الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخليج عند أيلة (أيلات) في الغرب حتى جبل اللكام في آسيا الصغرى (تركيا) في الشمال، والمسمى بالهلال الخصيب أرضًا عربية لا يتجزأ بعضها عن بعض) (1).
ولكون المصادر التاريخية أثبتت أن الشعب الرئيسى (دائمًا) من سكان الشام عبر القرون - حتى ظهور الإِسلام - هم من العرب، رغم تعاقب المتسلطين الأجانب عبر الأحقاب على الشام - فقد عقدنا فصلًا خاصًّا (وهو الفصل الأول من هذا الكتاب) تحدثنا فيه بإيجاز، عن تاريخ العرب في الشام قبل الإِسلام .. لا سيما وأن معركة (مؤتة التاريخية التي هي موضع دراستنا في هذا الكتاب، كان رأس الحربة فيها ضد الجيش الإِسلامي، هم العرب المتنصرة من قضاعة وغسان وغيرهم، بدليل أن مالك بن رافلة المتنصر الذي قتل في معركة (مؤتة بأيدى المسلمين كان يقود مائة ألف عربي كانوا إلى جانب الرومان ضد الإِسلام، كما أن سدوس بن عمرو، أخا شرحبيل بن عمرو الغساني - عامل الرومان على البلقاء - قد لقى مصرعه داخل الجزيرة العربية قرب وادي القرى وهو يقوم بأعمال الاستخبارات والاستطلاع لحساب وزارة الحرب الرومانية التي كان رجالها يحتشدون جنوب الشام لملاقات المسلمين.
-3 -
أسباب غزوة مؤتة
كان الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى السنة الخامسة من الهجرة، منهمكًا في الانشغال في الداخل بأعداء رئيسيين ثلاثة، هم:
أ - قريش جنوب المدينة.
ب - غطفان ومن لف لفها من قبائل نجد الخطيرة شرقي المدينة.
ج - يهود خيبر شمالي شرقي المدينة.
غير أنه صلى الله عليه وسلم عقب انتصاره السوقى التاريخي في معركة الصمود الحاسمة،
(1) انظر كتابنا "العرب في الشام قبل الإِسلام".
معركة الأحزاب (الخندق) على ذلك الثلاثى المتحالف، شعر، وشعر أيضًا أعداؤه أن الإِسلام أخذت جذوره تضرب بعيدًا في الأعماق داخل الجزيرة العربية، وكان الخوف والرعب منه قد أخذ ينوش قلوب أعدائه بمختلف فئاتهم.
فأمن جانب غطفان، أخطر أعدائه، وذلك بعد أن أنهكهم بالحملات العسكرية السريعة التي كان يجردها عليهم، وكانت خاتمة المطاف في خضد شوكتهم وإعطائهم درسًا عمليًّا بأن المسلمين أقوى مما يتصور أولئك الأعراب الأقوياء المحاربون الأشداء .. هي فشلهم في عملية الأحزاب العسكرية الشهيرة التي كانت غطفان فيها العمود الفقرى .. ستة آلاف منهم كانوا في قوة الأحزاب البالغ عددها عشرة آلاف حشدها اليهود بغية إنهاء الوجود الإسلامي في السنة الرابعة للهجرة.
-4 -
ففي السنة الخامسة من الهجرة شعر المسلمون بأن قوتهم الذاتية (بعد اجتياز محنة الأحزاب الرهيبة) قادرة على الصمود والتصدى عسكريًا لأية قوة في الجزيرة، تريد النيل منهم، ومنعهم أيَّ حق يستحقون مباشرته.
وكانوا - منذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - محرومين من زيارة البيت في مكة بسبب الحظر المتعسف الذي فرضته قريش - عندما كانت في مركز القوة - على المسلمين ومنعتهم بموجبه من دخول مكة حتى وإن كانوا معتمرين أو حجاجًا.
ففي هذه السنة تحرك من المدينة ألف وأربعمائة ن المسلمين تحت قيادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم متجهين جنوبًا نحو مكة بقصد العمرة (زيارة البيت العتيق)، فصدهم المشركون عند حدود الحرم ومنعوهم من دخوله، فجرت بين الفريقين مراسلات ومفاوضات أدَّت في النهاية (بعدى مشادات كادت تؤدى إلى حرب شاملة) أدَّت إلى ذلك الصلح التاريخي المسمى (صلح الحديبية).
كان من أهم مكاسب المسلمين في هذا الصلح، اعتراف قريش بالمسلمين كأمة ذات كيان، وإنهاء حالة الحرب بين المسلمين وقريش لمدة عشر سنين، وتسليم مشركى مكة بحق المسلمين في زيارة البيت والقيام بنسك العمرة رغم بقاء مكة تحت سيطرة الوثنية.
