنذري: بإسناد صحيح مرفوعاً قال: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خالياً وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذين تذكرني فيهم) .

2288-

قوله: (من جاء بالحسنة) أي جاء بها يوم القيامة غير مبطلة ولذا لم يقل من فعل الحسنة، والمراد بفرد من أفرادها أي فرد كان والمعنى من جاء يوم القيامة متلبساً بها متصفاً بأنه قد عملها في الدنيا (فله عشر أمثالها) أي ثواب عشر حسنات أمثالها حذف المميز الموصوف وأقيم الصفة مقامه فلا يعترض بأن

ص: 385

وأزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني شبراًً، تقربت منه ذراعاً. ومن تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة.

ــ

الأمثال جمع مثل وهو مذكر فكان قياسه عشرة بالتاء على القاعدة، والجواب إن المعدود محذوف وهو موصوف أمثالها، والحسنات مؤنث فناسب تذكير العدد يعني أنه روعي في ذلك الموصوف المحذوف والتقدير فله عشر حسنات أمثالها، ثم حذف الموصوف وأقيم صفته مقامه وترك العدد على حاله ومثله مررت بثلاثة نسايات ألحقت في عدد المؤنث مرعاة للموصوف المحذوف إذا الأصل بثلاثة رجال نسايات. والحاصل إن له عشر مثوبات كل منها مثل تلك الحسنة في الكيفية وهذا أقل المضاعفة بمقتضى الواعد ولذا قال (وأزيد) بصيغة المتكلم أي لمن أريد الزيادة من أهل السعادة على عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة. قال النووي: معناه إن التضعيف بعشر أمثالها لا بد منه بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى (ومن جاء بالسيئة) أي غير مكفرة (فجزاء سيئة مثلها) أي عدلاً (أو أغفر) فضلاً. قال الطيبي: اختص ذكر الجزاء بالثانية لأن ما يقابل العمل الصالح كله أفضال وإكرام من الله، وما يقابل السيئة فهو عدل وقصاص فلا يكون مقصوداً بالذات كالثواب، فخص بالجزاء. وأما إعادة السيئة نكرة فلتنصيص معنى الوحدة المبهمة في السيئة المعرفة المطلقة وتقريرها. وأما معنى الواو في "وأزيد" فلمطلق الجمع إن أريد بالزيادة الرؤية كقوله تعالى:{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26] وإن أريد بها الأضعاف فالواو بمعنى "أو" التنويعية كما هي في قوله أو أغفر قال القاري: والأظهر ما قاله ابن حجر من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتها فإنه لا يمكن اجتماعهما فوجب ذكراً والدال على أن الواقع أحدهما فقط ومن تقرب) أي طلب القربة (مني) أي بالطاعة (شبراً) أي مقداراً قليلاً، قال الطيبي: شبراً وذراعاً وباعاً في الشرط والجزء منصوب على الظرفية أي من تقرب إلى مقدار شبر (ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) قال الباجي: الباع طول ذراعي الإنسان وعضديه وعرض صدره، وذلك قدر أربعة أذرع. وقيل: هو قدر مد اليدين وما بينهما من البدن (ومن أتاني) حال كونه (يمشي أتيته هرولة) هي الإسراع في المشي دون العدو. وقال الطيبي: هي حال أي مهرولاً أو مفعول مطلق لأن الهرولة نوع من الإتيان فهو كرجعت القهقري لكن الحمل على الحال أولى لأن قرينه يمشي حال لا محالة قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهره (أي لأنه يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال) ومعناه من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة وإن

ص: 386

ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)) . رواه مسلم.

2289-

(7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عاد لي ولياً

ــ

زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد إن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه – انتهى. وكذا فسره الأعمش والراغب والجزري وابن بطال وابن التين والتوربشتي والطيبي والحافظ والعيني وغيرهم من أهل العلم قلت لا حاجة إلى هذا التأويل والتفسير والصواب أن يحمل هذا الحديث كأمثاله على ظاهره فنؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى كالمجيء والنزول ونحوهما وربنا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والله اعلم (ومن لقيني بقراب الأرض) بضم القاف على المشهور وبكسر أي بمثلها وقدرها. مأخوذ من القرب. وقال الجزري في النهاية: أي بما يقارب ملأها وهو مصدر قارب يقارب (خطيئة) تمييز (لا يشرك بي) حال من فاعل لقيني العائد إلى من (شيئاً) مفعول مطلق أو مفعول به (لقيته بمثلها مغفرة) أي إن أردت ذلك له لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] ونكته حذفه في الحديث استغناء بعلمه منها ومبالغة في سعة باب الرحمة. قال الطيبي: المقصود من الحديث دفع اليأس بكثرة الذنوب فلا ينبغي أن يغتر في الاستكثار من الخطايا. قال ابن الملك: فإنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولا يعلم إنه من أيهم – انتهى. وهذا المقصود من آخر الحديث. وأما أوله ففيه الترغيب والتحثيث على المجاهدة في الطاعة والعبادة دفعاً للتكاسل والقصور. واعلم أنه قلما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم رتب قوله لقيته بمثلها مغفرة على عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة لكن لا يجوز لأحد أن يغتر ويقول إذا كان كذلك فأكثر الخطيئة حتى يكثر الله المغفرة. وإنما قال تعالى ذلك كيلاً ييأس المذنبون من رحمته ولا شك إن لله مغفرة وعقوبة ومغفرته أكثر ولكن لا يعلم إنه من المغفورين أو من المعاقبين فإذن ينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء كذا في المرقاة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص148- 153- 155- 169- 180) وابن ماجه.

