الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاسترجع ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس)) . رواه أحمد والترمذي.
{الفصل الثالث}
2239-
(7) عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم)) . رواه البيهقي "في شعب الإيمان"
ــ
يسأل بلفظ: المضارع في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة، وكذا نقله الجزري عن الترمذي والذي في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، ثم سأل أي بلفظ الماضي، وهكذا وقع عند أحمد (فاسترجع) أي قال عمران {إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156] لابتلاء القاص بهذا المصيبة التي هي السؤال من أموال الناس بالقرآن، لأنه بدعة ومعصية، وظهور البدعة والمعصية بين المسلمين مصيبة. أو لابتلاء عمران بمشاهدة هذه الحالة الشنيعة وهي مصيبة. (من قرأ القرآن فليسأل الله به) أي فليطلب من الله تعالى بالقرآن ما شاء من أمور الدنيا والآخرة، لا من الناس. أو المراد أنه إذا مر بآية رحمة فليسألها من الله تعالى، أو بآية عقوبة فيتعوذ إليه بها منها. وإما أن يدعوا الله عقيب القراءة بالأدعية الماثورة، وينبغي أن يكون الدعاء في أمر الآخرة وإصلاح المسلمين في معاشهم ومعادهم. (فإنه) أي الشأن (سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس) أي بلسان القال أو ببيان الحال (رواه أحمد)(ج4ص432، 436، 439، 445)(والترمذي) في فضائل القرآن كلاهما عن خيثمة بن أبي خيثمة البصري عن الحسن البصري عن عمران بن حصين، وخيثمة هذا قال في التقريب عنه لين الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان كما في الكنز.
2239-
قوله: (من قرأ القرآن يتأكل به الناس) أي يطلب به الأكل من الناس. قال الطيبي: يعني يستأكل كتعجل بمعنى استعجل، والباء في "به" للآلة أي أموالهم (جاء يوم القيامة ووجهه عظم) بفتح العين وسكون الظاء (ليس عليه لحم) أي من جعل القرآن وسيلة إلى حطام الدنيا جاء يوم القيامة على أقبح صورة وأسوأ حالة حيث عكس، وجعل أشرف الأشياء وأعزها واسطة إلى أذل الأشياء وأحقرها، وذريعة إلى أردئها وأدونها، وفي الحديث وعيد شديد لمن يستأكل بالقرآن (رواه البيهقي في شعب الإيمان) قال العزيزي: بإسناد ضعيف وقد أخرج أبوعبيد في فضائل القرآن عن أبي سعيد وصححه الحاكم رفعه تعلموا القرآن وأسألوا الله به،
2240-
(8) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} رواه أبوداود.
ــ
قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاث نفر، رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يأكله لله. وأخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار عن عبد الرحمن بن شبل رفعه إقرؤه القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به- الحديث. قال الحافظ: سنده قوى. وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. وأخرج أبوعبيد عن عبد الله بن مسعود سيجيء زمان يسئل فيه بالقرآن فإذا سألوكم فلا تعطوهم. وأخرج الطبراني في الأوسط (عن شيخة المقدام بن داود وهو ضعيف) عن أبي هريرة رفعه إقرؤا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ولا تخفوا عنه-الحديث. وهذه الأحاديث شواهد لحديث بريدة وحديث عمران بن حصين المتقدم في الفصل الثاني.
2240-
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة) بالصاد المهملة أي انفصالها وانقضاءها أو فصلها عن سورة أخرى (حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) ورواه الحاكم بلفظ: كان لا يعلم ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، ورواه البزار بلفظ: كان لا يعرف خاتمة السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزل بسم الله الرحمن الرحيم علم أن السورة قد ختمت واستقبلت وابتدئت سورة أخرى. واستدل به الحنفية لما هو المختار عندهم في هذه المسئلة من أن البسملة آية مستقلة في القرآن وليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها، وللفصل بين السورتين. قال الطيبي: هذا الحديث وما سرد في آخر هذا الباب دليلان ظاهر أن على أن البسملة آية من كل سورة أنزلت مكررة للفصل. قال صاحب اللمعات: في دلالتهما على أنها جزء من كل سورة كما هو مذهب الشافعي خفاء ظاهر نعم يدلان على أنها من القرآن أنزلت للفصل كما هو مذهبنا والله أعلم. قلت: ويدل على كونها آية من القرآن في كل موضع كتبت فيه إجماع المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والوفاق على إثباتها في المصاحف بخط القرآن مع المبالغة في تجريد القرآن عما ليس منه أسماء السور وأعداد الآي ولفظة آمين، واتفاق أئمة القراءات على قراءة البسملة في ابتداء كل سورة سواء الفاتحة أو غيرها من السور سوى براءة هذا. وقد تقدم الكلام في ذلك في باب القراءة في الصلاة فراجعة (رواه أبوداود) في الصلاة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وسكت عنه، ورواه أيضاً في مراسيله عن سعيد بن جبير أي مرسلاً. وقال المرسل أصح وأخرجه أيضا الحاكم (ج1ص231) والبيهقي (ج2ص42) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي في تلخيصه: قلت: أما هذا فثابت، ورواه البزار أيضاً. قال الهيثمي (ج60ص310) بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.
2241-
(9) وعن علقمة، قال كنا بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت. فقال عبد الله: ((والله لقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنت فبينا هو يكلمه إذا وجد منه ريح الخمر. فقال: أتشرب الخمر. وتكذب بالكتاب؟
ــ
2241-
قوله: (وعن علقمة) بن قيس النخعي أنه (قال كنا بحمص) بكسر الحاء وسكون الميم وهو غير منصرف، وقد ينصرف بلدة من بلاد الشام مشهورة (فقرأ ابن مسعود سورة يوسف) قال الحافظ: قوله "كنا بحمص" فقرأ ابن مسعود الخ هذا ظاهره إن علقمة حضر القصة، وكذا أخرجه الإسماعيلي، وأخرجه أبونعيم فقال فيه عن علقمة قال كان عبد الله بحمص. وقد أخرجه مسلم بلفظ: عن علقمة عن عبد الله قال كنت بحمص فقرأت فذكر الحديث، وهذا يقتضي إن علقمة لم يحضر القصة وإنما نقلها عن ابن مسعود وكذا أخرجه أبوعوانة ولفظه كنت جالساً بحمص. وعند أحمد (ج1ص378) عن عبد الله أنه قرأ سورة يوسف بحمص (فقال رجل ما هكذا أنزلت) أي السورة ولم يعرف الحافظ اسم هذا الرجل المبهم نعم، قيل أنه نهيك بن سنان. قال الحافظ: ولم أر ذلك صريحاً، وفي رواية مسلم فقال لي بعض القوم إقرأ علينا فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم والله ما هكذا أنزلت وعند أحمد (ج1ص425) عن علقمة قال أتى عبد الله الشام فقال له ناس من أهل حمص إقرأ علينا فقرأ عليهم سورة يوسف فقال رجل من القوم والله ما هكذا أنزلت، وفيه مبهم آخر وهو السائل ولم يعرف اسمه أيضاً (فقال عبد الله والله لقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في حضرته وهو يسمع وهذا السياق هكذا وقع في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا، والذي في صحيح البخاري قال "قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية مسلم "قال قلت: ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند أحمد (ج1ص425)"فقال عبد الله ويحك والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا" وله أيضاً (ج1ص378)"قال: والله لكهذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم"(فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم لي (أحسنت) هذه منقبة عظيمة لم يذكرها افتخاراً بل تحديثاً بنعمة الله واحتجاجاً على عدو الله (فبينا هو) أي ابن مسعود (يكلمه) أي ذلك الرجل ويحتمل العكس قاله القاري (إذ وجد) أي ابن مسعود (منه) أي من ذلك الرجل (ريح الخمر) قوله فبينا هو يكلمه الخ، كذا وقع في جميع النسخ من المشكاة وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج3ص40) والمجد بن تيمية في المنتقى ولفظ البخاري "فقال أحسنت ووجد منه ريح الخمر" ولمسلم "فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر" والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري (فقال) في رواية مسلم قال فقلت (أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب) هذا لفظ مسلم، وللبخاري "فقال: أتجمع أن تكذب بكتاب الله وتشرب الخمر" قال في اللمعات. لا شك إن ما ثبت كونه من كتاب الله
فضربه الحد)) .
