الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
2117-
(1) عن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده)) متفق عليه.
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على تأكده. وقال أبوداود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنه مسنون. وقد تعقب الحافظ قول مالك أنه لم يعتكف من السلف إلا أبوبكر بن عبد الرحمن، وقال لعله أراد صفة مخصوصة وإلا فقد حكى عن غير واحد من الصحابة أنه اعتكف- انتهى. وقال القدوري من الحنفية: الاعتكاف مستحب. وقال صاحب الهداية: والصحيح أنه سنة مؤكدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه في العشر الأواخر من رمضان. قال ابن الهما: والحق خلاف كل من الاطلاقين وهو أن يقال الاعتكاف ينقسم إلى واجب وهو المنذور نتجيزا أو تعليقا وإلى سنة مؤكدة أي سنة كفاية لاقترانها بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة وهو اعتكاف العشر الأواخر من رمضان وإلى مستحب وهو ما سواهما.
2117-
قوله: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله) وفي رواية، حتى قبضه الله. قال السندي: يمكن أن يكون ذلك بعد ما أرى ليلة القدر في العشر الأخير وهو لا ينافي اعتكاف العشر الأوسط قبل ذلك فلا ينافي ما سبق من حديث أبي سعيد- انتهى. ويؤيد هذا الجمع ما روى عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أول سنة العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: إني رأيت ليلة القدر فيها فأنسيتها فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيهن حتى توفي صلى الله عليه وسلم ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص73) وعزاه للطبراني في الكبير وقال إسناده حسن. وفي الحديث دليل على أن الاعتكاف لم ينسخ وأنه من السنن المؤكدة في العشر الأواخر من رمضان لتخصيصه صلى الله عليه وسلم ذلك الوقت بالمواظبة على اعتكافه. قال ابن الهمام: هذه المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الإنكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل السنية وإلا كانت دليل الوجوب أو نقول اللفظ وإن دل على عدم الترك ظاهراً لكن وجدنا صريحاً يدل على الترك وهو ما في الصحيحين وغيرهما، كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة حل مكانه الذي اعتكف فيه فاستأذنته عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت فيه قبة فسمعت بها حفصة فضربت فيه قبة فسمعت زينب فضربت فيه قبةٌ أخرى، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الغداة أبصر أربع قباب فقال: ما هذا فأخبر خبرهن فقال: ما حملهن على هذا البر؟ أنزعوها فنزعت فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر من شوال وفي رواية حتى اعتكف العشر الأول من شوال (ثم اعتكف أزواجه من بعده) أي من بعد موته إحياء لسنته وإبقاء لطريقته.
فيه دليل على أن الاعتكاف ليس من الخصائص وإن النساء كالرجال في الاعتكاف وقد كان عليه السلام إذن لبعضهن كما تقدم. وأما إنكاره عليهن الاعتكاف بعد الإذن فلمعنى آخر. فقيل: خوف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو ذهاب المقصود من الاعتكاف بكونهن معه في المعتكف أو لتضييقهن المسجد بأبنيتهن. قال النووي: في هذا الحديث دليل لصحة اعتكاف النساء لأنه صلى الله عليه وسلم كان أذن لهن ولكن عند أبي حنيفة إنما يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيأ في بيتها لصلاتها، قال. ولا يجوز للرجل في مسجد بيته. ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي ضعيف عند أصحابه- انتهى وقال العيني قال أصحابنا المرأة تعتكف في مسجد بيتها وبه قال النخعي والثوري وابن عليه، ولا تعتكف في مسجد جماعة ذكره في الأصل، وفي منية المفتى لو اعتكفت في المسجد جاز، وفي المحيط روى الحسن عن أبي حنيفة جوازه وكراهته في المسجد وفي البدائع لها أن تعتكف في مسجد الجماعة في رواية الحسن عن أبي حنيفة، ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها، ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الأعظم- انتهى. وقال الحافظ: قد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تصلي فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب يعني حديث عائشة الذي تقدم في كلام ابن الهمام فانه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها لأنها تتعرض لكثرة من يراها، وشرط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها. وفي رواية لهم إن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها وبه قال أحمد- انتهى. وقال ابن قدامة (ج3 ص190) وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد، ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها، وبهذا قال الشافعي: وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبوحنيفة والثوري: لها اعتكاف في مسجد بيتها، واعتكافها فيه أفضل لأن صلاتها فيه أفضل وحكى عن أبي حنيفة أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاعتكاف في المسجد لما رأى أبنية أزواجه فيه، ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها، فكان موضع اعتكافها كالمسجد في حق الرجل. ولنا قوله تعالى:{وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187] والمراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمى مسجداً كان مجازاً، فلا يثبت له أحكام المساجد الحقيقية، ولأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن ولو لم يكن موضعاً لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه ونبهن عليه ولأن الاعتكاف قربة يشترط لها المسجد في حق الرجل فيشترط في حق المرأة كالطواف. وحديث عائشة حجة لنا لما ذكرنا وإنما كره اعتكافهن في تلك الحال حيث كثرن أبنيتهن لما رأى من منافستهن فكرهه منهن خشية عليهن من فساد نيتهن ولذلك ترك الاعتكاف لظنه إنهن يتنافسن في الكون معه ولو كان للمعنى الذي ذكروه لأمرهن بالاعتكاف في بيوتهن، ولم يأذن لهن في المسجد. وأما الصلاة فلا يصح إعتبار الاعتكاف بها، فإن صلاة الرجل في بيته أفضل ولا يصح اعتكافه فيه- انتهى.
