المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{الفصل الأول} 2103- (1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(4) باب صوم المسافر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب القضاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب صيام التطوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب ليلة القدر

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(9) باب الإعتكاف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(8) كتاب فضائل القرآن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

-

- ‌(9) كتاب الدعوات

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(1) باب ذكر الله عزوجل والتقرب إليه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب أسماء الله تعالى

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌{الفصل الأول} 2103- (1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى

{الفصل الأول}

2103-

(1) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) . رواه البخاري.

2104-

(2) وعن ابن عمر، قال: ((إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر،

ــ

واختلفوا هل يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه قامها وإن لم يظهر له شيء أو يتوقف ذلك على كشفها له وإلى الأول ذهب الطبري والمهلب وابن العربي وجماعة وإلى الثاني ذهب الأكثر قيل، ويدل له ما وقع عند مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: من يقم ليلة القدر فيوافقها، وفي حديث عبادة عند أحمد والطبراني من قامها إيماناً واحتساباً ثم وفقت له. قال النووي: معنى يوافقها أي يعلم أنها ليلة القدر فيوافقها وقال في شرح التقريب: معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع إن تلك الليلة التي قامها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذلك، وما ذكر النووي من أن معنى الموافقة العلم بأنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضي هذا ولا المعنى يساعده-انتهى. وقال الحافظ: الذي يترجح في نظري ما قاله النووي ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغاء ليلة القدر، وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به فليتأمل، وقد فرعوا على القول باشتراط العلم بها أنه يختص بها شخص دون شخص فتكشف لواحد ولا تكشف لآخر ولو كانا معاً في بيت واحد كذا ذكره القسطلاني: واختلفوا أيضاً هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا وسيأتي بسط القول في ذلك في شرح حديث زِرّ بن حبيش.

2103-

قوله: (تحروا) بفتح التاء والحاء والراء المهملتين أمر من التحري وفي رواية التمسوا وكل منهما بمعنى الطلب والقصد لكن معنى التحري أبلغ لكونه يقتضي الطلب بالجد والاجتهاد (ليلة القدر) قال في النهاية أي تعمدوا طلبها، والتحري القصد والاجتهاد في الطلب، والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول-انتهى. (في الوتر) أي في ليالي الوتر (من العشر الأواخر من رمضان) فيه دليل على أن ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها. وقد تقدم أنه القول الراجح (رواه البخاري) أخرجه أيضاً مسلم لكن ليس عنده لفظ الوتر، وهكذا أخرجه أحمد والترمذي، وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً فكان حق المصنف أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري فإن قوله في الوتر لم يخرجه مسلم بل انفرد به البخاري، وأخرج البيهقي الروايتين (ج4ص307- 308) .

2104-

قوله: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ: لم أقف على تسمية أحد من هؤلاء (أروا) بضم الهمزة على بناء المفعول من الإرادة وأصله اُرِيُوا (ليلة القدر) أي أراهم الله ذلك في المنام (في السبع الأواخر) جمع آخره بكسر الخاء. قال الحافظ: أي قيل لهم في المنام إنها في السبع الأواخر.

ص: 122

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم، قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) . متفق عليه.

