الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: مواقف بعض الصحابة من حادثة الإفك
المبحث الأول: صفوان المعطل
…
المبحث الأول: صفوان بن المعطل
أ- نسبه:
هو صفوان بن المعطل1 بن رحضة2 بن المؤمل بن خزاعي بن محاربن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي الذاكوني3، يكنى أبا عمرو4.
1 المعطل: بضم الميم وفتح العين المهملة، وبالطاء المهملة، المفتوحة الثقيلة.
2 وعند ابن حزم رخصة بدل رحضة) ثم ساق بقية نسبه كسياق ابن الكلبي. قال المعلق: والمعروف في أسمائهم (رحضة) .
قلت: الظاهر أن هذه الكلمة صحفت من رحضة إلى (رخصة) بأن تكون النقطة تقدمت قليلا فصارت رخصة.
3 في اللباب لابن الأثير 1/ 531، الذكواني: نسبة إلى ذكوان وهم بطن كبير من سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر.
وهو ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم، ينسب إليه خلق كثير منهم: صفوان بن المعطل بن رحضة بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي الذكواني.
4 أسد الغابة 3/ 30 نقلا عن ابن الكلبي.
وساق نسبه إلى خليفة إلى مرة، وأسقط (المؤمل)1.
ب- أول مشاهده:
في أسد الغابة نقلا عن ابن الكلبي: أنه أسلم قبل المريسيع وشهدها2.
وقال الواقدي: "شهد صفوان الخندق فما بعدها"3.
قلت: الراجح ما ذهب إليه ابن الكلبي، ويسانده أن في حديث الإفك، "قالت عائشة وكان يراني قبل أن يضرب علي الحجاب".
فهذا يدل على تقدم إسلامه، لأن نزول الحجاب كان في السنة الرابعة على المشهور4.
وأما شهوده غزوة المريسيع فهذا مما لا ينبغي النزاع فيه لأن ما حصل له مع عائشة في هذه الغزوة أمر مصرح به في أصح الصحيح.
وأما الواقدي فقد تناقض في هذا وذلك أنه يرى تقدم غزوة المريسيع على غزوة الخندق.
وقد ذكر حديث الإفك في غزوة المريسيع وفيه قصة صفوان مع عائشة، فقوله هنا بأن صفوان شهد الخندق فما بعدها، أكبر دليل على تناقضه5.
ج- وفاته:
اختلف العلماء في سنة وفاته والمشهور منها ما يأتي:
قال ابن إسحاق: "قتل في غزوة أرمينية شهيدا سنة تسع عشرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وكان أمير الجيش يومئذ عثمان بن أبي
1 طبقات خليفة ص 51.
2أسد الغابة3/30وفتح الباري8/461،وتعجيل المنفعة لابن حجر ص:126- 128.
3 المصادر السابقة.
4 انظر ص 94 مما تقدم.
5 انظر مغازي الواقدي 1/ 404 و2/ 440.
العاص الثقفي"، وتبعه على هذا أبو أحمد1 في الكنى، وابن السكن وابن الأثير، وابن كثير2.
وقال خليفة بن خياط وابن سعد: "مات في أواخر خلافة معاوية سنة تسع وخمسين"3، وتبعهما السهيلي4.
وعند الواقدي والطبري، مات سنة ستين بشمشاط56.
قلت: الراجح في هذا ما ذهب إليه ابن إسحاق وموافقوه، وذلك لأن في حديث الإفك، التصريح من عائشة رضي الله عنها "بأنه قتل شهيدا في سبيل الله"7.
فهذا يدل على أن وفاته كانت قبل وفاة عائشة رضي الله عنها. وعائشة إنما توفيت في ستة سبع وخمسين، والأكثر على أنها توفيت سنة ثمان وخمسين، وعلى كل حال فالذي ينبغي الجزم به أن وفاته قبل وفاة عائشة لهذا الحديث الصحيح.
