الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
2129-
(1) عن عثمان، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))
ــ
كلها من كلام الله عزوجل. وقد استطرد فيه إلى دقائق من علوم اللغة وأسرار العربية وبيان مذاهب العلماء، فيما اختلفوا فيه من مسائل أصول الدين والانتصار لمذهب السلف في الصفات، ومنها صفة الكلام، وفيه من حقائق التفسير ولطائف البحث مالا تجده في كتاب غيره فعليك أن تطالعه. ثم المعتمد إن القرآن بمعنى القراءة مصدر بمعنى المفعول أو فعلان من القراءة بمعنى الجمع لجمعه السور وأنواع العلوم، وإنه مهموز وقراءة ابن كثير إنما هي بالنقل كما قال الشافعي:
ونقل قرآن والقرآن دواءنا
خلافاً لمن قال إنه من قرنت الشيء بالشيء لقرن السور والآيات فيه.
2129-
قوله: (خيركم) وفي رواية إن أفضلكم ولا فرق بينهما في المعنى لأن قوله "خيركم" تقديره أخيركم ولا شك إن أخيرهم هو أفضلهم (من تعلم القرآن وعلمه) كذا للأكثر وللسرخسي أو علمه وهي للتنويع لا للشك وكذا لأحمد عن غندر وعفان عن شعبة، وزاد غندر في أوله إن وأكثر الرواة عن شعبه يقولونه بالواو وكذا وقع عند أحمد عن بهز وعند أبي داود عن حفص بن عمر كلاهما عن شعبة وكذا أخرجه أحمد والترمذي من حديث علي. قال الحافظ: وهي أظهر من حيث المعنى لأن التي "بأو" تقتضي إثبات الخيرية المذكورة لمن فعل أحد الأمرين فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره أن يكون خيراً ممن عمل بما فيه مثلاً، وإن لم يتعلمه، ولا يقال يلزم على رواية الواو أيضاً إن من تعلمه وعلمه غيره أن يكون أفضل ممن عمل بما فيه من غير أن يتعلمه ولم يعلمه غيره، لأنا نقول يحتمل أن يكون المراد بالخيرية من جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلم غيره يحصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط، والقرآن أشرف العلوم فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن، وإن علمه ولا شك إن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل. فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقري أفضل من الفقيه قلنا: لا لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب فكان الفقه لهم سجية فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئاً أو مقرئاً محضاً لا يفهم شيئاً من معاني ما يقرؤه أو يقرئه. فإن قيل: فيلزم أن يكون المقري أفضل ممن هو أفضل غناء في الإسلام بالمجاهدة والرباط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً. قلنا: حرف المسألة يدور على النفع المتعدي فمن كان حصوله عنده أكثر كان أفضل فلعل من مضمرة في الحديث، ولا بد مع ذلك من مراعاة
رواه البخاري.
2130 -
(2) وعن عقبة بن عامر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحن في الصفة، فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان
ــ
الإخلاص في كل صنف منهم، ويحتمل أن تكون الخيرية وإن أطلقت لكنها مقيدة بناس مخصوصين خوطبوا بذلك كان اللائق بحالهم ذلك أو المراد خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فمتعلمه خير من متعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن، وكيف ما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عيناً- انتهى كلام الحافظ. باختصار يسير. وقال الطيبي: أي خير الناس باعتبار التعلم والتعليم من تعلم القرآن وعلمه. وقال ميرك: أي من خيركم. قال القاري: ولا يتوهم إن العمل خارج عنهما لأن العلم إذا لم يكن مورثاً للعمل فليس علماً في الشريعة إذا جمعوا على أن من عصى الله فهو جاهل قال إذا كان خير الكلام كلام الله فكذلك خير الناس بعد النبيين من يتعلم القرآن ويعلمه، لكن لا بد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص- انتهى. وقال السندي: قوله "خيركم" الخ يراد بمثله أنه من جملة الأخيار لا أنه أفضل من الكل، وبه يندفع التدافع بين الأحاديث الواردة بهذه العنوان. ثم المقصود في مثله بيان إن وصف تعلم القرآن وتعليمه من جملة خيار الأوصاف فالموصوف به يكون خيراً من هذه الجهة أو يكون خيراً إن لم يعارض هذا الوصف معارض فلا يرد أنه كثيراً ما يكون المرأ متعلماً أو معلماً القرآن ويأتي بالمنكرات فكيف يكون خيراً. وقد يقال المراد من تعلم القرآن وعلمه مع مراعاته عملاً وإلا فغير المراعي يعد جاهلاً (رواه البخاري) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص57، 58، 68) والترمذي في فضائل القرآن. وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في السنة، والدارمي وابن حبان (ج1ص281، 282) وأخرجه النسائي في الكبرى وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي والدارمي وعن سعد عند الدارمي وعن ابن مسعود عند ابن أبي داود.
2130-
قوله: (ونحن في الصفة) بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء مكان مضلل في مؤخر المسجد، أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل. قال ابن حجر: كانت هي في مؤخر المسجد معدة لفقراء أصحابه الغير المتأهلين وكانوا يكثرون تارة حتى يبلغوا نحو المائتين، ويقلون أخرى لإرسالهم في الجهاد وتعليم القرآن. وقال الجزري: أهل الصفة فقراء المهاجرين ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة، قال الكرماني: وكانوا سبعين ويقلون حيناً ويكثرون. وقال السيوطي: عدهم أبونعيم في الحلية أكثر من مائة (أيكم يحب أن يغدو) أي يذهب في الغدوة وهي أول النهار (إلى بطحان) بضم الباء الموحدة وسكون
أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله! كلنا نحب ذلك قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن
ــ
الطاء المهملة، اسم واد بقرب المدينة، سمي بذلك لسعته وانبساطه من البطح وهو البسط (أو العقيق) بفتح العين المهملة وبقافين الأولى مكسورة بينهما ياء تحتية ساكنة، قيل: أراد العقيق الأصغر وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة، وفيه بئر رومة، وهناك عقيق أكبر، وإنما خصهما بالذكر لأنهما من أقرب الأودية التي كانوا يقيمون فيها أسواق الإبل إلى المدينة. والظاهر إن "أو" للتنويع لكن في جامع الأصول (ج9ص375) أو قال إلى العقيق فدل على أنه شك من الراوي قاله القاري. (فيأتي بناقتين كوماوين) تثنية كوماء، بفتح الكاف وسكون الواو، وبالمد قلبت الهمزة واواً وهي الناقة العظيمة السنام، وأصل الكوم العلو أي فيحصل ناقتين مشرفتي السنام عاليتيه عظيمتيه. وإنما ضرب المثل بها لأنها كانت من أحب الأموال إليهم وأنفس المتأجر لديهم (في غير إثم) أي في غير ما يوجب إثماً كسرقة وغصب سمي موجب الإثم إثماً مجازاً (ولا قطع رحم) أي في غير ما يوجبه وهو تخصيص بعد تعيم (كلنا نحب ذلك) بالنون وفي جامع الأصول كلنا يحب ذلك بالياء قاله القاري. قلت: وهكذا وقع في المصابيح والترغيب بالياء، والذي في صحيح مسلم نحب بالنون كما في المشكاة وكذا في جامع الأصول المطبوعة (ج9ص375) (أفلا يغدو) أي ألا يترك ذلك فلا يغدو (أحدكم إلى المسجد فيعلم) بالتشديد وفي نسخة صحيحة بالتخفيف قاله القاري. قلت: وقع في بعض النسخ من صحيح مسلم فيتعلم، وهكذا في المصابيح (أو يقرأ) بالرفع والنصب فيهما. قال القاري قال ميرك: هذه الكلمة يحتمل أن تكون عرضاً أو نفياً، وفيه إن الفاء مانعة من كونها للعرض ثم قال، وقوله فيعلم أو يقرأ منصوبان على التقدير الأول، مرفوعان على الثاني. قلت: ويجوز نصبهما على الثاني أيضاً، لأنه جواب النفي، ثم قال ويعلم من التعليم في أكثر نسخ المشكاة وصحح في جامع الأصول من العلم، وكلمة "أو" يحتمل الشك والتنويع- انتهى. وفي شرح أنه صحح في جامع الأصول فيعلم بفتح الياء وسكون العين فأوشك من الراوي دفعاً لتوهم كونه من التعليم فيكون "أو" للتنويع كذا ذكره الطيبي وعلى التنويع قوله (آيتين من كتاب الله) تنازع فيه الفعلان وقوله (خير) خبر مبتدأ محذوف أي هما أو الغدو (خير له من ناقتين وثلاث) أي من الآيات (خير له من ثلاث) أي من الإبل. قال ابن حبان: هذا الخبر أضمر فيه كلمة وهي "لو تصدق بها" يريد بقوله "فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث" لو تصدق بها لأن فضل تعلم آيتين من كتاب الله أكبر من فضل ناقتين وثلاث وعدادهن من الإبل لو تصدق بها إذ محال أن يشبه من تعلم آيتين من كتاب الله في الأجر بمن نال بعض حطام الدنيا (ومن إعدادهن) جمع
من الإبل)) . رواه مسلم.
2131 -
(3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلث خلفات عظام سمان؟ قلنا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرؤ بهن أحدكم
ــ
عدد (من الإبل) بيان للإعداد. قيل: من إعدادهن متعلق بمحذوف تقديره وأكثر من أربع آيات خير من إعدادهن من الإبل فخمس آيات خير من خمس إبل وعلى هذا القياس. وقيل: يحتمل أن يراد أن آيتين خير من ناقتين ومن إعدادهما من الإبل، وثلاث خير له من ثلاث. ومن إعدادهن من الإبل، وكذا أربع. والحاصل إن الآيات تفضل على إعدادهن من النوق وعلى إعدادهن من الإبل كذا ذكره الطيبي ويوضحه ما قيل إنه متعلق بقوله آيتين وثلاث وأربع، ومجرور إعدادهن عائد إلى الإعداد التي سبق ذكرها، "ومن الإبل" بدل من إعدادهن، أو بيان له يعني آيتان خير من عدد كثير من الإبل، وكذلك ثلاث وأربع آيات منه، لأن قراءة القرآن تنفع في الدنيا والآخرة نفعاً عظيماً بخلاف الإبل- انتهى. والحاصل إنه صلى الله عليه وسلم أراد ترغيبهم في الباقيات وتزهيدهم عن الفانيات فذكر هذا على سبيل التمثيل والتقريب إلى فهم العليل، وإلا فجميع الدنيا أحقر من أن يقابل بمعرفة آية من كتاب الله تعالى أو ثوابها من الدرجات العلى، كذا في المرقاة، وفي الحديث الحث على تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته. (رواه مسلم) في فضائل القرآن من الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان (ج1ص179) وأبوداود في أواخر الصلاة وعنده كوماوين زهراوين (أي سمينتين مائلتين إلى البياض من كثرة السمن) بغير إثم بالله ولا قطع رحم، قالوا كلنا يا رسول الله! قال: فلان يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وإن ثلاث فثلاث مثل إعدادهن من الإبل، وفي صحيح ابن حبان وثلاث خير من ثلاث وأربع خير من عدادهن من الإبل.
2131-
قوله: (إن يجد فيه) أي في أهله يعني في محلهم. وقيل: أي في رجوعه إليهم. وقيل: أي في طريقه (ثلث خلفات) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة وهي الحامل من النوق وهي من أعز أموال العرب من خلفت الناقة أي حملت. وقيل: الخلفة الحامل من النوق إلى أن يمضي عليها نصف أمدها، ثم هي عشراء جمعها عشار (عظام) في الكمية (سمان) في الكيفية جمع سمينة، أي كثيرة الشحم والدسم (قلنا نعم) أي بمقتضى الطبيعة أو على وفق الشريعة ليكون للآخرة ذريعة (قال) أي فإذا قلتم ذلك وغفلتم عما هو أولى (فثلث آيات) أي فاعلموا أن قراءة ثلث آيات خير من ثلث خلفات. وقال الطيبي: الفاء في "فثلث آيات" جزاء شرط محذوف، فالمعنى إذا تقرر ما زعمتم أنكم تحبون ما ذكرت لكم، فقد صح أن يفضل عليها ما أذكره لكم من قراءة ثلث آيات لأن هذا من الباقيات الصالحات وتلك من الزائدات الفانيات (يقرأ بهن أحدكم) قال الطيبي: الباء
في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)) رواه مسلم.
2132 -
(4) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام
ــ
زائدة أو للإلصاق (في صلاته) بيان للأكمل وتقييد للأفضل (خير له من ثلاث خلفات عظام سمان) قال الطيبي: التنكير للتعظيم والتفخيم، وفي الأول للشيوع في الأجناس فلذلك لم يعرف الثاني (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً ابن ماجه في باب ثواب القرآن.