ــ
يقيناً تكذيبه كفر، وكان ذلك معلوماًُ قطعاً عند الصحابة، خصوصاً لأمثال ابن مسعود وبعدهم يثبت ذلك بالتواتر. وقد ادعى الجمهور ذلك في القراءات السبع، وبعضهم في العشرة وإن لم يكن ما قرأ ابن مسعود في هذه القصة من هذا القبيل، فإطلاق تكذيب الكتاب المستلزم للكفر تغليظ وتشديد، ولذا لم يحكم بارتداده والله أعلم – انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك (فضربه الحد) أي فضربه ابن مسعود حد شرب الخمر وهذا لفظ البخاري، وفي رواية مسلم "لا تبرح حتى أجلدك قال فجلدته الحد" وفي رواية لأحمد "لا أدعك حتى أجلدك حداً قال فضربه الحد" قال النووي: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام إما عموماً وإما خصوصاً. وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها. وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلاً إذ لو كذب به حقيقة لكفر فقد أجمعوا على أن من جحد حرفاً مجمعاً عليه من القرآن كفر – انتهى. قال الحافظ: الاحتمال الأول جيد ويحتمل أيضاً أن يكون قوله فضربه الحد أي رفعه إلى الأمير فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازاً لكونه كان سبباً فيه. وقال القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية أو لأنه رأى أنه قال عن الإمام بواجب أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة فإنه وليها في زمن عمر وصدراً من خلافة عثمان – انتهى. والاحتمال الثاني موجه وفي الأخير غفلة عما في أول الخبر إن ذلك كان بحمص ولم يلها ابن مسعود وإنما دخلها غازياً وكان ذلك في خلافة عمر. وأما الجواب الثاني عن الرائحة فيرده النقل عن ابن مسعود إنه كان يرى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثل ذلك لعثمان في قصة الوليد بن عقبة، ووقع عند الإسماعيلي أثر هذا الحديث النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يقر ولم يشهد عليه. وقال القرطبي: في الحديث حجة على من يمنع وجوب الحد بالرائحة كالحنفية وقد قال به مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. قلت: (قائله الحافظ) والمسئلة خلافية شهيرة وللمانع أن يقول إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق في المغنى (ج8ص309) الخلاف في وجوب الحد بمجرد الرائحة اختار أن لا يحد بالرائحة وحدها، بل لا بد معها من قرينة كان يوجد سكران أو يتقيأها ونحوه أن يوجد جماعة شهر وبالفسق ويوجد معهم خمر، ويوجد من أحدهم رائحة الخمر. وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهوراً بإدمان شرب الخمر. وأما الجواب عن الثالث فجيد أيضاً لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن وهو الذي يظهر من قوله ما هكذا أنزلت فإن ظاهره إنه أثبت إنزالها ونفي الكيفية التي أوردها ابن مسعود. وقال الرجل ذلك إما جهلاً منه أو قلة حفظ أو عدم تثبت بعثه عليه السكر – انتهى. وقال القاري: ظاهر الحديث
متفق عليه.
2242-
(10) وعن زيد بن ثابت، قال: ((أرسل إلى أبوبكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبوبكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل
ــ
إنه ضربه حد الخمر بناء على ثبوت شربه بالرائحة وهو مذهب جماعة ومذهبنا ومذهب الشافعي خلافة لأن الريح نحوه التفاح الحامض، وكذا السفرجل يشبه رائحة الخمر ولاحتمال إنه شربها إكراهاً أو اضطراراً، وقد صح الخبر ادرؤا الحد بالشبهات ولعله حصل منه اقراراً أو قام عليه بينة – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، ومسلم في الصلاة وقد عرفت ما وقع من التصرف من المصنف في ألفاظ الحديث فإن السياق المذكور بتمامه ليس لهما ولا لأحدهما بل بعضه للبخاري وبعضه لمسلم، إلا قوله على عهد رسول الله فإنه ليس لأحد منهما ولم أجد زيادة لفظ "عهد" عند أحد ممن أورد هذا الحديث في كتابه، وقد أخرجه أحمد (ج1ص378، 425) وأبوعوانة وغيرهما.
2242-
قوله: (أرسل إلى) بتشديد الياء أي رجلاً. قال الحافظ: لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك (أبوبكر) الصديق في خلافته (مقتل أهل اليمامة) هو مفعل من القتل ونصب على أنه ظرف زمان بمعنى أو إن قتلهم، والمراد عقب زمان قتل أهل اليمامة، واليمامة بفتح التحتية وتخفيف الميم اسم مدينة باليمن وسميت باسم المصلوبة على بابها، وهي التي كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام وتعرف بالزرقاء لزرقة عينها، واسمها عنزة. وقال في النهاية، اليمامة هي الصقع المعروف شرقي الحجاز ومدينتها العظمى حجر اليمامة، والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في الوقعة مع مسيلمة ادعى النبوة وقوى أمره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بارتداد كثير من العرب فجهز إليه أبوبكر الصديق خالد بن الوليد في جمع كثير من الصحابة فحاربوه أشد محاربة إلى أن خذله الله وقتله وقتل في غضون ذلك من الصحابة جماعة كثيرة. قيل سبع مائة، وقيل أكثر. (فإذا عمر) كلمة "إذا" للمفاجأة أي قال زيد فجئته فإذا عمر (عنده) أي عند أبي بكر (قد استحر) بسين مهملة ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها حاء مهملة مفتوحة ثم راء ثقيلة أي اشتد وكثر استفعل من الحر، لأن المكروه غالباً يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد يقولون أسخن الله عينه وأقر عينه ومنه المثل تولى حارها من تولى قارها (يوم اليمامة) أي وقعة اليمامة أو يوم القتال الواقع في اليمامة (بقراءة القرآن) سمى منهم في رواية سفيان عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت في فوائد لدعا قولي سالماً مولى أبي حذيفة (وإني أخشى أن استحر القتل) بفتح همزة أن وتكسر وفي البخاري أن يستحر القتل. قال القسطلاني: بلفظ المضارع أي يشتد ولأبي ذر
بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ــ
أن استحر (بالقراء) متعلق بالفعل أو القتل (بالمواطن) أي في المواطن أي الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار، وفي رواية سفيان وأنا أخشى أن لا يلقى المسلمون زحفاً آخر إلا استحر القتل بأهل القرآن. قال الطيبي قوله " أخشى أن استحر القتل" أي أخشى استحراره. والمراد الزيادة على ما كان يوم اليمامة، لأن الخشية إنما تكون مما لم يوجد من المكاره فقوله (إن استحر" مفعول أخشى، والفاء في "فيذهب" للتعقيب، ويحتمل أن يكون إن بالكسر، والجملة الشرطية دالة على مفعول أخشى (فيذهب كثير من القرآن) بقتل حفظته أي إلا أن يجمعوه قبل أن يقتل الباقون. قال القاري: قوله "فيذهب" في بعض النسخ بالنصب، وهو ظاهر لفظاً ومعنى عطفاً على استحر على أن إن مصدرية وهي الرواية الصحيحة، وفي أكثر النسخ المصححة المقروءة على المشائخ بالرفع مع فتح الهمزة في أن، فقيل رفعه على أنه جواب شرط محذوف أي فإذا استحر فيذهب، أو عطف على محل إني أخشى أي فيذهب حينئذ كثير من القرآن بذهاب كثير من قراء الزمان – انتهى. قال الحافظ: هذا يدل على أن كثيراً ممن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن لكن يمكن أن يكون المراد إن مجموعهم جمعة لا أنه كل فرد فرد جمعه (وإن أرى أن تأمر) من الرأي أي أذهب إلى أن تأمر كتبه الوحي (بجمع القرآن) قبل تفرق القراء (قلت) خطاب أبي بكر لعمر حكاه ثانياً لزيد بن ثابت لما أرسل إليه وهو كلام من يؤثر الإتباع وينفر من الابتداع أي قال أبوبكر قلت (لعمر كيف تفعل) بصيغة الخطاب، وقيل بالتكلم أي أنت أو نحن، وفي رواية كيف أفعل (شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لا ينافي ما ذكره الحاكم في مستدركه جمع القرآن ثلاث مرات، إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع – الحديث. لأن ذلك الجمع غير الجمع الذي نحن فيه، ولذا قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح قال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفاً، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر. ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بإسناد حسن عن عبد خير قال سمعت علياً يقول: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبوبكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن)) – الحديث.