ــ

وقال القسطلاني: ظاهر الحديث إن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر لقوله فليتحرها في السبع الأواخر، ثم يحتمل أنهم رأوا ليلة القدر وعظمتها وأنوارها ونزول الملائكة فيها، وإن ذلك كان في ليلة من السبع الأواخر ويحتمل إن قائلاً قال لهم هي في كذا وعين ليلة من السبع الأواخر ونسيت أو قال إن ليلة القدر في السبع فهي ثلاث احتمالات. (أرى) بفتحتين أي أعلم (رؤياكم) كذا جاء بالأفراد، والمراد الجمع أي رؤاكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة، فهو مما عاقب الأفراد فيه الجمع لا من اللبس، وقول السفاقسي إن المحدثين يروونه بالتوحيد وهو جائز، وأفصح منه رؤاكم جمع رؤيا ليكون جمعاً في مقابلة جمع، فيه نظر لأنه بإضافته إلى ضمير الجمع علم منه التعدد بالضرورة وإنما عبر بأرى لتجانس رؤياكم، ومفعول أرى الأول رؤياكم والثاني قوله (قد تواطأت) بالهمزة أي توافقت وزناً ومعنى. قال القاري: وفي نسخة صحيحة قد تواطت بلا همزة. قيل أصله توطأت بالهمزة فقلبت الفا وحذفت. وقال ابن التين روى بغير همز، والصواب بالهمز وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطأ صاحبه. وقد رواه بعضهم بالهمزة وهو الأصل. وقال النووي: قوله "تواطت" أي توافقت وهكذا هو في النسخ بطاء ثم تاء وهو مهموز، وكان ينبغي أن يكتب بألف بين الطاء والتاء صورة للهمزة ولا بد من قراءته مهموزاً. قال الله تعالى:{ليواطئوا عدة ما حرم الله} [والتوبة: 37]-انتهى. وقال في المصابيح، يجوز ترك الهمز (في) رؤيتها في ليالي (السبع الأواخر فمن كان متحريها) أي طالبها وقاصدها (فليتحرها في السبع الأواخر) من رمضان من غير تعيين يحتمل أن يكون المراد بها أواخر الشهر أي السبع التي تلي آخر الشهر فيكون مبدأها من ليلة أربع وعشرين على كون الشهر ثلاثين وهو الأصل، ويحتمل أن يكون المراد السبع بعد العشرين. قيل: وهذا أولى وأمثل لتناوله إحدى وعشرين وثلاثاً وعشرين ولتحقق هذا السبع يقيناً وابتداء بخلاف الأول وإن كان بحسب الظاهر هو المتبادر، ولا يدخل ليلة التاسع والعشرين على الثاني، وتدخل على الأول. وقيل: المراد بها السبع الرابع من الشهر فيكون أولها ليلة الثانية والعشرين، وآخرها ليلة الثامن والعشرين فإن الحادية والعشرين آخر السبع الثالث من الشهر، وأول السبع الرابع إنما هو الثانية والعشرون، وعلى هذا فتدخل ليلة الثالث والعشرين، ولا تدخل ليلة التاسع والعشرين. وقيل: المراد بها السبع التي أولها ليلة الثالث والعشرين لكون المحقق في الشهر تسعاً وعشرين يوماً. وقد رواه البخاري في كتاب التعبير من صحيحه من طريق آخر إن ناساً أروا ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن ناساً أروا أنها في العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في السبع الأواخر.

ص: 123

قال الحافظ في الصوم: كأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى المتفق عليه من الرؤيتين فأمر به، وقال في التعبير إفراد السبع داخلة في إفراد العشر فلما رأى قوم أنها في العشر وقوم أنها في السبع كانوا كأنهم توافقوا على السبع، فأمرهم بالتماسها في السبع لتوافق الطائفتين عليها، ولأنه أيسر عليهم. وقد رواه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم بلفظ: رأى رجل إن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أو كذا وكذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم التمسوها في العشر البواقي في الوتر منها ولمسلم عن جبلة بن سحيم عن ابن عمر بلفظ: من كان يلتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر، وجمع بين روايتي العشر والسبع بأن العشر للاحتياط منها، أو يحمل على تعدد الأمرين في عامين بأنه أعلم أنها في العشر. ثم اعلم أنها في السبع أو حض على العشر من به بعض القوة، وعلى السبع من لا يقدر على العشر، ويؤيد هذا ما روى أحمد من حديث علي مرفوعاً إن غلبتم فلا تغلبوا في السبع البواقي، ولمسلم من طريق عقبة بن حريث عن ابن عمر التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي. قال الحافظ: وهذا السياق يرجح الاحتمال الأول من تفسير السبع الأواخر أي كون المراد به أواخر الشهر، وفي هذا الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية ويستفاد منه أن توافق جماعة على رؤيا واحدة دال على صدقها وصحتها كما تستفاد قوة الخبر من التوارد على الإخبار من جماعة. قال القسطلاني: ظاهر الحديث إن طلبها في السبع مستنده الرؤيا، وهو مشكل لأنه إن كان المعنى إنه قيل لكل واحد هي في السبع فشرط التحمل التمييز، وهم كانوا نياماً، وإن كان معناه إن كل واحد رأى الحوادث التي تكون فيها في منامه في السبع فلا يلزم منه أن تكون هي في السبع كما لو رؤيت حوادث القيامة في المنام في ليلة، فإنه لا تكون تلك الليلة محلاً لقيامها. وأجيب بأن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث الاستدلال بها على أمر وجودي غير مخالف لقاعدة الاستدلال. والحاصل إن الاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقاً، وهو طلب ليلة القدر. وإنما ترجح السبع الأواخر بسبب الرؤى الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو الاستدلال على أمر وجودي لزمه استحباب شرعي مخصوص بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي لا أنها ثبت بها حكم أو أن الاستناد إلى الرؤيا إنما هو من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم كأحد ما قيل في رؤيا الأذان-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصوم وفي التعبير ومسلم في الصوم، وأخرجه أيضاً أحمد مطولاً ومختصراً في مواضع، ومالك بلاغاً مطولاً ومسنداً مختصراً والبيهقي (ج4ص311) مطولاً وأبوداود والدارمي مختصراًُ.