-5 -
من الناحية السياسية استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية بأن أمن جانب قريش (فترة من الزمن) استطاع فيها أن ينجز أعمالًا جسامًا، كان القيام بها ذا أثر فعَّال في تثبيت كيان الإِسلام وتدعيم مركز المسلمين. أهم هذه الأعمال:
1 -
التفرغ ليهود خيبر الذين كانوا مع المسلمين في حالة حرب .. أنهى الرسول صلى الله عليه وسلم وجودهم في أوائل السنة السادسة للهجرة بعد معارك عنيفة استمرت حوالي شهرين (1).
2 -
الاتصال بملوك وأمراء الشرق الأوسط لإِسماعهم صوت الإِسلام ودعوتهم إلى الدخول فيه وإلفات نظرهم إلى قيام أمة جديدة ذات خطر وكيان تسمى أمة الإِسلام (2).
3 -
التفرغ للجار الخطر (الرومان) وإلقاء درس حربى عملى عليهم بأن اجتاز جند الإِسلام (ولأول مرة) حدود الشام، وقاتلوا الرومان على أرضهم حيث نشبت في الشام معركة (مؤتة) الحاسمة التي هي موضوع دراستنا الرئيسية في هذا الكتاب.
-6 -
هكذا حدثت معركة مؤتة في فترة الصلح القائم بين المسلمين وبين
(1) انظر تفاصيل هذه المعارك في كتابنا السادس من هذه السلسلة (غزوة خيبر).
(2)
انظر تفاصيل هذه الاتصالات في هذا الكتاب.
قريش، وذلك قبل أن ينقض القرشيون وحلفاؤهم هذا الصلح.
كانت الهدنة فرصة (كما قلنا) بالنسبة للمسلمين لا بد من الاستفادة منها، فقد قرر النبي الحكيم والقائد السياسي والعسكري المحنك - وقد تراءت في الأفق أطماع الإِمبراطورية الرومانية في المسلمين والسميطرة على جزيرة العرب وصار عملاؤهم العرب المتنصرة يقتلون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غدرًا وبالجملة - رأى أن يبعث بقوة حربية من خيرة أصحابه (هي أكبر قوة استطاع حشدها حتى ذلك الوقت منذ ظهور الإِسلام) رأى أن يبعث بهذه القوة - الحربية إلى مشارف الشام لتتوغل داخل ذلك البلد الذي يعتبر بعضًا من ممتلكات الدولة البيزنطية، ويطأها غازيًا، لإِعطاء الرومان وعملائهم المتنصرة من العرب درسًا حربيًّا قاسيًا يشطب من أذهانهم جميعًا ما رسخ فيها مما آلفوه عن المقاتل العربي قبل أن يدين بالإِسلام، والذي كان (بصورة رئيسية) إنما يقاتل كرًّا وفرًّا وفي حركات خاطفة بغية السلب والنهب فقط، ثم ينسحب سواء كسب أم خسر. إنه أسلوب بدائى في القتال لا يتناسب وأساليب اللجيونات والتفوق التكنولوجى الذي يمتاز بها الجيش الروماني.
-7 -
كان الرومان وعملاؤهم العرب المتنصرة ينطلقون في معاملتهم المسلمين من هذه النظرة الخاطئة، وعلى أساس هذه النظرة الخاطئة، قتلوا (غدرًا أو غيلة) خمسة عشر من فضلاء الدعاة المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يقال له ذات الطلح داخل الشام، قتلوهم، وهم في مهمة سلمية إنسانية، هدفها نشر الإِسلام بالحسنى وطريق الإِقناع، فكان ذلك من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نشوب معركة (مؤتة) الفاصلة، والتي استشهد فيها قادة الجيش الإسلامي الثلاثة، وتعرض الجيش النبوى الصغير فيها لمحنة قاسية لم يخلصه منها إلا مهارة القائد الفذ المحنك خالد بن الوليد الذي يشترك ولأول مرة جنديًّا ثم قائدًا في جيش إسلامي.
-8 -
فللأسباب التي ذكرنا، حشد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل من أصحابه من أهل البادية والحاضرة وعمن لهم (قبل أن يتحركوا من المدينة) قادة ثلاثة بالتناوب.
1 -
زيد بن حارثة مولاه.
2 -
جعفر بن أبي طالب ابن عمه إذا قتل زيد.