2289-

قوله: (من عادى) أي آذى ففي رواية لأحمد في الزهد من حديث عائشة من آذى لي ولياً (لي) هو في الأصل صفة لقوله ولياً لكنه لما تقدم صار حالاً (ولياً) الولي المحب والناصر والحافظ وكل من يتولى. أمر أحد. قال الحافظ والعيني: المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته. وقال القسطلاني

ص: 387

فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشي أحب إلي مما افترضت عليه،

ــ

فعيل بمعنى مفعول وهو من يتولى الله تعالى أمره قال تعالى وهو يتولى الصالحين ولا يكله إلى نفسه لحظة بل يتولى الحق رعايته أو هو فعيل مبالغة من الفاعل وهو الذي يتولى عبادة الله وطاعته فعبادته تجري على التوالي من غير أن يتخللها عصيان، وكلا الوصفين واجب حتى يكون الولي ولياً بحسب قيامه بحقوق الله على الاستقضاء والاستبقاء ودوام حفظ الله إياه في السراء والضراء، ومن شرط الولي أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً. قال القشيري: والمراد بكون الولي محفوظاً أن يحفظه الله تعالى عن تماديه في الزلل والخطأ إن وقع فيهما بأن يلهمه التوبة فيتوب منهما وإلا فهما لا يقدحان في ولايته – انتهى. وقد استشكل وجود أحد يعادي الولي لأن المعاداة من باب المتفاعلة التي تقع من الجانبين، ومن شأن الولي الحلم والاجتناب عن المعاداة والصفح عمن يجهل عليه. وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلاً، بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر والمبتدع في بغضه للسني فتقع المعاداة من الجانبين. أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله، وأما من جانب الآخر فظاهر وكذا الفاسق المتجاهر يبغضه الولي في الله ويبغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته. وقيل لا يحتاج إلى هذا التكلف فإذا قلنا إن الفاعل يأتي بمعنى فعل كما في قوله تعالى:{وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران: 133] بمعنى أسرعوا حصل الجواب ويؤيد هذا قوله من آذى لي ولياً كما تقدم (فقد آذنته) بمد الهمزة وفتح المعجمة بعدها نون أي أعلمته من الإيذان وهو الأعلام (بالحرب) أي بمحاربتي إياه ووقع في حديث عائشة من عادى لي ولياً فقد استحل محاربتي وفي حديث معاذ عند ابن ماجه وأبي نعيم كما في الفتح فقد بارز الله بالمحاربة، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي. وحديث أنس عند أبي يعلى والبزار فقد باوزني. وقد استشكل وقوع المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين والمخلوق في أسر الخالق. والجواب إنه من المخاطبة بما يفهم فإن غاية الحرب الهلاك والله لا يغلبه غالب، فكان المعنى فقد تعرض لإهلاكي إياه فأطلق الحرب وأراد لازمه أي أعمل به ما يعمله العدو المحارب. قال الفاكفاني: هذا تهديد شديد لأن من حاربه الله أهلكه وهو من المجاز البليغ لأن من كره من أحب الله خالف الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة فمن والى أولياء الله أكرمه الله (وما تقرب إلي عبدي) أي المؤمن (بشي) أي من الطاعة (أحب إلي) بفتح أحب صفة لقوله بشي فهو مفتوح في موضع جر وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أحب (مما افترضت عليه) سواء كان عيناً أو كفاية ظاهراً أو باطناً ويستفاد منه إن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله وإن قرب العبد إلى ربه بأداء الفرائض أتم وأكمل مما يحصل بأداء النوافل لأن انعزل العبد عن اختياره في امتثال الأمر أشد في أداء الفرائض فإن النوافل يهديها العبد إلى الرب بالاختيار والتبرع، ويحصل في الأول فناء الذات، وفي الثاني فناء الصفات

ص: 388

وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحببته، فإذا أحببته فكنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،

ــ

قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين، وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريباً وأيضاً الفرض كالأصل والأس والنفل كالفرع والبناء وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الأمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل (وما يزال) بلفظ المضارع وفي رواية وما زال (عبدي) أي القائم بالفرائض (يتقرب) أي يطلب زيادة القرب (إلي بالنوافل) أي التطوع من جميع أصناف العبادات يعني مع محافظته على الفرائض (حتى أحببته) أي حباً كاملاً لجمعه بين الفرائض والنوافل. قال الحافظ: ظاهره إن محبة الله للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، قد استشكل بما تقدم أولاً إن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة، والجواب إن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها. ويؤيده إن في رواية أبي أمامة "ابن آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك" وقال الفاكهاني: معنى الحديث إنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى. وقال ابن هبيرة: يؤخذ قوله من قوله ما تقرب إلى آخره إن النافلة لا تقدم على الفريضة لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفرائض فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقريب وقد تبين بذلك إن المراد من التقرب بالنوافل إن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها (فإذا أحببته) لتقربه إلى بما ذكر (فكنت) كذا في أكثر النسخ الحاضرة من المشكاة "حتى أحببته فإذا أحببته فكنت" وفي المصابيح "حتى أحبه (أي بضم أوله) فإذا أحببته كنت) وهكذا وقع في البخاري من رواية الشكميهني ولأبي ذر "حتى أحببته فكنت" وكذا وقع في نسخة القاري من المشكاة (سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) بضم الياء وفي رواية، من حديث عائشة عينه التي يبصر بها وفي أخرى عينيه اللتين يبصر بهما بالتثنية وكذا قال في الأذن واليد والرجل (ويده التي يبطش) بفتح الياء وكسر الطاء أي يأخذ (بها ورجله التي يمشي بها) زاد في حديث عائشة وفوأده الذي يعقل به ولسانه الذي يتكلم به ونحوه في حديث أبي أمامة وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلى سمع العبد وبصره الخ وأجيب بأوجه أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح ثانيها أن المعنى إن كليته مشغولة بي فلا يصغى بسمعه إلا إلى ما يرضيني ولا يبصر ببصره إلا ما أمرته به ولا يبطش بيده إلا في ما يحل له ولا يسعى برجله إلا في طاعتي