2118-
(2) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان،
ــ
وقال ابن رشد: أما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس للأثر، وذلك أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أزواجه في الاعتكاف في المسجد، فكان هذا دليلاً على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل قالوا: وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من إذنه صلى الله عليه وسلم لعائشة في الاعتكاف معه وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر انتهى بتغيير يسير. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي في الكبرى والدارقطني (ص247) والبيهقي (ج4 ص315) .
2118-
قوله: (أجود الناس) بنصب أجود لأنه خبر كان، وقدم ابن عباس هذه الجملة على ما بعدها وغنة كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها أي لئلا يتخيل من قوله: وأجود ما يكون في رمضان أن الأجودية منه خاصة برمضان. وأجود مشتق من الجود، وهو الكرم والسخاء وهو من الصفات المحمودة أي كان إسخاهم على الإطلاق. وقد أخرج الترمذي من حديث سعد (إن الله جواد يحب الجود) - الحديث. وله في حديث أنس رفعة أنا أجود ولد آدم وأجودهم بعدي رجل علم علماً فنشر علمه. ورجل جاد بنفسه في سبيل الله وفي سنده مقال، وفي الصحيح من وجه آخر عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس- الحديث. (بالخير) اسم جامع لكل ما ينتفع به أي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد ذاته بقطع النظر عن أوقاته الكريمة وأحواله الكريمة أشد الناس جوداً بكل خير من خيري الدنيا والآخرة لله وفي الله من بذل العلم، والمال وبذل نفسه لإظهار الدين، وهداية العباد وإيصال النفع غليهم بكل طريق وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم (وكان أجود ما يكون)"ما" مصدرية، وهو جمع لأن أفعل التفضيل إنما يضاف إلى جمع، والتقدير كان أجود أكوانه ويجوز في أجود الرفع والنصب، أما الرفع فهو أكثر الروايات وأشهرها ووجهه أن يكون اسم كان وخبره محذوف وقوله (في رمضان) في محل نصب على الحال قائم مقام الخبر المحذوف الذي هو حاصل أو واقع على ما تقرر في باب أخطب ما يكون الأمير قائماً، والتقدير كان أجود أكوانه صلى الله عليه وسلم حاصلاً حال كونه في رمضان،
وإن شئت جعلت في رمضان هو الخبر كقولهم ضربي في الدار، لأن المعنى كان أجود أكوانه أي الكون الذي هو أجود الأكوان حاصلاً في هذا الوقت فلا يتعين أن يكون من باب أخطب ما يكون الأمير قائماً ووجه آخر أن يكون في كان ضمير الشأن وأجود ما يكون مبتدأ، وخبره في رمضان والتقدير كان الشأن أجود أكوان الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان أي حاصل في رمضان. ووجه آخر في كان ضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل أجود ما يكون إما مبتدأ خبره قوله في رمضان من باب قولهم أكثر شربي السويق في يوم الجمعة، والجملة بكمالها خبر كان كقولك كان زيد أحسن ما يكون في يوم الجمعة، وأما بدلاً من الضمير في كان فيكون من بدل الاشتمال كما تقول كان زيد علمه حسنا. ووجه آخر أن يكون أجود اسم كان ويكون الوقت مقداراً كما في مقدم الحاج، والتقدير كان أجود أوقات كونه في رمضان وإسناد الجود إلى أوقاته عليه الصلاة والسلام على سبيل المبالغة كإسناد الصوم إلى النهار والقيام إلى الليل في قولهم نهاره صائم وليله قائم وأما النصب فهو رواية الأصيلي ووجهه أن يجعل اسم كان ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وأجود خبرها "وما" حينئذٍ مصدرية ظرفية، والتقدير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره. وقال البدر الدماميني في المصابيح: ولك مع نصب أجود أن تجعل "ما" نكرة موصوفة فيكون في رمضان متعلقاً "بكان" مع أنها ناقصة بناء على القول بدلالتها على الحدث، وهو صحيح عند جماعة واسم "كان" ضمير عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى جوده المفهوم مما سبق أي وكان صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود شيء يكون، أو وكان جوده في رمضان أجود شيء يكون فجعل الجود متصفاً بالأجودية مجازاً كقولهم شعر شاعر- انتهى. قلت: ويؤيد الرفع ويرجحه وروده بدون كان عند البخاري في المناقب في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وفي فضائل القرآن. وإنما كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان لنه موسم الخيرات وتزايد الخيرات فإن الله تعالى يتفضل على عباده في هذا الشهر ما لا يتفضل عليهم في غيره فأراد صلى الله عليه وسلم متابعة سنة الله عزوجل (كان جبريل يلقاه) أي ينزل عليه، وفي رواية مسلم (إن جبريل كان يلقاه) وللبخاري (وكان جبريل يلقاه) وفي رواية له أيضاً (لأن جبريل كان يلقاه)(كل ليلة) وفي رواية (في كل ليلة)(في رمضان) زاد في رواية حتى ينسلخ أي رمضان وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن إلى رمضان الذي توفى بعده وليس بمقيد برمضانات الهجرة وإن كان أيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة إذ أنه كان يسمى به قبل فرض صومه، نعم يحتمل أنه لم يعارضه في رمضان من السنة الأولى لوقوع ابتداء النزول فيها ثم فتر الوحي
يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة)) .
ــ
ثم تتابع (يعرض) بفتح الياء وكسر الراء أي يقرأ (عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن) أي بعضه أو معظمه. قال ابن حجر: يعني على جهة المدارسة كما في رواية للبخاري فيدارسه القرآن، وهي أن تقرأ على غيرك مقداراً معلوماً ثم يقرأ عليك أو يقرأ قدره مما بعده وهكذا- انتهى. قيل: الحكمة فيه إن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس. والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده، فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عند الله. وفي الحد إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه لأن أول رمضان من البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور وكان في سنة عشر إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة {اليومَ أكملتُ لكُم دينكم} [المائدة:3] فإنها نزلت يوم عرفة بالاتفاق، ولما كان ما نزل في تلك الأيام قليلاً اغتفروا أمر معارضته فاستفيد منه إطلاق القرآن على بعضه مجازاً، ومن ثم لا يحنث من حلف ليقرأ القرآن فقرأ بعضه إلا أن قصد الجميع كذا في الفتح. وإنما خص الليل المذكور بمعارضة القرآن لأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم والليل مظنة ذلك بخلاف النهار، فإن فيه الشواغل والعوارض على ما لا يخفى، ولعله صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزأ في جزء من الليلة، وبقية ليلته لما سوى ذلك من تهجد وراحة وتعهد أهله، ويحتمل انه كان يعيد ذلك الجزء مراراً بحسب تعدد الحروف المنزل بها القرآن (فإذا لقيه جبريل كان) أي النبي صلى الله عليه وسلم (أجود بالخير من الريح المرسلة) بفتح السين أي المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفح بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. قال ابن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته صلى الله عليه وسلم بالخير، وبين أجودية الريح المرسلة إن المراد بالريح، ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى: لإنزال الغيث العام الذي يكون سبباً لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم. وقال الطيبي: يحتمل أنه أراد بها التي أرسلت بالبشرى بين يدي رحمة الله تعالى، وذلك لشمول روحها وعموم نفعها قال تعالى:{والمرسلات عرفاً} [المرسلات-1] فاحد الوجوه في الآية أنه أراد بها الرياح المرسلات للإحسان والمعروف، ويكون انتصاب عرفا بالمفعول له يعني هو أجود من تلك الريح في عموم النفع والإسراع فيه،
متفق عليه.