ص: 124

2105-

(3) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر: في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)) . رواه البخاري.

ــ

2105-

قوله: (التمسوها) الضمير المنصوب مبهم يفسره قوله "ليلة القدر" كقوله تعالى: {فسواهن سبع سموات} [البقرة: 29] وهو غير ضمير الشأن إذ مفسره لا بد أن يكون جملة وهذا مفرد (ليلة القدر) بالنصب على البدل من الضمير في قوله التمسوها ويجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف أي هي ليلة القدر (في تاسعة) بدل من قوله في العشر الأواخر (تبقى) صفة لتاسعة (في سابعة تبقى في خامسة تبقى) اختلف في معناه على أقوال فقال القاري: قوله "تبقى" أي يرجى بقاءها أي بعد العشرين والظاهر أنه أراد بالتاسعة التاسعة والعشرين وبالسابعة السابعة والعشرين، وبالخامسة الخامسة والعشرين-انتهى. قال الحافظ: يرجح هذا قوله في رواية البخاري في كتاب الإيمان بلفظ التمسوها في التسع والسبع والخمس، أي في تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين-انتهى. وقال الطيبي: قوله في"تاسعة" تبقى الليلة الثانية والعشرون تاسعة من الأعداد الباقية، والرابعة والعشرون سابعة منها، والسادسة والعشرون خامسة منها-انتهى. وهذا مبنى على كون الشهر ثلاثين يوماً، وعلى كون العدد من آخره فتكون الليالي الثلاثة كلها إشفاعاً لا أوتاراً، ويكون معنى الحديث التمسوها في ليلة تاسعة من الليالي الباقية، ويؤيد هذا ما رواه مسلم وأبوداود عن أبي نضرة عن أبي سعيد التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة. قال قلت يا أبا سعيد إنكم اعلم بالعدد منا قال أجل نحن أحق بذلك منكم، قال قلت ما التاسعة والسابعة والخامسة، قال إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين فهي التاسعة، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة-انتهى. لكن هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على كونها منحصرة في الأوتار، ومخالف لرواية نفسه أيضاً كما سيأتي فلا بد من تأويله. قال السندي: هذا التفسير أي المروي عن أبي سعيد لا يناسب ما ورد من التماسها في الأوتار وكذا ما ظهر أنها كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين وما سيجيء إنها في سنة ليلة ثلاث وعشرين، وما سيجيء من قول أبي أنها ليلة سبع وعشرين وهذا ظاهر: قال الأبي التاسعة لما احتملت ههنا أن تكون تاسعة ما مضى أو تاسعة ما بقي سأله، وقال أنتم أعلم بهذا العدد، ثم قال: قال في المدونة التاسعة ليلة إحدى وعشرين والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، والمعنى على هذا تسع بقين أو سبع بقين وإن ذلك على اعتبار شهر رمضان ناقصاً كما سيأتي. وذكر الباجي (ج2ص89) أن ابن القاسم حكى عن مالك أنه رجع عن هذا، وقال هو حديث مشرقي لا أعلمه-انتهى. وقيل المعنى التمسوها في الليلة التي تبقى التاسعة بعدها، وفي الليلة التي تبقى السابعة بعدها وفي ليلة التي تبقى الخامسة بعدها، على اعتبار كون الشهر ثلاثين فتأمل. وقال الزركشي: قوله "في تاسعة" تبقى ليلة إحدى وعشرين، لأن المحقق المقطوع بوجوده بعد العشرين تسعة أيام لاحتمال أن يكون الشهر تسعة وعشرين يوماً،

ص: 125

2106-

(4) وعن أبي سعيد الخدري، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: إني اعتكفت العشر الأول، التمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط،

ــ

وليوافق الأحاديث الدالة على أنها في الأوتار وقوله سابعة تبقى ليلة ثلاث وعشرين وفي خامسة تبقى ليلة خمس وعشرين. وإنما يصح معنى الحديث ويوافق ليلة القدر وتراً من الليالي على ما ذكر في الأحاديث إذا كان الشهر ناقصاً. فأما إذا كان كاملاً فلا تكون إلا في شفع لأن الذي يبقى بعدها ثمان فتكون التاسعة الباقية ليلة ثنتين وعشرين، والسابعة الباقية بعد ست ليلة أربع وعشرين، والخامسة الباقية بعد أربع ليالي ليلة السادس والعشرين، فلا يصادف واحدة منهن وتراً، وهذا على طريقة العرب في التاريخ إذا جاوزوا نصف الشهر فإنما يؤرخون بالباقي منه لا بالماضي منه. والظاهر أنه خاطبهم النبي صلة الله عليه وسلم بنقص الشهر وذلك لأنه ليس على تمام شهر على يقين والله اعلم. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص231، 279، 360، 365) وأبوداود في الصلاة والبيهقي (ج4ص308- 309) .