1 أبو أحمد هو الحاكم الكبير محدث خراسان الإمام الحافظ الجهبذ، محمد بمن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري، الكرابيسي، صاحب التصانيف، ومؤلف كتاب الكنى، سمع ابن خزيمة والباغندي وغيرهما، وعنه الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك وصاعد بن محمد القاضي وغيرهما. (ت378) تذكرة الحفاظ للذهبي3/976-978.
2 انظر: الاستيعاب لابن عبد البر2/187 وأسد الغابة لابن الأثير3/30 والكامل له 2/563، والبداية والنهاية7/ 96-97، والإصابة2/190،وفتح الباري8/461، وتعجيل المنفعة، ص 127 ثلاثتها لابن حجر.
3 تاريخ خليفة بن خياط، ص 226 وتعجيل المنفعة، ص 128.
4 الروض الأنف، 6/ 437- 438.
5 شمشاط: بكسر أوله وسكون ثانية وشين مثل الأولى، وآخره طاء مهملة، مدينة بالروم على شاطئ الفرات من أعمال خرتبرت، وهي غير سمساط: بسينين مهملتين، وكلتاهما على الفرات، إلا أن سمساط بالإهمال من أعمال الشام وشمشاط بالإعجام في طرف أرمينية. معجم البلدان لياقوت 3/ 362 و2/ 355.
6 تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 266 والإصابة لابن حجر 2/ 191.
7 البخاري 6/ 89، كتاب التفسير باب {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} ومسلم 8/ 119 كتاب التوبة.
د- سبب تأخره عن الجيش:
روى البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأصاب عائشة القرعة في غزوة بني المصطلق، فلما كان في جوف الليل انطلقت عائشة لحاجة فانحلت قلادتها فذهبت في طلبها" الحديث
…
وفيه "فلما رجعت عائشة لم تر العسكر، قال: وكان صفوان بن المعطل السلمي، يتخلف عن الناس فيصيب القدح والجراب والإداوة، أحسبه قال: فيحمله، قال: فتظر فإذا عائشة فغطى أحسبه قال وجهه عنها ثم أدنى بعيره منها" الحديث
…
قال الهيثمي: "رواه البزار1 وفيه محمد بن عمرو2 وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات"3.
ونسبه السيوطي للبزار أيضا وابن مردويه وساق المتن بدون تردد، وقال:"بسند حسن"4.
ورد عند أبي داود أن سبب تأخره هو غلبة النوم عليه.
وهذا نصه: حدثنا عثمان5 بن أبي شيبة أخبرنا جرير6 عن
1 البزار: هو الحافظ العلامة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل، سمع من هدبة بن خالد وعبد الأعلى بن حماد وغيرهم، وعنه: عبد الباقي بن قانع وأبو الشيخ وخلق، (ت292) . تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 653- 654.
2 هو ابن علقمة بن وقاص الليثي.
3 مجمع الزوائد 9/ 230.
4 الدر المنثور 5/ 27.
5 عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفي، ثقة حافظ، شهير، وله أوهام، وقيل كان لا يحفظ القرآن، من العاشرة (ت239) خ م د س ق. التقريب 2/ 13.
6 جرير بن عبد الحميد بن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة، الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب، وقيل كان في آخر عمره يهم من حفظه، (ت 188) ، ع. المصدر السابق 1/ 127.
الأعمش1 عن أبي صالح2 عن أبي سعيد3، قال:"جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان ابن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ بسورتين4، وقد نهيتها، قال: فقال: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس" وأما قولها يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصوم5 امرأة، إلا بإذن زوجها". وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل6 بيت عرف لنا
1 هو سليمان بن مهران، تقدمت ترجمته.
2 أبو صالح السمان ذكوان الزيات المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة من الثالثة، (ت101) . ع: المصدر السابق 1/ 238.
3 أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري، وله ولأبيه صحبة استصغر يوم أحد ثم شهد ما بعدها وروى الكثير، مختلف في وفاته، ع: المصدر السابق 1/ 289.