ــ
ولفظ الخير شامل لجميع أنواعه بحسب إختلاف ما جاءت الناس به، وكان عليه الصلاة والسلام يجود على كل أ؛ د منهم بما يسد خلته ويشفى علته. قال الحافظ: في الحديث جوازاً لمبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه وذلك أنه أثبت له أولاً وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة بل جعله أبلغ في ذلك، منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضار، ومنها المبشر بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثاني قال تعالى:{هو الذي يرسل الرياح بشراً} [الأعراف:57] فالريح المرسلة تستمر مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة لا تنقطع، وفيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي لأن الجود منه صلى الله عليه وسلم حقيقة ومن الريح مجاز-انتهى. وقيل: وتعبيره بأفضل نص في كونه أعظم جوداً منها لأن الغالب عليها أن تأتي بالمطر، وربما خلت عنه وهو لا ينفك عن العطاء والجود. قال الطيبي: شبه نشر جوده بالخير في العباد بنشر الريح القطر في البلاد وشتان ما بين الأثرين، فإن أحدهما يحيى القلوب بعد موتها، والأخر يحيى الأرض بعد موتها. وقال بعضهم: فضل جوده على جود الناس، ثم فضل جوده في رمضان على جود في غيره، ثم فضل جوده في ليالي رمضان وعند لقاء جبريل على جوده في سائر أوقات رمضان، ثم شبه بالريح المرسلة في التعميم والسرعة. قال ابن الملك: لأن الوقت إذا كان أشرف يكون الجود فيه أفضل-انتهى. وفي الحديث فوائد، منها الحث على الجود في كل وقت ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكتثار من القراءة في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعلاه. فإن قيل: المقصود تجويده الحفظ. قلنا: الحفظ كان حاصلاً والزيادة فيه تحصل ببعض هذه المجالس (متفق عليه) أخرجه البخاري في بدأ الوحي والصوم وصفة النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ الخلق وفضائل القرآن، ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص231-288-326-363-366-373) وزاد في رواية لا يسئل عن شيء إلا أعطاه، وأخرجه الترمذي في الشمائل والبيهقي (ج4:ص305) قال ابن حجر: فإن قلت ما وجه مناسبة ذكر هذا الحديث لهذا الباب: لأن غاية الأجودية فيه إنما حصلت في حال الاعتكاف لأن أفضل أوقات مدارسة جبريل له العشر الأخير، وهو فيه معتكف كما مر في الحديث الأول فكأن المصنف وأصله يقولان بتأكد الاعتكاف في العشر الأخير لأن له غايات علية إلا أرى إن غاية جوده عليه الصلاة والسلام إنما كانت تحصل وهو معتكف وأبدى شارح لذلك مناسبة بعيدة جداً فقال قلت من حيث إتيان أفضل الملائكة إلى أفضل خليقة بأفضل كلام من أفضل متكلم في أفضل أوقات، فالمناسب أن يكون في أفضل بقاع-انتهى.