2132-
قوله: (الماهر بالقرآن) أي الحاذق من المهارة، وهي الحذق، جاز أن يريد به جودة الحفظ أو جودة اللفظ، وأن يريد به كليهما وأن يريد به ما هو أعم منهما قاله القاري. وقال النووي: الماهر الحاذق الكامل، الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه. (مع السفرة) جمع سافر ككاتب وكتبة والسافر الرسول والسفرة الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله! وقيل: السفرة الكتبة قاله النووي. وقال ميرك: أي الكتبة جمع سافر من السفر وأصله الكشف فإن الكاتب يبين ما يكتب ويوضحه ومنه قيل للكتاب سفر بكسر السين لأنه يكشف الحقائق ويسفر عنها، والمراد بها الملائكة الذين هم حملة اللوح المحفوظ كما قال تعالى:{بأيدي سفرة كرام بررة} [عبس: 15] سموا بذلك لأنهم ينقلون الكتب الإلهية المنزلة إلى الأنبياء فكأنهم يستنسخونها. وقيل: السفرة الملائكة الكاتبون لأعمال العباد. وقيل: مشتق من السفارة بمعنى الإصلاح، والسافر بمعنى السفير، والسفرة بمعنى السفراء والمراد بهم حينئذٍ الملائكة النازلون بأمر الله بما فيه مصلحة العباد من حفظهم عن الآفات والمعاصي وإلهامهم الخير في قلوبهم أو المراد الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء، لأنهم كالسفراء بين الله وبين رسله يسفرون بالوحي إليهم. والمعية في التقرب إلى الله تعالى. وقيل: يريد أنه يكون في الآخرة رفيقاً في منازلهم أو هو عامل بعملهم. قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بكونه مع الملائكة أن يكون له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم من كونهم يحفظونه ويؤدونه إلى المؤمنين ويكشفون لهم ما يلتبس عليهم فكذلك الماهر. وقال التوربشتي: المعنى الجامع بين الماهر بالقرآن وبين الملأ المكرمين إن الماهر بالقرآن تعلم التنزيل واستظهره حتى صار من خزنة الوحي وأمناء الكتاب وحفظة السِفر الكريم، ليسفر عن الأمة بما استبهم عليهم من ذلك، ويبين لهم حقائقه كما أن السفرة يردونه إلى أنبياء الله المرسلين ويكشفون به الغطاء مما التبس عليهم من الأمور المكنونة حقائقها (الكرام) جمع الكريم، أي المكرمين على الله المقربين عنده لعصمتهم ونزاهتهم عن دنس المعصية
البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران)) متفق عليه.
2133 -
(5) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا حسد
ــ
والمخالفة. (البررة) جمع البار أي المطيعين من البر وهو الطاعة (ويتتعتع فيه) أي يتردد في تلاوته لضعف حفظه. وقال القاري: أي يتردد ويتبلد عليه لسانه ويقف في قراءته لعدم مهارته، والتعتعة في الكلام التردد فيه من حصر أوعى يقال تعتع لسانه إذا توقف في الكلام ولم يطعه لسانه (وهو) أي القرآن أي حصوله (عليه) أي على ذلك القاري (شاق) أي شديد يصيبه مشقة جملة حالية (له أجران) أي أجر لقراءته وأجر لتحمل مشقته، وهذا تحريض على تحصيل القراءة. قال النووي: له أجران أجر بالقراءة، وأجر بتعتعته في تلاوته ومشقته، وليس معناه أن الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به، بل الماهر أفضل وأكثر أجراً، لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته ودرايته كاعتناءه حتى مهر فيه- انتهى. قلت: اختلف هل له ضعف أجر الماهر أو يضاعف له أجره وأجر الماهر أعظم وأكثر. قال ابن التين، وغيره: هذا أظهر لأن المضاعفة للماهر لا تحصى فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، وأكثر والأجر شي مقدر وهذا له أجران من تلك المضاعفات. قال القسطلاني: ولمن رجح القول الأول أن يقول الأجر على قدر التعب والمشقة لكن لا نسلم أن الحافظ الماهر خال من مشقة لأنه لا يصير كذلك إلا بعد عناء كثير ومشقة شديدة غالباً (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير سورة عبس ومسلم في فضال القرآن واللفظ له، وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في ثواب القرآن والدارمي.
2133-
قوله: (لا حسد) أي لا غبطة. قال الحافظ: الحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، والحق إنه أعم وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قول أو فعل وينبغي لمن خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات واستثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر أو فاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى، فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته. وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة وأطلق الحسد عليها مجازاً، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود، ومنه {فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26] وإن كان في المعصية فهو مذموم ومنه (ولا تنافسوا) ، وإن كان في الجائزات فهو مباح، فكأنه قال في الحديث لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين- انتهى. وقال النووي قال العلماء: الحسد قسمان: حقيقي. ومجازي. فالحقيقي؟ تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام باجماع الأمة مع النصوص الصحيحة. وأما
إلا على اثنين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)) متفق عليه.
ــ
المجازي فهو الغبطة وهو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وإن كانت طاعة فهي مستحبة، والمراد بالحسد في هذا الحديث معناه المجازي أي لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، وما في معناهما، وحاصله أنه لا تنبغي الغبطة في الأمور الخسيسة. وإنما تنبغي في الأمور الجليلة كالقيام بالقرآن والجود، قلت: ويؤيد إرادة الغبطة ما عند البخاري في فضائل القرآن من حديث أبي هريرة بلفظ: فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل فلان فلم يتمن الزوال والسلب بل أن يكون مثله (إلا على اثنين) أي إلا على وجود شيئين أو في أمرين. وفي رواية إلا في اثنتين وكذا في حديث ابن مسعود عند الشيخين وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند البخاري. قال الحافظ: تقول حسدته على كذا أي على وجود ذلك له. وأما حسدته في كذا فمعناه حسدته في شأن كذا وكأنها سببية. وقال العيني بعد ذكر الروايتين: كلمة" على" تأتي بمعنى "في" كما في قوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة} [القصص: 15] وقوله {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [البقرة: 102] أي في ملكه- انتهى. ومعنى إلا في اثنتين أي لا حسد محموداً إلا في شأن خصلتين (رجل) بالجر على البدلية. وقيل: بالرفع على تقديرهما أو أحدهما أمر رجل أو خصلة رجل فلما حذف المضاف اكتسب إليه إعرابه (آتاه الله) بالمد في أوله أي أعطاه من الإيتاء، وهو الإعطاء (القرآن) أي من عليه بحفظه له كما ينبغي وبتعليمه (فهو يقوم به) المراد بالقيام به العمل مطلقاً أعم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه والحكم والفتوى بمقتضاه. ولأحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ويتبع ما فيه، ولفظ حديث ابن مسعود رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، واللام في "الحكمة" للعهد لأن المراد بها القرآن فلا تخالف بين لفظي الحديثين (آناء الليل وآناء النهار) قال النووي: أي ساعاتهما وواحده إناً وأناً وإني وإنو أربع لغات- انتهى. وقال في الصراح: آناء الليل ساعاته واحدها إني مثل مِعي وإمعاء وإني وإنو أيضاً. يقال: مضى إنوان وأنيان من الليل-انتهى. (ورجل) بالوجهين (آتاه الله مالاً) نكرة ليشمل القليل والكثير (فهو ينفق) أي لله في وجوه الخير ففي رواية لأحمد فهو ينفقه في الحق وفي رواية لمسلم فتصدق به، وكذا عند ابن حبان (ج1ص290) قال فيه بيان إن قوله صلى الله عليه وسلم "فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار أراد به فهو يتصدق به (منه) كذا في جميع النسخ، وكذا في المصابيح وهي رواية أحمد (ج2ص36- 88) والترمذي وابن حبان، والذي في صحيحي البخاري ومسلم فهو ينفقه (آناء الليل وآناء النهار) أي أوقاتهما سراً وعلانية (متفق عليه) أخرجه البخاري في
2134-
(6) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة،
ــ
فضائل القرآن وفي التوحيد، ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص9، 36، 88، 133) والترمذي في فضائل القرآن وابن ماجه في الزهد، وابن حبان (ج1ص289، 290) .
2134-
قوله: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن) أي ويعمل به كما في الرواية الآتية وهي زيادة مفسرة للمراد، وإن التمثيل وقع للذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي لا مطلق التلاوة. وعبر بالمضارع لإفادة تكريره لها ومداومته عليها حتى صارت دأبه وعادته، كفلان يقري الضيف ويحمي الحريم ويعطي اليتيم. قال القسطلاني: إثبات القراءة في قوله يقرأ القرآن على صيغة المضارع ونفيها في قوله لا يقرأ ليس المراد منها حصولها مرة ونفيها بالكلية، بل المراد منهما الاستمرار والدوام عليها، وإن القراءة دأبه وعادته أو ليس ذلك من هجيراه كقولك فلان يقري الضيف ويحمي الحريم (مثل الأترجة) بضم الهمزة والراء بينهما مثناة ساكنة وآخره جيم مشددة مفتوحة، وفيه لغات. قال في القاموس: الأترج والأترجة والترنج والترنجة معروف، وهي أحسن الثمار الشجرية وأنفسها عند العرب انتهى. قال التوربشتي: المثل عبارة عن المشابهة بغيره في معنى من المعاني لإدناء المتوهم عن المشاهد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بذلك العرب ويحاورهم ولم يكن ليأتي في الأمثال بما لم تشاهده فيجعل ما أورده للتبيان مزيداً للإبهام، بل يأتيهم بما شاهدوه وعرفوه ليبلغ ما انتحاه من كشف الغطاء ورفع الحجاب، ولم يوجد فيما أخرجته الأرض من بركات السماء. لا سيما من الثمار الشجرية التي آنستها العرب في بلادهم أبلغ في هذا المعنى من الأترجة بل هي أفضل ما يوجد من الثمار في سائر البلدان الأخرى وأجدى لأسباب كثيرة جامعة للصفات المطلوبة منها والخواص الموجودة فيها، فمن ذلك كبر جرمها وحسن منظرها وطيب طعمها ولين ملمسها وذكاء أرجها تملأ الأكف بكبر جرمها ويكسيها لينا، وتفعم الخياشيهم طيباً، ويأخذ بالأبصار صبغة ولوناً فاقع لونها تسر الناظرين تتوق إليها النفس قبل التناول تفيد آكلها بعد الالتذاذ بذواقها طيب نكهة، ودباغ معدة، وقوة هضم، اشتركت الحواس الأربع دون الاحتظاء بها البصر والذوق والشم واللمس، وهذه الغاية القصوى في انتهاء الثمرات إليها وتدخل أجزاءها الأربع في الأدوية الصالحة للأدواء المزمنة. والأوجاع المقلقة والأسقام الخبيثة والأمراض الردية كالفالج واللقوة والبرص واليرقان واسترخاء العصب والبواسير (إلى آخر ما قال) . وقال الحافظ: قيل الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي يجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة، لأنه يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبهادهن له منافع وقيل: إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف
ريحها طيب. وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة،
ــ
حبة أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضاً من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم، ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات- انتهى. (ريحها طيب وطعمها طيب) قيل: خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح. فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه. وقيل: شبه الإيمان بالطعم الطيب لكونه خيراً باطنياً لا يظهر لكل أحد، والقرآن بالريح الطيب ينتفع بسماعه كل أحد ويظهر بمحاسنه لكل سامع. وقال المظهري: فالمؤمن الذي يقرأ القرآن هكذا من حيث أن الإيمان في قلبه ثابت طيب الباطن، ومن حيث أنه يقرأ القرآن ويستريح الناس بصوته ويثابون بالاستماع إليه ويتعلمون منه طيب الريح مثل الأترجة يستريح الناس بريحها (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن) أي ويعمل به كما في الرواية الآتية (مثل التمرة) بالمثناة الفوقية وسكون الميم (وطعمها حلو) بضم الحاء وسكون اللام (كمثل الحنظلة) الحنظل، نبات يمتد على الأرض كالبطيخ، وثمره يشبه ثمر البطيخ، لكنه أصغر منه جداً، ويضرب المثل بمرارته. (مثل الريحانة) هي كل نبت طيب الريح من أنواع المشموم. قال الطيبي: إن هذا التشبيه والتمثيل في الحقيقة وصف لموصوف اشتمل على معنى معقول صرف لا يبزره عن مكنونه إلا تصويره بالمحسوس المشاهد، ثم إن كلام الله المجيد له تأثير في باطن العبد وظاهره، وإن العباد متفاوتون في ذلك، فمنهم من له النصيب الأوفر من ذلك التأثير وهو المؤمن القاريء، ومنهم من لا نصيب له البتة وهو المنافق الحقيقي، ومنهم من تأثر ظاهره دون باطنه وهو المرائي أو بالعكس، وهو المؤمن الذي لا يقرؤه. وإبراز هذه المعاني وتصويرها إلى المحسوسات ما هو مذكور في الحديث ولم يجد ما يوافقها ويلائمها أقرب ولا أحسن ولا أجمع من ذلك، لأن المشبهات والمشبه بها واردة على التقسيم الحاصر لأن الناس إما مؤمن أو غير مؤمن، والثاني إما منافق صرف أو ملحق به، والأول إما مواظب على القراءة أو غير مواظب عليها فعلى هذا قس الأثمار المشبه بها، ووجه الشبه في المذكورات منتزع من أمرين محسوسين طعم وريح وليس بمفرق كما في قول إمرىء القيس:
كان قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالي
-انتهى. وقال التوربشتي: إن الشارع صلى الله عليه وسلم أشار في ضرب هذا المثل إلى معان لا يهتدي إليها إلا
ريحها طيب وطعمها مر)) متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة)) .
2135-
(7) وعن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) .
ــ
من أيد بالتوفيق، فمنها أنه ضرب المثل بما يتنبه الأرض ويخرجه الشجر للمشابهة التي بينها وبين الأعمال، فإنها من ثمرات النفوس، والمثل، وإن ضرب المؤمن نفسه فإن العبرة فيه بالعمل الذي يصدر منه، لأن الأعمال هي الكاشفة عن حقيقة الحال. ومنها أنه ضرب مثل المؤمن بالأترجة والتمرة وهما مما يخرجه الشجر، وضرب مثل المنافق بما تنبته الأرض تنبيهاً على علو شأن المؤمن وارتفاع عمله، ودوام ذلك وبقاءه ما لم ييبس الشجرة، وتوقيفاً على ضعة شأن المنافق وإحباط عمله وقلة جدواه وسقوط منزلته. ومنها إن الأشجار المثمرة لا تخلو عمن يغرسها فيسقيها ويصلح أودها ويربيها، وكذلك المؤمن يقيض له من يؤد به ويعلمه ويهذبه ويلم شعثه ويسويه، ولا كذلك الحنظلة المهملة المتروكة بالعراء أذل من نقع الفلذ، والمنافق الذي وكل إلى شيطانه وطيعه وهواه والله أعلم- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن والأطعمة، والتوحيد، ومسلم في فضائل القرآن، والسياق المذكور للبخاري في الأطعمة وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص397، 403- 404، 408) والترمذي في الأمثال والنسائي في الإيمان وابن ماجه في السنة والدارمي في فضائل القرآن وابن حبان في صحيحه (ج1ص285) وأخرجه أبوداود في الأدب من حديث أنس (وفي رواية الخ) هذه الرواية من أفراد البخاري أوردها في آخر فضائل القرآن (المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به) فيه دليل على أن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه لا مطلق التلاوة، وهي زيادة مفسرة للمراد من الرواية السابقة التي لم يقل فيها ويعمل به، وفي الحديث فضيلة حامل القرآن وقارئه وضرب المثل للتقريب للفهم.