2106-

قوله: (اعتكف العشر الأول) بتشديد الواو كذا في النسخ، والظاهر بضم الهمزة وتخفيف الواو، ولعل إفراده باعتبار لفظ العشر قاله القاري (ثم اعتكف العشر الأوسط) هكذا وقع في أكثر الروايات والمراد من العشر الليالي وكان من حقها أن توصف بلفظ التأنيث، ويقال العشر الوسطى لأن المشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما قال في أكثر الأحاديث العشر الأواخر لكن وصفت هنا بالمذكر إما باعتبار لفظ العشر فإنه لفظ مذكر فيصح وصفه بالأوسط، وإما باعتبار إرادة الوقت أو الزمان أو التقدير الثلث، كأنه قال الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر ووقع في الموطأ العشر الوسط بضم الواو والسين جمع واسط، كبازل وبزل، قال صاحب العين: واسط الرحل ما بين قادمته وآخرته. وقال أبوعبيد: وسط البيوت يسطها إذا نزل وسطها واسم الفاعل من ذلك واسط ويقال في جمعه وُسُط كنازل ونزل، وبازل وبزل، ورواه بعضهم بضم الواو وفتح السين جمع وسطي ككبر وكبرى (في قبة تركية) أي قبة صغيرة من لبود قاله النووي ضربت في المسجد يقال لها بالفارسية خركاه، وكان على سدة القبة حصير فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة (ثم أطلع رأسه) بفتح الهمزة وسكون الطاء أي أخرجه من القبة (اعتكفت) بصيغة المتكلم الماضي (التمس) حال أي أطلب (هذه الليلة) يعني ليلة القدر (ثم اعتكفت) بصيغة الماضي المتكلم أيضاً (العشر الأوسط) قال النووي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم،

ص: 126

ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة، ثم أنسيتها، وقد رأيتني اسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر،

ــ

والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر وتذكيره أيضاً لغة صحيحه باعتبار الوقت. والزمان، ويكفي في صحتها ثبوت استعمالها في هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم (ثم أتيت) على بناء المجهول، وفي رواية البخاري في كتاب الصلاة إن جبريل أتاه في المرتين فقال له أن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة أي قدامك (فقيل لي) أي قال لي الملك (إنها) أي ليلة القدر (في العشر الأواخر) قال الطيبي: وصف العشر الأول والأوسط بالمفرد، والأخير بالجمع إشارة إلى تصور ليلة القدر في كل ليلة من ليالي العشر الأخير دون الأولين (فمن كان اعتكف) أي أراد الاعتكاف (معي) وقال ابن الملك: أي من أراد موافقتي. وقال الطيبي: وإنما أمر بالاعتكاف من كان معه في العشر الأول والأوسط لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري. وقال ابن حجر: ليس للتقييد بل لإفهامه إن من لم يكن معه معتكفاً أولى. قلت هذا لفظ البخاري ولمسلم في الرواية التي ذكرها المصنف فمن أحب منكم أن يعتكف (فليعتكف العشر الأواخر) قال الطيبي: الأمر بالاعتكاف للدوام والثبات، وفي رواية فليثبت في معتكفة من الثبات، وفي أخرى فليلبث من اللبث، وفي رواية لمسلم فليبت من المبيت، وكله صحيح (فقد أريت) بضم الهمزة على بناء المجهول المتكلم أي أعلمت (هذه الليلة) مفعول به لا ظرف أي أرأيت ليلة القدر معينة (ثم أنسيتها) بضم الهمزة من الإنساء، والمراد أنه أنسى علم تعيينها في تلك السنة لا رفع وجودها لأنه أمر بالتماسها حيث قال فالتمسوها في العشر الأواخر. قال ابن حجر: المراد أنه أخبر بأنها ليلة كذا ثم أنسى ما أخبر به والمخبر بذلك جبريل. وقال القفال في العدة فيما حكاه الطبري: ليس معناه أنه رأى الليلة أو الأنوار عياناً، ثم نسي في أي ليلة رأى ذلك لأن مثل هذا قل أن ينسى أي في صبيحتها وإنما رأى أنه قيل له: ليلة القدر، ليلة كذا وكذا ثم نسي كيف قيل له، وسيأتي سبب النسيان في هذه القصة في حديث عبادة بن الصامت في الفصل الثالث من هذا الباب. وفي الحديث إن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقص في ذلك، لا سيما في ما لم يؤذن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلق بالتشريع كما في قصة السهو في الصلاة أو بالاجتهاد في العبادة كما في هذه القصة، لأنه لو عينت ليلة القدر في ليلة بعينها اقتصر الناس على العبادة فيها ففاتت العبادة في غيرها وكأن هذا هو المراد بقوله عسى أن يكون خيرا لكم كما سيأتي في حديث عبادة (وقد رأيتني) بضم التاء للمتكلم، وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول، وهو المتكلم وهو من خصائص أفعال القلوب أي رأيت نفسي (أسجد) بالرفع حال وقيل تقديره أن أسجد