2119-
(3) وعن أبي هريرة، قال:((كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم: القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشراً، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض))
ــ
2119-
قوله: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم هو فعل لم يسم فاعله للعلم به أي كان جبريل يعرض عليه. قال الحافظ: كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول وفي بعضها بفتح أوله بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل صرح به في رواية الإسماعيلي، ولفظه كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان، ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، لأنه يحمل على أن كلاً منهما كان يعرض على الآخر على سبيل المدارسة. (القرآن) أي معظمه أو بعضه (كل عام مرة) أي ليالي رمضان من زمن البعثة أو من بعد فترة الوحي إلى رمضان الذي توفي بعده. (فعرض) أي القرآن (عليه) أي على النبي (مرتين) في رواية إسماعيلي عرضتين (في العام الذي قبض) زاد في رواية فيه، واختلف هل كانت العرضة الأخيرة بجميع الأحرف السبعة المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها، وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان الناس أو غيره. وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة السلماني أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة، ونحوه عند الحاكم من حديث سمره وإسناده حسن وقد صححه هو ولفظه عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هي العرضة الأخيرة. وأخرج أبوعبيد من طريق داود بن أبي هند قال قلت للشعبي قوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة:185] أما كان ينزل عليه سائر السنة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل عليه فيحكم الله ما يشاء وينسخ ما يشاء، فكان السر في عرضه مرتين في سنة الوفاة استقراره على ما كتب في المصحف العثماني، والاقتصار عليه وترك ما عداه، ويحتمل أن يكون لأن رمضان في السنة الأولى من نزول القرآن لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان ثم فتر الوحي فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة في رمضان مرتين ليستوي عدد السنين والعرض (وكان يعتكف كل عام عشراً) وفي رواية يعتكف في كل رمضان عشرة أيامٍ وفي رواية النسائي يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وهذا محمول على الغالب لأنه قد جاء أنه فاته سنة فقضى (فاعتكف عشرين) بكسر العين والراء العقد الذي بعد العشر أي عشرين يوماً من رمضان، ويحتمل أن يكون بفتحهما على التثنية، والمراد العشر الأوسط والأخير لأن الظاهر من إطلاق العشرين إنها متوالية، والعشر الأخير منها فيلزم منه دخول العشر الأوسط فيها، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يختص بالعشر الأخير وإن كان هو فيه أفضل (في العام الذي قبض) أي توفي فيه قيل: وجه التضعيف في العام الأخير من
رواه البخاري.
2120 -
(4) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلى رأسه وفي المسجد فأرجله،
ــ
الاعتكاف أنه صلى الله عليه وسلم علن بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من أعمال الخير ليبين لأمته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أحوالهم. وقيل: السبب فيه إن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرة فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين. والحاصل أنه فعل ذلك مناسبة لعرض القرآن مرتين، ولعله وقع كل عرض في عشر. وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون سبب ذلك أنه لما ترك الاعتكاف في العشر الأخير بسبب ما وقع من أزواجه واعتكف بدله عشراً من شوال اعتكف في العام الذي يليه عشرين ليتحقق قضاء العشر في رمضان- انتهى. قال الحافظ: وأقوى من ذلك أنه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين لأنه كان في العام الذي قبله مسافراً، ويدل لذلك ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبوداود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاماً فلم يعتكف، فلما كان العام القابل اعتكف عشرين، ويحتمل تعدد هذه القصة بتعدد السبب فيكون مرة بسبب ترك الاعتكاف لعذر السفر ومرة بسبب عرض القرآن مرتين- انتهى. (رواه البخاري) أي بتمامه في فضائل القرآن وكذا النسائي في الكبرى، ورواه ابن ماجه في الصوم وأخرج البخاري أيضاً وأبوداود والدارمي والبيهقي في الصوم قصة الاعتكاف.
2120-
قوله: (أدنى) من الإدناء أي قرب (إليّ) بتشديد الياء (رأسه بالنصب يعني أخرج إلى رأسه من المسجد وأنا في حجرتي، ففي رواية للبخاري إنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه وفي رواية أحمد والنسائي كان يأتيني وهو معتكف في المسجد فيتكئ على باب حجرتي فاغسل رأسه وسائره في المسجد (وهو في المسجد) حال مؤكده) (فأرجله) من الترجيل بالجيم وهو تسريح الشعر أي استعمال المشط في الرأس وتنظيفه وتحسينه أي أصلح شعر رأسه بالمشط وأنظفه وأحسنه فهو من مجاز الحذف، لأن الترجيل للشعر لا للرأس، أو من إطلاق اسم المحل على الحال وفيه دليل على استحباب تسريح شعر الرأس، وإذا لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في زمن اعتكافه مع قصره واشتغاله بالعبادة ففي غيره أولى، وفيه أنه يجوز للمعتكف التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقاً بالترجل. قال الخطابي في الحديث من الفقه: إن ترجيل الشعر يجوز للمعتكف وفي معناه حلق الرأس وتقليم الأظفار وتنظيف البدن من الشعث والدرن. وقال الحافظ: والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد وعن مالك تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم- انتهى. وفيه إن المعتكف إذا
وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)) .
