الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويزداد المنافقون إفكا ونفاقا، ويظهر لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين سرائرهم إلى أن قال: فكان من حكمة حبس الوحي شهرا، أن القضية نضجت، وتمحضت واستشرفت قلوب المؤمنين أعظم استشراف إلى ما يوحيه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وتطلعت إلى ذلك غاية التطلع، فوافى الوحي أحوج ما كان إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته والصديق وأهله وأصحابه المؤمنون، فورد عليهم ورود الغيث على الأرض، أحوج ما كانت إليه، فوقع منهم أعظم موقع، وألطفه، وسروا به أتم السرور، وحصل لهم به غاية الهناء، فلو أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقة
الحال من أول وهلة، وأنزل الوحي على الفور بذلك، لفاتت هذه الحكم1 وأضعافها بل أضعاف أضعافها"2.
1 من الحكم التي ذكرها أيضا في حكمة تأخر لوحي قال: لتتم العبودية المرادة من الصديقة وأبويها، وتتم نعمة الله عليهم، ولتشتد الفاقة والرغبة منها ومن أبويها والافتقار إلى الله، والذل له وحسن الظن به والرجاء له، ولينقطع رجاؤها من المخلوقين
…
الخ.
2 زاد المعاد 2/127.
المبحث الخامس: الحكم في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره من الصحابة
…
المبحث الخامس: الحكمة في كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره1 من الصحابة
أورد هذا ابن القيم وأجاب عنه بقوله: "كان هذا من تمام الحكم الباهرة التي جعل الله هذه القصة سببا لها وامتحانا وابتلاء لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجميع الأمة إلى يوم القيامة، ليرفع بهذه القصة أقواما، ويضع آخرين، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وإيمانا، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
…
" إلى أن قال: "وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المقصود بالأذى والتي رميت زوجته، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه أو ظنه الظن المقارب للعلم ببراءتها، ولم يظن بها سوءا قط، وحاشاه وحاشاها، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك، قال: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، والله
1 مثل ما قال أبو أيوب وزوجه ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.
ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفىَّ1 مقام الصبر والثبات وحسن اعتناؤه بشأنه.
وأيضا: فإن الله سبحانه أحب أن يظهر منزلة رسوله وأهل بيته عنده وكرامتهم عليه، وأن يخرج رسوله عن هذه القضية، ويتولى هو بنفسه الدفاع والمنافحة عنه، والرد على أعدائه، وذمهم وعيبهم، بأمر لا يكون له فيه عمل ولا ينسب إليه بل يكون هو وحده المتولي لذلك2.
1 وفىَّ: فعل ماضي.
2 زاد المعاد 2/127.
الخاتمة:
تناول هذا البحث (مرويات غزوة بني المصطلق) جمعا وتحقيقا ودراسة ويقع في مقدمة وأربعة أبواب.
أما المقدمة: فقد اشتملت على أسباب اختياري لموضوع رسالتي في السيرة النبوية، ثم سبب تخصيصي غزوة بني المصطلق بالذات بهذه الدراسة، وقد أشرت في هذه المقدمة إلى أهمية علم التاريخ، وضرورة العناية بالسيرة النبوية خاصة، كما حللت أهم المصادر التي استقيت منها في هذا الموضوع.
وأما الباب الأول: فقد تناول نسب بني المصطلق وصلتهم النسبية بقبائل المدينة المنورة، محققا الخلاف الوارد في نسبهم، ومشيرا إلى أرجح الأقوال في نظري، مدعما ذلك بما أورده أهل هذا الفن من حجج وتعليلات، مع الإشارة إلى حجج المخالفين، ومناقشتها بإيجاز غير مخل، كما بحثت في تحقيق مواقعهم وديارهم التي كانوا يسكنونها وقد عانيت في ذلك عناء كبيرا، ولكنني بحمد الله وصلت إلى تحديد أماكنهم، وضبطها، مستعينا بالمراجع العلمية في هذا الباب قديما وحديثا، وانتهيت إلى نتيجة مرضية في ذلك حيث تم لي تحديدها بالأميال والكيلومترات، وانحصرت ديارهم فيما بين مر الظهران والأبواء.