ص: 127

قال: فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين)) .

ــ

(في ماء وطين) علامة جعلت له يستدل بها عليها والمراد بذلك الأرض الرطبة ولعل أصله في ماء وتراب طيناً لمخالطته به مآلاً وللإيماء إلى غلبة الماء عليه (من صبيحتها) من بمعنى في كما في قوله {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] أو هي لابتداء الغاية الزمانية (فالتمسوها في العشر الأواخر) أي من رمضان (والتمسوها في كل وتر) أي من ذلك العشر يعني في أوتار ليالي العشر وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين لا ليلة أشفاعها، ولا منافاة بينه وبين قوله التمسوها في السبع الأواخر، إذ ليس في أحدهما حصر بل في خبر الوتر زيادة تقييد السبع بالوتر (فمطرت) بفتحات (تلك الليلة) أي التي أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال القسطلاني: يقال في الليلة الماضية الليلة إلى أن تزول الشمس فيقال حينئذٍ البارحة، وفي رواية وما نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد (وكان المسجد على عريش) بفتح العين وسكون الياء بعد الراء المهملة المكسورة سقف من خشب وحشيش ونحو ذلك مما يستظل به "وعلى" بمعنى الباء كما في قوله تعالى:{حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق} [الأعراف: 105] أو بمعنى "من" كما في رواية نحو قوله تعالى: {إذا اكتالوا على الناس يستوفون} [المطففين: 2] قال الحافظ: كان على عريش أي مثل العريش، وإلا فالعريش هو نفس سقفه، والمراد أنه كان مظللاً بالجريد والخوص ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر الكثير يعني أنه لم يكن له سقف يكن من المطر ويمنعه. وقيل: أي بني على صوغ عريش وهيئته، وفي رواية للبخاري وكان (أي السقف) من جريد النخل (فوكف المسجد) أي قطر وسال ماء المطر من سقف المسجد فهو من باب ذكر المحل وإرادة الحال (فبصرت) بفتح الموحدة وضم الصاد المهملة (عيناي) زاده تأكيداً كقوله أخذت بيدي. وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهاراً للتعجب من حصوله (وعلى جبهته أثر الماء والطين) جملة حالية وفي رواية للبخاري انصرف من الصبح ووجهه ممتلىء طيناً وماء، وهذا يشعر بأن قوله أثر الماء والطين لم يرد به محض الأثر وهو ما يبقى بعد إزالة العين. قال الطيبي: قوله فبصرت عيناي مثل قولك أخذت بيدي ونظرت بعيني، وإنما يقال في أمر يعز الوصول إليه إظهاراً للتعجب من حصول تلك الحال الغريبة، ومن ثم أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفعولاً وعلى جبهته حالاً منه، وكان الظاهر أن يقال رأيت على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الماء والطين-انتهى. قال الحافظ فيه استحباب ترك الإسراع إلى إزالة ما يصيب جبهة الساجد من غبار الأرض، وقال أيضاً فيه ترك مسح جبهة المصلي والسجود على الحائل،

ص: 128

متفق عليه في المعنى. واللفظ لمسلم إلى قوله: فقيل لي: إنها في العشر الأواخر والباقي للبخاري.

2107-

(5) وفي رواية عبد الله بن أنيس، قال:((ليلة ثلاث وعشرين)) . رواه مسلم.

