الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن خلال هذه الأجوبة والأدلة المتقدمة يكون الأرجح أن هذه المقالة كانت في غزوة بني المصطلق.
ويضاف إلى هذا: اتفاق أهل المغازي والسير أن عبد الله بن أبي كان ممن تخلف عن غزوة تبوك ولم يحضرها، ولولا لكان القول بالتعدد أولى من الترجيح.
المبحث الثالث: القضاء على فتنة المنافقين
قال البخاري: حدثنا محمد1 أخبرنا مخلد2 بن يزيد أخبرنا ابن جريج3، قال أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثاب4 معه ناس من المهاجرين، حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب5، فكسع أنصاريا، فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما بال دعوى الجاهلية"، ثم قال:"ما شأنهم؟ "
1 محمد هنا: المراد به ابن سلام، كما جزم بذلك أبو نعيم في المستخرج، وأبو علي الجياني، انظر فتح الباري 6/ 547، وهدي السارب مقدمة فتح الباري ص 239، وهو محمد بن سلام بن الفرج، السلمي، مولاهم، البيكندي، بكسر الموحدة وسكون التحتانية وفتح الكاف وسكون النون، أبو جعفر، مختلف في لام أبيه والراجح التخفيف، ثقة ثبت من العاشرة (ت227)، خ: التقريب 2/ 168.
2 مخلد بن يزيد القرشي، الحراني، صدوق له أوهام، من كبار التاسعة (ت193) ، خ م د س ق. المصدر السابق 2/ 235.
3 عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل، من السادسة (ت150) أو بعدها، ع. المصدر السابق1/520.
4 ثاب معه: أي اجتمع.
5 رجل لعاب: أي بطال، وقيل كان يلعب بالحراب كما تصنع الحبشة، وهو جهجاه ابن قيس الغفاري، فتح الباري 6/ 546 وسماه ابن إسحاق: جهجاه بن مسعود. وكان جهجاه من المتألبين على عثمان بن عفان وأنه قام إلى عثمان وهو على المنبر فأخذ عصاه وكسرها فما حال عليه الحول حتى أرسل الله في يده الأكلة فمات منها، هكذا نقل ابن حجر في الإصابة 1/ 253.
فأخبر بكسعة المهاجري، الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوها فإنها خبيثة"، وقال عبد الله ابن أبي ابن سلول:"أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل"، فقال عمر:"ألا نقتل يا رسول هذا الخبيث" لعبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه"1.
الحديث فيه مخلد بن يزيد، وصف بأن له أوهاما، كما في التقريب2.
وفي هدي الساري قال ابن حجر: "وثقه ابن معين وغيره"، وقال أحمد:"لا بأس به"، وكان يهم، وكذا قال الساجي:"وأنكر له أبو داود حديثا وصله".
ثم عقب ابن حجر بقوله: "قلت: أخرج له البخاري أحاديث قليلة من روايته عن ابن جريج توبع عليها". وروى له مسلم والباقون سوى الترمذي، انتهى كلام ابن حجر3.
قلت: قد ورد الحديث عن جابر بعدة طرق صحاح، وليس فيها مخلد بن يزيد. فزال ما يخشى من أوهامه، وما دام أن الحديث في البخاري فإنه صحيح لاتفاق الأمة على صحة ما فيه، ولعل ما قيل عن مخلد من أوهام لم تكن تضره حين أخرج له البخاري لما نعلم من شدة تحريه ودقة شروطه فيمن يخرج عنهم.
وعند مسلم وأحمد من طريق أبي الزبير4 عن جابر "فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا دعوى أهل الجاهلية"، فقالوا: لا، يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، قال: "فلا بأس ولينصر الرجل
1 البخاري 4/ 146-147، كتاب المناقب، باب ما ينهى من دعوى الجاهلية.
2 / 235.
3 هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص 443.
4 أبو الزبير هو: محمد بن مسلم بن تدرس بفتح المثناة وسكون الدال المهملة، وضم الراء الأسدي، مولاهم، أبو الزبير المكي، صدوق إلا أنه يدلس، من الرابعة، (ت126) : ع. التقريب 2/ 207. وقد صرح بالتحديث هنا عن جابر كما هو عند أحمد 3/ 323- 324.
أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره"1.
قال النووي: "أما تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية، فهو كراهة منه لذلك؛ فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بلأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما وألزمه مقتضى عدوانه، كما تقرر من قواعد الإسلام.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذه القصة "لا بأس" فمعناه لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خفته، فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم يوجب فتنة وفسادا، وليس هو عائدا إلى رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية2.
قال ابن حجر: "يستفاد من قوله "لا بأس" جواز القول المذكور بالقصد المذكور والتفصيل المبين، لا على ما كانوا عليه في الجاهلية من نصرة من يكون من القبيلة مطلقا"3.
قلت: كانت هذه الكلمة شعار أهل الجاهلية، وهو نصرة الأخ مطلقا ولو كان يعلم أنه على باطل، فما دام من قبيلته أو من أحلافه فتجب نصرته، فجاء الإسلام فهذب هذه الكلمة وجعل معناها غير ما تعارف عليه أهل الجاهلية، فجعل كف الظالم عن ظلمه نصرا له، ونصره حقيقة إن كان مظلوما حتى يتوصل إلى حقه، وقد تضمن الحديث المتقدم، آنفا بيان هذا المبدأ.
وقد ورد عند البخاري ما يزيد هذا المعنى وضوحاً.
وهذا نصه: حدثنا محمد بن عبد الرحيم4 ثنا سعيد5 بن سليمان حدثنا
1 مسلم 8/ 19، وأحمد 3/ 323 –324.
2 شرح النووي على مسلم 5/ 444.
3 فتح الباري 8/ 649.
4 محمد بن عبد الرحيم، ابن أبي زهير البغدادي، أبو يحيى البزاز، المعروف بصاعقة، ثقة حافظ، من الحادية عشرة (ت255) ، خ د ت س. التقريب 2/ 185.
5 سعيد بن سليمان الضبي أبو عثمان الواسطي، نزيل بغداد، البزاز، لقبه سعدويه، ثقة حافظ، من كبار العاشرة، (ت225) : ع، المصدر السابق 1/ 298.