4 قال صاحب عون المعبود 7/ 129:أي تقرأ بسورتين طويلتين في ركعة أو في ركعتين وقد نهيتها عن تطويل القراءة وإطالة الصلاة، وفي مسند أبي يعلى 2/ 121:"فإنها تقرأ بسورتي" بالإضافة إلى ياء المتكلم والإفراد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقرأي سورته" وفي مشكل الآثار 2/ 424:فإنها تقوم بسورتي التي أقرأها فتقرأ بها وقد وجهها الطحاوي بقوله: يحتمل أن يكون صفوان ظنها إذا قرأت سورته التي يقوم بها، لا يحصل لهما جميعا إلا ثواب واحد، فيريدها أن تقرأ غير ما يقرأ فيحصل لهما ثوابان، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك يحصل له بها ثوابا، لأن قراءة كل واحد لها غير قراءة الآخر إياها".
وعند أحمد في المسند 3/ 85:فإنها تقرأ بسورتي فتعطلني.
5 المراد به صوم التطوع إذا كان زوجها حاضرا، لأن حق الزوج مقدم على نفل العبادة، أما إذا كان غائبا عنها فلها أن تصوم، لحديث:"لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه" البخاري7/27كتاب النكاح باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعاً.
6 قوله: "فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك"، أي فإنا أهل صنعة لا ننام الليل، وذلك أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليل، ولذا قال: لا نكاد نستيقظ: أي إذا رقدنا آخر الليل. عون المعبود 7/ 130.
ذاك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس1، قال:"فإذا استيقظت فصل"2.
قال أبو داود: "رواه حماد3 - يعني ابن سلمة - عن حميد4 أو ثابت5 عن أبي6 المتوكل7".
قلت: والحديث بهذا الإسناد: عند أحمد وابن حبان والطحاوي وأبي يعلى
1 وعند أحمد: فإني ثقيل الرأس، وأنا من أهل بيت يعرفون بذاك بثقل الرؤوس قال:"فإذا قمت فصل". مسند أحمد 3/ 84- 85.
2 قوله: "فإذا استيقظت فصل"، قال في عون المعبود 7/ 130- 131:"ذلك أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، فعذر فيه ولم يثرب عليه، ثم قال: ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال فإنه يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد لا يصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي هذا من حاله، ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده. قلت: وهذا هو الظاهر الذي ينبغي في حقه لأنه لا يمكن أن يتخلف صفوان عن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون عذر وذلك لما عرف من حرص الصحابة على الخير واتباع هدى نبيهم، وخاصة صلاة الصبح التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة"، صحيح البخاري 1/ 100 باب فضل صلاة الفجر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فيبعد أن يتخلف صفوان عن صلاة الصبح مرارا ولا يفطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة. وقد ورد في مسند أحمد 5/ 312 أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة التي تكره فيها الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فصل فإن الصلاة محضورة ومتقلبة"،فهذا يدل على أنه كان يصلي الصبح في وقتها.
3 حماد بن سلمة بن دينار البصري، أبو سلمة، ثقة عابد، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، من كبار الثامنة، (ت167) ، خت م عم. التقريب 1/ 197.
4 حميد بن أبي حميد الطويل ثقة مدلس من الخامسة، (ت 142?) ع: التقريب.
5 ثابت بن أسلم البناني أبو محمد البصري، ثقة عابد من الرابعة (ت بضع وعشرين بعد المائة) ع: التقريب 1/ 115.
6 هو علي بن داود ويقال دؤاد بضم الدال بعدها واو بهمزة أبو المتوكل الناجي بنون وجيم.
مشهور بكنيته، ثقة من الثالثة، (ت108)، ع: المصدر السابق 2/ 36.
7 سنن أبي داود 1/ 572، كتاب الصيام باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها.
والحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي1.