ص: 389

ثالثها أن المعنى أجعل له مقاصده كأنه ينالها ويراها بسمعه وبصره الخ رابعها كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه خامسها قال الفاكهاني: وسبقه إلى معناه ابن هبيرة هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه وحافظ بصره كذلك الخ. سادسها يحتمل معنى آخر أدق من هذا الذي قبله، وهو أن يكون سمعه بمعنى مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملي بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكرى ولا يتلذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله إن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وعنايته حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، وقع في رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي. وقال الخطابي: هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء وتيسير المحبة له فيها، بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعة ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله، وإلى هذا نحى الداودي حيث قال: هذا كله من المجاز يعني أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة ومثله قال الكلاباذي وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه. وقال التوربشتي: معناه اجعل سلطان حبي غالباً عليه حتى يسلب عنه الاهتمام بشي غير ما يقربه إلى فيصير منخلعاً عن الشهوات ذاهلاً عن الحظوظ واللذات، حيثما تقلب وأينما توجه لقي الله تعالى بمرأى منه ومسمع لا تطور حول حاله الغفلة، ولا يحول دون شهوده الحجبة. ولا يعتري ذكره النسيان، ولا يخطر بباله الأحداث والأعيان يأخذ بمجامع قلبه. حب الله فلا يرى إلا ما يحبه ولا يسمع إلا ما يحبه ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون الله سبحانه في ذلك له يداً ومؤيداً وعوناً وكيلاً يحمي سمعه وبصره ويده ورجله عما لا يرضاه، وحقيقة هذا القول ارتهان كلية العبد بمراضي الله وحسن رعاية الله له، وذلك على سبيل الاتساع وهو شائع في كلام العرب إذا أرادوا اختصاص الشيء بنوع من الخصوصية والاهتمام به والعناية والاستغراق فيه والوله إليه. سابعها قاله الخطابي أيضاً: قد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب وذلك إن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وقال بعضهم: وهو منتزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة إلا في الله. ولله فهي كلها تعمل بالحق للحق، وأسند البيهقي في الزهد عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي. قيل: وزعم الاتحادية أنه على حقيقته وإن الحق عين العبد

ص: 390

وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن.

ــ

واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية قالوا: فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر قالوا: فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفي من الكدورات أنه يصير في معنى الحق تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً صرفاً في شهودة وإن لم تعدم في الخارج وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث، ولئن سألني ولئن استعاذني فإنه كالصريح في الرد عليهم كذا في الفتح. (وإن سألني لأعطيته) أي ما سأل وهو بفتح اللام وضم الهمزة ونون التأكيد الثقيلة (ولئن استعاذني) بنون الوقاية، وفي بعض النسخ بالموحدة وهو أظهر معنى، والأول أشهر رواية قاله في اللمعات وقال الحافظ: ضبطناه بوجهين الأشهر، بالنون بعد الذال المعجمة، والثاني بالموحدة. (لأعيذنه) أي مما يخاف وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب إن الإجابة تتنوع فتارة يقع المطلوب بعينه على الفوز، وتارة يقع لكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد يقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها. وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظاً مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ، وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عداهم فقد يخطىء فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين، ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ. وفي الحديث إن من أتى بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاءه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن) وفي حديث عائشة ترددي عن موته ووقع في الحلية في ترجمة وهب بن منبه إني لأجد في كتب الأنبياء إن الله تعالى يقول (ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن) فإن قيل التردد هو التخير بين أمرين لا يدري أيهما أصلح وهو محال على الله تعالى. أجيب بأن المراد من لفظاً التردد في هذا الحديث إزالة كراهة الموت من العبد المؤمن بلطائف يحدثها الله له ويظهرها حتى تذهب الكراهة التي في نفسه بما يتحقق عنده من البشرى برضوان الله وكرامته، وهذه الحالة يتقدمها أحوال كثيرة من مرض