2135-
قوله: (إن الله يرفع بهذا الكتب) أي بالإيمان به وتعظيم شأنه والعمل به، والمراد بالكتاب القرآن البالغ في الشرف وظهور البرهان مبلغاً، لم يبلغه غيره من الكتب المنزلة على الرسل المتقدمة. قال الطيبي: أطلق الكتب على القرآن ليثبت له الكمال، لأن اسم الجنس إذا أطلق على فرد من أفراده يكون محمولاً على كماله. وبلوغة إلى حد هو الجنس كله كأن غيره ليس منه (أقواماً) أي درجة أقوام ويكرمهم في الدارين بأن يحييهم حياة طيبة في الدنيا، ويجعلهم من الذين أنعم الله عليهم في العقبى (ويضع) أي يذل (به) أي بالإعراض عنه وترك العمل بمقتضاه (آخرين) وهم من لم يؤمن به أو من آمن به ولم يعمل به قال تعالى: {يضل به كثيراً
رواه مسلم.
2136 -
(8) وعن أبي سعيد الخدري، إن أسيد بن حضير، قال: ((بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذا جالت الفرس، فسكت فسكنت فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت الفرس،
ــ
ويهدي به كثيراً} [البقرة: 26] وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء: 82] قال الطيبي: فمن قرأه وعمل بمقتضاه مخلصاً رفعه الله، ومن قرأه مرائياً غير عامل به وضعه الله أسفل السافلين (رواه مسلم) في فضائل القرآن من رواية عامر بن واثلة إن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال من استعملت على أهل الوادي. فقال ابن أبزى: فقال ومن ابن أبزى قال: مولى من موالينا قال فاستخلف عليهم مولى قال: إنه قاريء لكتاب الله عزوجل وإنه عالم بالفرائض. قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال إن الله يرفع بهذا الكتاب إلخ. قال الأبي: المعنى إن هذا الأمير رفعه الله عزوجل على هؤلاء المؤمر عليهم. وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى يرفع من عمل بالعلم ويضع من لم يعمل به، والعلم من حيث أنه علم لا يضع، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج1ص35) وابن ماجه في السنة والدارمي في فضائل القرآن.
2136-
قوله: (إن أسيد بن حضير) بالتصغير فيهما والحاء المهملة والضاد المعجمة (قال) أي يحكي عن نفسه (بينما) بالميم (هو) أي أسيد (يقرأ من الليل) أي في الليل. وقال القاري: أي في بعض أجزاء الليل وساعاته، وفي رواية مسلم بينما هو ليلة يقرأ في مربده بكسر الميم وفتح الباء الموحدة، هو الموضع الذي ييبس فيه التمر كالبيدر للحنطة ونحوها. (سورة البقرة) وفي حديث البراء الآتي إنه كان يقرأ سورة الكهف. وقد قيل: إن الرجل الذي كان يقرأها هو أسيد بن حضير. قال الكرماني: لعله قرأهما يعني السورتين الكهف والبقرة أو كان ذلك الرجل هو غير أسيد بن حضير، هذا هو الظاهر (وفرسه مربوطة) وفي رواية مربوط بالتذكير وهما صحيحان لأن الفرس يقع على الذكر والأنثى (إذا جالت) كذا في رواية مسلم، وفي البخاري إذ جالت قال العيني: هو جواب لقوله بينما هو يقرأ. وقال القاري: هو ظرف ليقرأ وجالت من الجولان أي وثبت واضطربت شديداً. وقيل: أي دارت وتحركت كالمضطرب المنزعج من مخوف نزل به (فسكت) أي أسيد عن القراءة (فسكنت) أي الفرس عن الاضطراب. قيل: تحرك الفرس كان لنزول الملائكة لاستماع القرآن خوفاً منهم، وسكونها لعروجهم إلى السماء أو لعدم ظهورهم أو تحرك الفرس لوجدان الذوق بالقراءة، وسكونها لذهاب ذلك
فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، ولما أخره رفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها، أمثال المصابيح، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إقرأ يا ابن حضير! إقرأ يا ابن حضير!
ــ
الذوق منها بترك القراءة ذكره القاري (فانصرف) أي أسيد من الصلاة (وكان ابنه) أي ابن أسيد (يحيى) قال الحافظ: يحيى بن أسيد بن حضير الأنصاري ذكر ابن القداح أنه شهد الحديبية مع أبيه. وقال أبوعمر: كان في سن من يحفظ ولا أعلم له رواية وبه كان يكنى أبوه أسيد بن حضير (قريباً منها) أي من الفرس في ذلك الوقت (فأشفق) أي خاف أسيد (أن تصيبه) أي الفرس ابنه يحيى في جولانها فذهب أسيد إلى ابنه ليؤخره عن الفرس. (ولما أخره) بخاء معجمة مشددة وراء من التأخير أي أخر أسيد ابنه يحيى عن الموضع الذي كان به خشية عليه، يعني أخره عن قرب الفرس، وهذه رواية القابسى. ووقع عند غيره فلما اجتره بجيم وتاء مثناة من فوق وراء مشددة من الاجترار، أي فلما جر أسيد ابنه من المكان الذي هو فيه حتى لا تطأه الفرس (رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح) كذا في جميع النسخ من المشكاة وهكذا في جامع الأصول (ج9ص279) والذي في البخاري رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها. قال الحافظ: كذا فيه باختصار، وقد أورده أبوعبيد (في فضائل القرآن) كاملاً ولفظه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها، وفي رواية إبراهيم بن سعد (عند مسلم والنسائي) فقمت إليها فإذا مثل الظلة فوق رأسي فيها أمثال السرج فعرجت في الجو حتى ما أراها- انتهى. ولم أجد السياق الذي ذكره المصنف عند البخاري، والظاهر أنه تبع في ذلك الجزري، وقوله "إذا" للمفاجأة، والظلة بضم الظاء المعجمة وتشديد اللام هي الغاشية. وقيل السحابة ذكره المنذري. وقال العيني: هي شي مثل الصفة فأول بسحابة تظلل. وقال القاري: هي ما يقي الرجل من الشمس كالسحاب والسقف وغير ذلك أي شي مثل السحاب على رأسه بين السماء والأرض. وقال ابن بطال: هي السحابة كانت فيها الملائكة ومعها السكينة فإنها تنزل أبداً مع الملائكة- انتهى. والضمير في فيها للظلة، والمصابيح جمع مصباح أي أمثال السرج (فلما أصبح) أي أسيد (حدث النبي صلى الله عليه وسلم أي حكاه بما رآه لفزعه منه (فقال إقرأ يا ابن حضير إقرأ يا ابن حضير) مرتين، وفي رواية مسلم ثلاث مرات، ومعناه كان ينبغي لك أن تستمر على قراءتك وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتسكثر من القراءة التي هي سبب بقاءها قاله النووي. قال الطيبي: يريد أن أقرأ لفظ أمر وطلب للقراءة في الحال، ومعناه تحضيض وطلب للاستزادة في الزمان الماضي أي هلا زدت وكأنه صلى الله عليه وسلم استحضر تلك الحالة العجيبة الشأن فأمره تحريضاً عليه
قال: فأشفقت يا رسول الله! أن تطأ يحيى، وكان منها قريباً، فانصرفت إليه ورفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة، فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها. قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تثوارى منهم. متفق عليه)) . واللفظ للبخاري، وفي مسلم: عرجت
ــ
والدليل على أن المراد من الأمر الاستزادة وطلب دوام القراءة والنهى عن قطعها قوله "فأشفقت" إلخ. وقال الحافظ: قوله "إقرأ يا ابن حضير" أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك وليس أمراً له بالقراءة في حالة التحديث وكأن استحضر صورة الحال، فصار كأنه حاضر عنده لما رآى ما رآى فكأنه يقول استمر على قراءتك لتستمر لك البركة بنزول الملائكة واستماعها لقراءتك، وفهم أسيد ذلك فأجاب بعذره في قطع القراءة وهو قوله (فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى) أي خشيت أن استمريت على القراءة أن تطأ الفرس ولدى، ودل سياق الحديث على محافظة أسيد على خشوعه في صلاته لأنه كان يمكنه أول ما جالت الفرس أن يرفع رأسه وكأنه كان بلغه حديث النهي عن رفع المصلي رأسه إلى السماء فلم يرفعه حتى اشتد به الخطب. ويحتمل أن يكون رفع رأسه بعد انقضاء صلاته، فلهذا تمادى به الحال ثلاث مرات- انتهى كلام الحافظ. وقال السندي علم من أول الأمر إن ما حصل لفرسه من علامات إن قراءته مقبولة محضورة فأمره بالقراءة فيما بعد لما ظهر فيها من البركات أو هذا الأمر منه لبيان إنك لا تجعل مثله مانعاً من القراءة فيما بعد بل امض على قراءتك فيما بعد والله أعلم. (فانصرفت) وفي رواية وانصرفت (إليه) أي انصرفت عن الصلاة إلى يحيى ترحما عليه (ورفعت) وفي البخاري فرفعت (فخرجت) أي من بيتي (حتى لا أراها) أي الظلة أو المصابيح. قال القسطلاني: قوله "فخرجت" بالخاء والجيم كذا لجميعهم. قال عياض: وصوابه فعرجت بالعين- انتهى. قلت: وهكذا وقع عند مسلم، والنسائي وأبي عبيد (دنت) أي نزلت وقربت (لصوتك) أي بالقراءة، وفي رواية مسلم كانت تستمع لك، وعند أبي عبيد وكان أسيد بن حضير حسن الصوت، وعند الإسماعيلي إقرأ أسيد فقد أوتيت من مزامير آل داود. وفيه إشارة إلى الباعث على استماع الملائكة لقراءته (ولو قرأت) أي ولو دمت على قراءتك، وعند أبي عبيد أما إنك لو مضيت (لأصبحت) أي الملائكة (لا تتوارى منهم) أي لا تخفى ولا تستتر الملائكة من الناس، وعند أبي عبيد لرأيت الأعاجيب (متفق عليه) أخرجاه في فضائل القرآن وأخرجه الحاكم (ج1ص554) بنحوه باختصار، وقال فيه فالتفت فإذا أمثال المصابيح مدلاة بين السماء والأرض فقال يا رسول الله! ما استطعت أن أمضي فقال تلك الملائكة نزلت لقراءة القرآن أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب. وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (عرجت)
في الجو، بدل: فخرجت على صيغة المتكلم.
2137 -
(9) وعن البراء، قال: ((كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال:
ــ
من العروج على صيغة المؤنث الغائبة أي صعدت الملائكة وارتفعت فيه لكونه قطع القراءة التي نزلت لسماعها. (في الجو) بفتح وتشديد الواو ما بين السماء والأرض (بدل فخرجت) أي مكان هذه الكلمة (على صيغة المتكلم) أي في هذه وعلى صيغة الغائبة في تلك. قال الحافظ قال النووي: في هذا الحديث جواز رؤية آحاد الأمة للملائكة كذا أطلق وهو صحيح لكن الذي يظهر التقييد بالصالح مثلاً والحسن الصوت. قال، وفيه فضيلة قراءة القرآن وإنها سبب نزول الرحمة وحضور الملائكة. قلت:(قائلة الحافظ) الحكم المذكور أعم من الدليل فالذي في الرواية إنما نشأ عن قراءة خاصة من سورة خاصة بصفة خاصة، ويحتمل من الخصوصية مالم يذكر وإلا لو كان على الإطلاق لحصل ذلك لكل قاريء، وقد أشار في آخر الحديث بقوله لا تتوارى منهم إلى أن الملائكة لاستغراقهم في الاستماع كانوا يستمرون على عدم الاختفاء الذي هو من شأنهم، وفيه منقبة لأسيد بن حضير وفضل قراءة سورة البقرة في صلاة الليل، وفضل الخشوع في الصلاة وإن التشاغل بشي من أمور الدنيا ولو كان من المباح قد يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير المباح- انتهى.
2137-
قوله: (كان رجل) قيل هو أسيد بن حضير كما تقدم من حديثه نفسه لكن فيه أنه كان يقرأ سورة البقرة، وفي هذا أنه كان يقرأ سورة الكهف. قال الحافظ: وهذا ظاهره التعدد. وقد وقع قريب من القصة التي لأسيد لثابت بن قيس بن شماس لكن في سورة البقرة أيضاً، وأخرج أبوداود من طريق مرسلة. قال قيل: للنبي صلى الله عليه وسلم ألم تر ثابت بن قيس لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح قال، فلعله قرأ سورة البقرة فسئل قال قرأت سورة البقرة، ويحتمل أن يكون قرأ سورة البقرة وسورة الكهف جميعاً أو من كل منهما- انتهى كلام الحفظ. (حصان) بكسر الحاء وفتح الصاد المهملتين فحل كريم من الخيل. قال القاري: هو الكريم من فحل الخيل من التحصن أو التحصين، لأنهم يحصونه صيانه لماءه فلا ينزونه إلا على كريمة ثم كثر ذلك حتى سموا به كل ذكر من الخيل والجملة حالية. (بشطنين) تثنية شطن بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة آخره نون وهو الحبل الطويل الشديد الفتل ولعله ربط باثنين لأجل جموحه وشدة صعوبته (فتغشته) أي الرجل (سحابة) أي سترته ظلة كسحابة فوق رأسه (فجعلت) أي شرعت السحابة (تدنو وتدنو) مرتين أي تقرب منه قليلاً قليلاً (وجعل) أي شرع (فرسه) المربوط بشطنين (ينفر) بفتح أوله وكسر الفاء من النفور. وقد وقع في رواية لمسلم تنقز بقاف وزاي وخطأه عياض. قال
تلك السكينة تنزلت بالقرآن)) . متفق عليه.