وبهذه المتابعة التي ذكرها أبو داود علم بأن الحديث صحيح لا مطعن فيه، وأنه لا معارضة بينه وبين حديث أبي هريرة المتقدم2، المصرح بأن صفوان كان يتخلف عن الناس، فيصيب القدح والجراب والإداوة فيحمله ويعطيه أهله، لأنه يقال: إن سبب تأخره عن الجيش هو غلبة النوم ثم بعد استيقاظه يمر بمكان تعريس الجيش فإذا وجد شيئا من المتاع حمله حتى يقدم به على صاحبه. غير أن أبا بكر البزار قد طعن في حديث أبي داود هذا سندا ومتنا.
وهذا معنى كلامه:
قال: "أما من حيث السند فإن الأعمش مدلس، ولم يقل حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه من غير ثقة وأمسك عن ذكر الواسطة فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر لما فيه".
وأما من حيث المتن: "فإنه ورد فيه أن صفوان بن المعطل كانت له زوجة، وأنه كان لا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس".
وفي هذا كله مخالفة لما ثبت في حديث الإفك المتفق على صحته، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدح صفوان وأثنى عليه وذكره بخير3، وفيه أيضا قال: عروة: "قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف4 أنثى قط، قالت: ثم
1 صحيح ابن حبان 3/ 33، ومشكل الآثار 2/ 424، ومسند أبي يعلى2/121 و/134، والمستدرك1/436، ومسند أحمد3/80 و84.
2 انظر ص 250.
3 تقدم ذلك في حديث الإفك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا)) . انظر ص 215.
وفي هذا رد على ما أورده ابن حجر في الإصابة، وفي تعجيل المنفعة منسوبا إلى أبي يعلى والبغوي من حديث الحسن عن سعيد مولى أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((دعوا صفوان بن المعطل فإنه طيب القلب خبيث اللسان)) . انظر: الإصابة 2/ 191، وتعجيل المنفعة، ص 128.
4 كناية عن بعده من النساء وأنه ما لمس ثوب امرأة قط، فضلا عن غيره، لأن الكنف هو الثوب الساتر.
قتل بعد ذلك في سبيل الله"1.
وقد أجاب العلماء عن اعتراض البزار على هذا الحديث بما يأتي:
أ- من حيث السند: أجاب ابن حجر بقوله: "وما أعله به ليس بقادح، فإن ابن سعد صرح في روايته2 بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح، وأما رجاله: فرجال الصحيح.
وأيضا فإن للحديث متابعا ثم، أورد المتابعة التي ذكرها أبو داود عقب حديث الأعمش، ثم قال: وهذه متابعة جيدة تؤذن بأن للحديث أصلا، وغفل من جعل هذه الطريق الثانية علة للطريق الأولى3.
وأشار إلى حديث أبي داود هذا في الإصابة وقال: إسناده صحيح4. وفي تعجيل المنفعة قال: بسند جيد"5.
وأجاب صاحب عون المعبود بقوله: "والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه. ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضا، بل تابعه حميد أو ثابت وكذا جرير ليس بمتفرد بل تابعه حماد بن سلمة.
ثم قال: وفي هذا كله رد على الإمام أبي بكر البزار"6.
وقال الألباني: "أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين"7.
1 الحديث المشار إليه في البخاري 5/ 98 و100، 6/ 89 ومسلم 8/ 115 و118 و119.
2 لم أجد هذه الرواية في طبقات ابن سعد الكبرى المطبوعة المتداولة.
3 فتح الباري 8/ 462.
4 الإصابة 2/ 191.
5 تعجيل المنفعة ص 128.
6 عون المعبود 7/ 131.
7 انظر المجلد الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت حديث رقم 395.
ب- وأما من حيث المتن:
فأجاب ابن القيم بقوله: "اعتراض البزار على هذا الحديث بحديث الإفك، فيه نظر، فلعله تزوج بعد ذلك"1.
وأجاب ابن حجر بعدة أجوبة لا تسلم من الاعتراض.