قال: فقال عمر: هذا والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد قال أبوبكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك،
ــ
فلا ينافي ذلك، لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة. وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور. وأما ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق ابن سيرين قال قال علي: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا أخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه فإسناده ضعيف لانقطاعه وعلى تقدير أن يكون محفوظاً، فمراده بجمعه حفظه في صدره قال، والذي وقع في بعض طرقه حتى جمعته بين اللوحين وهم من رواته. وقال الحافظ: ورواية عبد خير يعني التي تقدمت آنفاً أصح فهو المعتمد ووقع عند ابن أبي داود أيضاً بيان السبب في إشارة عمر بن الخطاب بذلك فأخرج من طريق الحسن إن عمر سأل عن آية من كتاب الله قيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال إنا لله وأمر بجمع القرآن فكان أول من جمعه في المصحف، وهذا منقطع فإن كان محفوظاً حمل على أن المراد بقوله، فكان أول من جمعه أي أشار بجمعه في خلافة أبي بكر فنسب الجمع إليه لذلك – انتهى. (هذا) أي جمع القرآن في مصحف واحد (خير) من تركه فإن قلت كيف ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو خير؟ قلت هذا خير في هذا الزمان وتركه كان خيراً في زمانه صلى الله عليه وسلم لعدم تمام النزول واحتمال النسخ كما تقدم الإشارة إليه (فلم يزل عمر يراجعني) في ذلك أي في جمع القرآن (حتى شرح الله صدري لذلك) الذي شرح له صدر عمر (ورأيت في ذلك الذي رأى عمر) اذهوا من النصح لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وإذن فيه عليه الصلاة والسلام بقوله في حديث أبي سعيد عند مسلم لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، وقد أعلم الله في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله {يتلوا صحفاً مطهرة} الآية [البينة: 2] وكان القرآن مكتوباً في الصحف لكن كانت مفرقة فجمعها أبوبكر في مكان واحد، فغاية ما فعله أبوبكر جمع ما كان مكتوباً قبل في مصحف، فلا يتوجه اعتراض الرافضة على الصديق. قال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن: كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع وإلاكتاف والعسب، فإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً وكان ذلك بمنزلة أوراق. وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشراً فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شي كذا في الإتقان (ج1ص58)(قال زيد) أي ابن ثابت (قال أبوبكر) أي لي بعد أن ذكر الأمر الذي هو توطئة للأمر بالجمع (إنك رجل شاب) أشار إلى نشاطه وقوته وضبطه وإتقانه وحدة نظره وبعده عن النسيان، وإنما قال شاب لأن عمره كان حينئذ ما دون خمس وعشرين سنة، وهي أيام الشاب (عاقل) تعني المراد أشار به إلى غزارة علمه وشدة تحقيقه (لا نتهمك) بتشديد التاء أي لا ندخل عليك التهمة لعدالتك في شي مما تنقله، يقال إتهمه بكذا كافتعله
وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قال: قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال! هو والله خير. فلم يزل أبوبكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف
ــ
أدخل عليه التهمة وظنه به، والتهمة بفتح الهاء وسكونها اسم من الاتهام وما يتهم عليه، وأشار به إلى عدم كذبه وإنه صدوق (وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك كونه شاباً فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلاً فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة. (فتتبع القرآن) أمر من باب التفعل (فأجمعه) بصيغة الأمر أي جمعاً كلياً في مصحف واحد، وقد كان القرآن كله كتب في العهد النبوي لكن غير مجموع في موضع واحد. (فو الله) أي قال زيد فو الله (لو كلفوني) أي أبوبكر وعمر ومن تبعهما أو بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو المراد به أبوبكر والجمع للتعظيم (نقل جبل من الجبال ما كان) نقله (أثقل علي مما أمرني به) قال الحافظ: كأنه جمع أولاً باعتبار أبي بكر ومن وافقه وأفرد باعتبار أنه الآمر وحده بذلك، ووقع في رواية لو كلفني بالإفراد أيضاً. وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشية من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه لكن الله تعالى يسر له ذلك. (قال) أي زيد (قلت) لهم (كيف تفعلون) وفي رواية كيف تفعلان (فلم يزل أبوبكر يراجعني) أي يذكر أبوبكر السبب وأنا أدفعه (فتتبعت القرآن أجمعه) حال من الفاعل أو المفعول أي حال كوني اجمعه وقت التتبع من الأشياء التي عندي وعند غيري (من العسب) بضم المهملتين ثم موحدة جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض وقيل: العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص والذي ينبت عليه الخوص هو السعف، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل، والكرانيف جمع كرناف، وهي أصول سعف النخل تبقى في الجذع بعد قطع السعف من النخلة، ووقع في رواية للبخاري من الرقاع والأكتاف، والرقاع بكسر الراء جمع رقعة، وقد يكون من جلد أو ورق أو كاغذ، والأكتاف جمع كتف وهو العظم العريض الذي يكون في أصل كتف الحيوان كانوا إذا جف كتبوا فيه، وفي رواية وقطع الأديم، وفي رواية ابن أبي داود والصحف (واللخاف) بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وأخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وهي الحجر الأبيض الرقيق. وقيل: الخزف. وقال
وصدور الرجال،
ــ
الخطابي: اللخاف صفائح الحجارة الرقاق، وفي رواية ابن أبي داود والأضلاع وعنده من وجه آخر، والأقتاب بقاف ومثناة وآخره موحدة جمع قتب بفتحتين، وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وعند ابن أبي داود أيضاً في المصاحف من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قام عمر فقال من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأت به وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب. قال وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شاهدان، وهذا يدل على أن زيداً كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوباً حتى يشهد به من تلقاه سماعاً مع كون زيد كان يحفظه وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط. وعند ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه إن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكم بشاهدين على شي من كتاب الله فاكتباه ورجاله ثقات مع انقطاعه. وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ، ولذلك قال في آخر سورة التوبة كما سيأتي لم أجدها مع غيره، لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة. قال السيوطي: أو المراد إنهما يشهدان على أن ذلك مما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم عام وفاته كما يستفاد مما أخرجه ابن اشته في المصاحف وابن أبي شيبة في فضائله من طريق ابن سيرين عن عبيدة السلماني. قال القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرأها الناس اليوم، وأخرج ابن اشته أيضاً عن ابن سيرين قال كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين فيرون أن تكون قراءتنا هذه العرضة الأخيرة. قال البغوي: يقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة. التي بين فيها ما نسخ وما بقي وكتبها للرسول صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وكان يقري الناس بها حتى مات ولذلك اعتمده أبوبكر وعمر وجمعه وولاه عثمان كتب المصاحف - انتهى. (وصدور الرجال) أي الحفاظ منهم "والواو" بمعنى مع أي اكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدور. قال القسطلاني: المراد بصدور الرجال الذين جمعوا القرآن وحفظوه في صدورهم كاملاً في حياته صلى الله عليه وسلم كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، فيكون ما في الرقاع والأكتاف وغيرها تقريراً على تقرير - انتهى. وقال في اللمعات: قوله "وصدور الرجال" هذا هو الأصل المعتمد ووجدانه من العسب واللخاف وغيرها تقرير على تقرير، وقوله "لم أجدها مع غيره" يعني مكتوبة لا محفوظة، وكذا ما ورد في بعض الروايات إنهم يحلفون من عنده آية من القرآن أو قام على ذلك شاهد إن المراد به التأكيد والتحقيق والمبالغة في الاحتياط
حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره.