2138 -
(10) وعن أبي سعيد بن المعلى. قال: ((كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه
ــ
الحافظ: فإن كان من حيث الرواية فذاك وإلا فمعناها واضح- انتهى. وقال النووي: معنى ينقز بالقاف والزاي يثب (تلك السكينة) قال القاري: أي السكون والطمأنينة التي يطمئن إليها القلب ويسكن بها عن الرعب. قال الطيبي: فإن المؤمن تزداد طمأنينة بأمثال هذه الآيات إذا كوشف بها. وقيل: هي الرحمة. وقيل: الوقار. وقيل: ملائكة الرحمة- انتهى. وقال النووي: قد قيل في معنى السكينة هنا أشياء المختار منها إنها شي من مخلوقات الله تعالى فيه طمأنينة ورحمة ومعه الملائكة (تنزلت) بتاء ونون وتشديد الزاي وبعد اللام تاء تأنيث، وفي رواية الكشمهيني تتنزل بتائين بلا تاء تأنيث بعد اللام (بالقرآن) أي بسببه ولأجله وفي رواية الترمذي نزلت مع القرآن أو على القرآن. قال التوربشتي: وإظهار هذه الأمثال للعباد من باب التائيد الإلهي يؤيد به المؤمن، فيزداد يقيناً ويطمئن قلبه بالإيمان إذا كوشف بها (متفق عليه) أخرجه البخاري في تفسير سورة الفتح وفي فضائل القرآن، وأخرجه مسلم فيه وكذا الترمذي، وأخرجه أحمد (ج4ص281، 284، 293، 298) .
2138-
قوله: (وعن أبي سعيد بن المعلى) بضم الميم وفتح العين واللام المشددة على لفظ اسم مفعول من التعلية. واختلف في اسم أبي سعيد. فقيل: اسمه رافع بن المعلى. وقيل: الحارث بن المعلى. وقيل: أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن أوس بن المعلى. وقيل: الحارث بن نفيع بن المعلى. قال ابن عبد البر: من قال فيه رافع بن المعلى فقد أخطأ لأن رافع بن المعلى قتل ببدر، وأصح ما قيل فيه الحارث بن نفيع بن المعلى بن لوذان بن حارثة بن زيد بن ثعلبة من بني زريق الأنصاري الزرقي أمه أميمة بنت قرط بن خنساء من بني سلمة له صحبة يعد في أهل الحجاز مات سنة (73) وقيل (74) وهو ابن أربع وثمانين سنة. قال ابن عبد البر: لا يعرف في الصحابة إلا بحديثين. أحدهما: هذا يعني الذي نحن في شرحه، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث. والثاني: عند الليث بن سعد. قال أبوسعيد بن المعلى: كنا نغدو إلى السوق على عهد رسول الله صلى الله عليه فنمر على المسجد فنصلي فيه فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر: فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قد نرى تقلب وجهك في السماء} [البقرة: 144] حتى فرغ من الآية فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا بعماد فصليناهما، ثم نزل رسول صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يؤمئذ (كنت أصلي في المسجد) أي سجد النبي صلى الله عليه وسلم (فلم أجبه) لأنه صلى الله عليه وسلم منعهم من الكلام في الصلاة ومن قطعها، وظن
ثم أتيته. فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي قال: ألم يقل الله "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم" ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن)) .
ــ
أبوسعيد أن الخطاب في الآية لمن هو خارج عن الصلاة، وزاد في تفسير سورة الأنفال حتى صليت وكذا وقعت هذه الزيادة في المصابيح وبعض نسخ المشكاة (استجيبوا) أي أجيبوا فالسين زائدة للتأكيد (لله وللرسول إذا دعاكم) قال صاحب المدارك: المراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض، ووحد الضمير ولم يثنه لأن استجابة الرسول كاستجابة الباري جل وعلا. وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد. وقيل: وحد الضمير لأن دعوة الله تسمع من الرسول. وقوله تعالى {لما يحيكم} [الأنفال: 24] أي من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة كما أن الجهل موت، وفيه دليل على أن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض يعصي المرأ بتركه، وأنه حكم يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. واختلف في أن إجابة الرسول تبطل الصلاة أم لا، فقال بعض الشافعية لا تبطلها، لأن الصلاة أيضاً إجابة. قال الطيبي والبيضاوي: ظاهر الحديث يدل على هذا. وقيل: كان دعاه لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة بمثله- انتهى. والأظهر من الحديث إن الإجابة واجبة مطلقاً في حقه صلى الله عليه وسلم كما يفهم من إطلاق الآية أيضاً، ولا دلالة في الحديث على البطلان وعدمه، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (ألا) بالتخفيف (أعلمك) من التعليم (أعظم سورة في القرآن) أي أفضل. وقيل: أكثر أجراً ومضاعفة في الثواب بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها. قال ابن التين: معناه إن ثوابها أعظم من غيرها. وقال الطيبي: إنما قال أعظم سورة اعتباراً بعظيم قدرها وتفردها بالخاصية التي لم يشاركها فيها غيرها من السور ولاشتمالها على فوائد ومعان كثيرة مع وجازة ألفاظها- انتهى. واستدل به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض وقد سبق الكلام فيه (قبل أن تخرج) بالفوقية (من المسجد) قيل لم يعلمه بها ابتداء ليكون ذلك ادعى لتفريغ ذهنه وإقباله عليها بكليته (فأخذ بيدي) بالإفراد (فلما أردنا أن نخرج) من المسجد (إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة من القرآن) قال القسطلاني: ولأبي ذر والأصيلي في القرآن. قال القاري: سميت سورة الفاتحة أعظم، لاشتمالها على المعاني التي في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله والتعبد بالأمر والنهي وذكر الوعد، لأن فيه ذكر رحمة الله على الوجه الأبلغ الأشمل. وذكر الوعيد لدلالة يوم الدين أي الجزاء ولإشارة المغضوب عليهم عليه، وذكر تفرده بالملك وعبادة عباده إياه واستعانتهم بولاه وسؤالهم منه، وذكر السعداء والأشقياء وغير ذلك مما اشتمل عليه جميع منازل السائرين ومقامات السالكين ولا سورة بهذه المثابة في القرآن فهي أعظم
قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته)) .
ــ
كيفية وإن كان في القرآن أعظم منها كمية (قال الحمد لله رب العالمين) خبر مبتدأ محذوف أي هي كما صرح بها في تفسير الأنفال عند البخاري. قال القاري: أي هي سورة الحمد لله رب العالمين فلا دلالة على كون البسملة منها أم لا- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (هي السبع المثاني) اللام للعهد من قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} الآية [الحجر: 87] وفي هذا تصريح بأن المراد بالسبع المثاني في الآية الكريمة هو الفاتحة وهذا هو الحق، فإن قيل في الحديث السبع المثاني وفي القرآن سبعاً من المثاني. أجيب بأنه لا اختلاف بين الصيغتين إذا جعلنا من للبيان، وإنما سميت السبع لأنها سبع آيات بلا خلاف إلا أن منهم من عد أنعمت عليهم دون التسمية ومنهم من مذهبه على العكس قاله الزمخشري. قلت: الأول قول الحنفية والعكس قول الشافعي، فإنهم يعدون التسمية من الفاتحة ولا يعدون أنعمت عليهم آية. قال الطيبي: وعد التسمية أولى لأن أنعمت لا يناسب وزانه وزان فواصل السور، ولحديث ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة. واختلف في تسميتها مثاني، فقيل لأنها تثنى على مرور الأوقات أي تكرر فلا تنقطع وتدرس فلا تندرس. وقيل: لأنها تثنى في كل ركعة أي تعاد. وقيل: لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرة بمكة، ومرة بالمدينة تعظيماً واهتماماً بشأنها. وقيل: لأنها يثنى بها على الله تعالى. وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة لم تنزل على من قبلها. والمثاني صيغة جمع، واحده مثناة، والمثناة كل شي يثنى، من قولك ثنيت الشيء ثنيا أي عطفته وضمت إليه آخر قاله القسطلاني. وقال العيني: هو جمع مثنى الذي هو معدول عن اثنين اثنين. وقيل: مثنى بمعنى الثناء كالمحمدة بمعنى الحمد. وقيل غير ذلك (والقرآن العظيم) عطف على السبع عطف صفة على صفة. وقيل: هو عطف عام على خاص. قال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع المثاني، وعطف الشيء على نفسه مما لا يجوز. قلت: ليس كذلك وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين، أحدهما معطوف على الآخر والتقدير آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي الجامع لهذين النعتين. وقال الطيبي: عطف القرآن على السبع المثاني المراد منه الفاتحة وهو من باب عطف العام على الخاص تنزيلاً للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن حيث نكر السورة وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة في القرآن وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق لكن من عطف الخاص على العام من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال- انتهى. وهو معنى قول الخطابي. قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن يكون قوله والقرآن العظيم محذوف الخبر، والتقدير ما بعد الفاتحة مثلاً فيكون وصف الفاتحة- انتهى. بقوله هي "السبع المثاني" ثم عطف قوله والقرآن العظيم أي ما زاد على الفاتحة وذكر ذلك رعاية لنظم الآية ويكون التقدير والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة- انتهى:(الذي أوتيته) إشارة إلى قوله تعالى: {ولقد آتيناك}
رواه البخاري.
2139 -
(11) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر
ــ
الآية [الحجر: 87] أو خصصته بالإعطاء، وفيه دليل على جواز إطلاق القرآن على بعضه، ويدل له قوله تعالى:{بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3] يعني سورة يوسف. قال ابن التين: في قوله قال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 1] دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم ليست آية من القرآن كذا قال وعكس غيره لأنه السورة ويؤيده أنه لو أراد الحمد لله العالمين الآية لم يقل هي السبع المثاني، لأن الآية الواحدة لا يقال لها سبع فدل على أنه أراد بها السورة والحمد لله رب العالمين من أسمائها، وفيه قوة لتأويل الشافعي في حديث أنس، قال كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. قال الشافعي: أراد السورة وتعقب بأن هذه السورة تسمى سورة الحمد لله ولا تسمى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يرد هذا التعقيب. قال الحافظ: وفي الحديث إن إجابة أراد المصلي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا تفسد الصلاة هكذا صرح به جماعة من الشافعية وغيرهم، وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقاً سواء كان المخطاب مصلياً أو غير مصل، إما كونه يخرج بالإجابة من الصلاة أولاً يخرج فليس من الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة إلى ذلك جنح بعض الشافعية، وهل يختص هذا الحكم بالنداء ويشمل ما هو أعم حتى تجب إجابته إذا سأل فيه بحث. وقد جزم ابن حبان بأن إجابة الصحابة في قصة ذي اليدين كان كذلك- انتهى. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً في تفسير الفاتحة والأنفال والحجر، وأخرجه أبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في ثواب القرآن، والدارمي في فضائل القرآن، وأخرج أحمد والترمذي وابن خزيمة، والحاكم نحوه من حديث أبي هريرة لكن جعل القصة لأبي بن كعب كما سيأتي في الفصل الثاني. وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبي بن كعب ولأبي سعيد بن المعلى. قال الحافظ: ويتعين المصير على ذلك لاختلاف مخرج الحديثين واختلاف سياقهما.
2139-
قوله: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي خالية عن الذكر والطاعة فتكون كالمقابر وتكونون كالموتى فيها قال التوربشتي: أي اجعلوا لبيوتكم حصة من الذكر والتلاوة والصلاة لئلا تكون كالمقابر التي تورط أهلها في مهاوي الفناء فقصرت مقدرتهم عن العمل، وذلك نظير قوله صلى الله عليه وسلم صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً، وقد مر الحديث مبين المعنى فيما تقدم من الكتاب- انتهى. وقيل: المعنى لا تدفنوا موتاكم فيها، ويدل على المعنى الأول قوله (إن الشيطان) استئناف كالتعليل (ينفر) بكسر الفاء أي يتباعد ويخرج ويشرد. قال النووي: هكذا
من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)) . رواه مسلم.
2140 -
(12) وعن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان
ــ
ضبطه الجمهور ينفر، ورواه بعض رواة مسلم يفر (أي من الفرار) وكلاهما صحيح. (من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) وفي رواية الترمذي وإن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان، وفي حديث سهل بن سعد عند ابن حبان من قرأها (يعني سورة البقرة) ليلاً لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهاراً لم يدخل الشيطان ثلاثة أيام. وخص سورة البقرة بذلك لطولها وكثرة أسماء الله تعالى والأحكام فيها. وقد قيل: فيها ألف أمر، وألف نهى وألف حكم وألف خبر كذا في المرقاة. (رواه مسلم) في باب استحباب صلاة النافلة في بيته قبيل فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل القرآن.