ثم قال: "والذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور في قصة الإفك، ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، وهذا جمع لا اعتراض عليه، إلا ما جاء عند ابن إسحاق أن صفوان كان حصورا، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح.
وعند الطبراني من حديث ابن عباس: "أنه كان لا يقرب النساء""2.
وفي الإصابة بعد أن أورد حديث أبي داود، قال عقبه: ولكن يشكل عليه أن عائشة قالت في حديث الإفك: "إن صفوان بن المعطل قال: والله ما كشفت كنف أنثى قط".
وقد أورد هذا الإشكال قديما البخاري ومال إلى تضعيف حديث أبي سعيد بذلك، ثم قال ابن حجر:"ويمكن أن يجاب بأنه تزوج بعد ذلك"3.
قلت: حديث ابن إسحاق مرسل رواه عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحمد هذا من الرابعة4.
وحديث الطبراني: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "فيه إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل متروك"5.
وإشكال البخاري المشار إليه، أورده في التاريخ الصغير، وهذا نصه:
1 تهذيب السنن 7/ 129 على هامش عون المعبود.
2 فتح الباري 8/ 462.
3 الإصابة 2/ 191.
4 سيرة ابن هشام 2/ 306، وانظر التقريب 2/ 140.
5 مجمع الزوائد 9/ 236، وانظر التقريب 1/ 75.
حدثني الأويسي1، ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح عن ابن شهاب، قال عروة: قالت عائشة: "والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل، يعني صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني - ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده، ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله"، هذا في قصة الإفك.
ثم عقب على هذا بقوله: قال أبو عوانة2 وأبو حمزة3 عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد، جاءت امرأة صفوان بن المعطل النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:"إن صفوان يضربني"4.
وخلاصة القول في هذا ما أجاب به ابن القيم وابن حجر من أن النفي المذكور في حديث عائشة في قصة الإفك يحمل على ما قبل قصة الإفك، وأن حديث أبي داود ومجيء زوجة صفوان تشكوه يحمل على أنه تزوج بعد ذلك، وبهذا يلتئم شمل الأحاديث ومتى أمكن الجمع فهو أولى من الترجيح.
موقفه من حسان بن ثابت:
روى ابن إسحاق: حدثني محمد5 بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن ثابت6 بن قيس بن الشماس وثب على صفوان بن المعطل حين ضرب حسان
1 عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بن سعد بن أبي سرح الأويسي، أبو القاسم المدني، ثقة من كبار العاشرة، خ د ت ق كن. المصدر السابق1/510.
2 وضاح بتشديد المعجمة ثم مهملة ابن عبد الله اليشكري، بفتح التحتية وبشين معجمة وضم كاف الواسطي، البزاز أبو عوانة مشهور بكنيته ثقة ثبت، من السابعة (ت175 أو176) ع. التقريب 2/ 331.
3 هو محمد بن ميمون المروزي، أبو حمزة السكري، ثقة فاضل، من السابعة (ت167 أو168) ع. المصدر السابق 2/ 212.
4 تاريخ البخاري الصغير، ص 25.
5 محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني، ثقة له أفراد من الرابعة (ت120) على الصحيح، ع: التقريب 2/ 140.
6 ثابت بن قيس بن شماس أنصاري خزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد، خ د س. المصدر السابق 1/ 116.
فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال:"ما هذا؟ " قال: "أما أعجبك ضرب حسان بالسيف! والله ما أراه إلا قد قتله"، قال له عبد الله بن رواحة:"هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء مما صنعت؟ " قال: "لا والله"، قال:"لقد اجترأت، أطلق الرجل"، فأطلقه، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حسانا وصفوان بن المعطل، فقال ابن المعطل:"يا رسول الله: آذاني1 وهجاني، فاحتملني الغضب، فضربته"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان:"أحسن يا حسان، أتشوهت* على قومي، أن هداهم الله للإسلام"، ثم قال:"أحسن يا حسان في الذي أصابك"، قال:"هي لك يا رسول الله"2 والحديث أخرجه ابن جرير الطبري من هذه الطريق3.