ــ
أخرج بعضه عن المسجد كيده ورجله ورأسه لم يبطل اعتكافه، لأن إخراج البعض لا يجري مجرى الكل، وإن من حلف أن لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعضه لا يحنث حتى يخرج رجليه ويعتمد عليها، وفيه إن الاعتكاف لا يصح في غير المسجد وإلا لكان يخرج منه لترجيل الرأس، وفيه إن بدن الحائض طاهر إلا موضع الدم إذ لو كان نجساً لما أمكنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترجيل رأسه وغسله وفيه استخدام الزوجة في الغسل والطبخ والخبز وغيرها برضاها. قال النووي: وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وعمل السلف وإجماع الأمة. وأما بغير رضاها فلا يجوز لأن الواجب عليها تمكين زوجها من نفسها وملازمة بيته فقط- انتهى. قال الولي العراقي في شرح التقريب: (ج4 ص176) وهذا الذي ذكره إنما هو بطريق القياس فإنه ليس منصوصاً، وشرط القياس مساواة الفرع للأصل، وفي الفرع هنا زيادة مانعة من الإلحاق وهي المشقة الحاصلة من الغسل والطبخ ونحوهما فلا يلزم من استخدامها في الأمر الخفيف احتمال ذلك في الثقيل الشديد، ولسنا ننكر هذا الحكم فإنه متفق عليه، وإنما الكلام في الاستدلال من الحديث والله أعلم. (وكان لا يدخل البيت) أي بيته وهو معتكف (إلا لحاجة الإنسان) قال الجزري في جامع الأصول (ج1 ص324) حوائج الإنسان كثيرة والمراد منها ههنا كل ما يضطر إليه مما لا يجوز له فعله في معتكفة- انتهى. وفسرها الزهري بالبول والغائط، وقد وقع الإجماع على استثناءهما واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب وعيادة المريض وشهود الجنازة والجمعة ويلتحق بالبول والغائط والقيء والفصد والحجامة وغسل الجنابة لمن احتاج إلى ذلك. قال الباجي: تريد عائشة لا يدخل بيته إلا لضرورة قضاء الحاجة وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب، وهذا يقتضي أن المعتكف لا يدخل بيته إلا لضرورة حاجة الإنسان وما يجري مجراه من طهارة الحدث وغسل الجنابة والجمعة مما تدعوا لضرورة إليه ولا يفعل في المسجد ولا يدخله لأكل أو نوم ولا غيره من الأفعال التي يباح فعلها في المسجد- انتهى. وقال ابن قدامة:(ج3 ص191) إن المعتكف ليس له الخروج من معتكفه إلا لما لابد منه ثم ذكر حديث عائشة هذا وحديثها الآتي في الفصل الثاني بلفظ: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لابد منه ثم قال ولا خلاف في أن له الخروج لما لابد منه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول، ولأن هذا مما لابد منه ولا يمكن فعله في المسجد قال: والمراد بحاجة الإنسان البول والغائط كنى بذلك عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما وفي معناه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن من يأتيه به فله الخروج إليه إذا احتاج إليه وإن بغتة القيء فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد وكل ما لابد منه، ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه، ولا يفسد اعتكافه، وكذلك له الخروج إلى ما أوجبه الله تعالى عليه مثل من يعتكف في مسجد لا جمعة فيه، فيحتاج إلى خروجه ليصلي الجمعة. ويلزم السعي إليها فله الخروج إليها ولا يبطل اعتكافه، وبهذا
متفق عليه.
2121 -
(5) وعن ابن عمر، أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة
ــ
قال أبوحنيفة. وقال الشافعي: لا يعتكف في غير الجامع إذا كان اعتكافه يتخلله جمعة نذر اعتكافاً فخرج منه لصلاة الجمعة بطل اعتكافه، وعليه الاستئناف. ولنا أنه خرج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة تخرج لقضاء العدة وكالخارج لإنقاذ غريقٍ أو إطفاء حريقٍ أو أداء شهادة تعينت عليه- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام على ذلك في الفصل الثاني (متفق عليه) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، وفي الصوم وفي اللباس، ومسلم في الطهارة واللفظ له إلا قوله "أدنى" فإنه للترمذي، والذي في صحيح مسلم يدنى أي بلفظ " المضارع" وكذا وقع عند مالك وأبي داود وابن ماجه، والبيهقي (ج4 ص315) .