2140-
قوله: (إقرؤا القرآن) أي اغتنموا قراءته وداوموا عليه (فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) أي لقارئيه بأن يتمثل بصورة يراه الناس كما يجعل الله لأعمال العباد صورة ووزناً لتوضع في الميزان والله على كل شيء قدير، فليقبل المؤمن هذا وأمثاله ويعتقد بإيمانه أنه ليس للعقل في مثل هذا سبيل قاله العزيزي. (إقرؤا) أي على الخصوص (الزهراوين) تثنية الزهراء، تأنيث الأزهر، وهو المضيء الشديد الضوء أي المنيرتين لنورهما وهدايتهما وعظم أجرهما لقارئهما، فكأنهما بالنسبة إلى ما عداهما عند الله مكان القمرين من سائر الكواكب. قال في المفاتيح: سميتا الزهراوين لأنهما نوران: ولا شك إن نور كلام الله أشد وأكثر ضياء وكل سورة من سور القرآن زهراء لما فيها من نور بيان الأحكام والمواعظ وغير ذلك من الفوائد، ولما فيها من شفاء الصدور وتنوير القلوب وتكثر الأجر لقاريها. (البقرة وسورة آل عمران) بالنصب على البدلية أو بتقدير أعنى ويجوز رفعهما وسميتا زهروان لكثرة أنوار الأحكام الشرعية والأسماء الحسنى الإلهية فيهما، وذكر السورة في الثانية دون الأولى لبيان جواز كل منهما. (فإنهما) أي ثوابهما الذي استحقه التالي العامل بهما أوهما يتصوران ويتشكلان ويتجسدان (تأتيان) أي تحضران (كأنهما غمامتان) بفتح المعجمة وتخفيف الميمين أي سحابتان تظلان صاحبهما عن حر الموقف، وإنما سمي غماماً لأنه يغم السماء أي يسترها (أو غيايتان) مثنى غياية بفتح غين معجمة وتخفيف يائين مثناتين تحت، وهي كل شي أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيره وغيرهما قاله الجزري. وقال المناوي: هي ما أظل الإنسان فوقه وأراد به ماله صفاء وضوء إذا لغياية ضوء شعاع الشمس. وقال
أو فرقان من طير صوافَ تحاجّان عن أصحابهما، اقرؤا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)) .
ــ
القاري: قيل الغمامة ما يغم الضوء ويمحوه لشدة كثافته، والغيابة ما يكون أدون من الغمامة في الكثافة وأقرب إلى رأس صاحبه كما يفعل بالملوك فيحصل عنده الظل والضوء جميعا وقال الحفني: غيايتان أي لهما نور وضياء زيادة على حصول الاستظلال بهما فهو أبلغ مما قبله لأن غايته إنهما يظلان كالسحابتين وليس فيهما نور (أو فرقان) تثنية فرق بكسر الفاء وسكون الراء أي قطيعان يعني طائفتان وجماعتان (من طير) جمع طائر (صواف) جمع صافة، وهي الجماعة الوافقة على الصف تقول صففت القوم إذا أقمتهم في الحرب، وغيرها على خط مستو، وصف الإبل قوائمها أي وضعتها صفاً فهي صافة وصوافّ، وصفّ الطائر جناحيه أي بسطهما ولم يحركهما، والمعنى باسطات أجنحتها متصلاً بعضها ببعض بحيث لا يكون بينهما فرجة، والمراد أنهما يقيان قارئهما من حر الموقف وكرب يوم القيامة، وليست "أو" للشك ولا للتخيير في تشبيه السورتين ولا للترديد بل للتنويع، وتقسيم القارئين فالأول لمن يقرؤهما ولا يفهم المعنى، والثاني للجامع بين التلاوة ودراية المعنى والثالث لمن ضم إليهما التعليم والإرشاد (تحاجان) أي السورتان تدافعان الجحيم والزبانية أو تجادلان وتخاصمان الرب (عن أصحابهما) وهو كناية عن المبالغة في الشفاعة قاله القاري. وقال التوربشتي: الأصل في المحاجة أن يطلب كل واحد من المتخاصمين أن يرد صاحبه عن حجته ومحجته، وأريد به ههنا مدافعة السورتين عن صاحبهما والذب عنه. وقال الشوكاني: يحاجان أن يقيمان الحجة لصاحبه ويجادلان عنه وصاحبهما هو المستكثر من قراءتهما، وظاهر الحديث أنهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التي شبههما بها صلى الله عليه وسلم ثم يقدرهما الله تعالى على النطق بالحجة وذلك غير مستعبد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشي كن فيكون. (إقرؤا سورة البقرة) قال الطيبي: تخصيص بعد تخصيص بعد تعميم أمر أولاً بقراءة القرآن وعلق بها الشفاعة ثم خص الزهراوين وأناط بهما التخليص من حر يوم القيامة بالمحاجة وأفرد ثالثاً البقرة وأناط بها الأمور الثلاثة الآتية إيماء إلى أن لكل خاصة يعرفها الشارع (فإن أخذها) أي في المواظبة على تلاوتها والتدبر في معانيها والعمل بما فيها (بركة) أي زيادة ونماء وقيل أي منفعة عظيمة (وتركها) بالنصب ويجوز الرفع (حسرة) أي تلهف وتأسف على ما فات من الثواب وقيل: أي ندامة يوم القيام (ولا يستطيعها) أي لا يقدر على تحصيلها (البطلة) بفتح الباء والطاء المهملة أي أصحاب أي أصحاب البطالة والكسالة لطولها ولتعودهم الكسل. وقال معاوية بن سلام أحد رواة هذا الحديث: بلغني أن البطلة السحرة يعني لزيغهم عن الحق وإنهماكهم في الباطل قال القاري: وقيل البطلة السحرة لأن ما يأتون به باطل سماهم باسم فعلهم الباطل أي لا يؤهلون لذلك ولا يوفقون له لطمس قلوبهم بالمعاصي، ويمكن أن يقال معناه لا تقدر
رواه مسلم.
2141 -
(13) وعن النواس بن سمعان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتي بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)) . رواه مسلم.
ــ
على إبطالها أو على صاحبها السحرة لقوله تعالى فيها {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} الآية [البقرة: 102](رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص249، 251، 255، 257) وابن حبان (ج1ص280) والحاكم (ج1ص564) .
2141-
قوله: (وعن النواس) بفتح النون وتشديد الواو (بن سمعان) بكسر السين وفتحها (يؤتي بالقرآن) أي متصوراً أو بثوابه، وفي رواية الترمذي يأتي القرآن (وأهله) عطف على القرآن (الذين كانوا يعملون به) دل على أن من قرأ ولم يعمل به لم يكن من أهل القرآن ولا يكون شفيعاً لهم بل يكون القرآن حجة عليهم. (تقدمه) بضم الدال أي تتقدم أهله أو القرآن (سورة البقرة وآل عمران) بالجر. وقيل: بالرفع، قال الطيبي: الضمير في تقدمه للقرآن أي يقدم ثوابهما ثواب القرآن. وقيل: يصور الكل بحيث يراه الناس كما يصور الأعمال للوزن في الميزان، ومثل ذلك يجب إعتقاده إيماناً فإن العقل يعجز عن أمثاله (كأنهما غمامتان أو ظلتان) بضم الظاء أي سحابتان (سوداوان) لكثافتهما وارتكام البعض منهما على بعض وذلك من المطلوب في الظلال (بينهما شرق) بفتح الشين المعجمة وسكون الراء بعدها قاف، وقد روى بفتح الراء والأول أشهر كما قال النووي أي ضوء ونور الشرق هو الشمس تنبيهاً على أنهما مع الكثافة لا يستران الضوء. وقيل: أراد بالشرق الشق وهو الإنفراج أي بينهما فرجة وفصل كتميزهما بالبسملة في المصحف، والأول أشبه وهو أنه أراد به الضوء لاستغناءه بقوله ظلتان عن بيان البينونة فإنهما لا تسميان ظلتين إلا وبينهما فاصلة اللهم إلا أن يقال فيه تبيان أنه ليست ظلة فوق ظلة بل متقابلتان بينهما بينونة. وقال المنذري: قوله بينهما شرق هو بفتح المعجمة وقد تكسر وبسكون الراء بعدهما قاف أي بينهما فرق يضيء (وكأنهما فرقان) أي طائفتان (تحاجان) وفي رواية الترمذي تجادلان (رواه مسلم) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص183) والترمذي في فضائل القرآن وفي الباب عن بريدة أخرجه أحمد والدارمي مطولاً والحاكم مختصراً (ج1ص560) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
2142-
(14) وعن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله تعالى معك أعظم. قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} قال: فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر))
ــ
2142-
قوله: (يا أبا المنذر) بصيغة الفاعل كنية أبي بن كعب (أي آية) اسم إستفهام معرب لازم الإضافة، ويجوز تذكيره وتأنيثه عند إضافته إلى المؤنث (من كتاب الله تعالى معك) أي حال كونه مصاحباً لك قال الطيبي: وقع موقع البيان لما كان يحفظه من كتاب الله، لأن مع كلمة تدل على المصاحبة- انتهى. وكان رضي الله عنه ممن حفظ القرآن كله في زمنه صلى الله عليه وسلم، وكذا ثلاثة من بني عمه، (أعظم) قال إسحاق بن راهوية وغيره: هذا راجع إلى عظم أجر قاري ذلك وجزيل ثوابه أي أعظم أجراً وأكثر ثواباً (قلت الله ورسوله أعلم) فرض الجواب أولاً وأجاب ثانياً، لأنه جوز أن يكون حدث أفضلية شي من الآيات غير التي كان يعلمها، فلما كرر عليه السؤال ظن أن مراده عليه الصلاة والسلام طلب الإخبار عما عنده فأخبره بقوله (قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم) إلى آخر الآية كذا ذكره ابن حجر. قال القاري: والأولى أن يقال فرض أولاً أدباً وأجاب ثانياً طلباً، فجمع بين الأدب والإمتثال كما هو دأب أرباب الكمال، قال الطيبي: سؤاله عليه الصلاة والسلام من الصحابي قد يكون للحث على الاستماع، وقد يكون للكشف عن مقدار علمه وفهمه، فلما راعى الأدب أولاً ورآى أنه لا يكتفي به علم أن المقصود استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب. وقيل انكشف له العلم من الله تعالى ببركة تفويضه وحسن أدبه في جواب مسألته، وقال النووي قال العلماء إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة وهذه السبعة أصول الأسماء والصفات والله أعلم. (قال) أي أبي (فضرب) أي النبي صلى الله عليه وسلم (في صدري) أي محبة وتعديته بفي نظير قوله تعالى {وأصلح لي في ذريتي} [الأحقاف: 15] أي أوقع الصلاح فيهم حتى يكونوا محلاً له، وفيه إشارة إلى امتلاء صدره علماً وحكمة (ليهنك العلم) بلفظ الأمر الغائب بفتح التحتية وسكون الهاء وكسر النون، وفي بعض النسخ بهمزة بعد النون وهي الأصل فحذفت تخفيفاً أي ليكن العلم هنيئاً لك، يقال هنأني الطعام يهنئني ويهنأني ويهنوني، أي صار هنيئا وساغ، وتقول العرب في الدعاء ليهنئك الولد أي ليسرك، ويقال هنئي الطعام أي تهنأ به وكل أمر أتاك من غير تعب ومشقة فهو هنيء، وهذا دعاء له بتيسير العلم ورسوخه فيه، ويلزمه الإخبار بكونه عالماً وهو المقصود، وفيه منقبة عظيمة لأبي، ودليل على كثرة علمه. وفيه تبجيل العالم
رواه مسلم.
2143 -
(15) وعن أبي هريرة، قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: إني محتاج، وعليّ عيال، ولي حاجه شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك
ــ
فضلاء أصحابه وتكنيتهم وجواز مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحة، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه لكمال نفسه ورسوخه في التقوى. (رواه مسلم) في فضائل القرآن، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص142) وأبوداود في أواخر الصلاة وابن أبي شيبة وزاد أحمد وابن أبي شيبة والذي نفسي بيده إن لهذه الآية {ولساناً وشفتين} [البلد: 9] تقدس الملك عند ساق العرش.