وهذا التحديد والتفصيل لم أر من قام به قبلي.
وبعد ذلك تحدثت عن موقفهم من الدعوة الإسلامية، وتأخر إسلامهم بسبب تأثرهم بموقف قريش، فقد كانوا من الأحابيش الموالين لقريش، وقد تكتلوا معهم في موقعة أحد ضد المسلمين.
فكانوا ينتظرون ما تصنعه قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت لهم تحركات ضد المسلمين بينتها بجلاء في هذا الباب، كما تحدثت عن موقف المسلمين من هذه التحركات وبينت أيضا وجوب إنذار الكافرين أو عدم إنذارهم ناقلا في ذلك أقوال العلماء ومرجحا ما ظهر لي أنه الراجح بالدليل، كما رجحت أن بني المصطلق كانت قد بلغتهم الدعوة الإسلامية وأن عندهم الإنذار المسبق وبهذا يسقط الاعتراض الوارد على كون رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذهم على غرة.
وأشرت في هذا الباب إلى سبب هذه الغزوة محددا تاريخها مع وصف ما دار فيها من أحداث خطيرة، وما انتهت إليه من نتائج عظيمة ونصر للإسلام والمسلمين. مبينا موقف بني المصطلق بعد الغزوة كما رجحت وجود سعد بن معاذ في هذه الغزوة ورددت على القائلين بخلاف ذلك.
أما الباب الثاني: فقد تركز الحديث فيه عن دور المنافقين في بدء الدعوة الإسلامية بوجه عام وعن دورهم في هذه الغزوة بصفة خاصة. وقد حاولت أن أضع صورة وافية للدسائس والمكايد التي كان يقوم بها حزب النفاق من أجل عرقلة انتشار الدعوة الإسلامية، مبينا ظهور نشأة النفاق وأسبابه، ومواقف المنافقين في الغزوات التي سبقت هذه الغزوة مع الإشارة إلى خطورة النفاق وأضراره الجسيمة على الإسلام والمسلمين.
وقد حظي موقفهم في غزوة المريسيع بحديث واسع بينت فيه كل ما قاموا به من أعمال عدوانية وتخذيل في صفوف المسلمين. واستغلالهم الفرص التي يبثون فيها شبههم وأفكارهم السيئة ومن ذلك إثارتهم للعصبية الجاهلية في هذه الغزوة، ورفعهم للشعارات القبلية وما صاحب ذلك من فتن كادت تعصف ريحها بكثير من المسلمين، وأشرت إلى حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في معالجة هذه السموم التي ينفثها المنافقون مع حلمه في عدم مؤخذة القائمين بذلك. وأسوأ عمل قام به المنافقون على الإطلاق في هذه الغزوة هو اختلاقهم لحادثة الإفك التي كان لها أثرها السيئ في نفوس المسلمين ووقعها الأليم في ساحة النبوة الطاهرة، وقد استغرق الحديث عن هذه الحادثة وقت طويلا، لتشعب رواياتها وكثرة أحداثها، وقد تكلمت على جميع الجوانب المتصلة بها من
تخريج الروايات وتحقيقها مع الكلام على الأحكام الفقهية المستنبطة منها، وهو أمر لم أر أحدا من المؤرخين قام به في مكان واحد بهذه الصورة التي انتهيت إليها.
أما الباب الثالث: فقد كان بحثي فيه عن تخريج حديث الإفك، وعن الانتقاد الوارد على الزهري، في تلفيقه الحديث عن مشايخه الأربعة دون أن يفرد حديث كل واحد منهم على حدة، وبينت أن هذا جائز لا مانع منه لأن الكل ثقات وقد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم الآخر ثم حققت القول في الذي تولى كبر الإفك وأنه عبد الله بن أبي ابن سلول، كما بينت ما حصل للصحابة من مواقف متباينة في هذه الحادثة.
