الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ففيه التصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا السائل بالإذن بفعل العزل إن أحب ذلك، ثم بين له أن فعله هذا لا يرد شيئا قدره الله عز وجل وأنه إذا أراد شيئا كان ولا محالة.
المبحث العاشر: متى شرع التيمم
قال البخاري: حدثنا عبد الله1 بن يوسف قال أخبرنا2 مالك عن عبد الرحمن3 بن القاسم عن أبيه عن عائشة4 زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء5 - أو بذات الجيش6 - انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل
1 عبد الله بن يوسف التنيسي: أبو محمد الكلامي، أصله من دمشق، ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ، من كبار العاشرة، (ت218) /خ د ت س. التقريب1/463.
2 مالك بن أنس إمام دار الهجرة أبو عبد الله (ت 179) /ع. المصدر السابق 2/223.
3 عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، التيمي، أبو محمد المدني ثقة جليل، قال ابن عيينة: كان أفضل أهل زمانه، من السادسة (ت 126) وقيل بعدها / ع. المصدر السابق 1/495.
4 تقدمت ترجمتها.
5 البيداء: هو الشرف الذي قدام ذي الحليفة في الطريق من المدينة إلى مكة. انظر معجم ما استعجم للبكري 1/290- 291.
6 ذات الجيش: من المدينة على بريد وبينها وبين العقيق سبعة أميال. المصدر السابق 2/409-410 ويكون بين ذات الجيش والمدينة بالكيلوات 20 كيلومترا.
يطعنني1 بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم2 فتيمموا".
فقال أسيد بن حضير: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته"3.
قال ابن حجر: قوله: "في بعض أسفاره"، قال ابن عبد البر في التمهيد يقال: إنه كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في الاستذكار، وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان.
ثم قال ابن حجر: "وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها وقعت قصة الإفك لعائشة رضي الله عنها، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا، فإن كان ما جزموا به ثابتا حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين كما هو مبين في سياقهما"4.
1 يطعنني: بضم العين في كل ما هو حسي، والمعنوي بالفتح، وحكي فيهما الفتح والضم. فتح الباري 1/433.
2 هي آية المائدة كما رجح ذلك ابن حجر وقال: وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم. قال: نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} . وهذا سياق آية المائدة، أما آية النساء فسياقها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} . الآية:43. انظر: الحديث في البخاري 6/43 من تفسير سورة المائدة. وفتح الباري 1/434.
3 صحيح البخاري1/62 كتاب التيمم، و1/63 فيه، باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا و5/7 كتاب الفضائل، باب فضل أبي بكر، و5/25 منه، باب فضائل عائشة و6/38 تفسير سورة النساء، باب قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} و6/42 و43 تفسير المائدة، باب قوله:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} و7/20 كتاب النكاح باب استعارة الثياب للعروس وغيرها و7/35 فيه باب قول الرجل لصاحبه: هل عرستم الليلة وطعن الرجل ابنته في الخاصرة عند العتاب و7/136 كتاب اللباس باب استعارة القلائد و8/144 كتاب المحاربين، باب من أدب أهله أو غيره دون السلطان وصحيح مسلم 1/191- 192 (التيمم) وأبو داود 1/76 والنسائي 1/133 و135 و140 وموطأ مالك1/53 وصحيح ابن حبان2/23 و439 و440 الجميع في التيمم.
4 فتح الباري 1/432.
قلت: وقد سبق الجميع - إلى هذا القول - الواقدي: فقد صرح في مغازيه بقوله: حدثني يعقوب1 بن يحيى بن عباد، عن عيسى2 بن معمر بن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعائشة رضي الله عنها، حدثينا يا أمه حديثك في غزوة المريسيع الحديث الطويل، وفيه "أن العقد سقط من عائشة مرتين في تلك الغزوة في المرة الألى كانت رخصة التيمم، وفي الثانية كانت قصة الإفك"3.
قلت: رواية الواقدي لا تنهض لفصل النِّزاع، لأن الواقدي ضعيف في الحديث، ولوجود يعقوب بن يحيى، وعيسى بن معمر في السند، وأحدهما وصف بأنه مجهول الحال، والآخر لين، ولا متابع لهما.
وبهذا يكون الحديث ضعيفا بهذا الإسناد.