2121-
قوله: (أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم) أي بالجعرانه لما رجعوا من حنين كما في رواية البخاري في النذر، ويستفاد منه الرد على من زعم أن اعتكاف عمر كان قبل المنع من الصيام في الليل، لأن غزوة حنين متأخرة عن ذلك (كنت نذرت في الجاهلية) زاد مسلم (فلما أسلمت وسألت) وفيه ردّ على من زعم أن المراد بالجاهلية ما قبل فتح مكة وأنه إنما نذر في الإسلام، وأصرح من ذلك ما أخرجه الدارقطني ثم البيهقي من طريق سعيد بن بشير عن عبيد الله بلفظ: نذر عمر في الشرك أن يعتكف (أن اعتكف ليلة) استدل به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس بوقت صوم وقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يفيء بنذره على الصفة التي أوجبها. قال الحافظ: لو كان الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به وتعقب بأن في رواية للشيخين يوماً بدل "ليلة" وقد جمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوماً أراد بليلته وأجاب ابن الجوزي عن رواية اليوم بجوابين. أحدهما: احتمال أن يكون نذر نذرين فيكون كل لفظ منهما حديثاً مستقلاً والثاني: أنه ليس فيه حجة إذ لا ذكر للصوم فيه- انتهى. قيل: قد ورد الأمر بالصوم برواية الثقة وهو عبد الله بن بديل عند أبي داود والنسائي صريحاً بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: اعتكف وصم، وابن بديل قال فيه ابن معين مكي صالح، وذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات، وزيادة الثقة مقبولة، ومن لم يذكر الشي ليس بحجة على من ذكره كذا قال ابن التركماني. قلت: هذه الرواية أخرجها أبوداود والنسائي والدارقطني (ص247) والبيهقي (ج4 ص316) والحاكم (ج1 ص439) كلهم من طريق عبد الله ابن بديل بن ورقاء المكي الخزاعي. قال الحافظ: وهو ضعيف وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار- انتهى. قلت: قال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن بديل الخزاعي عن عمرو، وهو ضعيف
الحديث، وقال سمعت أبا بكر النيسابوري يقول هذا حديث منكر لأن الثقات من أصحاب عمر ولم يذكروا فيه الصوم، منهم ابن جريج وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وغيرهم، وابن بديل ضعيف الحديث- انتهى. وقال ابن عدي: له أحاديث تنكر عليه فيها زيادة في المتن أو في الإسناد ثم يروي له هذا الحديث، وقال لا أعلم ذكر فيه الصوم مع الاعتكاف إلا من روايته- انتهى. وقال في التقريب في ترجمته: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر إن زيادة الأمر بالصوم في روايته من خطأه. قال الحافظ: ورواية من روى يوماً شاذة. وقد وقع في رواية سليمان بن بلال عن عبيد الله بن عمر عند البخاري في الاعتكاف فاعتكف ليلة، فدل على أنه لم يزد على نذره شيئاً وإن الاعتكاف لا صوم فيه وأنه لا يشترط له حدٍ معين. قال وباشتراط الصيام. قال ابن عمر وابن عباس أخرجه عبد الرزاق عنهما بإسناد صحيح وعن عائشة نحوه، وبه قال مالك والأوزاعي والحنفية. واختلف عن أحمد وإسحاق- انتهى. وقال القسطلاني: هذا أي عدم اشتراط الصوم مذهب الشافعية والحنابلة، وعن أحمد أيضاً لا يصح إلا بصوم، والأول هو الصحيح عندهم وعليه أصحابهم. وقالت المالكية والحنفية: لا يصح إلا بصوم انتهى. قلت: ذهبت الشافعية إلى عدم اشتراط الصوم مطلقاً، سواءً كان الاعتكاف واجباً أو نفلاً، وهو مذهب الحنابلة إلا أن يكون نذر الاعتكاف بصوم فيجب حينئذٍ بالنذر لا بالاعتكاف. قال الخرقى: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم. قال ابن قدامة: المشهور في المذهب إن الاعتكاف يصح بغير صوم روى ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وطاووس والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى إن الصوم شرط في الاعتكاف، قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم، وروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال الزهري ومالك وأبوحنيفة