2143-
قوله: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان) أي في حفظ زكاة الفطر من رمضان أي فوض إلى ذلك فالوكالة بمعناها اللغوي وهو مطلق تفويض أمر للخير. وقال الطيبي: الإضافة لأدنى ملابسة، لأنها شرعت لجبر ما عسى أن يقع في صومه تفريط فهي بمعنى اللام (فأتاني آت) كقاض (فجعل) أي طفق وشرع (يحثو) بإسكان الحاء المهملة بعدها مثلثة أي يغرف ويأخذ بكفيه، يقال حثاً يحثو وحثي يحثي (من الطعام) وكان تمراً كما في رواية النسائي وغيره (فأخذته) أي الذي حثاً من الطعام (لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي لأذهبن بك أشكوك إليه يقال رفعه إلى الحاكم، إذا أحضره للشكوى (قال إني محتاج) لما آخذه. وقيل: أي إني فقير في نفسي (وعليّ عيال) أي أنفقتهم إظهاراً لزيادة الاحتياج أو "على" بمعنى لي (ولي) وللكشمهيني وبي بالموحدة بدل اللام وكذا في جامع الأصول (حاجة) أي حاجة زائدة (شديدة) أي صعبة كموت أو نفاس أو مطالبة دين أو جوع مهلك وأمثالها مما اشتد الحاجة إلى ما أخذته، وهو تأكيد بعد تأكيد. قال الطيبي: إشارة إلى أنه في نفسه فقير وقد اضطر الآن إلى ما فعل لأجل العيال وهذا للمحتاجين. وفي رواية النسائي، فقال إنما أخذته لأهل بيت فقراء من الجن، وفي رواية الإسماعيلي ولا أعود. وفيه دلالة على جواز رؤية الجن، وأما قوله تعالى {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] فالمعنى إنا لا نراهم على صورهم الأصلية التي خلقوا عليها لبعد التباين بيننا وبينهم في ذلك، لأنهم أجسام نارية في غاية الخفاء والاشتباه بخلاف ما إذا تمثلوا بصور أخرى كثيفة (فخليت عنه) أي تركت يقال خلى الأمر وعنه تركه وخلى سبيله أطلقه (فقال النبي صلى الله عليه وسلم) لما أتيته (ما فعل) على بناء الفاعل (أسيرك) أي
البارحة؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله. قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود. فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلى عيال، لا أعود، فرحمته فخليت سبيله. فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله. فقال: أما أنه قد كذبك، وسيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود. قال: دعني
ــ
مأخوذك (البارحة) أي الليلة الماضية. قال الطيبي: فيه أخباره عليه الصلاة والسلام بالغيب. وتمكن من أبي هريرة من أخذه الشيطان، ورده خاسئاً وهو كرامة ببركة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، يعلم منه إعلاء حال المتبوع. قلت: وفي حديث معاذ بن جبل عند الطبراني إن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك أي بمجيء الشيطان لأخذ ذلك الطعام (إما) بالتخفيف للتنبيه (إنه) بكسر الهمزة (قد كذبك) بتخفيف الذال أي في إظهار الحاجة (وسيعود) أي في الأخذ فكن على حذر منه (فرصدته) أي ترقبته وانتظرته (فجاء يحثو) حال مقدرة لأن الحثو عقب المجيء لا معه، ويحتمل أن يكون التقدير فجاء فجعل يحثوا اعتماداً على ما سبق قاله القاري. قلت: هذه رواية اللكشمهيني والمستملي ووقع عند أبي ذر عن الحموي فجعل بدل فجاء (فرصدته) أي المرة الثالثة (وهذا آخر ثلاث مرات إنك) قال ابن حجر: أي هذا المجيء الذم جئته آخر ثلاث مرات إنك تعليل لما تضمنه كلامه أنه لا يطلقه انتهى. قال القاري: والظاهر إن هذا مبتدأ وآخر بدل منه والخبر أنك (تزعم) أي تظن أو تقول (لا تعود ثم تعود) وفي نسخة تزعم أن لا تعود ثم تعود. وقال الطيبي: قوله "أنك تزعم" بفتح الهمزة صفة لثلاث مرات على أن كل مرة موصوفة بهذا القول الباطل، والضمير مقدر أي فيها- انتهى. فقوله هذا آخر ثلاث مرات يدل على أنه في المرة الأولى أيضاً وعد بعدم العود وهو ساقط اختصاراً. قال القسطلاني: ولأبي ذر إنك بكسر الهمزة، وفي نسخة مقروأة على الميدومي إنك تزعم أنك لا تعود (دعني) وفي
أعلمك كلمات ينفعك الله بها: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك؟ قلت: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها. قال: أما إنه صدقك، وهو كذوب،
ــ
رواية النسائي خل عني (أعلمك) بالجزم جواب دعني وبالرفع خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب دعني (ينفعك الله بها) صفة لكلمات. قال الطيبي: وهو مطلق لم يعلم منه أي النفع فيحمل على المقيد في حديث علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأها يعني آية الكرسي حين يأخذ مضجعه آمنه الله تعالى على داره، ودار جاره وأهل دويرات حوله، رواه البيهقي في شعب الإيمان- انتهى. قلت: الظاهر إن المراد بالنفع هو ما يأتي في الحديث من قوله لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان، وفي رواية النسائي أعلمك كلمات إذا قلتهن لم يقربك ذكر ولا أنثى من الجن (إذا أويت) بالقصر على المشهور أي أتيت (إلى فراشك) للنوم وأخذت مضجعك، وفي البخاري قلت ما هن (أي الكلمات) قال إذا أويت إلى فراشك حتى تختم الآية) أي إلى {وهو العلي العظيم} وزاد معاذ بن جبل في روايته عند الطبراني وخاتمة سورة البقرة (آمن الرسول) إلى آخرها (فإنك) أي إذا فعلت ذلك (لن يزال عليك من الله) متعلق بقوله (حافظ) بمعنى حافظ من عند الله أو من جهة أمر الله وقدره أو من بأس الله ونقمته كقوله تعالى:{له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11](ولا يقربك) بفتح الراء والموحدة. وقال الحافظ: بفتح الراء وضم الموحدة، وفي رواية ولا يقربنك. قال القسطلاني: بفتح الراء والموحدة ونون التوكيد الثقيلة، كذا في اليونينية، وفي غيرها ولا يقربك بإسقاط النون، ونصب الموحدة عطفاً على السابق المنصوب بـ"لن" و"لا" زائدة لتأكيد النفي (شيطان) قال القسطلاني: وفي نسخة أي للبخاري الشيطان (حتى تصبح) غاية لما بعد لن (قلت زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها) وفي رواية البخاري بعده فخليت سبيله. قال: ما هي! قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شي على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إما) بالتخفيف (إنه) بكسر الهمزة (صدقك) بتخفيف الدال أي فيما قاله في آية الكرسي (وهو كذوب) هو من التتميم البليغ الغاية في الحسن لأنه لما أوهم مدحه بوصفه
وتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال. قلت: لا. قال: ذاك شيطان)) .
ــ
الصدق في قوله صدقك استدرك ففي الصدق عنه بصيغة مبالغة والمعنى صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر وهو كقولهم قد يصدق الكذوب (وتعلم) كذا في أكثر النسخ من المشكاة، وفي بعضها تعلم بإسقاط الواو كما في البخاري أي أتعلم (من تخاطب) أي بالتعيين الشخصي (منذ) بالنون وللحموي والمستملي منذ (ثلاث ليال قلت لا) أعلم (ذاك شيطان) من الشياطين. قال الطيبي: نكر لفظ الشيطان بعد سبقه منكراً في قوله لا يقربك شيطان ليؤذن بأن الثاني غير الأول على ما هو المشهور إن النكرة إذا أعيدت بلفظها كانت غير الأولى ووجه تغايرهما إن الأول مطلق شائع في جنسه، لأن القصد منه نفي قربان تلك الماهية له، والثاني فرد من أفراد ذلك الجنس أي شيطان من الشياطين فلو عرف لأوهم خلاف المقصود لأنه إما أن يشار إلى السابق أو إلى المعروف، والمشهور بين الناس وكلاهما غير مراد. وكان من الظاهر أن يقال شيطاناً بالنصب لأن السؤال في قوله من تخاطب عن المفعول فعدل إلى الجملة الاسمية وشخصه باسم الإشارة لمزيد التعيين ودوام الإحتراز عن كيده ومكره فإن قلت قد وقع عند البخاري فيما روى عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: إن شيطاناً تفلت على البارحة-الحديث. وفيه لولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من إمساكه من أجل دعوة سليمان عليه السلام حيث قال: وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، قال الله تعالى:{فسخرنا له الريح} [ص:36] ثم قال {والشياطين} وفي حديث الباب أن أبا هريرة أمسك الشيطان الذي رآه أجيب باحتمال أن الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يوثقه هو رأس الشياطين الذي يلزم من التمكن منه التمكن من الشياطين فيضاهي حينئذٍ سليمان في تسخيرهم والتوثق منهم، والمراد بالشيطان في حديث أبي هريرة هذا شيطانه بخصوصه أو آخر في الجملة فلا يلزم من تمكنه منه استتباع غيره من الشياطين في ذلك التمكن أو الشيطان الذي هم به النبي صلى الله عليه وسلم تبدي له في صفته التي خلق عليها، وكذلك كانوا في خدمة سليمان عليه السلام على هيئتهم، والذي تبدي لأبي هريرة في حديث الباب كان على هيئة الآدميين فلم يكن في إمساكه مضاهاة لملك سليمان والعلم عند الله تعالى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم إن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن وإن الحكمة قد يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها وتؤخذ عنه فينتفع بها وإن الكافر قد يصدق ببعض ما يصدق به المؤمن: ولا يكون بذلك مؤمناً، وإن الكذاب قد يصدق، وإن الشيطان من شأنه أن يكذب، وإنه قد يتصور ببعض الصور فتمكن رؤيته، وإن من أقيم في حفظ شي سمي وكيلا، وإن الجن يأكلون من طعام الإنس وإنهم يظهرون للإنس، لكن بالشرط المذكور وإنهم يتكلون بكلام الإنس وإنهم يسرقون ويخدعون. وفيه فضل آية الكرسي، وفيه جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر وتوكيل البعض لحفظها وتفرقتها كذا في الفتح
رواه البخاري.
2144 -
(16) وعن ابن عباس، قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: ((هذا من باب السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم،
ــ
(رواه البخاري) أي في الوكالة وأخرجه في صفة إبليس من بدأ الخلق وفي فضائل القرآن مختصراً، وأخرجه أيضاً النسائي والإسماعيلي وأبونعيم كما في الفتح، وقد وقع لأبي بن كعب عند النسائي وأبي أيوب الأنصاري عند الترمذي وأبي أسيد الأنصاري عند الطبراني، وزيد بن ثابت عند أبي الدنيا قصص في ذلك إلا أنه ليس فيها ما يشبه قصة أبي هريرة إلا قصة معاذ بن جبل عند الطبراني وهو محمول على التعدد.
2144-
قوله: (بينما) كذا في جميع النسخ من المشكاة والذي في صحيح مسلم بينا، وكذا نقله في جامع الأصول (جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم) قال ابن الملك تبعاً للطيبي: أي بين أوقات وحالات هو عنده صلى الله عليه وسلم، وقال ميرك: بينا وبينما وبين معناها الوسط وبين ظرف إما للمكان كقولك جلست بين القوم وبين الدار أو للزمان كما هنا، أي الزمان الذي كان جبريل قاعداً عند النبي صلى الله عليه وسلم (سمع) وفي رواية الحاكم إذ سمع (نقيضاً) بالنون والقاف والضاد المعجمة أي صوتاً شديداً كصوت نقض خشب البناء عند كسره قاله القاري. وقال النووي: أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح (من فوقه) وفي رواية الحاكم من السماء أي من جهة السماء (فرفع) أي جبريل (رأسه فقال) أي جبريل. قال الطيبي: الضمائر الثلاثة في سمع ورفع، وقال راجعة إلى جبريل لأنه أكثر إطلاعاً على أحوال السماء. وقيل: للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل الأولان راجعان للنبي صلى الله عليه وسلم والضمير في قال لجبريل عليه السلام لأنه حضر عنده للأخبار عن أمر غريب. ووقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: هو المختار واختاره غير واحد ذكره القاري، وفي رواية الحاكم ثم قال موضع فقال وهذا يؤيد ما قاله الطيبي:(هذا أي هذا الصوت (باب) أي صوت باب (من السماء) أي من سماء الدنيا (فتح اليوم) أي الآن (فنزل منه ملك) هذا من قول الراوي في حكايته لحال سمعه من رسول الله عليه وسلم أو بلغه منه (فقال) أي جبريل (هذا) أي النازل (ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم) هذا يدل على أنه نزل بالفاتحة وخواتيم سورة البقرة ملك غير جبريل. وقيل: إن جبريل نزل قبل هذا الملك معلماً ومخبراً بنزول الملك فهو مشارك له في إنزالها. وقال القرطبي: إن جبريل نزل بها أولاً بمكة ثم أنزل هذا الملك ثانياً بثوابها (فسلم) أي الملك النازل
فقال: أبشر بنورين أؤتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)) . رواه مسلم.
2145-
(17) وعن أبي مسعود، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما
ــ
(فقال) وفي بعض النسخ وقال: وهكذا في مسلم أي الملك (أبشر) بفتح الهمزة وكسر الشين أي أفرح (بنورين) سماهما نورين لأن كلا منهما يكون لصاحبه نوراً يسعى أمامه أو لأنه يرشده ويهديه بالتأمل فيه إلى الطريق القويم والمنهج المستقيم (أؤتيتهما لم يؤتهما) بصيغة المجهول أي لم يعطهما (فاتحة الكتاب) بالجر وجوز الوجهان الآخران (وخواتيم سورة البقرة) وهي من آمن الرسول إلى آخر السورة كذا قيل: والأظهر بصيغة الجمع أن يكون من قوله {لله ما في السماوات وما في الأرض} [البقرة: 284](لن تقرأ) الخطاب له عليه الصلاة والسلام، والمراد هو وأمته إذ الأصل مشاركتهم له في كل ما أنزل عليه إلا ما اختص به (بحرف منهما) أي بكل حرف من الفاتحة وخواتيم البقرة. قال التوربشتي: الباء زائدة يقال أخذت بزمام الناقة وأخذت زمامها، ويجوز أن يكون لإلصاق القراءة به، وأراد بالحرف الطرف منها، فإن حرف الشيء طرفه وكني به عن كل جملة مستقلة بنفسها (إلا أعطيته) أي أعطيت ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة كقوله:{اهدنا الصراط المستقيم} وكقوله: {غفرانك} وكقوله: {ربنا لا تؤاخذنا} ونظائر ذلك، ويكون التأويل في غير المسألة فيما هو حمد وثناء أعطيت ثوابه (رواه مسلم) في فضائل القرآن والحاكم (ج1ص585) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا، إنما أخرج مسلم هذا الحديث مختصراً ووافقه الذهبي. وقال وأخرج مسلم بعضه وفيه إن الحديث عند مسلم والحاكم سواء ليس بين سياقيهما فرق إلا في بعض الألفاظ والمعنى واحد فاستدراك الحاكم ليس بشي، والحديث عزاه المنذري في الترغيب والجزري في جامع الأصول للنسائي أيضاً.
2145-
قوله: (وعن أبي مسعود) هو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري (الآيتان) أي الكائنتان (من آخر سورة البقرة) أي آمن الرسول إلى آخر السورة وآخر الآية الأولى المصير، ومن ثم إلى آخر السورة آية واحدة، وأما ما اكتسبت فليست رأس آية بإتفاق العادين (من قرأ بهما) هذا لفظ البخاري في باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة من فضائل القرآن. وفي رواية له من قرأهما أي بدون الباء، وكذا وقع عند
في ليلة كفتاه)) . متفق عليه.
2146-
(18) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) .