وأما ابن سعد فقد ذكر ذلك في (طبقاته) بدون إسناد4، ويحتمل أن يكون عمدته في ذلك هي رواية الواقدي هذه، إذ هو شيخه ومعروف بملازمته له، حتى عرف بكاتب الواقدي، وعلى هذا نكون قد رجعنا إلى حديث الواقدي نفسه، وهو حديث ضعيف كما عرفت، والأحاديث الصحيحة في قصة الإفك مع كثرتها وتضافرها لم تشر أدنى إشارة إلى أن العقد سقط من عائشة مرتين في غزوة المريسيع، ولو وجد ذلك لما حصل الخلاف.
وأما ابن حبان فقد ذكر ذلك في ثقاته غير أنه فرق بين غزوة المريسيع، وغزوة بني المصطلق.
فجعل غزوة المريسيع في شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة سابقة على غزوة الخندق، وذكر فيها وقوع جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في الأسر وزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، كما ذكر فيها قصة التيمم مقتصرا
1 يعقوب بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، المدني مجهول الحال، من السادسة /ق. التقريب 2/377 وتهذيب التهذيب 11/398.
2 عيسى بن معمر حجازي، لين الحديث، من السادسة / د. التقريب 2/102.
3 مغازي الواقدي 2/426.
4 طبقات ابن سعد 2/65.
على جزء من حديث الباب1، ولم يتعرض فيها لقصة الإفك. وهذا نص كلامه زيادة في الإيضاح.
قال رحمه الله: "ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة المريسيع في شعبان قصد بني المصطلق من خزاعة على ماء لهم قريب من الفرع، فقتل منهم رجالهم وسباهم، وكان فيمن سبى جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل صداقها أربعين أسيرا من قومها.
وفي هذه الغزوة سقط عقد عائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عل التماسه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فنَزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
فبعثوا البعير الذي كانت عليه، فوجدوا العقد تحته"2.اهـ.
وذكر غزوة بني المصطلق في السنة السادسة من الهجرة، بقوله: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق، وذلك أنه بلغه أن بني المصطلق تجمعوا وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية بنت الحارث. ثم ساق القصة وفيها وقوع جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس ومكاتبتها له ثم زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. ثم ساق حديث الإفك بطوله ولم يذكر فيه قصة التيمم أصلاً3.
ويرد على ابن حبان بما يأتي:
أولاً: تفريقه بين غزوة المريسيع وغزوة بني المصطلق، وهي غزوة واحدة تحمل اسمين غزوة (المريسيع) باسم الماء الذي وقعت فيه المعركة، وغزوة بني المصطلق باسم القبيلة.
ولذا فقد بوب البخاري بقوله: "باب غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع".
1 انظر الحديث ص 335 وما بعدها.
2 ثقات ابن حبان 1/263- 264.
3 ثقات ابن حبان 1/288- 295.
ثم قال: وقال النعمان1 بن راشد عن الزهري: "كان حديث الإفك في غزوة المريسيع"2.
قال ابن حجر: "وصله الجوزقي3 والبيهقي في (الدلائل) من طريق حماد بن زيد عن النعمان بن راشد ومعمر عن الزهري عن عائشة فذكر قصة الإفك في غزوة المريسيع وبهذا قال ابن إسحاق وغير واحد من أهل المغازي إن قصة الإفك كانت في رجوعهم من غزوة المريسيع"45.
وعند الطبراني من حديث سنان بن وبرة قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع غزوة بني المصطلق".
قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وإسناد الكبير حسن"6.
وتقدم قول ابن حجر، بأن غزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع7.
1 النعمان بن راشد الجزري أبو إسحاق الرقي، مولى بني أمية، صدوق سيء الحفظ، من السادسة /خت م عم. التقريب 2/304. قلت: تابعه معمر بن راشد كما هو مصرح به في رواية الجوزقي والبيهقي.
2 صحيح البخاري 5/96 كتاب المغازي.
3 هو الحافظ الإمام الأوحد أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني، الجوزقي محدث نيسابور، وصاحب الصحيح المخرج على صحيح مسلم، روى عن أبي نعيم بن عدي الجرجاني وأبي العباس الدغولي ومكي بن عبدان، وخلق، (ت388هـ) انظر تذكرة الحفاظ للذهبي 3/1013- 1014.
4 نعم أورد الطبري حديثا أن قصة عائشة كانت في عمرة القضاء وهذا نصه: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الواحد بن حمزة أن حديث عائشة كان في عمرة القضاء. انظر تاريخ الطبري 2/619 والحديث فيه ثلاث علل:
أ- ضعف ابن حميد الرازي.
ب- عنعنة ابن إسحاق.
ج- الانقطاع بين عبد الواحد وعائشة، لأنه من السادسة ولم يحضر القصة. انظر التقريب 1/525.