فكان منهم من نفاها من أصلها وصرح بأن هذا بهتان وكذب، وذلك مثل أسامة بن زيد وبريرة وأبي أيوب الأنصاري وزوجه. ومنهم من نفاها كذلك ولكنه أشار تلويحا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراق أهله لما رأى انزعاج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر مشكوك فيه فأراد راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لحقه من هم وغم، وذلك هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم من أثرت فيه دعايات المنافقين فانخرط في سلكهم قولا لا اعتقادا فصار يردد قول أهل النفاق دون وعي وإدراك لما يقصده المنافقون وذلك مثل حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة رضي الله عنهم، وقد بينت ذلك في محله بينا شافيا، كما بينت في هذا الباب النزاع الحاصل بين الأوس والخزرج، في شأن عبد الله بن أبي ابن سلول، الذي هو أساس هذه الفتنة ورأسها، وبينت أيضا الانتقاد الوارد على البخاري في سماع مسروق من أم رومان ورجحت القول بسماعه منها مع ذكر وجهة المخالفين والرد عليها بأدلة مبسوطة في محلها.
وآخر أبواب الرسالة هو الباب لرابع: وقد أفردته للحديث عن الأحكام الفقهية الواردة في هذه الغزوة - هذا هو الفصل الأول منه - وعن العبر والحكم المستنبطة من هذه الغزوة وهذا هو الفصل الثاني من هذا الباب - فأما الأحكام الفقهية فقد بلغت عشرة أحكام تحدثت عن كل حكم منها بإيجاز واختصار غير مخل، مشيرا إلى الخلاف مستدلا لأقوال مرجحا الراجح بالدليل،
ولم أطل في ذلك لأن البحث ليس فقهيا بالمعنى الدقيق، وإنما عرضت لذلك حسب ما اقتضته نصوص الروايات الدالة على بعض الأحكام الفقهية. وأما العبر فإنها كثيرة وقد تكلمت على خمس عبر منها مأخوذة من هذه الغزوة.
وأما الجديد في هذا الموضوع فيمكن إيجازه فيما يلي:
1-
إن هذه الغزوة لم يفردها أحد بالتأليف قديما ولا حديثا وإنما تذكر ضمنا مع غيرها شأن المؤلفين في التاريخ عامة أو في السيرة النبوية خاصة وأحسن من تكلم فيها من المعاصرين محمد أحمد باشميل ضمن الأحداث الواقعة قبل غزوة الأحزاب، لكنه غير متقيد بتحقيق أو تدقيق ولم يستوعب الموضوع من جميع جوانبه.
2-
تحديد مساكن هذه القبيلة وضبطها بالأميال والكيلومترات.
3-
ذكر نبذة في نسبهم وصلتهم بقبائل المدينة المنورة.
4-
عقد مبحث في وجوب إنذار العدو أو عدم إنذاره بينت فيه مذاهب العلماء وأيدت القول الراجح بالدليل.
5-
تفصيل الكلام على حديث الإفك بكل جوانبه المتعلقة به، وهذا يعتبر جديدا وأحسن من تكلم على حديث الإفك ابن القيم في الزاد، ولكن ليس بهذا الاستقصاء الذي قمت به.
6-
عقد مبحث حول جواز استرقاق العرب أو عدمه - لأن له صلة بموضوعي - بينت فيه أقوال العلماء ونصصت على القول الراحج بدليله. وهذا جديد بالنسبة لهذه الغزوة.
7-
عقدت فصلا للأحكام المستنبطة من هذه الغزوة وخاصة حديث الإفك، وهذا وإن لم يكن جديدا بالمعنى الحقيقي، إلا أنه يوجد فيه بعض الأحكام أشار إليها بعض المؤرخين إشارة خاطفة وذلك مثل متى شرع التيمم، وصحة جعل العتق صداقا وغير ذلك.
8-
منهجي في هذا البحث: هو أنني أورد الحديث ثم أترجم لرجاله، وإن كان هناك حديث آخر يؤيده أو يعارضه أورده أيضا، ثم أحكم بعد ذلك على الحديث بما تقتضيه تلك الدراسة صحة أو ضعفا بعد المناقشة والفحص.
وإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فقد أترجم لرجاله من باب التعريف بهم لا للنقد فيهم، وأحيانا أقتصر على المتن أو جزء منه مجردا عن الإسناد، وذلك لاتفاق العلماء على توثيق رجالهما، وعلى أن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل.
وهذا المنهج لم يسبقني أحد إليه في دراسة هذه الغزوة، وهو محاولة لتطبيق مناهج المحدثين في دراسة السيرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.