الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة"1.
وبهذا اتضح عذر علي رضي الله عنه وأنه على خلاف ما وصفه به الوليد وهشام بل وعلى خلاف ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها فإنها لم تقل كان علي ممن تولى كبر الإفك وإنما قالت: كان مسيئا في شأني، حيث إنه لم يجزم ببراءتها كما جزم أسامة بن زيد بذلك2.
1 فتح الباري 8/ 468.
2 قال ابن حجر في الفتح 7/ 437: "وكأن بعض من لا خير فيه من الناصبة تقرب إلى بني أمية بهذه الكذبة فحرفوا قول عائشة إلى غير وجهه لعلمهم بانحرافهم عن علي فظنوا صحتها، حتى بين الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك".
المبحث الثالث: موقف بريرة
ورد ذكرها في حديث الإفك عندما استشار الرسول صلى الله عليه وسلم عليا في شأن عائشة رضي الله عنها، فقال:"لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك"، قالت عائشة:"فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة"، فقال:"أي بريرة1 هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ " الحديث2
…
ورغم هذا كله فقد استشكل العلماء وجودها في قصة الإفك وذلك لأن قصة الإفك متقدمة، وكان شراء عائشة لبريرة ومكاتبتها متأخرين وقد أجاب العلماء عن هذا الإشكال بما يأتي:
أ- قال ابن القيم: "وقد استشكل وجود بريرة في هذا الحديث وذلك أن بريرة إنما كاتبت وعتقت بعد هذا بمدة طويلة، وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في المدينة، والعباس إنما قدم المدينة بعد
1 بريرة: بفتح الموحدة، وكسر الراء الأولى وسكون التحتانية.
2 انظر الحديث في صحيح مسلم 8/ 115 كتاب التوبة وصحيح البخاري 3/ 151، كتاب الشهادات.
الفتح، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شفع إلى بريرة أن تراجع زوجها فأبت أن تراجعه، يا عباس ألا تعجب من بغض بريرة مغيثا وحبه لها، ففي قصة الإفك لم تكن بريرة عند عائشة، وهذا الذي ذكروه إن كان لازما فيكون الوهم من تسمية الجارية بريرة، ولم يقل علي سل بريرة، وإنما قال: فسل الجارية تصدقك، فظن بعض الرواة أنها بريرة فسماها بذلك، وإن لم يلزم بأن يكون طلب مغيث لها استمر إلى ما بعد الفتح ولم ييأس منها زال الإشكال"1.
قلت: ما أشار إليه من قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس هو ما رواه البخاري عن ابن عباس: "أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو راجعته، قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: "إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه"2.
ب- وقال ابن حجر في أثناء شرحه لحديث الإفك تحت قوله: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة - قد قيل: إن تسميتها هنا وهم، لأن قصتها كانت بعد فتح مكة"، ثم أشار إلى حديث ابن عباس الآنف الذكر، ثم عقب بقوله:"ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدم عائشة وهي في رق مواليها، وأما قصتها معها في مكاتبتها وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدة، أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصة الإفك، وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير بعد عتقها".
ثم قال ابن حجر: "وجزم البدر الزركشي فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية ببريرة مدرج من بعض الرواة، وأنها جارية أخرى
…
" ثم قال: "وأخذ هذا من ابن القيم3 الحنبلي4".
1 زاد المعاد 2/ 129.
2 صحيح البخاري 7/ 42 كتاب الطلاق باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.
3 انظر قول ابن القيم ص 266.
4 فتح الباري 8/ 469.
قلت: كلام البدر الزركشي المشار إليه هذا نصه:
"فإنه بعد أن ذكر نزول القرآن ببراءة عائشة مما رميت به وجلد الذين قذفوها قال عقب ذلك: تنبيه جليل على وهمين وقعا في حديث الإفك في صحيح البخاري أحدهما1 قول علي رضي الله عنه "وسل الجارية تصدقك" قال: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة
…
".
وبريرة إنما اشترتها عائشة وأعتقتها بعد ذلك.
ويدل عليه أنها لما أعتقت واختارت نفسها، جعل زوجها يطوف وراءها في سكك المدينة ودموعه تتحادر على لحيته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "لو راجعته" فقلت: أتأمرني؟ فقال: "إنما أنا شافع". فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ألا تعجب من حب مغيث لبريرة وبغضها له" والعباس إنما قدم المدينة بعد الفتح.
والمخلص من هذا الإشكال: أن تفسير الجارية ببريرة مدرج في الحديث من بعض الرواة، ظنا منه أنها هي. وهذا كثيرا ما يقع في الحديث من تفسير بعض الرواة، فيظن أنه من الحديث، وهو نوع غامض لا ينتبه له إلا الحذاق.