5 فتح الباري 1/430.
6 مجمع الزوائد 6/142.
7 انظر ص 336.
وبهذا يتضح أن غزوة المريسيع وغزوة بني المصطلق شيء واحد، أحدهما تفسير للأخرى.
ثانياً: تصريحه في كلتا الغزوتين بأن جويرية بنت الحارث وقعت في الأسر، وتزويجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
وهذا شيء غير معقول، إذ كيف يتزوجها في السنة الخامسة ثم يعود إلى الرق ويتزوجها مرة ثانية في السنة السادسة.
ثالثاً: قوله: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق على ماء لهم قريب من الفرع"، هذا أيضا خطأ واضح.
لأن جميع من تكلم على هذه الغزوة قال: على ماء لهم قرب قديد، وبين قديد والفرع مسافة طويلة، لأن قديدا شمال مكة بـ 114 كيلومترا، في حين أن الفرع يقع جنوب المدينة المنورة بـ 150 كيلومترا1. وبهذا يتضح وهم ابن حبان رحمه الله.
وأما عمدة ابن عبد البر في أن التيمم شرع في هذه الغزوة فهو حديث الباب2 ووجه الدلالة منه قول عائشة فيه "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره"، ففسر السفر المذكور بأنه كان إلى غزوة بني المصطلق. وهذا نص كلامه:
بعد أن ساق حديث الباب3 قال عقبه: "قال أبو عمر: هذا الحديث عندي أصح حديث روي في التيمم. والسفر المذكور فيه كان في غزوة المريسيع، إلى بني المصطلق ابن خزاعة في سنة ست من الهجرة، وقيل: سنة خمس"4.
قلت: الذي يظهر: أن التيمم وإن كان سببه هو ضياع عقد عائشة، إلا أن ذلك كان في غزوة أخرى غير غزوة بني المصطلق، وإنما اشتبه على بعض العلماء فصرح بأن ذلك في غزوة بني المصطلق، وذلك لاتحاد السبب بين قصة الإفك ورخصة التيمم، إذ كل منهما كان سببه ضياع العقد.
1 انظر نسب حرب لعاتق البلادي ص 376- 377.
2 انظر ص 335، وما بعدها.
3 انظر ص 335.
4 الاستذكار 2/2.
وفيما يأتي توجيه ذلك:
أ- قال ابن القيم بعد أن نقل قول ابن سعد1: ذكر الطبراني في (معجمه) من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى2 بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه3 عن عائشة قلت: "لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدي، حتى حبس التماسه الناس، ولقيت من أبي بكر ما شاء، وقال لي: يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم. ثم قال: فهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر ولكن فيها4 كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى"5.
ب- وسبقه إلى هذا ابن سيد الناس فإنه بعد أن أورد حديث الطبراني، قال عقبه:"فهذه الرواية تقتضي أن الواقعتين كانتا في غزوتين".
ج- وقال ابن حجر: "اعتمد بعضهم في تعدد السفر على رواية الطبراني وهي صريحة في ذلك، ثم ساق الحديث وفي آخره "فقال أبو بكر لعائشة: إنك لمباركة ثلاثا"" ثم قال ابن حجر: "وفي إسناده محمد بن حميد الرازي وفيه مقال"6.
1 هذا نص كلام ابن سعد قال: وفي هذه الغزاة سقط عقد عائشة فاحتبسوا على كطلبه، فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير:"ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، وفي هذه الغزاة كان حديث عائشة وقول أهل الإفك فيها". انظر طبقات ابن سعد 2/65.
2 يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام المدني، ثقة، من الخامسة (ت بعد المائة وله 36 سنة) /ز عم. التقريب 2/350.
3 هو عباد بن عبد الله. تقدمت ترجمته.
4 الضمير يعود على غزوة بني المصطلق.
5 زاد المعاد 2/126.
6 انظر: فتح الباري 1/433، و435.
قلت: وإن كان في ابن حميد من الكلام ما قد يؤدي إلى سقوطه عن درجة الاحتجاج1 فإنه توجد قرائن أخر تؤيد ما دل عليه هذا الحديث بغض النظر عن الاستدلال به. وهذه القرائن هي:
قول أسيد بن حضير في حديث الباب "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر"2. فإنه صريح في أنها مسبوقة بغيرها من البركات، وأعظم بركة عرفت لعائشة هي نزول القرآن ببراءتها من مقالة أهل الإفك، ولا يمكن حمل قوله: "ما هي بأول بكتكم" على غزوة بني المصطلق، إذا كان يراد بالبركة السابقة نزول القرآن ببراءة عائشة من حادثة الإفك، لأن نزول القرآن ببراءتها كان في المدينة والقوم في "حضر" ونزول آية التيمم كان في سفر، والقوم محبوسون على غير ماء.