ص: 391

وهرم وفاقة وزمانة وشدة بلاء يهون على العبد مفارقة الدنيا، ويقطع عنها علاقته حتى إذا أيس عنها تحقق رجاءه بما عند الله فاشتاق إلى دار الكرامة فأخذه المؤمن عما تشبث به من حب الحياة شيئاً فشيئاً بالأسباب التي أشرنا إليها يضاهي، ويشبه فعل المتردد من حيث الصنعة فشبه، بفعل المتردد وأدخل في أفراده مبالغة وعبر عنه بالتردد ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخبر عن الله وعن صفاته وأفعاله بأمور غير معهودة لا يكاد السامع يعرفها على ما هي عليه إذن له أن يعبر عنها بألفاظ مستعملة في أمور معهودة تعريفاً للأمة، وتوقيفاً لهم بالمجاز على الحقيقة، وتقريباً لما ينأى عن الإفهام، وتقريراً لما يضيق عن الإفصاح به نطاق البيان وذلك بعد أن عرفهم ما يجوز على الله وما لا يجوز قاله التوربشتي. وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز والبذاء عليه في الأمور غير سائغ ولكن له تأويلان. أحدهما: إن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقة تنزل به فيدعوا الله فيشفيه. منها: ويدفع عنه مكروهها فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمراً ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني: أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روي في قصة موسى عليه السلام، وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى. قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه وعبر ابن الجوزي عن الثاني، بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح، وأضاف الحق ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار كرامة المؤمن على ربه، فإن قيل: إذا أمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد، فالجواب من وجوه. منها: إن معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلم يبسط يده إليه فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بدأ من امتثاله. ومنها: إن الملك يتردد فيما لم يحد له فيه الوقت كان يقال لا تقبض روحه إلا إذا رضي. وقيل معنى الحديث ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس عبدي المؤمن أتوقف فيه وأريد ما أعددت له من النعيم والكرامات حتى يسهل عليه ويميل قلبه إليه شوقاً إلى أن ينخرط في سلك المقربين ويتبوأ في أعلى عليين قاله القاضي. وقيل هذا خطاب لنا بما نعقل والمقصود تفهيمنا تحقيق المحبة للولي والدلالة على شرفه ورفعة منزلته حتى لو تأتي أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عباده لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد كما إن العبد إذا كان له أمر لا بد له أن يفعله بحبيبه لكنه يؤلمه، فإن نظر إلى ألمه أنكف عن الفعل وإن نظر إلى أنه لا بد له منه أن يفعله لمنفعته أقدم عليه فيعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفون، ودلهم به على شرف الولي عنده ورفعة درجته. وقيل المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج بخلاف سائر

ص: 392

يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)) . رواه البخاري.

ــ

الأمور فإنها تحصل بمجرد قوله كن سريعاً دفعة ذكره الكرماني. وقيل الصواب فيه أن يؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى وشأنه ولا يتوهم ولا يقال كيف فلا حاجة إلى التأويلات التي ذكروها والله اعلم (يكره الموت) قال القاري: استئناف جواباً عما يقال ما سبب التردد، والمراد أنه يكره شدة الموت بمقتضى طبعه البشرى (وأنا أكره مساءته) بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية مصدر ساء الأمر فلاناً أي أحزنه. قال ابن الملك: أي إيذاءه بما يلحقه من صعوبة الموت وكربه. وقال ابن حجر: أي أكره ما يسوءه لأني أرحم به من والديه لكن لا بد له منه لينتقل من دار الهموم إلى دار النعيم والمسرات، فعلته به إيثاراً لتلك النعمة العظمى والمسرات الكبرى كما أن الأب الشفوق يكلف الابن بما يكلفه من العلم وغيره وإن شق عليه نظراً لكماله الذي يترتب على ذلك – انتهى. قال القاري: وهو خلاصة كلام الطيبي وحاصل كلامهم إن إضافة المساءة من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، والظاهر إنها مضافة إلى فاعله والمعنى أكره مساءته لكراهة الموت فإنه لا ينبغي أن يكره الموت بل يحبه فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه من كره لقاء الله كره الله لقاءه – انتهى. وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه وليس المعنى إني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته – انتهى. وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي وهو مفارقة الروح للجسد ولا تحصل غالباً إلا بألم عظيم جداً، فلما كان الموت بهذا الوصف والله يكره أذى المؤمن أطلق على ذلك الكراهة، ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين كذا في الفتح. (ولا بد له منه) كذا وقعت هذه الزيادة في بعض نسخ المشكاة موافقاً لما في المصابيح وسقطت من بعضها كنسخة القاري التي أخذها في شرحه وكنسخة أشعة اللمعات للشيخ الدهلوي وليست أيضاً في البخاري. قال القاري: وفي نسخة صحيحتي من المشكاة ولا بد له منه وكذا في أصل مبرك وهو كذا في شرح المصابيح لابن الملك. وقال ابن حجر: كما في رواية. وقال الحافظ: زاد محمد بن مخلد (يعني عند الذهبي) عن ابن كرامة (شيخ البخاري) في آخر الحديث ولا بد له منه. ووقعت هذه الزيادة أيضاً في حديث وهب بن منبه المقطوع عند أحمد في الزهد، وأبي نعيم في الحلية. قال القاري: والمعنى ولا بد للمؤمن من الموت فلا معنى للكراهة أو ولهذا لا ادفع عنه الموت (رواه البخاري) في باب التواضع من كتاب الرقاق. قال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا شريك بن عبد الله بن نمر عن عطاء عن أبي هريرة. قال الذهبي: في ترجمة خالد بن مخلد من الميزان (ج1ص300، 301) قال أحمد: له مناكير. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن سعد: منكر الحديث مفرط في التشيع. وقال أبوداود: صدوق ولكنه يتشيع، وذكره ابن عدي ثم ساق له عشرة أحاديث