ــ
وإلا فقد كان زيد وعدة من الأصحاب كأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وغيرهم حافظين له في حياته صلى الله عليه وسلم، أقول لا شبهة إن القرآن كان معلوماً بالقطع ومعروفاً عندهم ومتميزاً عما سواه وكان مجمعاً عليه ومقطوعاً به، لا أنه كان مشتبهاً وكان بعضه عند أحد ولا يعرفه آخر أو ينكر كونه قرآناً ويثبت بالحلف والشهادة حاشاً من ذلك وكانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرين سنة فكان عن تزوير ما ليس منه مأموناً، وإنما كان الخوف من ذهاب شي من صحفه – انتهى. (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاء (الأنصاري) النجاري. قال الحافظ: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري (عن عبيد عن زيد بن ثابت)"مع خزيمة بن ثابت" أخرجه أحمد والترمذي، ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة (عند البخاري)"مع خزيمة الأنصاري". وقد أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه "خزيمة بن ثابت الأنصاري". وكذا أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب وقول من قال عن إبراهيم بن سعد "مع أبي خزيمة" أصح، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة وإن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب، فالأول اختلف الرواة فيه على الزهري، فمن قائل "مع خزيمة" ومن قائل "مع أبي خزيمة" ومن شاك فيه يقول "خزيمة أو أبي خزيمة" والأرجح إن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبوخزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة. وأبو خزيمة هذا هو ابن أوس بن زيد بن أصرم بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار مشهور بكنيته لا يعرف اسمه شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه وهو أخو مسعود بن أوس. وقيل: هو الحارث ابن خزيمة وفيه نظر وأما خزيمة فهو ابن ثابت بن الفاكه الخطمي الأنصاري الأوسي يعرف بذي الشهادتين جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته كشهادة رجلين يكنى أبا عمارة شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكانت راية خطمة بيده يوم الفتح شهد صفين مع علي رضي الله عنه وقتل يومئذ سنة سبع وثلاثين، روى عنه ابناه عبد الله وعمارة وجابر بن عبد الله (لم أجدها مع أحد غيره) بالجر على البدلية أي لم أجدها مكتوبة مع غيره لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد، وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وعمر وأبو خزيمة وأبي بن كعب كما ورد ذلك في
{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حبوته، ثم عند حفصة بنت عمر)) . رواه البخاري.
2243-
(11) وعن أنس بن مالك، ((إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذر بيجان مع أهل العراق،
ــ
الروايات (لقد جاءكم) بدل من آخر (فكانت الصحف) أي التي جمع فيها زيد بن ثابت القرآن (عند أبي بكر حتى توفاه الله) في موطأ ابن وهب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال جمع أبوبكر القرآن في قراطيس، وكان سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل (ثم عند عمر حياته) أي ثم كانت عند عمر بن الخطاب مدة حياته (ثم عند حفصة بنت عمر) أي ثم بعد عمر كانت عند حفصة بنت عمر في خلافة عثمان إلى أن شرع في كتابة المصحف. وإنما كانت عند حفصة لأن عمر أوصى بذلك فاستمر ما كان عنده عندها إلى أن طلبه منها من له طلب ذلك (رواه البخاري) في تفسير سورة براءة وفضائل القرآن والأحكام والتوحيد. وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص10- 13) والترمذي في تفسير سورة التوبة، وعزاه في التنقيح للنسائي والطيالسي وابن سعد وابن أبي داود وابن المنذر وابن حبان والطبراني والبيهقي أيضاً.
2243-
قوله: (قدم على عثمان) أي المدينة في خلافته (وكان) أي عثمان (يغازي) أي يغزى (أهل الشام) بالنصب على المفعولية (في فتح أرمينية وآذر بيجان مع أهل العراق) أي كان عثمان يجهز أهل الشام وأهل العراق لغزو أرمينية وآذر بيجان وفتحهما. قال الحافظ: إن أرمينية فتحت في خلافة عثمان وكان أمير العسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق. وأرمينية بكسر الهمزة وسكون الراء وكسر الميم بعدها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة، وقد تثقل. وقال ابن السمعاني: بفتح الهمزة. قال أبوعبيد هي بلد معروف يضم كوراً كثيرة. وقيل: مدينة عظيمة بين بلاد الروم وخلاط. وقال ابن السمعاني: هي من جهة بلاد الروم يضرب بحسنها وطيب هوائها وكثرة مياهها وشجرها المثل. وقيل: إنها من بنا أرمين من ولد يافث بن نوح والنسبة إليها أرمني بفتح الهمزة. قال الرشاطي: افتتحت سنة أربع وعشرين في خلافة عثمان رضي الله عنه على يد سلمان بن ربيعة. وآذر بيجان قال الحافظ: بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء. وقيل: بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وبعد الألف نون، وحكى ابن مكي كسر أوله
فافرغ حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان! يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف،
ــ
وضبطها صاحب المطالع ونقله عن ابن الأعرابي بسكون الذال وفتح الراء بلد كبير من نواحي جبال العراق وهي الآن تبريز وقصباتها وهي تلي أرمينية من جهة غربيها واتفق غزوهما في سنة واحدة واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق والذي ذكرته الأشهر في ضبطها، وقد تمد الهمزة وقد تحذف، وقد تفتح الموحدة، وقد يزاد بعدها ألف مع مد الأولى حكاه الهجري وأنكره الجواليقي – انتهى. وقال الكرماني: الأشهر عند العجم آذر بيجان بالمد والألف بين الموحدة والتحتانية هو بلدة تبريز وقصباتها. وقال القسطلاني: هو اسم اجتمعت فيه خمس موانع من الصرف العجمة والتعريف والتأنيث والتركيب ولحاق الألف والنون وهو إقليم واسع، ومن مشهور مدنه تبريز وهو صقع جليل ومملكة عظيمة (فافزغ) من الافزاغ (حذيفة) بالنصب مفعوله (اختلافهم) بالرفع فاعله أي أوقعه في الفزع والخوف اختلاف أهل العراق وأهل الشام (في القراءة) أي قراءة القرآن وذكر الحافظ هنا روايات توضح ما كان فيهم من الاختلاف حيث قال وقع في رواية فيتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره. وفي رواية فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة، وفي رواية إن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال يا أمير المؤمنين! أدرك الناس قال وما ذاك؟ قال غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرؤن بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤن بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضاً. وفي رواية إنه سمع رجلاً يقول قراءة عبد الله بن مسعود وسمع آخر يقول قراءة أبي موسى الأشعري فغضب ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: هكذا كان من قبلكم اختلفوا والله لأركبن إلى أمير المؤمنين. وفي رواية إن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقرأ هذا وأتموا الحج والعمرة للبيت فغضب حذيفة وأحمرت عيناه. وفي رواية قال حذيفة يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لامرته أن يجعلها قراءة واحدة (أدرك هذه الأمة) أمر من الإدراك بمعنى التدارك، ومعناه بالفارسية درياب أمت راودستكيري كن (قبل أن يختلفوا في الكتاب) أي القرآن (اختلاف اليهود والنصارى) بالنصب أي كاختلافهم في التوراة والإنجيل إلى أن حرفوا وزادوا ونقصوا (فأرسل عثمان إلى حفصة) بنت عمر بن الخطاب (أن أرسلي إلينا بالصحف) التي كان أبوبكر أمر زيداً بجمعها وكانت بعد ما جمعه عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة
ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف،
ــ
بنت عمر كما تقدم (ننسخها) بالجزم ويرفع أي ننقلها في المصاحف ثم نردها) بضم الدال وفتحها (إليك) والمصاحف جمع مصحف. قيل: الفرق بين الصحف والمصحف إن الصحف هي الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر وكانت سوراً مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها أثر بعض فلما نسخت ورتب بعضها أثر بعض صارت مصحفاً. وقد جاء عن عثمان إنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي لا تقولوا في عثمان إلا خيراً فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأمنا. قال: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني إن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفراً قلنا: فما ترى قال نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف قلنا فنعم ما رأيت (فأمر) عثمان (زيد بن ثابت) هو الأنصاري والبقية قرشيون وتقدم ترجمة زيد ابن ثابت في (ص125) من الجزء الأول (وعبد الله بن الزبير) تقدم ترجمته في (ص662) من الجزء الأول (وسعيد بن العاص) سبق ترجمته في (ص343) من الجزء الثاني (وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام) بن المغيرة المخزومي المدني له رؤية وكان من كبار ثقات التابعين روى عن أبيه وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وحفصة وعائشة وأم سلمة وآخرين وروى عنه أولاده أبوبكر وعكرمة والمغيرة والشعبي وآخرون ذكره ابن سعد فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولم يحفظ عنه شيئاً. قال الواقدي: أحسبه كان ابن عشر سنين حين قبض النبي صلى الله عليه وسلم وجزم بذلك مصعب الزبيري. قالت عائشة: كان عبد الرحمن رجلاً سرياً. وقال ابن سعد: كان من أشراف قريش مات أبوه في طاعون عمواس، فخلف عمر بن الخطاب على امرأته فاطمة بنت الوليد بن المغيرة فكان عبد الرحمن في حجره مات سنة ثلاث وأربعين، ووقع في النسخ الحاضرة من المشكاة عبد الله بدل عبد الرحمن وهو غلط (فنسخوها) أي الصحف أي ما في الصحف التي أرسلتها حفصة إلى عثمان (في المصاحف) أي المتعددة في كتاب المصاحف لابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين. قال: جمع عثمان اثنى عشر رجلاً من قريش والأنصار منهم أبي بن كعب، وفي رواية مصعب بن سعد فقال: عثمان من اكتب الناس قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت. قال: فأي الناس أعرب، وفي رواية أفصح قالوا: سعيد بن العاص قال عثمان: فليمل سعيد. وليكتب زيد. ووقع عند أبي داود تسمية جماعة ممن كتب أو أملى، منهم مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس وكثير بن أفلح وأبي بن كعب وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس. قال الحافظ بعد ذكرهم: فهؤلاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثنى عشر، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شي من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم،