وأشار ابن حجر إلى هذا الحديث في (تعجيل المنفعة) وقال: "سنده صحيح"4، وقال في الإصابة: "وقصة صفوان مع حسان مشهورة ذكرها يونس بن بكير في زيادات المغازي موصولة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قعد صفوان بن المعطل لحسان فضربه بالسيف قائلا:
تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
فجاء حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستعداه على صفوان فاستوهبه الضربة فوهبها له.
1 يريد قول حسان:
أمس الجلابيب قد عزوا وقد كثروا
…
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
إلى آخر ما ذكر من الأبيات، ويريد بالجلابيب (الغرباء) وبيضة البلد أي:منفرداً لا يدانيه أحد، وعندها اعترضه صفوان فضربه بالسيف وهو يقول:
تلق ذباب السيف عني فإنني
…
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
انظر سيرة ابن هشام 2/ 304- 305.
(*) أتشوهت على قومي: أي أقبحت ذلك من فعلهم حين سميتهم بالجلابيب من أجل هجرتهم إلى الله وإلى رسوله)) .
2 المصدر السابق 2/ 305.
3 تاريخ ابن جرير 2/ 618.
4 تعجيل المنفعة، ص128.
ثم قال: وذكرها موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري نحوه، وزاد أن سعد بن عبادة كسا صفوان حلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كساه الله من حلل الجنة"1، وفي سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتعجيل المنفعة أن هذا حديث ابن إسحاق وليس من الزيادات".
والحديث بهذا السياق الذي ذكره ابن حجر عند الطبراني، وفيه: زيادة وهي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عوض حسان بن ثابت في ضربته حائطا من نخل عظيم وجارية رومية، ويقال قبطية تدعى سيرين2 فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر، وباع هذا الحائط من معاوية في ولايته بمال عظيم"، قال الهيثمي بعد إيراده:"رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن بعض هذا يخالف ما في الصحيح"3.
وقال ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسان في ضربته بيرحاء وهي قصر بني حديلة4 اليوم بالمدينة وكانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان في ضربته، وأعطاه سيرين أمة قبطية، فولدت له عبد الرحمن بن حسان"5.
قلت: هذا مخالف لما ثبت في الصحيحين من أن الذي أعطى حسان هذا المال هو أبو طلحة وذلك لقرابته منه.
1 الإصابة 2/ 191.
2 سيرين هي أخت مارية سرية الرسول صلى الله عليه وسلم أهداهما له المقوقس صاحب الإسكندرية، أسد الغابة7/ 160.
3 مجمع الزوائد 9/ 234- 236.
4 حديلة: قال ابن حجر: "هو بالمهملة مصغرا، ووهم من قاله بالجيم، وبنو حديلة بالمهملة مصغرا، بطن من الأنصار وهم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار وكان قصر بني حديلة حائطا لأبي طلحة يقال لها بيرحاء" وأن هذا القصر نسب إليهم بسبب المجاورة لكونهم كانوا ساكنين في تلك البقعة، وإلا فالذي بنى القصر هو معاوية بن أبي سفيان بعد أن اشترى حصة حسان بن ثابت منه. وصار هذا القصر فيما بعد للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. انظر فتح الباري 5/ 388 قلت: كان هذا القصر في مكان قصر المدينة الموجود حاليا.
5 سيرة ابن هشام 2/ 306.
وهذا نص الحديث: حدثنا إسماعيل1 قال حدثني مالك عن إسحاق2 بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس3 بن مالك رضي الله عنه يقول: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة4 المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، [سورة آل عمران، من الآية: 92] ، قام أبو طلحة فقال: "يا رسول الله، إن الله يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح5، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين"، قال أبو طلحة: "أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه
6، هذا لفظ البخاري في التفسير وبين حديث أنس الآخر أن أبا طلحة جعلها لحسان بن
1 إسماعيل هو ابن أبي أويس، وهو إسماعيل بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله بن أبي أويس المدني، أخطأ في أحاديث من حفظه من العاشرة، (ت226) خ م د ت ق. قلت: تابعه يحيى بن يحيى بن بكير التميمي الحنظلي عند مسلم 3/ 79، كتاب الزكاة.