ص: 393

2290-

(8) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر،

ــ

استنكرها. قال الذهبي: ومما انفرد ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن كرامة عنه وذكر حديث أبي هريرة من عادى لي ولياً الخ. وساقه من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه ثم قال: فهذا غريب جداً ولولا هيبة الجامع الصحيح لعدته في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد ولا أخرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد – انتهى. قلت شريك هذا قد وثقه ابن سعد وأبوداود. وقال النسائي وابن معين: لا بأس به واحتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس في حديث الإسراء مواضع شاذة. وأما خالد بن مخلد فقد وثقه العجلي وصالح ابن محمد جزرة وعثمان بن أبي شيبة وابن حبان. وقال ابن عدي: هو من المكثرين لا بأس به. وقال الأزدي: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق ولا يلتفت إلى قول أبي حاتم لا يحتج به لأنه جرح مبهم. وأما التشيع والمناكير. فقال الحافظ في مقدمة الفتح في ذكر خالد: هذا قلت: أما التشيع فقد قدمنا إنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه. وأما المناكير فقد تتبعها ابن عدي من حديثه وأوردها في كامله وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة من عادى لي ولياً – الحديث. وقال في الفتح (ج26ص145) بعد ذكر كلام الذهبي المتقدم، قلت: ليس هذا الحديث في مسند أحمد جزماً، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضاً، ولكن للحديث طرق أخرى يدل على مجموعها على أن له أصلاً منها عن عائشة أخرجه أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا وأبونعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها، وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به. وقد قال البخاري: أنه منكر الحديث، ومنها عن علي عند الإسماعيلي في مسند علي وعن ابن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف. وعن أنس أخرجه أبويعلى والبزار والطبراني وفي سنده ضعف أيضاً. وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصراً وسنده حسن غريب، وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن ماجه وأبونعيم في الحلية مختصراً وسنده ضعيف أيضاً، وعن وهب بن منبه مقطوعاً أخرجه أحمد في الزهد وأبونعيم في الحلية – انتهى. هذا وقد بسط الكلام في تخريج هذا الحديث وشرحه ابن رجب الحنبلي في شرح الأربعين النووية (ص259، 260) فارجع إليه إن شئت.

2290-

قوله: (إن لله ملائكة) أي من المقربين غير الحفظة المرتبين مع الخلائق بل هم سيارة سياحة في الأرض لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر (يطوفون) أي يدورون (في الطرق) أي طرق المسلمين (يلتمسون أهل الذكر) أي يطلبون مجالستهم. وقيل: أي يطلبون من يذكر الله من بني آدم ليزوروهم ويدعوا لهم ويستمعوا إلى

ص: 394

فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم. ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك.

ــ

ذكرهم، وفي الرواية الآتية يبتغون مجالس الذكر، وفي حديث جابر بن عبد الله عند أبي يعلى والبزار إن لله سرايا من الملائكة تقف وتحل بمجالس الذكر. (تنادوا) بفتح الدال أي نادى بعض تلك الملائكة بعضاً قائلين (هلموا) أي تعالوا مسرعين (إلى حاجتكم) أي إلى ما تطلبون من استماع الذكر وزيارة الذاكر، فإنا قد وجدنا جماعة من أهل الذكر. وفي رواية أحمد والترمذي إلى بغيتكم بكسر الباء وضمها مع سكون الغين وفتح الياء مخففة، وبفتح الباء وكسر الغين مع تشديد الياء المفتوحة أي إلى مطلوبكم ومرغوبكم وقوله "هلموا" ورد على لغة أهل نجد أنها تثنى وتجمع وتؤنث ولغة أهل الحجاز بناء لفظها على الفتح وبقاءه بحاله مع المثنى والجمع والمؤنث ومنه قوله تعالى:{قل هلم شهداءكم} [الأنعام: 150](قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيحفونهم) بفتح التحتية وضم الحاء وتشديد الفاء من الحف وهو الاشتمال حول شيء أي يطوفون بهم ويدورون حولهم من جوانبهم (بأجنحتهم) قال المظهري: الباء للتعدية أي يديرون أجنحتهم حول الذاكرين. وقال الطيبي: الظاهر إنها للاستعانة كما في قولك كتبت بالقلم أي يطيفونهم ويحدقون بهم بأجنحتهم لأن حفهم الذي ينتهي إلى السماء إنما يستقيم بواسطة الأجنحة (إلى السماء الدنيا) وفي رواية، إلى سماء الدنيا. قال الطيبي: أي يقف بعضهم فوق بعض إلى السماء الدنيا. (فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم) أي بالذاكرين من الملائكة. قال الطيبي: وهو أعلم حال والأحسن أن تكون معترضة أو تتميماً صيانة عن التوهم يعني لتوهم أن تكون الحال منتقلة، والحال أنها مؤكدة. وفائدة السؤال مع العلم بالمسئول إظهار شرف بني آدم وصلاحهم والتعريض بالملائكة بقولهم في بني آدم {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الخ (ما يقول عبادي) الإضافة للتشريف (يقولون) أي الملائكة (يسبحونك) أي عبادك يسبحونك (ويحمدونك) بالتخفيف (ويمجدونك) بتشديد الجيم أي يذكرونك بالعظمة أو ينسبونك إلى المجد وهو الكرم. قال الجزري: التمجيد التعظيم والمجيد الشريف العظيم، وفي رواية مسلم الآتية ذكر التهليل بدل التمجيد، وفي حديث أنس عند البزار يعظمون آلائك ويتلون كتابك ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم. قال الحافظ: ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر وإنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة من تسبيح وتكبير وغيرهما، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة وفي دخول قراءة الحديث النبوي ومدارسة العلم الشرعي ومذاكرته، والاجتماع على صلاة النافلة