ــ
فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق فأضافوا إلى زيد من ذكر ثم استظهروا، بأبي بن كعب في الإملاء، وقد شق على ابن مسعود صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر هذا الحديث، إن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين: أعزل عن ننسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر يريد زيد بن ثابت. وأخرج ابن أبي داود من طريق خمير بن مالك سمعت ابن مسعود يقول: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان، ومن طريق أبي وائل عن ابن مسعود بضعاً وسبعين سورة، والعذر لعثمان في ذلك إنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر، وأيضاً فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفاً واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم لكونه كان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره. وقد أخرج الترمذي في آخر الحديث المذكور عن ابن شهاب قال بلغني إنه كره ذلك من مقالة عبد الله بن مسعود رجال من أفاضل الصحابة – انتهى كلام الحافظ. (وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة) يعني عبد الله وسعيد أو عبد الرحمن لأن الأول أسدى، والثاني أموي، والثالث مخزومي، وكلها من بطون قريش (في شي من القرآن) وفي رواية في عربية من عربية القرآن، وزاد الترمذي في روايته. قال ابن شهاب: فاختلفوا يومئذ في التابوت، والتابوه، فقال القرشييون التابوت وقال زيد التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال اكتبوه التابوت، فإنه نزل بلسان قريش (فإنما نزل بلسانهم) أي لغة قريش. قال القاضي أبوبكر بن الباقلاني: معنى قول عثمان نزل القرآن بلسان قريش أي معظمه وإنه لم تقم دلالة قاطعة إن جميعه بلسان قريش فإن ظاهر قوله تعالى: {إن جعلناه قرآناً عربياً} [الزخرف: 3] إنه نزل بجميع السنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة أو هما دون اليمن أو قريشاً دون غيرهم فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحداً ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول نزل بلسان بني هاشم مثلاً، لأنهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من سائر قريش. وقال أبوشامة: يحتمل أن يكون قوله: "نزل بلسان قريش" أي ابتداء نزوله ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم. كما تقدم تقريره في شرح حديث نزل القرآن على سبعة أحرف – انتهى. وتكملته أن يقال إنه نزل أولاً بلسان قريش أحد الحروف السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلاً وتيسيراً كما سبق بيانه، فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد رأى
ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق
بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
ــ
أن الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف فحمل الناس عليه لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الألوية المذكورة (ففعلوا) ذلك كما أمرهم. قال القاري: فإن قيل فلم أضاف عثمان هؤلاء النفر إلى زيد ولم يفعل ذلك أبوبكر قلت كان غرض الصديق جمع القرآن بجميع أحرفه ووجوهه التي نزل بها، وذلك على لغة قريش وغيرها، وكان غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القراءات فجمع أبي بكر غير جمع عثمان، فإن قيل فما قصد بإحضار تلك الصحف؟ وقد كان زيد ومن أضيف إليه حفظة قلت: الغرض بذلك سد باب المقال وأن يزعم زاعم إن في المصحف قرآناً لم يكتب ولئلا يرى إنسان فيما كتبوه شيئاً مما لم يقرأ به فينكره فالصحف شاهدة بصحة جميع ما كتبوه (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة) فكانت عندها حتى توفيت فأخذها مروان حين كان أميراً على المدينة من قبل معاوية فأمر بها فشققت. وقال إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، رواه ابن أبي داود وغيره، ووقع في رواية فشقها وحرقها، وفي أخرى فغسلها غسلاً. قال الحافظ: ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق، ويحتمل أن يكون خرقها بالخاء المعجمة فيكون مزقها ثم غسلها (وأرسل إلى كل أفق) بضمتين أي ناحية ويجمع على آفاق (بمصحف مما نسخوا) وفي رواية فأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف، واختلف في عدة المصاحف التي اكتبتها عثمان، فالمشهور إنها خمسة أرسل منها أربعة وأمسك واحداً. وقال الداني في المقنع: أكثر العلماء إنها أربعة أرسل واحداً للكوفة، وآخر للبصرة. وآخر للشام، وترك واحداً عنده. وقال أبوحاتم السجستاني: فيما رواه عنه ابن أبي داود كتبت سبعة مصاحف إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة وحبس بالمدينة واحداً (وأمر بما سواه) أي بما سوى المصحف الذي استكبته والمصاحف التي نقلت منه وسوى الصحف التي كانت عند حفصة وردها إليها، ولهذا استدرك مروان الأمر بعدها وأعدمها أيضاً خشية أن يقع لأحد منهم توهم أن فيها ما يخالف المصحف الذي استقر الأمر عليه كما تقدم (من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، ولأبي ذر عن الحموي والمستلي يحرق بفتح المهملة وتشديد الراء مبالغة في إذهابها وسداً لمادة الاختلاف. ووقع في رواية سويد ابن غفلة عن علي قال لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيراً، ومن طريق مصعب بن سعد قال أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد. قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار، وإن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام. وقد
قال ابن شهاب: فأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت: أنه سمع زيد بن ثابت قال: فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف،
ــ
أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس إنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة وكرهه إبراهيم. وقال ابن عطية: هذا أي التحريق كان في ذلك الوقت وأما الآن فالغسل أولى إذا دعت الحاجة إلى إزالته. قال العيني: وقال أصحابنا الحنفية إن المصحف إذا بلى بحيث لا ينتفع به يدفن في مكان طاهر بعيد عن وطء الناس. وقال القاري: يتعين الغسل بل ينبغي أن يشرب ماءه. قال شيخنا في شرح الترمذي بعد نقل كلام العيني: لو تأملت عرفت أن الاحتياط هو في الإحراق دون الدفن ولهذا اختار عثمان رضي الله عنه ذلك دون هذا والله تعالى أعلم. قلت: وإحراقه بقصد صيانته بالكلية لا امتهان فيه بوجه بل فيه دفع سائر صور الإهانة فهو الأولى بل المتعين، وأما القول بتعين الغسل ففساده ظاهر مع أنه لا يمكن في الأوراق المطبوعة كما لا يخفى. قال البغوي في شرح السنة: في هذا الحديث البيان الواضح إن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن المنزل من غير أن يكونوا زادوا أو نقصوا منه شيئاً باتفاق منهم من غير أن يقدموا شيئاً أو يؤخروه بل كتبوه في المصاحف على الترتيب المكتوب في اللوح المحفوظ بتوقيف جبريل عليه السلام على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية بموضعها وأين تكتب. وقال أبوعبد الرحمن السلمي: كان قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، وهي التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد شهد العرضة الأخيرة وكان يقري الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه وولاه عثمان كتبة المصاحف. قال السفاقسي: فكان جمع أبي بكر خوف ذهاب شي من القرآن بذهاب حملته إذ أنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد وجمع عثمان لما كثر الاختلاف في وجوه قراءته حين قرؤا بلغاتهم حتى أدى ذلك إلى تخطيئة بعضهم بعضاً، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مقتصراً من اللغات على لغة قريش إذ هي أرجحها كذا في شرح البخاري للقسطلاني (قال ابن شهاب) أي الزهري وهذه القصة موصولة بالإسناد الذي روى به الحديث الأول أي قصة جمع عثمان ونسخه القرآن في المصاحف. وقد رواها البخاري موصولة مفردة في الجهاد، وفي المغازي في باب غزوة أحد وفي تفسير سورة الأحزاب (فأخبرني) هذا لأبي ذر ولغيره وأخبرني بالواو (خارجة بن زيد بن ثابت) الأنصاري النجاري أبوزيد المدني من كبار ثقات التابعين أدرك زمن عثمان وسمع أباه وغيره من الصحابة وهو أحد فقهاء المدينة السبعة روى عنه الزهري وغيره مات سنة مائة وقيل: سنة تسع وتسعين (إنه سمع) أباه (زيد بن ثابت قال فقدت) بفتح القاف (آية من الأحزاب حين نسخنا) أي أنا والقرشيون الثلاثة (المصحف) أي المصاحف في زمن عثمان
قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فألحقناها في سورتها في المصحف.