في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: "أنها استعارت من أسماء قلادة، فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: "جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل الله ذلك لك، وللمسلمين فيه خيرا" لفظ البخاري3.
وفيه أيضا من هذا الوجه "فوالله ما نزل بك أمر قط، إلا جعل الله لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة"4.
1 قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ: "ابن حميد من بحور العلم لكنه غير معتمد". انظر تذكرة الحفاظ 2/490 وميزان الاعتدال 3/530 وتهذيب التهذيب 9/127.
2 انظر ص 335 وما بعدها.
3 البخاري 1/63 كتاب التيمم باب إذا لم يجد ماء والنسائي 1/140 فيه.
4 البخاري 5/25 كتاب الفضائل باب فضل عائشة رضي الله عنها و7/20 كتاب النكاح باب استعارة الثياب للعروس وغيرها ومسلم 1/192 وابن ماجة في التيمم والحميدي في مسنده 1/88 وعبد بن حميد في مسنده أيضا 2/194أ.
وعند أبي داود فقال أسيد بن حضير: "يرحمك الله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعله الله للمسلمين ولك فيه فرجا"1.
وأعظم أمر نزل بعائشة تكرهه وكادت الأمة تهلك بسببه، ثم جاء الفرج بعد ذلك هي قصة الإفك، وفيها أعظم بركة هي نزول آيات تتلى إلى يوم القيامة، وهذه الروايات تصرح بأن شيئا مكروها لعائشة سبق آية التيمم، ولا ريب أن أعظم مكروه مر بها هو حادثة الإفك.
ولذا قال ابن حجر عقب رواية هشام بن عروة "إلا جعل الله لك منه مخرجا"الخ: "فهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباري، فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق"2.
ثم قال ابن حجر: "وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، الحديث
…
" ثم قال ابن حجر: "فهذا يدل على تأخرها3 عن غزوة بني المصطلق، لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف".
وسيأتي في المغازي أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة4 اهـ.
قلت: حديث ابن أبي شيبة المشار إليه هو: حدثنا عباد5 بن العوام عن
1 أبو داود 1/76 التيمم وانظر الحديث ص 335 وما بعدها.
2 لم أجد هذا في كتابيه المحبر والمنمق.
3 الضمير للغزوة التي وقع فيها نزول آية التيمم.
4 فتح الباري 1/434- 435.
5 عباد بن العوام بن عمر الكلابي، مولاهم، أبو سهل الواسطي، ثقة، من الثامنة (ت 185) أو بعدها /ع. التقريب 1/393.
برد1 عن سليمان2 بن موسى عن أبي هريرة3 رضي الله عنه قال: "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجده، فانطلقت أطلبه فاستقبلته، فلما رأى الذي جئت له، فبال ثم ضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه"4.
والحديث منقطع لأن سليمان بن موسى لم يدرك أحدا من الصحابة، قاله البخاري5. وهذا حديث البخاري الذي أشار إليه ابن حجر أيضا: حدثنا محمد بن العلاء6، حدثنا أبو أسامة7 عن بريد8 بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة9 عن أبي موسى10 رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. الحديث11
…
وهو بهذا الإسناد في فرض
1 برد بن سنان أبو العلاء الدمشقي، نزيل البصرة، مولى قريش، صدوق، رمي بالقدر، من الخامسة /بخ عم. المصدر السابق 1/95.
2 سليمان بن موسى الأموي، مولاهم، الدمشقي، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل، من الخامسة، /م عم. التقريب 1/331.
3 أبو هريرة الدوسي الصحابي الجليل اختلف في اسمه واسم أبيه، فذهب الأكثر إلى أنه عبد الرحمن بن صخر، (ت 57- 59) /ع. المصدر السابق 2/484.
4 مصنف ابن أبي شيبة 1/159.
5 انظر كتاب جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي 2/423- 424. وسنن ابن ماجة 1/584 باب زكاة العسل، ونيل الأوطار للشوكاني 4/164.
6 هو أبو كريب تقدمت ترجمته.
7 هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، الكوفي، أبو أسامة، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، ربما دلس، وكان بآخره يحدث من كتب غيره، من كبار التاسعة (ت 201) / ع. التقريب 1/195 وقد صرح بالتحديث كما في الإسناد الذي بعده.