ص: 395

قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً، وأكثر لك تسبيحاً. قال: فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها. قال: فيقولون: لا والله يا رب! ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول فهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، أو أشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم،

ــ

في هذه المجالس نظر. والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح والتكبير ونحوهما، والتلاوة حسب وإن كانت قراءة الحديث ومدارسة العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذكر الله تعالى – انتهى. قلت، وقال العيني: قوله "أهل الذكر" أي في قوله "يلتمسون أهل الذكر" يتناول الصلاة وقراءة القرآن وتلاوة الحديث وتدريس العلوم ومناظرة العلماء – انتهى. فاختلف الحافظ والعيني في أن المراد بمجالس الذكر وأهل الذكر الخصوص أو العموم، فاختار الحافظ الخصوص نظراً إلى ظاهر ألفاظ الطرق المذكورة، واختار العيني العموم نظراً إلى أن ما في هذه الطرق من ألفاظ الذكر تمثيلات. قال شيخنا في شرح الترمذي: والظاهر هو الخصوص كما قال الحافظ: والله تعالى اعلم. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (فيقول) أي الله (كيف لو رأوني) أي لو رأوني كيف يكون حالهم في الذكر (وأشد لك تمجيداً) أي تعظيماً، وزاد في رواية تحميداً، وفي أخرى وأشد لك ذكراً (وأكثر لك تسبيحاً) فيه إيماء إلى أن تحمل مشقة الخدمة على قدر المعرفة والمحبة (فما يسالون) أي مني، وفي رواية فما يسألوني وفي أخرى فما يسألونني (وهل رأوها) أي الجنة (كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة) لأن الخبر ليس كالمعانية (فمم) أي من شيء حذفت ألف "ما" وأبقيت الفتحة على الميم، فإنه يجب حذف ألف "ما" الاستفهامية إذا جرت، وإبقاء الفتحة على الميم دليلاً عليها نحو {فيم أنت من ذكراها} [النازعات: 43] فناظرة بم يرجع المرسلون {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2] وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر (فأشهدكم) من الأشهاد أي أجعلكم شاهدين (إني قد غفرت لهم) أي بذكرهم فـ {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114](فيهم فلان) كناية عن اسمه ونسبه (ليس منهم) أي

ص: 396

إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم)) رواه البخاري. وفي رواية مسلم، قال: إن لله ملائكة سيارة

ــ

من الذاكرين. قال القاري: حال من المستتر في الخبر. وقيل: من فلان على مذهب سيبويه. (إنما جاء) أي إليهم (لحاجة) أي دنيوية له فجلس معهم يريد الملك بهذا إنه لا يستحق المغفرة (هم الجلساء) جمع جليس (لا يشقى) بفتح الياء أي يصير شقياً (جليسهم) أي مجالسهم. قال الطيبي: أي هم جلساء لا يخيب جليسهم عن كرامتهم فيشقى – انتهى. وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين وفضل الاجتماع على ذلك وإن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى عليهم إكراماً لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر وفيه محبة الملائكة لبني آدم واعتناءهم بهم، وفيه إن السؤال قد يصدر من السائل وهو اعلم بالمسئول عنه من المسئول لإظهار العناية بالمسئول عنه والتنويه بقدره والإعلان بشرف منزلته. وقيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارة إلى قوله {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح والتقديس مع ما سلط عليهم من الشهوات ووساوس الشيطان وكيف عالجوا ذلك وضاهوكم في التسبيح والتقديس. وقيل: إنه يؤخذ من هذا الحديث إن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة لحصول ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل ووجود الصوارف وصدوره في عالم الغيب بخلاف الملائكة في ذلك كله كذا في الفتح. (رواه البخاري) في أواخر الدعوات من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وكذا خرجه ابن حبان من هذا الطريق ومن طريق الفضيل بن عياض عن الأعمش: قال الحافظ: لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة لكن اعتمد البخاري على وصله لكون شعبة رواه عن الأعمش (عند أحمد) فإن شعبه كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق إنهم سمعوه – انتهى. والحديث أخرجه أحمد (ج2ص252) ومسلم والطيالسي من طريق وهيب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وقد ذكر المصنف لفظ مسلم بعد ذلك وأخرجه أحمد أيضاً (ج2ص251) والترمذي نحو رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش، فقال عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخدري بالشك، وهذا الشك من الأعمش كما صرح في رواية أحمد، والظاهر إن الأعمش استيقن بعد ما شك أو شك بعد ما استيقن ولا أثر لهذا الشك على صحة الحديث كما هو بديهي.

(وفي رواية مسلم قال إن لله ملائكة سيارة) بتشديد الياء من السير أي سياحون في الأرض، قال في اللسان: والسيارة القافلة والسيارة القوم يسيرون أنث على معنى الرفقة والجماعة، وفي رواية أحمد (ج2ص251) والترمذي إن لله ملائكة سياحين في الأرض، بفتح السين المهملة وتشديد الياء التحتية من قولهم ساح في الأرض

ص: 397

فضلاً يبتغون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله، وهو أعلم من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأو جنتي؟ قالوا: لا أي رب!