ــ
مسلم وابن ماجه، وفي رواية أخرى للبخاري من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة. قال في المصابيح: فإن قلت ما هذه الباء التي في قوله بالآيتين. قلت: ذهب بعضهم إلى أنها زائدة. وقيل: ضمن الفعل معنى التبرك فعدي بالباء، وعلى هذا تقول قرأت بالسورة ولا تقول قرأت بكتابك لفوات معنى التبرك. قاله السهيلي: ولأبي الوقت قرأ الآيتين بحذف الباء (في ليلة) وأخرجه علي بن سعيد العسكري في ثواب القرآن بلفظ: من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتا آمن الرسول إلى آخر السورة ذكره الحافظ (كفتاه) بالتخفيف أي اغتناه عن قيام تلك الليلة بالقرآن وأجزأتا عنه من ذلك. وقيل: أجزأتا عنه عن قراءة القرآن مطلقاً، سواء كان داخل الصلاة أم خارجها. وقيل: معناه كفتاه كل سوء ووقتاه من كل مكروه. وقيل كفتاه شر الشياطين. وقيل: دفعتا عنه شر الثقلين الإنس والجن أو شر آفات تلك الليلة. وقيل معناه كفتاه ما حصل له بسببهما من الثواب عن طلب ثواب شي آخر وكأنهما اختصتا بذلك لما تضمنتاه من الثناء على الصحابة بجميل إنقيادهم إلى الله وابتهالهم ورجوعهم إليه وما حصل لهم من الإجابة إلى مطلوبهم. قلت: ويؤيد الوجه الأول ما ورد عن أبي مسعود رفعه من قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة ويؤيد الوجه الرابع حديث النعمان بن بشير رفعه إن الله كتب كتاباً وأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا بقرآن في دار فيقربها الشيطان ثلاث ليال، أخرجه الحاكم (ج1ص562) وصححه كذا في الفتح. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر هذه الوجوه: ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أن حذف المتعلق مشعر بالتعميم فكأنه قال كفتاه من كل شر أو من كل ما يخاف وفضل الله واسع (متفق عليه) أخرجه البخاري في المغازي، وفي فضائل القرآن ومسلم فيه، واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص118-121-122) والترمذي في فضائل القرآن وأبوداود في أواخر الصلاة وابن ماجه في صلاة الليل والدارمي.
2146-
قوله: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم) أي حفظ (من الدجال) أي من شره وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي من فتنة الدجال، وهو كذا في بعض نسخ مسلم. قال النووي: قيل سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال، وكذا في آخرها قوله تعالى:{أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا} [الكهف: 102] قال الطيبي: ويمكن أن يقال إن أولائك الفتية كما عصموا من ذلك الجبار كذلك يعصم الله القاري من الجبارين. قيل: ولا مانع من الجمع واللام فيه للعهد، وهو
رواه مسلم.
ــ
الذي في آخر الزمان يدعي الألوهية، ويحتمل أن يكون للجنس فإن الدجال من يكثر منه الكذب والتلبيس، ومنه الحديث يكون في آخر الزمان دجالون أي كذابون مموهون. وقال السيوطي في حاشية أبي داود: قال القرطبي اختلف المتأولون في سبب ذلك، فقيل لما في قصة أصحاب الكهف من العجائب والآيات فمن وقف عليها لم يستغرب أمر الدجال ولم يهله ذلك فلم يفتتن به. وقيل: لقوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} [الكهف: 2] تمسكاً بتخصيص البأس بالشدة واللدنية وهو مناسب لما يكون من الدجال من دعوى الآلهية واستيلاءه وعظم فتنته ولذلك عظم صلى الله عليه وسلم أمره وحذر عنه وتعوذ من فتنته، فيكون معنى الحديث إن من قرأ هذه الآيات وتدبرها، ووقف على معناها حذره فأمن منه. وقيل: ذلك من خصائص هذه السورة كلها، فقد روى من حفظ سورة الكهف ثم أدركه الدجال لم يسلط عليه، وعلى هذا يجتمع رواية من روى أول سورة الكهف مع رواية من روى من آخرها ويكون ذكر العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلها- انتهى كلام السيوطي. واعلم أنه وقع في رواية مسلم وأبي داود من حفظ عشر آيات، وفي رواية الترمذي من قرأ ثلاث آيات كما سيأتي. فقيل: وجه الجمع بين العشر وبين الثلاث إن حديث العشر متأخر ومن عمل بالعشر فقد عمل بالثلاث، وقيل حديث الثلاث متأخر ومن عصم بالثلاث فلا حاجة إلى العشر، وهذا أقرب إلى أحكام النسخ. قال ميرك: بمجرد الاحتمال لا يحكم بالنسخ. وقال القاري: النسخ لا يدخل في الأخبار. وقيل: حديث العشر في الحفظ، وحديث الثلاث في القراءة فمن حفظ العشر وقرأ الثلاث كفى وعصم من فتنة الدجال، وفيه أنه وقع في رواية للنسائي من قرأ العشر وهي تنافي هذا الجمع. وقال الشوكاني: لا منافاة بين رواية الثلاث الآيات والعشر الآيات لأن الواجب العمل بالزيادة فيقرأ عشر آيات من أولها- انتهى. واعلم أيضاً أنه أخلف الرواة في أن العشر من أولها أو من آخرها فقال شعبة عن قتادة عند أحمد والترمذي من أول الكهف، وكذا قال هشام عنه عند مسلم وهمام عنه عند أحمد، ومسلم وأبي داود والنسائي وسعيد عنه عند أحمد وقال شعبة: عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي في اليوم والليلة من آخر الكهف، وهكذا قال هشام في روايته عند أبي داود، وقد تقدم وجه الجمع في كلام السيوطي المذكور. وقال الشوكاني: وأما اختلاف الروايات بين أن تكون العشر من أولها أو من آخرها فينبغي الجمع بينهما بقراءة العشر الأوائل والعشر الأواخر، ومن أراد أن يحصل على الكمال ويتم له ما تضمنته هذه الأحاديث كلها فليقرأ سورة الكهف كلها يوم الجمعة ويقرا كلها ليلة الجمعة- انتهى. (رواه مسلم) في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص196وج6ص446- 449) وأبوداود في الملاحم، والنسائي في السنن الكبرى وفي اليوم والليلة، وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
2147-
(19) وعنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن)) .
ــ
2147-
قوله: (أيعجز أحدكم) بكسر الجيم من باب ضرب يضرب والهمزة للإستفهام الإستخباري (قالوا وكيف يقرأ) أي أحد (ثلث القرآن) لأنه يصعب على الدوام عادة، وفي حديث أبي سعيد عند البخاري فشق ذلك عليهم. وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله (قال قل هو الله أحد) أي إلى آخره أو سورته (تعدل) بالتأنيث ويجوز التذكير أي تساوي (ثلث القرآن) اختلفوا في معنى كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن فقال قوم هي ثلث باعتبار معاني القرآن لأنه أحكام وأخبار وتوحيد وقد اشتملت هي على القسم الثالث فكانت ثلثاً بهذا الاعتبار ويستأنس لهذا بما وقع في رواية لمسلم، إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزأ من أجزاء القرآن. واعترض بأنه يلزم منه أن تكون آية الكرسي وآخر الحشر كل منهما ثلث القرآن ولم يرد ذلك لكن قال أبوالعباس القرطبي: إنها اشتملت على اسمين من أسماء الله تعالى متضمنين جميع أوصاف الكمال لم يوجدا في غيرها من السور وهما الأحد الصمد لأنهما يدلان على أحدية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك إن الأحد يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره والصمد يشعر بجميع أوصاف الكمال لأنه الذي انتهى سودده، فكان يرجع الطلب منه وإليه ولا يتم ذلك على وجه التحقيق إلا لمن حاز جميع فضائل الكمال، وذلك لا يصلح إلا لله تعالى فلما اشتملت هذه السورة على معرفة الذات المقدسة كانت بالنسبة إلى تمام المعرفة بصفات الذات وصفات الفعل ثلثاً- انتهى. وقال قوم المثلية محمولة على تحصيل الثواب ومعنى كونها تعدل ثلث القرآن إن ثواب قراءتها يحصل للقاري مثل ثواب من قرأ ثلث القرآن وضعفه ابن عقيل فقال لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن. واحتج بحديث من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، واستدل ابن عبد البر لذلك بقول ابن راهوية ليس معناه إن من قرأها ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن كله هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة. وقيل المراد ثواب قراءة قل هو الله أحد يضاعف بقدر ثواب ثلث القرآن بغير تضعيف وهي دعوى بغير دليل ويؤيد الإطلاق حديث أبي الدرداء هذا وغيره مما ورد في معناه. وقيل المراد من عمل بما تضمنته من الإخلاص والتوحيد كان كمن قرأ ثلث القرآن وادعى بعضهم إن قوله "تعدل ثلث القرآن" يختص بصاحب الواقعة لأنه لما رددها في ليلته كان كمن قرأ ثلث القرآن بغير ترديد. قال القابسي: ولعل الرجل الذي جرى له ذلك لم يكن يحفظ غيرها فلذلك استقل عمله فقال له الشارع ذلك ترغيباً له في عمل الخير وإن قل. ولا يخفى ما في هذه الدعوى وقال ابن عبد البر: من لم يتأول هذا الحديث أخلص ممن أجاب فيه بالرأي.
رواه مسلم.
2148 -
(20) ورواه البخاري عن أبي سعيد
2149-
(21) وعن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية،
ــ
وقال الزرقاني: السكوت في هذه المسألة وشبهها أفضل من الكلام فيها وأسلم. قال السيوطي: وإن هذا نحا جماعة كابن حنبل وإسحاق بن راهوية وإنه من المتشابه الذي لا يدري معناه وإياه اختار- انتهى. قلت ظاهر أحاديث الباب ناطق بتحصيل الثواب مثل من قرأ ثلث القرآن، وحديث أبي أيوب عند أحمد والترمذي بلفظ: من قرأ قل هو الله أحد فقد قرأ ثلث القرآن. وحديث أبي بن كعب عند أبي عبيد من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن، صريح كل منهما في أن قراءة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن. وكذا يدل عليه حديث أبي هريرة عند مسلم، والترمذي، احشدوا فسأقرأ عليكم ثلث القرآن، فخرج يقرأ قل هو الله أحد، ثم قال إلا أنها تعدل ثلث القرآن فقوله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن يحمل على أن قراءتها تعدل قراءة ثلث القرآن. ويحصل لقائها ثواب قراءة ثلث القرآن فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً، وإذا حمل ذلك على ظاهره فهل ذلك الثلث من القرآن معين أو أي ثلث كان منه فيه نظر. وعلى الثاني فمن قرأها ثلاثاً كان كمن قرأ ختمة كاملة ولله عزوجل أن يجازي عبده على اليسير بأفضل مما يجازي على الكثير، ونقول بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولكل ما جهلناه من وجهه وتعليله فنرده إليه صلى الله عليه وسلم، ولا ندري لم تعدل قراءة هذه قراءة ثلث القرآن قال الشوكاني: قد علل كونها تعدل ثلث القرآن بعلل ضعيفة واهية، والأحسن أن يقال إن ذلك لسر لم نطلع عليه، وليس لنا الكشف عن وجهه- انتهى. هذا وقد بسط الكلام في معنى هذه المعادلة شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته التي أشرنا إليها ونصر القول الأول وزيف، وضعف ما عداه فعليك أن تراجعها (رواه مسلم) أي عن أبي الدرداء وأخرجه أيضاً أحمد (ج5ص195وج6ص443) والدارمي.
2148-
قوله: (ورواه البخاري) في فضائل القرآن (عن أبي سعيد) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3ص8) ولأبي سعيد حديث آخر أخرجه أحمد والبخاري في فضائل القرآن والنذور والتوحيد ومالك وأبوداود والنسائي عنه، إن رجلاً سمع رجلاً يقرأ قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن، وفي الباب عن أبي أيوب عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي هريرة عند مسلم والترمذي وقتادة بن النعمان عند البخاري تعليقاً والنسائي والإسماعيلي موصولاً وأنس عند الترمذي وأبي مسعود عند أحمد والنسائي.
2149-
قوله: (بعث رجلاً على سرية) أي أرسله أميراً عليها وقوله على "سرية" متعلق ببعث ولا يصح
وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قل هو الله أحد} فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه لأي شي يصنع ذلك، فسألوه، فقال: لأنها صفة للرحمان، وأنا أحب أن أقرأها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه إن الله يحبه)) .
ــ
أن يتعلق بصفة لرجل لفساد المعنى ولا بحال لأن رجلاً نكرة ولم يقل في سرية، لأن على تفيد معنى الاستعلاء والرجل. قيل: هو كلثوم بن الهدم، وفيه نظر لأنهم ذكروا إنه مات في أول الهجرة قبل نزول القتال. وقيل: هو كرز بن زهدم الأنصاري وسماه بعضهم كلثوم بن زهدم، وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان فأبعد جداً وهذا ظاهر. (وكان يقرأ لأصحابه) لأنه كان إمامهم (في صلاتهم) أي التي يصليها بهم (فيختم) لهم أي قراءته (بقل هو الله أحد) السورة إلى آخرها. وهذا يدل على أنه كان يقرأ بغيرها ثم يقرؤها في كل ركعة وهذا هو الظاهر، ويحتمل أنه يختم بها آخر قراءته فيختص بالركعة الأخيرة وعلى الأول فيؤخذ منه جواز الجمع بين السورتين غير الفاتحة في كل ركعة (فلما رجعوا) أي من السرية (ذكروا ذلك) أي فعله، هذا يدل على أن صنيعه ذلك لم يكن موافقاً لما ألفوه من النبي صلى الله عليه وسلم (سلوه لأي شي يصنع ذلك فسألوه) لم تختم بقل هو الله أحد (فقال) الرجل أختم بها (لأنها صفة الرحمن) قال ابن التين: إنما قال إنها صفة الرحمن لأن فيها أسماءه وصفاته أسماءه مشتقة من صفاته. وقال غيره: يحتمل أن يكون الصحابي المذكور قال ذلك مستنداً لشي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط. وقد أخرج البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بسند حسن عن ابن عباس إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا صف لنا ربك الذي تعبد، فأنزل الله عزوجل قل هو الله أحد إلى آخرها فقال هذه صفة ربي عزوجل، وعن أبي كعب قال، قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت سورة الإخلاص- الحديث. وهو عند ابن خزيمة في كتاب التوحيد وصححه الحاكم. قال ابن دقيق العيد: قوله: لأنها صفة الرحمن يحتمل أن يكون مراده إن فيها ذكر صفة الرحمن كما لو ذكر وصف فعبر عن الذكر بأنه الوصف وإن لم يكن نفس الوصف، ويحتمل غير ذلك إلا أنه لا يختص ذلك بهذه السورة لكن لعل تخصيصها بذلك لأنه ليس فيها إلا صفات الله سبحانه وتعالى فاختصت بذلك دون غيرها (وأنا أحب أن أقرأها) أي لذلك دائماً فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره فجاؤا فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم (فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه إن الله يحبه) قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون سبب محبة الله له محبته لهذه السورة، ويحتمل أن يكون لما دل عليه كلامه لأن محبته لذكر صفات الرب دالة على صحة اعتقاده. قال المازري: ومن تبعه محبة الله لعباده إرادته ثوابهم وتنعيمهم. وقيل: هي نفس الإثابة والتنعيم لا الإرادة، فعلى الأول هي من صفات الذات (وهي ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال) وعلى الثاني من صفات الفعل (وهي ما استحقه فما لا يزال دون الأزل) وأما محبة العباد له تعالى فلا يبعد فيها الميل منهم إليه تعالى وهو متقدس
متفق عليه.