ــ

وحمله الجمهور على الأثر الخفيف لكن يعكر عليه قوله في بعض طرقه ووجهه ممتلىء طيناً وماء، أو أجاب النووي بأن الامتلاء المذكور لا يستلزم ستر جميع الجبهة، وفيه جواز السجود في الطين-انتهى. قال الزين بن المنير: ويحتمل أن يكون ترك مسح الجبهة عامداً لتصديق رؤياه. وقال العيني والقاري وغيرهما: هذا محمول على أنه كان شيئاً يسيراً لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض ولو كان كثيراً لم تصح صلاته، وهذا قول الجمهور. وفي شرح السنة، فيه دليل على وجوب السجود على الجبهة ولولا ذلك لصانها عن الطين (من صبيحة إحدى وعشرين) أي تصديق رؤياه كما في رواية البخاري في الصلاة ومن بمعنى في وهي متعلقة بقوله فبصرت وقوله من صبيحة كذا في جميع النسخ من المشكاة، والذي في البخاري من صبح، والحديث ظاهر في أن خطبته كانت صبح اليوم العشرين ووقوع المطر كان في ليلة إحدى وعشرين، وهو الموافق لأكثر الطرق، ووقع في رواية عند البخاري وغيره ما يقتضي أن الخطبة وقعت في أول اليوم الحادي والعشرين. وعلى هذا يكون أول ليالي اعتكافه الأخير ليلة اثنتين وعشرين، وهذا مخالف لما وقع في بقية الطرق. وقد تأوله الحافظ بحيث يزول الإشكال وتتفق الروايات من أحب الوقوف عليه فليرجع إلى الفتح. وفي الحديث إن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام قد يكون تأويله أنه يرى مثله في اليقظة. واستدل به من ذهب إلى أن ليلة القدر إحدى وعشرين دائماً، ولا حجة لهم فيه لأنه محمول على تلك السنة، وقد تقرر أنها تنتقل وتتقدم، وتتأخر في أوتار ليالي العشر في السنين المختلفة. (متفق عليه في المعنى) للحديث طرق وألفاظ، والمذكور أحدها. وأخرجه البخاري في الصلاة في ثلاثة أبواب، وفي الصوم في خمسة أبواب. وأخرجه مسلم في الصوم من طرق، أخرجه أيضاً أحمد بألفاظ وطرق ومالك وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج4ص308، 309، 315)(والباقي) أي من قوله فمن كان اعتكف معي الخ. (للبخاري) أي لفظاً في باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها.

2107-

قوله وفي رواية عبد الله بن أنيس) مصغراً كذا في الأصول الصحيحة في رواية عبد الله. ووقع في أصل الطيبي في حديث عبد الله ولذا قال، ولو قال في رواته لكان أولى، لأنه ليس بحديث آخر بل رواية أخرى، والاختلاف في زيادة ليلة، واختلاف العدد بأنه ثلاث أو إحدى وعشرون ذكره القاري. قلت: وعندي إن ما وقع في أصل الطيبي هو الأولى، لأن الظاهر إنهما واقعتان رواهما صحابيان، ولو سلم أنهما قصة واحدة فالحديث يتعدد، ويختلف باختلاف المخرج أي الصحابي كما لا يخفى،

ص: 129

وهذا هو الذي راعيناه في رقم أحاديث المشكاة وحصرها. وعبد الله بن أنيس هو أبويحيى الجهني المدني حليف بني سلمة من الأنصار. وقال ابن الكلبي والواقدي: هو من ولد البرك بن وبرة من قضاعة، وقد دخل ولد البرك في جهينة فقيل له الجهني والقضاعي والأنصاري والسلمي بفتحتين صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أبناءه ضمرة وعبد الله وعطية وعمرو وبسر بن سعيد وجابر بن عبد الله رحل إليه إلى مصر في حديث واحد وشهد العقبة الثانية واحداً، وما بعدهما. وكان أحد من يكسر أصنام بني سلمة من الأنصار. وهو الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن نبيح العنزي وحده فقتله. وقال ابن يونس: صلى القبلتين ودخل مصر وخرج إلى أفريقية له أربعة وعشرون حديثاً إنفرد له مسلم بحديث، وأخرج له البخاري تعليقاً مات بالشام في خلافة معاوية سنة (54) ووهم من قال سنة (80) فرق علي بن المديني وخليفة وغيرهما بينه وبين عبد الله بن أنيس الأنصاري الذي روى عنه ابنه عيسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم أحد بأداوة فقال أخنث، فم الإرادة-الحديث. وجزم البغوي وابن السكن وغيرهما بأنهما واحد. قال في الإصابة. وهو الراجح بأنه جهني حليف بني سلمة من الأنصار. وقال في تهذيب التهذيب: وهو (أي جعلهما واحداً) المعتمد فإن كونه أنصارياً لا ينافي كونه جهنياً لما تقدم أن الجهني حليف الأنصار. (قال ليلة ثلاث وعشرين) يعني روى عبد الله بن أنيس نحو حديث أبي سعيد لكنه قال فيه ليلة ثلاث وعشرين بدل إحدى وعشرين ولفظه عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين، قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف، وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه قال، وكان عبد الله بن أنيس يقول ثلاث وعشرين-انتهى. قال النووي: هكذا في معظم النسخ من صحيح مسلم وفي بعضها ثلاث وعشرون، وهذا ظاهر والأول جاء على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف، ويبقى المضاف إليه مجروراً أي ليلة ثلاث وعشرين-انتهى. ولا يخفى أن حديث عبد الله بن أنيس مخالف لحديث أبي سعيد في تعيين الليلة، فقيل الترجيح لحديث أبي سعيد لأنه متفق عليه. وقيل: يحتمل على تعدد القصة واستدل بحديث عبد الله بن أنيس هذا، وبحديثه الآتي في الفصل الثاني، من قال إن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين، والظاهر إن هذا كان لتلك السنة خاصة فحمله عبد الله بن أنيس ومن وافقه من الصحابة والتابعين على العموم. (رواه مسلم) أي تلك الرواية وأخرجها أحمد (ج3ص495) والبيهقي (ج4ص309) أيضاً كلهم من رواية بسر بن سعيد عن عبد الله بن أنيس.