والليث والثوري والحسن بن حيى- انتهى. قلت: وذهبت المالكية إلى اشتراط الصوم مطلقاً سواءً كان الاعتكاف مندوباً أو واجباً فالكل عندهم سواء في ذلك، وعند الحنفية فيه تفصيل. قال الشمني: الصوم شرطٌ لصحة الاعتكاف الواجب روايةً واحدة، ولصحة التطوع (أي المندوب) رواية الحسن عن أبي حنيفة (لأن التطوع في رويته مقدر بيوم) وأما في رواية الأصل وهو قول محمد بل قيل إنه ظاهر الرواية عن الفقهاء الثلاثة فليس بشرط (بناءً على أن التطوع غير مقدر بيوم في رواية الأصل) لأن مبنى النفل على المساهلة- انتهى. وهذا هو المرجح عندهم. وأما القسم الثالث من الاعتكاف وهو المسنون المؤكد فالمتون ساكتة عن بيان حكمه، ومال ابن عابدين إلى اشتراط الصوم فيه قال: لأنه مقدر بالعشر الأخير حتى لو اعتكفه بلا صوم لمرضٍ أو سفرٍ ينبغي أن لا يصح عنه بل يكون نفلاً فلا تحصل به إقامة سنة الكفاية، ورجح ابن نجيم في البحر عدم اشتراط الصوم في هذا القسم، قلت: واحتج من ذهب إلى اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف مطلقاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا يصوم وفيه نظر لما صح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في
العشر الأول من شوال ومن جملتها يوم الفطر، قال الإسماعيلي: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن أول شوال هو يوم الفطر وصومه حرام، وأجاب العيني عن ذلك بأنه ليس فيه دليل لما قاله، لأن المراد من قوله: اعتكف في العشر الأول أي كان ابتداءه في العشر الأول فإذا اعتكف من اليوم الثاني من شوال يصدق عليه أنه ابتدأ في العشر الأول واليوم الأول منه يوم أكلٍ وشربٍ وبعال كما ورد في الحديث، والاعتكاف هو التخلي للعبادة فلا يكون اليوم الأول محلاّ له بالحديث. وقال ابن التركماني: من اعتكف الأيام التسعة من شوال يصدق عليه أنه اعتكف في العشر، وفي الصحيحين أنه عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ولم يكن يستغرق العشر كلها- انتهى. ولا يخفى ما في كلامهما من التكلف وارتكاب المجاز. واحتجوا أيضاً لذلك بحديث عائشة آخر أحاديث الفصل الثاني وسيأتي الجواب عنه هناك. واحتج بعض المالكية لذلك بقوله تعالى:{ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون بالمساجد} [البقرة:187] قال فذكر الاعتكاف عقب الصوم وتعقب بأنه ليس فيه ما يدل على تلازمهما وإلا لزم أن لا صوم إلا بالاعتكاف ولا قائل به كذا قال الحافظ: وتبعه الشوكاني ورُدّ ذلك بأنهم لم يدعوا التلازم بل مفاد كلامهم ملزومية الاعتكاف للصائم واللازم إذا كان أعم كالصوم هنا ينفرد عن الملزوم أي يوجد بدونه فسقط قوله، وإلا لزم أن لا صوم إلا باعتكاف بخلاف الملزوم الذي هو الاعتكاف لا يوجد إلا بلازمه وهو الصوم. وفيه إن مجرد ذكر الاعتكاف مع الصوم أو خطاب الصائمين في قوله:{ولا تباشروهن} لا يدل على أن الصوم لازم للاعتكاف وإن الاعتكاف لا يصح بغير صوم، فعدم اشتراط الصوم هو الحق لا، كما قال ابن القيم: إن الراجح الذي عليه جمهور السلف إن الصوم شرط في الاعتكاف. وقد روى عن علي وابن مسعود انه ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجبه على نفسه، ويدل على ذلك حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) رواه الدارقطني. وقال رفعه أبوبكر السوسى وغيره لا يرفعه، وأخرجه الحاكم مرفوعاً وقال صحيح الإسناد. وفي الحديث رد على من قال أقل الاعتكاف عشرة أيام أو أكثر من يوم. قال الحافظ: اتفقوا على أنه لا حَدّ لأكثره واختلفوا في أقلِّه فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم حكاه ابن قدامة (ج3 ص187) وعن مالك يشترط عشرة أيام وعنه يوم أو يومان ومن لم يشترط الصوم، قالوا: أقله ما يطلق عليه اسم لبث ولا يشترط القعود. وقيل: يكفي المرور مع النية كوقوع عرفة، وروى عبد الرزاق عن يعلى بن أمية الصحابي إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لاعتكف- انتهى. وقال العيني: أقل الاعتكاف نفلاً