ــ

إذا ذهب فيها وسار، وأصله من سيح الماء الجاري (فضلاً) زاد في رواية أحمد والترمذي وابن حبان عن كتاب الناس وقوله "فضلاً" صفة بعد صفة للملائكة وهو بضمتين وسكون الثاني تخفيفاً جمع فاضل كنزل ونازل أي زيادة عن الملائكة الحفظة وغيرهم المرتبين مع الخلائق لا وظيفة لهم إلا حلق الذكر. قال النووي: ضبطوا فضلاً على أوجه. أحدها: وهو أرجحها وأشهرها في بلادنا فضلاً بضم الفاء والضاد، والثانية بضم الفاء وإسكان الضاد ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر وأصوب، والثالثة: بفتح الفاء وإسكان الضاد، والرابعة: فضل بضم الفاء والضاد، ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف، والخامسة: فضلاء بالمد جمع فاضل، قال العلماء: معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حلق الذكر – انتهى. وقوله "عن كتاب الناس" بضم الكاف وتشديد التاء المثناة جمع كاتب، والمراد بهم الكرام الكاتبون وغيرهم المرتبون مع الناس (يبتغون) أي يطلبون. قال النووي: ضبطوه على وجهين، أحدهما يتتبعون بالعين المهملة من التتبع وهو البحث عن الشيء والتفتيش، والثاني يبتغون بالغين المعجمة من الابتغاء وهو الطلب وكلاهما صحيح (قعدوا معهم) أي مع الذاكرين (وحف بعضهم) أي بعض الملائكة (بعضاً) أي بعضاً آخر منهم (بأجنحتهم) أي باستعانتها (حتى يملأوا) أي الملائكة (ما بينهم) أي ما بين الذاكرين (فإذا تفرقوا) أي أهل الذكر (عرجوا) أي الملائكة من عرج يعرج إذا صعد إلى فوق (وصعدوا) بكسر العين (إلى السماء) أي السابعة (وهو اعلم) أي بهم كما في بعض النسخ من المشكاة وكما وقع في صحيح مسلم (من أين جئتم فيقولون جئنا من عند عبادك) قوله "من عند عبادك" كذا في جميع النسخ من المشكاة، وكذا وقع في المصابيح والترغيب للمنذري، والذي في صحيح مسلم من عند عباد لك، وهكذا نقله الجزري والحافظ، وفيه غاية تشريف لبني آدم حال كونهم (في الأرض) وفي رواية أحمد والترمذي فيقول الله أي شيء تركتم عبادي يصنعون (ماذا يسألوني) بتشديد النون وتخفف، ويروي أيضاً ماذا يسألونني، وفي رواية أحمد والترمذي فأي شيء

ص: 398

قال: وكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك. قال: ومما يستجيروني؟ قالوا: من نارك. قال: هل روا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: يستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم، فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا. قال: يقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)) .

ــ

يطلبون (وكيف لو رأوا جنتي) قال الطيبي: جواب "لو" ما دل عليه كيف لأنه سؤال عن الحال أي لو رأوا جنتي ما يكون حالهم في الذكر (ويستجيرونك) عطف على ويسألونك، والجملة من السؤال، والجواب فيما بينهما معترضة أي يستعيذونك. قال الجزري: الاستجارة طلب الجوار والإجارة الحماية والدفاع والمنعة عن الإنسان (ومما) كذا في جميع النسخ من المشكاة، وهكذا في نسخ مسلم من طبعات الهند وجامع الأصول (ج5ص238) ووقع في النسخ المصرية من صحيح مسلم و"مم" أي بحذف الألف وإبقاء الفتحة على الميم، وكذا نقله المنذري في الترغيب والحافظ في الفتح وهذا هو الصواب، والظاهر إن الأول خطأ من النساخ (يستجيروني) بالوجهين ويرو أيضاً يستجيرون (من نارك) أي يطلبون الأمان منها (يستغفرونك) أي أيضاً وفي بعض النسخ ويستغفرونك بالعطف موافقاً لما في صحيح مسلم (قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا) قال القاري: لعل العدول عن الواو إلى الفاء لترتب الإعطاء على المغفرة. قلت: قوله "فأعطيتهم" بالفاء كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم وأعطيتهم أي بالواو، وهكذا في المصابيح والترغيب وجامع الأصول والفتح والظاهر إن ما وقع في المشكاة خطأ من الناسخ (وأجرتهم) من أجاره يجيره إذا آمنه من الخوف (يقولون رب) أي يا رب! (عبد خطأ) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة والمد أي كثير الخطأ والذنب، أو ملازم الخطايا غير تارك لها وهو من أبنية المبالغة. قال القاري: بدل من فلان (إنما مر) أي لحاجة (فجلس معهم) قال الطيبي في التركيب: تقديم وتأخير أي إنما فلان مرّ أي ما فعل فلان إلا المرور والجلوس عقبه يعني ما ذكر الله تعالى (فيقول وله غفرت) أي أيضاً. قال الطيبي: الواو للعطف وهو يقتضي معطوفاً عليه أي قد غفرت لهم وله ثم اتبع غفرت تأكيداً وتقريراً (هم القوم) قال الطيبي: تعريف الخبر يدل على الكمال أي هم القوم كل القوم الكاملون فيما هم فيه من السعادة فيكون قوله (لا يشقى بهم) أي بسببهم وببركتهم (جليسهم) استئنافاً لبيان المقتضى لكونهم أهل الكمال وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين. فلو قيل يسعد بهم جليسهم لكان

ص: 399

2291-

(9) وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي، قال: ((لقيني أبوبكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟

ــ

ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود، وفي الحديث فضيلة الجلوس مع أهل الذكر وإن لم يشاركهم وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم.