ــ
لا في زمن أبي بكر لأن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر سورة براءة (قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها) قال الحافظ: هذا يدل على أن زيداً لم يكن يعتمد في جمع القرآن على علمه ولا يقتصر على حفظه لكن فيه إشكال لأن ظاهره إنه اكتفى مع ذلك بخزيمة وحده، والقرآن إنما يثبت بالتواتر والذي يظهر في الجواب إن الذي أشار إليه أن فقده فقد وجودها مكتوبة لا فقد وجودها محفوظة عنده وعند غيره. ويدل على هذا قوله في حديث جمع القرآن فأخذت اتتبعه من الرقاع والعسب - انتهى. (فالتمسناها) أي طلبناها (مع خزيمة) بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين (بن ثابت) بن الفاكه (الأنصاري) الخطمي الأوسي المعروف بذي الشهادتين من كبار الصحابة شهد بدراً مع علي يوم صفين، فلما قتل عمار بن ياسر جرد سيفه فقاتل حتى قتل، وتقدم شي من ترجمته في شرح حديث زيد بن ثابت، وهو غير أبي خزيمة بالكنية الذي وجد معه آخر التوبة كما بين هناك. {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الزخرف: 23] من الثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد إلى آخر الآية (فألحقناها في سورتها في المصحف) قال القاري: فيه إشكال وهو إنه بظاهره يدل على أن تلك الآية ما كانت موجودة في الصحف (أي الأولى التي كتبت في الجمع الأول جمع أبي بكر) وإنما كتبت في المصحف بعد ذلك (أي زمن في عثمان) وهذا مستبعد جداً، فالصواب أن يراد بالمصحف الصحف التي كتبت في الجمع الأول ويكون ضمير المتكلم بالنون تعظيماً – انتهى. قلت: قد وقع في نسخة القسطلاني من صحيح البخاري الصحف بدل المصحف. قال القسطلاني: قوله "في الصحف" بضم الصاد من غير ميم في الفرع، والذي في اليونينة بالميم انتهى. ويؤيد ذلك ما وقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب إن فقده آية الأحزاب إنما كان في خلافة أبي بكر، وقد جزم بذلك ابن كثير لكن هذا كله يخالف ما حققه الحافظ في الفتح، حيث قال تحت هذا الحديث: ظاهر حديث زيد بن ثابت هذا إنه فقد آية الأحزاب من الصحف التي كان نسخها في خلافة أبي بكر حتى وجدها مع خزيمة بن ثابت. ووقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع إن فقده إياها إنما كان في خلافة أبي بكر وهو وهم منه، والصحيح ما في الصحيح وإن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر براءة. وأما التي في الأحزاب ففقدها لما كتب المصحف في خلافة عثمان، وجزم ابن كثير بما وقع في رواية ابن مجمع وليس كذلك والله أعلم – انتهى. وتأول الحديث بعضهم بوجه يرتفع به الإشكال الذي أبداه القاري إذ قال إن زيد بن ثابت قد التزم في كتابته الأولى أي في جمعه القرآن وكتابته في الصحف في عهد أبي بكر أن يسمع الآية من جماعة من الحفاظ ويجدها مكتوبة عند اثنين، ولا يكتفي
رواه البخاري.
2244-
(12) وعن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ((ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني،
ــ
بمجرد الحفظ دون الكتابة ولا بمجرد وجدانها مكتوبة عند واحد إلا أنه لم يجد آخر سورة براءة مكتوباً إلا عند أبي خزيمة وإن كان قد سمعه من جماعة من الحفاظ وكان يحفظه بنفسه أيضاً، ووقع مثل هذا التفرد حين كتبت الصحف في المصاحف في عهد عثمان، وكان هذا التفرد في آية {من المؤمنين رجال} الآية وكان زيد قد التزم في كتابته الثانية أيضاً مثل ما التزمه في الأولى مع أمر زائد، وهو العرض والمقابلة مع الصحف التي كتبت أولاً أي في عهد أبي بكر فاتفق أنه لم يجد آية {من المؤمنين رجال} مكتوبة عند اثنين وإن كانت مكتوبة في المصحف ومحفوظة في صدور الرجال والله أعلم (رواه البخاري) في باب جمع القرآن من فضائل القرآن. وأخرجه أيضاً الترمذي في تفسير سورة التوبة والبيهقي (ج2ص41، 42) ونسبه في التنقيح للنسائي وابن سعد وابن أبي داود وابن الأنباري والبيهقي وابن حبان أيضاً، تنبيه قال ابن التين وغيره: الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان: إن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب من القرآن شي بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعاً في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتباً لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرؤه بلغاتهم على اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجاً بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعاً للحرج والمشقة في ابتداء الأمر فرأى إن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة، وكانت لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها. وقال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس إن جامع القرآن عثمان وليس كذلك إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينة وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن، فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق وقد قال علي لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان كذا في الإتقان.