8 بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، الكوفي، ثقة، يخطئ قليلا، من السادسة / ع. المصدر السابق 2/96.
9 أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، قيل اسمه عامر وقيل الحارث، ثقة من الثالثة (ت 104) وقيل غير ذلك. / ع. المصدر السابق 2/394.
10 عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار، أبو موسى الأشعري، صحابي مشهور، أمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين، (ت 50) وقيل بعدها / ع. المصدر السابق 1/441.
11 البخاري 5/94 كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع.
الخمس قال أبو موسى: "بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهم"، الحديث
…
وفيه "فركبنا سفينة، فأقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، ووافقنا جعفر بن أبي طالب عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ههنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا، أو قال: فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم"1.
قال ابن حجر: "ومع هذا فقد ذكرها البخاري قبل خيبر، فلا أدري هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي، أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين، كما أشار إليه البيهقي، على أن أهل المغازي مع جزمهم بأنها قبل خيبر، مختلفون في زمانها"2.
قلت: الظاهر أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر لهذين الحديثين الصحيحين، وقد رجح هذا القول ابن القيم وابن كثير3، وهو قول البخاري أيضا كما هو الظاهر من تبويبه، فقد قال: باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنَزل نخلا وهي بعد خيبر، لأن أبا موسى جاء بعد خيبر ثم ساق الحديث المذكور.
واختار هذا القول أيضا محمد الأمين الشنقيطي فإنه قال أثناء كلامه على صلاة الخوف: "واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، وإن جزم جماعة كبيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع
1 البخاري 4/71 كتاب فرض الخمس باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين.
2 فتح الباري 7/417- 421.
3 زاد المعاد 2/123- 124 والبداية والنهاية 4/83.
قبل خيبر، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع"، ثم ساق الحديثين المتقدمين1، ثم عقب بقوله: "فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر، ثم ساق تبويب البخاري الآنف الذكر"2 اهـ.
والذي يظهر أيضا أنها غزوة واحدة لا تتعدد فيها كما رجح ذلك ابن القيم3.
وخلاصة القول أن الذي أرجحه في نزول آية التيمم أنها كانت في غزوة أخرى غير غزوة بني المصطلق، ولعلها غزوة ذا الرقاع التي رجح المحققون من أهل العلم تأخرها عن غزوة المريسيع، وهذا يتناسب مع قول أسيد بن حضير السابق4 "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر".
ومع قوله أيضا لعائشة: "ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعله الله للمسلمين ولك فيه فرجا"5. لأن كلا من آيات قصة الإفك، وآية التيمم نزلت سبب ما جرى لعائشة رضي اله عنها من ضياع عقدها، في المرة الأولى في غزوة بني المصطلق وتأخرت وحدها عن الجيش تبحت عنه حتى عثر عليها صفوان بن المعطل واحتملها على بعيره، ولم تنزل الآيات في شأنها إلا بعد قدومهم المدينة بمدة.
وجرى لها في غزوة ذات6 الرقاع ضياع عقدها أيضا فاحتبس الرسول صلى الله عليه وسلم والناس معه يبحثون عنه حتى شكى بعضهم عائشةعلى
1 انظر ص 344 و345.
2 أضواء لبيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/310- 311.
3 زاد المعاد 2/124.
4 انظر ص 336.
5 انظر ص 343.
6 تقدم في ص 343. أن محمد بن حبيب الأخباري جزم بذلك، وكذلك قال الحلبي بأن التيمم شرع في غزوة ذات الرقاع. انظر السيرة الحلبية 2/290 ولذلك ذهب جماعة من العلماء إلى أن البيداء أو ذات الجيش الوارد في الحديث أنها بين المدينة المنورة وخيبر، وهذا يؤيد أن هذه الغزوة التي شرع فيها التيمم غير غزوة بني المصطلق لأن غزوة بني المصطلق بين المدينة ومكة. لكن كون البيداء أو ذات الجيش من جهة خيبر فيه نظر. والله أعلم. انظر فتح الباري 1/432.
أبيها واغتم أبو بكر لذلك، لأن الناس كانوا على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم في هذه الأثناء في السفر، وهذا صريح في تعدد الغزوتين.
ويستأنس له بحديث الطبراني، وحديث ابن أبي شيبة المصرح فيه بقول أبي هريرة رضي الله عنه "لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع"1.
وإسلامه كان في السنة السابعة. والله أعلم.
1 انظر الحديثين ص 341 و343 وما بعدهما.