2291-

قوله: (وعن حنظلة بن الربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية (الأسيدي) قال النووي: ضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الياء المشددة، والثاني كذلك إلا أنه بإسكان الياء ولم يذكر القاضي (عياض) إلا هذا الثاني وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم - انتهى. وقال الفتني في المغني: الأسيدي بمضمومة ومفتوحة وشذة تحتية مكسورة وسكونها والشدة عند المحدثين للأصل وتسكينها عند أهل اللغة للخفة منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بن مر، ومنه حنظلة بن الربيع - انتهى. وقال ابن عبد البر: بنو أسيد بن عمرو بن تميم من أشراف بني تميم وهو أسيد بكسر الياء وتشديدها - انتهى. وحنظلة هذا هو حنظلة بن الربيع بن صيفي بفتح الصاد المهملة بعدها تحتية ساكنة التميمي المعروف بحنظلة الكاتب لأنه كتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي، ففي مسلم والترمذي من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلة "وكان من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم " وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وليس هو حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف وشهد القادسية ونزل الكوفة وتخلف عن علي في قتال أهل البصرة يوم الجمل، ونزل قرقيسياء حتى مات في خلافة معاوية ولا عقب له (لقيني أبوبكر) وفي الترمذي أنه مر بأبي بكر وهو (أي حنظلة) يبكي (كيف أنت يا حنظلة) سؤال عن الحال أي كيف استقامتك على ما تسمع من النبي صلى الله عليه وسلم أهي موجود أم لا؟ قاله القاري. وقال الطيبي: أي أتستقيم على الطريق أم لا (نافق حنظلة) أي صار منافقاً وأراد نفاق الحال لإنفاق الإيمان. قال الطيبي: فيه تجريد لأن أصل الكلام نافقت فجرد من نفسه شخصاً آخر مثله فهو يخير عنه لما رأى من نفسه ما لا يرضي لمخالفة السر العلن والحضور الغيبة. وقال الجزري: النفاق ضد الإخلاص وأراد به في هذا الحديث إنني في الظاهر إذا كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم أخلصت وإذا انفردت عنه رغبت في الدنيا وتركت ما كنت عليه فكأنه نوع من الظاهر والباطن وما كان يرضي أن يسامح به نفسه، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يؤاخذون أنفسهم بأقل الأشياء. وقال النووي: معناه إنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك نفاقاً فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك. (قال سبحان الله) تعجب أو تبرئة وتنزيه (ما تقول) قال الطيبي:

ص: 400

قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبوبكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر

ــ

"ما" استفهامية وقوله "تقول" هو المتعجب منه يعني عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك (قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي لا عجب في ذلك لأنا نكون عنده، وأتى بضمير الجمع لأن من المعلوم إنه لا بد في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك ولم يقل نافقنا لئلا يتوهم العموم الشامل للخصوص (يذكرنا) بالتشديد أي يعظنا (بالنار) أي بعذابها تارة (والجنة) أي بنعيمها أخرى ترهيباً وترغيباً أو يذكرنا الله بذكرهما أو بقربهما (كأنا) أي حتى صرنا كأنا (رأى عين) بالنصب أي كأنا نرى الله والجنة والنار رأي عين فهو مفعول مطلق بإضمار نرى، وروى بالرفع أي كأنا راؤن الجنة والنار بالعين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل ويصح كونه الخبر للمبالغة كرجل عدل. قال القاضي: ضبطناه رأى عين بالرفع أي كأنا بحال من يراهما بعينه. قال ويصح النصب على المصدر أي نراهما رأي عين (عافسنا الأزواج والأولاد) بالفاء والسين المهملة أي خالطناهم ولاعبناهم وعالجنا أمورهم واشتغلنا بمصالحهم. قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا (والضيعات) أي الأراضي والبساتين جمع ضيعة بالضاد المعجمة المفتوحة، وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة. قال الهروي في الغريبين: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من صناعة أو نخل أو غلة أو غيرها كذلك أسمعنيه الأزهري قال: شمر ويدخل فيها الحرفة والتجارة يقال ما ضيعتك فتقول كذا (نسينا) بدل اشتمال من عافسنا أو هو جواب "إذا" وجملة عافسنا بتقدير قد حال قاله القاري وللترمذي ونسينا (كثيراً) أي نسينا كثيراً مما ذكرنا به أو نسياناً كثيراً كأنا ما سمعنا منه شيئاً قط وهذا أنسب بقوله رأي عين (وما ذاك) أي وما سبب ذلك القول (لو تدومون) أي في حال غيبتكم مني (على ما تكونون عندي) أي من صفاء القلب والخوف من الله تعالى (وفي الذكر) قال الطيبي: عطف على خبر كان الذي هو عندي. وقال ابن الملك: الواو بمعنى أو عطف على قوله "ما تكونون" أو على عندي أي لو تدومون في الذكر أو على ما تكونون في الذكر وأنتم بعداء مني من الاستغراق

ص: 401