2244-
قوله: (قلت لعثمان) بن عفان (ما حملكم) أي ما الباعث لكم (على أن عمدتم) بفتح الميم أي قصدتم، وهذا لفظ أحمد، وعند الترمذي وأبي داود ما حملكم إن عمدتم أي بدون علي (إلا الأنفال) أي سورة الأنفال (وهي من المثاني) المثاني من القرآن ما كان من سوره أقل من المئين، فإنهم قسموا القرآن إلى أربعة
وإلى براءة، وهي من المائين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتموها في السبع الطول؟ ما حملكم على ذلك؟
ــ
أقسام وجعلوا لكل قسم منه اسماً، فقالوا أول القرآن السبع الطول، ثم ذوات المئين أي ذوات مائة آية ونحوها، ثم المثاني ثم المفصل. والسبع الطول هي من البقرة إلى الأعراف ست سور، واختلف في السابعة فقيل الفاتحة عدت منها مع قصرها لكثرة معانيها. وقيل: مجموع الأنفال وبراءة فهما كالسورة الواحدة، ولذا لم يفصل بينهما ببسملة وسيأتي مزيد الكلام في ذلك، ويقال للقسم الثاني المئون أيضاً، وسميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها وهي إحدى عشرة سورة، والمثاني ما لم يبلغ مائة آية وهي عشرون سورة سميت بذلك لأنها ثنت المئين أي كانت بعدها فهي لها ثوان والمئون لها أوائل. قال في النهاية: المثاني السورة التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصل كان المئين جعلت مبادى والتي تليها مثاني – انتهى. ويسمى جميع القرآن مثاني لاقتران آية الرحمة بآية العذاب. وقيل لأن فيه بيان القصص الماضية فهو ثان لما تقدمه. وقيل: لتكرار القصص والمواعظ فيه. وقيل: لغير ذلك وتسمى الفاتحة مثاني أي لأنها تثني في الصلاة. وقيل لغير ذلك وقد بسطه في الإتقان (ج1ص53) فراجعه إن شئت وأما المفصل فسمي بذلك لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة. وقيل: لقلة المنسوخ منه، ولهذا يسمى بالمحكم أيضاً (وإلى براءة) هي سورة التوبة وهي أشهر أسماءها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة ذكرها السيوطي في الإتقان (ج1ص54)(وهي من المئين) لكونها مائة وثلاثين آية والمئين جمع المائة، وأصل المائة مائي كمعي والهاء عوض عن الياء، وإذا جمعت المائة قلت مئون ولو قلت مآت جاز (فقرنتم بينهما) أي جمعتموهما (ووضعتموها) كذا وقع في رواية أحمد والترمذي، ولأبي داود فجعلتموهما بضمير التثنية وفي بعض النسخ من سنن أبي داود فجعلتموها أي بضمير الوحدة، فضمير التثنية بإعتبار إنهما سورتان وضمير الوحدة بإعتبار أنهما سورة واحدة من حيث المعنى والقصة (في السبع الطول) بضم ففتح قال ابن الأثير: جمع الطولي مثل الكبر في الكبرى وهذا البناء يلزمه الألف واللام والإضافة وهذا عند الترمذي وأبي داود وفي رواية أحمد الطوال أي بكسر الطاء وبالألف بعد الواو (ما حملكم على ذلك) تكرير للتأكيد. قال القاري: توجيه السؤال إن الأنفال ليست من السبع الطول لقصرها عن المئين، لأنها سبع وسبعون آية وليست غيرها لعدم الفصل بينها وبين براءة. قلت: المراد بقول ابن عباس إن الأنفال سورة قصيرة من المثاني أي السورة التي لا تبلغ آيها مائة لأنها سبع وسبعون آية فجعلتموها داخلة السبع الطول، وبراءة سورة طويلة لأنها مائة وثلاثون آية فينبغي لها أن تكون من الطول فجعلتموها من المئين، ثم بعد تقدير هذا الجعل لم تكتبوا بينهما سطر {بسم الله الرحمن الرحيم} فكأنه سأل سؤالين وأجاب عثمان بما حاصله إنه وقع الاشتباه في أمر هاتين
قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شي دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. فإذا نزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا.
ــ
السورتين، فإنه يحتمل أن تكونا سورة واحدة، وعلى هذا فيصح وضعها في السبع الطول، وعدم كتابة البسملة بينهما ويحتمل أن تكونا سورتين فصح وضع الفاصلة بينهما بالبياض لمكان الاشتباه والاحتمال لعدم القطع بكونهما سورة واحدة فافهم (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان) أي الزمان الطويل ولا ينزل عليه شي وربما يأتي عليه الزمان (وهو) أي النبي صلى الله عليه وسلم والواو للحال (ينزل عليه) بصيغة المجهول وذكره الجزري بلفظ التأنيث فيكون معلوماً (السور) كذا للترمذي وعند أحمد من السور (ذوات العدد) صفة للسور على الروايتين أي السور للتعددة أو ذوات الآيات المتعددة (وكان إذا نزل عليه شي) في جامع الترمذي فكان إذا نزل عليه الشي، ولأحمد وكان إذا أنزل عليه الشي أي من القرآن (دعا بعض من كان يكتب) أي الوحي وهذا لفظ الترمذي، وعند أحمد يدعوا بعض من يكتب عنده، ولفظ أبي داود كان النبي صلى الله عليه وسلم مما تنزل عليه الآيات فيدعوا بعض من كان يكتب له (فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا فإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) هذا لفظ الترمذي، ووقع عند أحمد ذكر الأمر بالوضع ثلاث مرات. وهذا زيادة جواب تبرع به رضي الله عنه للدلالة على أن ترتيب الآيات توقيفي وعليه الإجماع والنصوص المترادفة. أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسبته، وعبارته ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم، وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين – انتهى. وأما النصوص الدالة على ذلك تفصيلاً أو إجمالاً فقد سردها السيوطي في الإتقان (ج1ص60، 61) وأما ترتيب السورة على ما هو عليه الآن فهل هو توقيفي أيضاً أو هو باجتهاد من الصحابة ففيه خلاف فذهب طائفة من العلماء إلى الثاني منهم مالك والقاضي أبوبكر في أحد قوليه وابن فارس وذهب جماعة إلى الأول منهم القاضي في أحد قوليه وأبو بكر بن الأنباري والبغوي وأبو جعفر النحاس وابن الحصار والكرماني والطيبي إن شئت الوقوف على أقوال هؤلاء وعلى النصوص التي احتجوا لما ذهبوا إليه فارجع إلى الإتقان (ج1ص62، 63) قال الزركشي في البرهان: والخلاف بين الفريقين لفظي، لأن القائل بالثاني يقول إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما الفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي
وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها،
ــ
صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر وسبقه إلى ذلك أبوجعفر بن الزبير. وقال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتباً سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان يعني الذي نحن في شرحه ومال السيوطي إلى قول البيهقي حيث قال في الإتقان (ج1ص63) بعد بسط الخلاف وسرد أقوال العلماء في ذلك والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال – انتهى. والقول الراجح المعول عليه عندنا هو ما ذهب إليه البغوي وابن الأنباري والكرماني وغيرهم إن ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبرئيل عن أمر ربه فجميع السور ترتيبها توقيفي، وكل ما يدل على خلاف هذا فهو مدفوع، وحديث ابن عباس الذي نحن في شرحه مدخول أيضاً كما ستعرف (وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت) كذا عند الترمذي، ولأحمد ما أنزل أي من الإنزال ولأبي داود من أول ما نزل عليه (بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً) كذا في جميع النسخ الحاضرة من المشكاة بزيادة نزولاً بعد لفظ القرآن، وهكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج2ص232) والسيوطي في الإتقان (ج1ص60) والشوكاني في فتح القدير (ج2ص316) وكذا وقع في رواية البيهقي (ج2ص42) ولم يقع هذا اللفظ عند أحمد والترمذي ولا ذكره الحافظ في الفتح، ولفظ أبي داود وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. قال القاري: أي فهي مدنية أيضاً وبينهما النسبة الترتيبية بالأولية والآخرية، فهذا أحد وجوه الجمع بينهما، ويؤيده ما وقع في رواية بعد ذلك فظننت أنها منها، وكأن هذا مستند من قال إنهما سورة واحدة وهو ما أخرجه أبوالشيخ عن دوق وأبويعلى عن مجاهد وابن أبي حاتم عن سفيان وابن لهيعة كانوا يقولون: إن براءة من الأنفال ولهذا لم تكتب البسملة بينهما مع اشتباه طرقها، ورد بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم لكل منها باسم مستقل قال القشيري: الصحيح إن التسمية لم تكن فيها لأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها فيها، وعن ابن عباس لم تكتب البسملة في براءة لأنها أمان وبراءة نزلت بالسيف وعن مالك إن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت إنها كانت تعدل البقرة لطولها. وقيل: إنها ثابتة أولها في مصحف ابن مسعود ولا يعول على ذلك - انتهى. قلت: قوله "فظننت أنها منها" ثابت في هذه الرواية عند الثلاثة الذين عزى إليهم – الحديث. وكذا عند الحاكم والبيهقي، والظاهر إن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث ذكر هذا الحديث في جامع الأصول بدون تلك الجملة (وكانت قصتها) أي الأنفال (شبيهة بقصتها)
فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم اكتب السطر {بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتها في السبع الطول)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود.