ص: 130

2108-

(6) وعن زر بن حبيش، قال:((سألت أبي بن كعب فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله: أراد أن لا يتكل الناس أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثنى أنها ليلة سبع وعشرين. فقلت: بأي شيء تقول ذلك: يا أبا المنذر! قال: بالعلامة-أو بالآية- التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)) . رواه مسلم.

ــ

2108-

قوله: (وعن زر) بكسر الزاي وتشديد الراء (بن حبيش) بضم حاء مهملة وفتح موحدة وسكون تحتية وبشين معجمة ابن حباشة بضم مهملة وخفة موحدة، واعجام شين الأسدي الكوفي أبومريم ثقة جليل مخضرم أدرك الجاهلية كان من أصحاب علي وعبد الله بن مسعود. قال عاصم: كان زر من أعراب الناس وكان عبد الله يسأله عن العربية. وقال ابن عبد البر: كان عالماً بالقرآن قارئاً فاضلاً مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة (سألت أبي بن كعب) أي أردت أن أسأله قاله الطيبي أو يفسره قوله (فقلت ن أخاك) أي في الدين والصحبة (ابن مسعود) بدل أو بيان (من يقم الحول) أي جميع ليالي السنة (يصب ليلة القدر) أي يدركها يقيناً للإبهام في تبيينها وللاختلاف في تعيينها، أو لأنها تدور في تمام السنة، وهذا يؤيد الرواية المشهورة عن أبي حنيفة إذ قضيته إنها لا تختص برمضان (فقال) أي أبي رحمه الله دعا لابن مسعود. وفي رواية يغفر الله له (أراد أن يتكل الناس) أي لا يعتمدوا على قول واحد، وإن كان هو الصحيح الغالب على الظن الذي مبني الفتوى عليه، فلا يقوموا إلا في تلك الليلة ويتركوا قيام سائر الليالي فيفوت حكمة الإبهام الذي نسي بسببها عليه الصلاة والسلام (أما) بالتخفيف للتنبيه (أنه) أي ابن مسعود (قد علم أنها) أي ليلة القدر (في رمضان وإنها في العشر الأواخر) وفي رواية لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان (ثم حلف) أي أبي بن كعب بناء على غلبة الظن (لا يستثنى) حال أي حلف حلفاً جازماً من غير أن يقول عقيبه إن شاء الله تعالى. قال الطيبي: هو قول الرجل إن شاء الله يقال حلف فلان يميناً ليس فيها ثنى ولا ثنو ولا ثنية ولا استثناء كلها واحد، وأصله من الثني، وهو الكف والرد، وذلك إن الحالف إذا قال والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره فقد رد انعقاد ذلك اليمين-انتهى. (إنها) مفعول حلف أي حلف إن ليلة القدر (ليلة سبع وعشرين فقلت) أي لأبي بن كعب (بأي شيء) من الأدلة (تقول ذلك) أي القول (يا أبا المن1ذر) كنية أبي بن كعب (أو بالآية) كلمة "أو" للشك أي بالإمارة (أنها) بفتح الهمزة ويحتمل الكسر أي أن الشمس (تطلع يومئذ) أي يوم إذ تكون تلك الليلة ليلة القدر،

ص: 131

2109-

(7) وعن عائشة، قالت:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)) . رواه مسلم،