2 إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري المدني، أبو يحيى، ثقة حجة، من الرابعة، (ت132) وقيل بعدها، ع. التقريب 1/ 59.
3 أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور، (ت92 وقيل93) ،ع. التقريب1/ 84.
4 من جهة الشمال تجاه باب عثمان بن عفان مع ميل إلى الغرب.
5 رويت هذه اللفظة "رايح ورابح ورائح" قال ابن حجر: "رابح من الربح، ورايح أو رائح بمعنى أن أجرها يروح ويغدو عليه. فتح الباري 3/ 326.
6 البخاري 6/ 31 كتاب التفسير باب {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} و 2/ 102 كتاب الزكاة باب الزكاة على الأقارب و3/ 90 كتاب الوكالة، باب إذا قال الرجل لوكيله: ضعه حيث أراك الله، و4/ 6 كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه و4/ 7 باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه و4/ 10 (باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز) من كتاب الوصايا و7/ 95 كتاب الأشربة باب استعذاب الماء ومسلم 3/ 79 كتاب الزكاة وأبو داود 1/ 392 فيه باب في صلة الرحم.
ثابت وأبي بن كعب وهذا نصه: حدثنا محمد1 بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي2 عن ثمامة3 عن أنس رضي الله عنه قال: "فجعلها لحسان وأبي، وأنا أقرب إليه4، ولم يجعل لي منها شيئا"5.
1 محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، البصري، القاضي، ثقة من التاسعة، (ت215) / ع. التقريب 2/ 180.
2 هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، صدوق، كثير الغلط، من السادسة، خ ت ق. المصدر السابق 1/ 445.
3 ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، قاضيها، صدوق من الرابعة، ع: المصدر السابق1/120.وهذا الحديث عند مسلم من طريق محمد بن حاتم حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن أنس، صحيح مسلم3/79. وعند أبي دلود من طريق موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة
…
الخ. سنن أبي داود 1/ 392.
4 انظر تخريج الحديث، ص 209.
5 وهذه القرابة بين أبي طلحة وحسان وأبي بينها محمد بن عبد الله الأنصاري المترجم له في هذا السند. فقال: أبو طلحة هو زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وحسان هو:ابن ثابت بن المنذر بن حرلم، يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث، وأبي: هو ابن كعب بن قيس ابن عتيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا.
قال الأنصاري: "بين أبي وأبي طلحة ستة آباء"، انظر سنن أبي داود 1/ 392- 393 كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، وصحيح لبخاري 4/ 6 كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه وفي حديث الباب: تصريح أنس بن مالك بأنه أقرب إلى أبي طلحة من حسان وأبي بن كعب، وقد وقع عند البخاري 4/ 6 من كتاب الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه "قال أنس: فجعلها لحسان وأبي وكانا أقرب إليه مني" وقد أورد ابن حجر عدة روايات مصرحة بهذا، ثم وجه قول أنس هذا بأن الذي يجمع أبا طلحة وأنسا، هو النجار، لأنه من بني عدي بن النجار، وأبو طلحة وأبي بن كعب من بني مالك بن النجار فلهذا كان أبي بن كعب أقرب إلى أبي طلحة من أنس. انظر فتح الباري 5/ 380- 381. وأما حديث الباب فقد تعرض له أثناء شرحه له في كتاب التفسير وبين أن المزي أغفل التنبيه على هذه الطريق، ولكنه لم يتعرض لتوجيه قول أنس بأنه أقرب إلى أبي طلحة من حسان وأبي بن كعب فالله أعلم. انظر فتح الباري 8/ 224.