2150 -
(22) وعن أنس، قال:((إن رجلاً قال يا رسول الله! إني أحب هذه السورة: {قل هو الله أحد} قال: إن حبك إياها أدخلك الجنة)) . رواه الترمذي، وروى البخاري معناه.
ــ
عن الميل، وقيل محبتهم له تعالى استقامتهم على طاعته. وقيل الإستقامة ثمرة المحبة وحقيقة المحبة له ميلهم إليه تعالى لاستحقاقه سبحانه وتعالى المحبة من جميع وجوهها. قال الطيبي: وتحريره إن حقيقة المحبة ميل النفس إلى ما يلائمها من اللذات وهي في حقه تعالى محال فيحمل محبته لهم إما على إرادة الإثابة أو على الإثابة نفسها. وأما محبة العباد له تعالى فيحتمل أن يراد بها الميل إليه تعالى وصفاته لاستحقاقه تعالى إياها من جميع وجوهها وأن يراد بها نفس الاستقامة على طاعته تعالى فيرجع حاصل هذا الوجه إلى الأول لأن الاستقامة ثمرة المحبة- انتهى. وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن جميل النفس إليه والاستكثار منه ولا يعد ذلك هجراناً لغيره (متفق عليه) أخرجه البخاري في أول كتاب التوحيد، ومسلم في فضائل القرآن وأخرجه أيضاً النسائي في الكبرى كما في الترغيب.
2150-
قوله: (إن رجلاً) هو كلثوم بن الهدم على أن هذه القصة غير القصة التي وقعت في حديث عائشة المتقدم (قل هو الله أحد) تفسير لقوله هذه السورة أو بدل (قال إن حبك إياها) أي حبك لسورة قل هو الله أحد، والحب مصدر مضاف إلى فاعله، وارتفاعه بالابتداء وخبره قوله (أدخلك الجنة) لأنها صفة الرحمن فحبها يدل على حسن اعتقاده في الدين ومعناه يدخلك الجنة، لأن الدخول في المستقبل، ولكنه لما كان محقق الوقوع فكأنه قد وقع فأخبر بلفظ الماضي. قال الحافظ: دل تبشيره له بالجنة على الرضا بفعله، وعبر بالماضي في قوله أدخلك وإن كان دخول الجنة مستقبلاً تحقيقاً لوقوع ذلك- انتهى. قال الطيبي: فإن قلت ما التوفيق بين هذا الجواب وبين الجواب في الحديث السابق أخبروه إن الله يحبه. قلت: هذا الجواب ثمرة ذلك الجواب لأن الله تعالى إذا أحبه أدخله الجنة وهذا من وجيز الكلام وبليغه فإنه اقتصر في الأول على السبب عن المسبب، وفي الثاني عكسه (رواه الترمذي) في فضائل القرآن (وروى البخاري) في باب الجمع بين السورتين في ركعة من كتاب الصلاة (معناه) فيه اعتراض على المصنف ودفع عنه كما لا يخفى. وأعلم أن السياق المذكور رواه الترمذي معلقاً من رواية مبارك ابن فضالة عن ثابت البناني عن أنس. ووصله الدارمي عن يزيد بن هارون عن مبارك بن فضالة وهو طرف من حديث طويل أخرجه الترمذي أيضاً موصولاً من طريق عبد العزيز بن محمد الداوردي عن عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة يقرأ بها افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها. ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمة أصحابه فقالوا إنك تقرأ بهذه السورة، ثم لا ترى إنها تجزئك حتى تقرأ بسورة أخرى، فإما أن تقرأ بها وإما أن
2151-
(23) وعن عقبة بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن
ــ
تدعها وتقرأ بسور أخرى. قال، ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بها فعلت، وإن كرهتم تركتكتم، وكانوا يرونه أفضلهم ويكرهون أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال يا فلان! ما يمنعك مما يأمر به أصحابك وما يحملك أن تقرأ هذه السورة في كل ركعة قال: يا رسول الله! إني أحبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن حبها أدخلك الجنة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عبيد الله بن عمر عن ثابت، وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس إن رجلاً قال يا رسول الله! إني أحب هذه السورة قل هو الله أحد قال إن حبك إياها أدخلك الجنة- انتهى. وأورده البخاري مطولاً تعليقاً بصيغة التصحيح أي بلفظ الجزم حيث قال: وقال عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها الحديث. قال الحافظ: هذا التعليق وصله الترمذي والبزار عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أوس والبيهقي (ج2ص61) من رواية محزر بن سلمة كلاهما عن عبد العزيز الداوردي عن عبيد الله بطوله. قال الترمذي: حسن صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت قال. وقد روى مبارك بن فضالة عن ثابت فذكر طرفاً من آخره وذكر الطبراني في الأوسط إن الداوردي تفرد به عن عبيد الله. وذكر الدارقطني في العلل إن حماد بن سلمة خالف عبيد الله في إسناده فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلاً قال وهو أشبه بالصواب. وإنما رجحه لأن حماد بن سلمة يقدم في حديث ثابت لكن عبيد الله بن عمر حافظ حجة، وقد وافقه مبارك في إسناده فيتحمل أن يكون لثابت فيه شيخان-انتهى. قلت وأخرجه الحاكم (ج1ص240) من رواية إبراهيم بن حمزة الزبيري عن الدراوردي وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وقال وأورده البخاري تعليقاً. وأعلم أن الظاهر إن قصة حديث عائشة عند الشيخين، وقصة حديث أنس عند الترمذي والبخاري قصتان متغائرتان لا أنهما قصة واحدة، ويدل على تغايرهما إن في حديث أنس إنه كان يبدأ بقل هو الله أحد، وفي حديث عائشة إن أمير السرية كان يختم بها، وفي هذا أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة ولم يصرح بذلك في قصة الآخر، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله وفي حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يسألوا أميرهم، وفي هذا أنه قال إنه يحبها فبشره بالجنة، وأمير السرية قال إنه صفة الرحمن فبشره بأن الله يحبه.
2151-
قوله: (ألم تر) بصيغة المعلوم أي ألم تعلم (أنزلت) صفة للآيات (الليلة) نصب على الظرفية قال الطيبي: ألم تر كلمة تعجب وتعجيب وأشار إلى سبب التعجب بقوله (لم ير مثلهن) أي في باب التعوذ وهو
قط {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} . رواه مسلم.
2152 -
(24) وعن عائشة، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقراء فيهما
ــ
بصيغة المجهول، ورفع مثلهن (قط) لتأكيد النفي في الماضي يعني لم تكن آيات سورة كلهن تعويذاً للقاري من شر الأشرار مثل هاتين السورتين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من عين الجان وعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما ولما سحر استشفى بهما وإنما كان كذلك لأنهما من الجوامع في هذا الباب {قل أعوذ برب الفلق إلخ} خبر مبتدأ محذوف أي هي قل أعوذ برب الفلق الخ وفي الحديث بيان عظم فضل هاتين السورتين، وفيه دليل واضح على كونهما من القرآن، وفيه إن لفظة قل من القرآن ثابتة من أول السورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمة على هذا كله قاله النووي. وأما ما نسب إلى ابن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين. فقيل: إن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل، قاله ابن حزم في أوائل المحلى والنووي في شرح المهذب وشرح مسلم والفخر الرازي في أوائل تفسيره. وقيل: بل النقل عنه صحيح وكونهما من القرآن، قد ثبت القطع بذلك في عصره لكن لم يثبت عنده القطع بذلك أي إنه كان متواتراً في عصر ابن مسعود لكن لم يتواتر عند ابن مسعود. وقيل: غير ذلك في تأويل ما حكى عن ابن مسعود (رواه مسلم) في فضائل القرآن وكذا الترمذي والدارمي ورواه النسائي في الاستعاذة وأخرجه أحمد (ج4ص144، 150، 151، 152) .
2152-
قوله: (كان إذا أوى) بالقصر ويمد (إلى فراشه) بكسر الفاء أي أتاه للنوم وأخذ مضجعه واستقر فيه (جمع كفيه ثم نفث فيهما) من النفس بفتح النون وسكون الفاء بعدها مثلثة قيل النفث إخراج ريح من الفم مع شي من الريق. وقال الجزري في النهاية: النفث شيبة بالنفح، وهو أقل من التفل لأن التفل لا يكون إلا ومعه شي من الريق (فقرأ فيهما) اختلفوا في توجيه الفاء فإنه يدل على تأخير القراءة من النفث، والظاهر العكس. فقيل: المراد ثم أراد النفث فقرأ. وقيل: الفاء بمعنى الواو. وقيل: تقديم النفث على القراءة مخالفة للسحرة البطلة. وقيل: هي سهو من الراوي أو الكاتب والله تعالى أعلم. قال المظهر: الفاء للتعقيب، وظاهره يدل على أنه صلى الله عليه وسلم نفث في كفيه أولاً ثم قرأ، وهذا لم يقل به أحد وليس فيه فائدة ولعل هذا سهو من الكاتب أو الراوي لأن النفث ينبغي أن يكون بعد التلاوة ليوصل بركة القرآن واسم الله تعالى إلى بشرة القاري أو المقرؤ له- انتهى. وتعقبه الطيبي فقال من ذهب إلى تخطئة الرواة الثقات العدول، ومن اتفقت الأمة على صحة روايته وضبطه وإتقانه بما سنح له من الرأي الذي هو أوهن من بيت العنكبوت فقد خطأ نفسه وخاض فيما لا يعنيه هلا قاس هذه الفاء على ما في قوله تعالى:{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] وقوله {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم}
{قل هو الله أحد} {وقل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات)) . متفق عليه.
ــ
[البقرة: 54] على أن التوبة عين القتل ونظائره في كتاب الله العزيز غير عزيز، والمعنى جمع كفيه، ثم عزم على النفث فيهما فقرأ فيهما أو لعل السر في تقديم النفث على القراءة مخالفة السحرة البطلة على أن أسرار الكلام النبوي جلت عن أن تكون مشروع كل وارد. وبعض من لا يدله في علم المعاني لما أراد التفصي عن الشبهة تشبث أنه جاء في صحيح البخاري بالواو، وهي تقتضي الجمعية لا الترتيب وهو زور وبهتان حيث لم أجد فيه وفي كتاب الحميدي، وجامع الأصول (ج5ص73) إلا بالفاء- انتهى. وقد ثبت في رواية أبي ذر عن الكشمهيني يقرأ (بلا فاء ولا واو) فيهما وفي رواية إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً. قال الحافظ: أي يقرأها وينفث حالة القراءة (يبدأ بهما) أي يبدأ بالمسح بيديه (على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده) قال في شرح المشكاة: قوله "يبدأ" بيان لجملة قوله "يمسح بهما ما استطاع" لكن قوله "ما استطاع من جسده" وقوله "يبدأ" يقتضيان أن يقدر يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ثم ينتهي إلى ما أدبر من جسده. وفي رواية ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده (متفق عليه) فيه نظر فإن الحديث من أفراد البخاري أخرجه في فضائل القرآن من رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بالسياق المذكور، وفي الدعوات مختصراً، وأخرج في الطب من رواية يونس عن ابن شهاب بنحوه، ولابن شهاب حديث آخر أخرجه البخاري في الوفاة النبوية من رواية يونس وفي فضائل القرآن من رواية مالك وفي الطب من رواية معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها، وأخرجه أيضاً مسلم في الطب من رواية مالك ومعمر ويونس وزياد بن سعد، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه في الطب. قال الحافظ: رواية عقيل عن ابن شهاب، وإن اتحد سندها بالسابق (أي بحديث مالك ومن وافقه) لكن فيها أنه كان يقرأ بالمعوذات عند النوم (وفي رواية مالك إن ذلك كان عند الوجع) فهي مغايرة لحديث مالك المذكور فالذي يترجع إنهما حديثان عن ابن شهاب بسند واحد عند بعض الرواة عنه ما ليس عند بعض قال، وقد جعلهما أبومسعود الدمشقي حديثاً واحداً، فعقبه أبوالعباس الطرقي، وفرق بينهما خلف الواسطي وتبعه المزي والله اعلم- انتهى. ولعل صاحب المشكاة قلد الجزري حيث عز رواية عقيل عن ابن شهاب في جامع الأصول (ج5ص74) إلى البخاري ومسلم أو تبع في ذلك أبا مسعود الدمشقي ومن وافقه فمعنى قوله متفق عليه، أي على أصل الحديث ولا يخفى ما فيه،