ــ
أي براءة ويجوز العكس قاله القاري. قلت: في رواية ابن حبان فوجدت قصتها شبيهاً بقصة الأنفال وهذا وجه آخر معنوي، ولعل وجه كون قصتها شبيهة بقصتها إن في الأنفال ذكر العهود، وفي البراءة نبذها فضمت إليها (ولم يبين لنا أنها منها) أي لم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن التوبة من الأنفال أو ليست منها (فمن أجل ذلك) أي لما ذكر من عدم تبيينه ووجود ما ظهر لنا من المناسبة بينهما (قرنت بينهما ولم اكتب) أي بينهما وسقط هذا اللفظ في جميع النسخ من المشكاة وهو ثابت عند الثلاثة، والمصنف تبع في ذلك الجزري (سطر بسم الله الرحمن الرحيم) أي لعدم العلم بأنها سورة مستقلة لأن البسملة كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم للفصل ولم تنزل ولم اكتب (ووضعتها في السبع الطول) أي ولكن فصلت بينهما بسطر لا كتابة فيه للاشتباه في أمرهما. قال الطيبي: دل هذا الكلام على أنهما نزلتا منزلة سورة واحدة وكمل السبع الطول بها. قلت: حاصل الكلام هنا إن ترك البسملة لعدم الجزم بكونهما سورتين، وجعل الفرجة والفصل بينهما بالبياض لعدم الجزم بكونهما سورة واحدة، وأما الوضع في الطول فلأنهما إن كانتا سورتين فلا بأس في وضعهما هناك. فقد تخلل بعض المئين في المثاني كسورة الرعد وسورة إبراهيم، وإن كانتا سورة واحدة فهي في محلها بخلاف ما لو وضعتها في المثاني، فإن وضعها ثمة لم يكن مناسباً فلذلك أخرتها عن الست الطوال وقدمتها على المئين لأجل الاشتباه. ثم قيل: السبع الطول هي البقرة وبراءة وما بينهما وهو المشهور، ولكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس إنها البقرة والأعراف وما بينهما. قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها وهو يحتمل أن تكون الفاتحة فإنها من السبع المثاني أو هي السبع المثاني ونزلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بإنفرادها أو بانضمام ما بعدها إليها، وصح عن ابن جبير إنها يونس، وجاء مثله عن ابن عباس ولعل وجهه إن الأنفال وما بعدها مختلف في كونها من المثاني، وإن كلا منهما سورة أو هما سورتان كذا في المرقاة. قال الحافظ: هذا الحديث يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفاً، ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهاداً منه رضي الله تعالى عنه. يعني فيكون دليلا على أن ترتيب بعض السور كان من اجتهاد الصحابة، لا بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحديث ليس مما يصلح أن يؤخذ به في ترتيب القرآن الذي يطلب فيه التواتر (رواه أحمد)(ج1ص57)(والترمذي) في تفسير سورة التوبة (وأبوداود) في باب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً الحاكم (ج2ص221- 330) والبيهقي (ج2ص42) وابن حبان (ج1ص186، 187) وابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص31، 32) كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن
عباس ونسبه السيوطي أيضاً في الدر المنثور (ج3ص70) لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري وأبي عبيد وغيرهم. والحديث قد حسنه الترمذي. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وسكت عليه أبوداود. وقال المنذري في مختصر السنن: أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث. ويقال هو يزيد بن هرمز وهذا الذي حكاه الترمذي هو الذي قاله عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وذكر غيرهما إنهما اثنان، وإن الفارسي غير ابن هرمز، وإن ابن هرمز ثقة، والفارسي لا بأس به - انتهى كلام المنذري. قلت: يزيد بن هرمز من رجال مسلم متفق على توثيقه، ويزيد الفارسي من رجال السنن، قال أبوحاتم عنه: لا بأس به كما في التهذيب (ج11ص374) وقال في التقريب: إنه مقبول. ونقل الحافظ حديث ابن عباس هذا في الفتح (ج20ص437) في معرض الاحتجاج به على كون ترتيب الآيات في كل سورة توقيفاً وكون ترتيب بعض سور القرآن من اجتهاد الصحابة، وهذا يدل على أن الحديث حسن أو صحيح عنده، وعليه يدل صنيع البيهقي في المدخل والسيوطي في الإتقان كما سبق، وذكره الحافظ ابن كثير في التفسير وفي فضائل القرآن ولم يتكلم فيه، وكذا نقله الشوكاني في تفسيره من غير كلام فيه، ولم أجد أحداً من العلماء المتقدمين والمتأخرين إنه ضعفه أو أشار إلى ضعفه غير أن البخاري ذكر يزيد الفارسي، هذا في كتاب الضعفاء الصغير (ص37) وضعف الحديث جداً العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر وبسط الكلام في ذلك، ولنورد كلامه فإنه مهم جداً. والمسألة تحتاج إلى عناية كبيرة فإن هذا الحديث مما يتطرق به المستشرقون وعبيدهم المتفرنجون إلى الطعن والتشكيك في ثبوت القرآن وترتيبه، فإن التواتر المعلوم من الدين بالضرورة إن القرآن بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته سوراً معروفة مفصلة مبينة مواضعها، يفصل بين كل سورتين منها بالبسملة إلا في أول براءة، لأن جبريل لم ينزل بها فيها ليس لعثمان رضي الله عنه ولا لغيره أن يرتب فيه شيئاً، ولا أن يبين موضع سورة أو يثبت البسملة ويتركها برأيه. قال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في شرح المسند (ج1ص329، 330) تحت هذا الحديث: "في إسناده نظر كثير بل هو عندي ضعيف جداً بل هو حديث لا أصل له يدور إسناده في كل رواياته على يزيد الفارسي الذي رواه عن ابن عباس تفرد به عنه عوف بن أبي جميلة وهو ثقة، قال: ويزيد الفارسي هذا اختلف فيه أهو يزيد بن هرمز أم غيره؟ قال البخاري في التاريخ الكبير: قال لي علي قال عبد الرحمن: يزيد الفارسي هو ابن هرمز، قال: فذكرته ليحيي فلم يعرفه قال وكان يكون مع الأمراء" وفي تهذيب التهذيب" قال ابن أبي حاتم: اختلفوا هل هو يعني ابن هرمز يزيد الفارسي أو غيره، فقال ابن مهدي وأحمد: هو ابن هرمز وأنكر يحيى بن سعيد القطان أن يكونا واحداً، وسمعت أبي يقول يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي هو سواه" وذكر البخاري أيضاً في كتاب الضعفاء الصغير (ص37) وقال نحواً من قوله في التاريخ الكبير: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد
برواية هذا الحديث يكاد يكون مجهولاً حتى شبه على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي قراءة وسماعاً وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه وحاشاه من ذلك فلا علينا إذا قلنا إنه "حديث لا أصل له" تطبيقاً للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث. قال السيوطي في تدريب الراوي (ص99) في الكلام على إمارات الحديث الموضوع أن "يكون منافياً لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي". وقال الحافظ في شرح النخبة": ومنها ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضاً لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي". وقال الخطيب في كتاب الكفاية: (ص432) "ولا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل وحكم القرآن الثابت المحكم والسنة المعلومة والفعل الجاري مجرى السنة وكل دليل مقطوع به" وكثيراً يضعف أئمة الحديث راوياً لإنفراده برواية حديث منكر يخالف المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف المشهور من الروايات فأولى أن نضعف يزيد الفارسي هذا بروايته هذا الحديث منفرداً به إلى أن البخاري ذكره في الضعفاء، وينقل عن يحيى القطان أنه كان يكون مع الأمراء ثم بعد كتابة ما تقدم وجدت الحافظ ابن كثير نقل هذا الحديث في التفسير، وفي كتاب فضائل القرآن المطبوع آخر التفسير، ووجدت أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا رحمة الله عليه علق عليه في الموضعين. فقال في الموضع الأول بعد الكلام على يزيد الفارسي": فلا يصح أن يكون ما انفرد به معتبراً في ترتيب القرآن الذي يطلب فيه التواتر". وقال في الموضع الثاني: "فمثل هذا الرجل لا يصح أن تكون روايته التي انفرد بها مما يؤخذ به في ترتيب القرآن المتواتر" وهذا يكاد يوافق ما ذهبنا إليه فلا عبرة بعد هذا كله في هذا الموضع بتحسين الترمذي، ولا بتصحيح الحاكم، ولا بموافقة الذهبي، وإنما العبرة للحجة والدليل والحمد لله على التوفيق – انتهى كلامه باختصار يسير.