ومن نظائره ما وقع في الترمذي وغيره2 من حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال: "خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش"، فذكر الراهب وقال في آخرها: "
1 وثانيهما هو وجود سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق، ومراجعته لسعد بن عبادة في شأن أهل الإفك.
2 انظر سنن الترمذي 5/ 250 كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فرده أبو طالب وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك1 والزبيب"2.
فهذا من الأوهام الظاهرة، لأن بلالا إنما اشتراه أبو بكر بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن أسلم بلال، وعذبه قومه، ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبي طالب كان له من العمر اثنتا عشرة سنة وشهران وأيام، ولعل بلالا لم يكن ولد. ولما خرج في المرة الثانية، كان له قريب من خمس وعشرين سنة ولم يكن مع عمه أبي طالب، إنما كان مع ميسرة"3.ا?
قلت: أورد ابن حجر استشكال4 البدر الزركشي، ثم عقب بقوله: وأجاب غيره بجواز أنها كانت تخدم عائشة بالأجرة، وهي في رق مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة. ثم قال ابن حجر: هذا أولى من دعوى الإدراج وتغليط الحفاظ5.
وبين هذا الغير في موضع آخر6 بأنه تقي الدين السبكي7.
والخلاصة: أن البدر الزركشي ذكر ثلاثة أوهام تتعلق بحديث الإفك، وهم في ذكر بريرة، ووهم في ذكر سعد بن معاذ في هذه الغزوة ومحاورته مع سعد بن عبادة، ووهم في سماع مسروق من أم رومان، أم عائشة التي هي إحدى من روى قصة الإفك، ثم كر على الوهمين الأخيرين بما يدفعهما.
1 الكعك: خبز معروف فارسي، معرب. القاموس المحيط للفيروز آبادي 3/ 317، ومختار الصحاح لأبي بكر الرازي، ص 572
2 في حديث الترمذي: الزيت. انظر سنن الترمذي 5/ 250 كتاب المناقب باب ما جاء في بدء نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
3 الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، ص 47- 50.
4 تقدم ص 267.
5 فتح الباري 8/ 469 و9/409.
6 فتح الباري 8/ 469 و9/ 409.
7 هو علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، تقي الدين السبكي، الخزرجي الأنصاري، أبو الحسن الدمشقي الشافعي، صاحب كتاب (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) في الرد على ابن تيمية، وكمل على شرح المهذب للنووي في خمس مجلدات وهو والد تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب صاحب كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) ، (ت756) ذيل تذكرة الحفاظ لأبي المحاسن محمد بن علي تلميذ الذهبي، ص 39- 40.
أما الوهم المتعلق ببريرة، فلم يدفعه بشيء، بل نظر له بوهم لا شك فيه، وهو ما وقع في حديث الترمذي في قصة ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام، وما حصل له مع الراهب، وما كان من أمر عمه له بالرجوع إلى مكة، وما كان من قصة أبي بكر وبلال، وتزويد الراهب له، بالكعك والزيت، فهذا الصنيع منه يدل على أنه جازم بأن ذكر بريرة في حديث الإفك، مدرج من بعض الرواة، وأن الجارية التي أرادها علي بن أبي طالب غير بريرة، مولاة عائشة رضي الله عنها. فظن هذا الراوي أنها هي، غير أنه في ختام كلامه على هذه الأوهام الثلاثة، قال:"فهذه ثلاثة أوهام ادعيت في حديث الإفك، والثلاثة ثابتة في الصحيح، فلا ينبغي الإقدام على التوهيم إلا بأمر بين، وقد تقدم ما يدفع الكل".
لكن المتتبع لكلامه يجد أنه تقدم له ما يدفع وهمين فقط. وهما: الوهم في ذكر سعد بن معاذ، والوهم في سماع مسروق من أم رومان.
أما الوهم المدعى في بريرة، فلم يسبق له ما يدفعه كما يفهم من كلامه وتعميمه، بل الذي سبق له يدل على جزمه بهذا الوهم كما نظر لذلك بالوهم المذكور في قصة ذهاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وقد مر قريبا1.
ولعل هذا الصنيع منه هو الذي حمل ابن حجر، فقال عنه: إنه جازم بهذا الوهم كما سبق ذكره2.
ولكنني أستشعر من صنيعه أنه متردد في الجزم بهذا الوهم أيضا، لأن قوله:"هو ثلاثة أوهام ادعيت في حديث الإفك، والثلاثة ثابتة في الصحيح فلا ينبغي الإقدام على التوهيم إلا بأمر بين" دليل على ما أقول.
هذا على فرض أن هناك تعارضا بين قصة مغيث وزوجته، وبين ذكر بريرة في قصة الإفك، ولكن يظهر للمتأمل أن لا وجود للتعارض أصلا، لأن
1 انظر: ص 268، وما بعدها.
2 انظر: ص 267.