ــ

وفي رواية تطلع الشمس في صبيحة يومها، وفي أخرى صبح ليلة القدر (لا شعاع لها) زاد في رواية كأنها طست حتى ترتفع. قال القاري: هذا دليل على أن علمه ظني لا قطعي حيث بنى اجتهاده على هذا الاستدلال. قال ابن حجر: أي لا شعاع لها، وقد رأيتها صبيحة ليلة سبع وعشرين طلعت كذلك إذ لا يكون ذلك دليلاً إلا بانضمامه إلى كلامه-انتهى. والشعاع، بضم الشين. قال أهل اللغة: هو ما يرى من ضوء الشمس عند ذرورها أي طلوعها مثل الحبال، والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت إليها، وجمعه أشعة وشعع بضم الشين والعين أشعت الشمس نشرت شعاعها. قال القاضي عياض: قيل معنى لا شعاع لها أنها علامة جعلها الله تعالى لها قال، وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة وترددها في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها-انتهى. قيل فائدة كونه علامة مع أنه إنما يوجد بعد انقضاء الليلة أن يشكر على حصول تلك النعمة إن قام بخدمة الليلة وإلا فيتأسف على ما فاته من الكرامة ويتدارك في السنة الآتية. وإنما لم يجعل علامة في أول ليلها إبقاء لها على إبهامها. وقد ورد لليلة القدر علامات أخرى أكثرها لا تظهر إلا بعد أن تمضي ذكرها العيني (ج11ص34) وغيره. وقال الحافظ: اختلفوا هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟ فقيل: يرى كل شيء ساجداً، وقيل يرى الأنوار في كل مكان ساطعة حتى في المواضع المظلمة. وقيل يسمع سلاماً أو خطاباً من الملائكة. وقيل علامتها استجابة دعاء من وفقت له، واختيار الطبري إن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه-انتهى. (رواه مسلم) في أواخر الصلاة وفي الصوم، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص130، 131) والترمذي في الصوم والتفسير، وأبوداود في أواخر الصلاة والبيهقي (ج4ص312) وذكر صاحب التنقيح النسائي وابن خزيمة وابن حبان وأبا عوانة وابن الجارود والطحاوي والدارقطني والحميدي أيضاً فيمن أخرج هذا الحديث.

2109-

قوله: (يجتهد في العشر الأواخر) قيل أي يبالغ في طلب ليلة القدر فيها. قال القاري: والأظهر أنه يجتهد في زيادة الطاعة والعبادة يعني يبالغ في أنواع الخيرات وأصناف المبرات والعبادات. (ما لا يجتهد في غيره) أي في غير العشير الأخير. فيه استحباب الاجتهاد في العبادة والحرص على مداومة القيام في العشر الأخير من رمضان، إشارة إلى تحسين الخاتمة وتجويدها (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه،

ص: 132

2110-

(8) وعنها، قالت:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد ميزره، وأحي ليله، وأيقظ أهله)) . متفق عليه.

ــ

والحديث ذكره الجزري في جامع الأصول (ج7ص78) عزو المسلم بلفظ: قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأخير منه مالا يجتهد في غيره، ولم أجده بهذا السياق في صحيح مسلم، ورواه البيهقي (ج4ص314) بلفظ: كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيرها.

2110-

قوله: (إذا دخل العشر) وفي رواية للبيهقي، إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان. قال الحافظ: قوله "إذا دخل العشر" أي الأخير وصرح به في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي (شد منزره) ولمسلم و"شد المئزر" بكسر الميم وسكون الهمزة أي إزاره كقولهم ملحفة ولحاف. قال في التلويح "المئزر" والإزار، ما يأتزر به الرجل من أسفله وهو يذكر ويؤنث. واختلفوا في معنى شد مئزره، فقيل هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره، ومعناه التشمير في العبادة يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت. قال القسطلاني: وفي هذا نظر، فإنها قالت جد وشد المئزر فعطفت شد المئزر على الجد، والعطف يقتضي التغاير، والصحيح أن المراد به اعتزاله للنساء للإشتغال بالعبادات، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون، وجزم به الثوري واستشهد بقول الشاعر:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار

ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال عن النساء معاً ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة، وهو طويل النجاد حقيقة فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحلله، واعتزل النساء وشمر للعبادة قال الطيبي: قد تقرر عند علماء البيان إن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة كما إذا قلت فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته كذلك صلى الله عليه وسلم لا يستبعد أن يكون قد شد مئزره ظاهراً وتفرغ للعبادة واشتغل بها عن غيرها-انتهى. قلت: وقع عند ابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة شد المئزر واجتنب النساء، وفي حديث علي المذكور شد مئزره واعتزل النساء فعطفه بالواو، وهذا يقوي الاحتمال الأول (وأحي ليله) أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها أو أحي معظمه لقولها في الصحيح ما علمته قام ليلة حتى الصباح، وقوله "أحيا ليله" أي بالقيام والقراءة والذكر كأن الزمان الخالي عن العبادة بمنزلة الميت، وبالعبادة فيه يصير حياً.

ص: 133