3 -
إذا قتل جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري،
وقد اجتازت القوة النبوية حدود الشام عبر (معان) المدينة التاريخية الشهيرة حتى وصلت منطقة الكرك (لواء البلقاء اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية)، وهناك في مشارف قرية يقال لها (مؤتة) دارت المعركة التاريخية الفاصلة التي سميت واشتهرت فيما بعد في التاريخ بمعركة (مؤتة).
-9 -
لقد كانت معركة (مؤتة) بحق معركة رهيبة طاحنة، ولا أدل على ذلك من أن القادة الثلاثة للجيش الإِسلامي قتلوا جميعهم الواحد تلو الآخر، كما قتل كذلك بشر كثير من المسلمين لم يحص عدده، وسقط أيضًا خلق أكثر من القوات الرومانية وحلفائها، كما صرع قائد المتنصرة العرب المرتزقة مالك بن رافلة، وسدوس بن عمرو، أخو حاكم المنطقة شرحبيل بن عمرو الغساني.
واستمرت المعركة (على ما ذكره ابن برهان الدين في السيرة الحلبية) ستة أيام، أبدى فيها المسلمون من ضروب الشجاعة والتضحية والثبات والفداء ما لا مزيد عليه.
-10 -
وللحقيقة والتاريخ فقد هزم المسلمون -بعد مصرع قادتهم الثلاثة-
هزيمة منكرة لم يهزم مثلها قوم (قط).
غير أن خالد بن الوليد لما توّلى القيادة بعد الهزيمة، أعاد للجيش الإِسلامي تنظيمه، ثم جعله ينزل بالرومان هزيمة منكرة لم يهزموا مثلها. ثم أنقذ الجيش الإِسلامي الصغير، فانسحب به (في غمرة الاضطراب الذي ساد صفوف الجيش الروماني). . انسحب به على تعبئة تامة وانتظام كامل، فاستحق بذلك أعلى وسام يمنحه الرسول صلى الله عليه وسلم مسلمًا من أصحابه (سيف الله).
لأن خالدًا بتوفيق الله، ثم بمهارته العسكرية، وشجاعته النادرة، وصلابة إرادته، تمكن من أن يسحب رؤوس ثلاثة آلاف مقاتل مسلم من تحت مطرقة الموت التي أخذ مائتا ألف مقاتل رومانى وحليف عربي يهوون بها على رؤوس أفراد ذلك الجيش الإِسلامي الصغير الذي أنهكته الحرب، وفقد قادته الثلاثة وسقط لواؤه على الأرض فتمزق شمل وحداته تمزقًا مريعًا.
- 11 -
إن معركة مؤتة - على ما أصاب المسلمين فيها من كرب وبلاء. وعلى ما تعرضوا له فيها من أخطار، وأقدموا عليه من مجازفة بلغت في عرف هذا العصر حد الانتحار، تحمل أروع صور الصمود والتضحية والثبات، وفيها الدروس كل الدروس عن معاني العقيدة الحقيقية الصحيحة، ومعطياتها السخية، ودفقاتها الزاخرة بروافد الإِيمان التي تجعل من حاملها إعصارًا يزلزل الشوامخ، وجبلًا يهزأ بأعتى. الأعاصير.
فالتمسك بالعقيدة - عقيدة الإِسلام - وعلى ذلك المستوى الذي بلغه أبطال مؤتة، هو الذي به يستطيع المسلمون (عربًا كانوا أم غير عرب) استعادة الحقوق المسلوبة، والحفاظ على الكرامات المعرضة للهدر والضياع.
فكم هو جدير بأصحاب الأيديولوجيات المستوردة إلى الشرق لجعلها منطلقًا لاسترجاع ثالث الحرمين وما ضاع من حقوق المسلمين في فلسطين
وغير فلسطين، كم هو جدير بهم أن يدرسوا الأيديولوجية التي من فوق أرضها الصلبة ثبت ثلاثة آلاف مقاتل سبعة أيام يصارعون جيشًا قوامه مائتا ألف مقاتل، فأبدوا من ضروب الشجاعة والبذل والتضحية والفداء، ما يجعل الذي يتغنى به الماركسيون من بطولات عصابات تشى غيفارا وهوشى منّه وماوتسى تونج صفرًا من اليسار في حساب البطولات.
- 12 -
إن تاريخ أمتنا العربية التي هي جزء من أمتنا الإِسلامية الكبرى طافح بأعمال البطولات الخالدة التي يجب أن تكون معقد اعتزازنا عند الافتخار، ومرجع دراستنا عندما يجئ دور الاقتداء والاتعاظ والاعتبار. فنحن مستغنون كل الاستغناء عن التغنى بأمجاد غيرنا، والتأسى والاقتداء برجال لا يمتون إلينا ولا إلى تاريخنا بأية صلة.
وكم هو رائع (بل وعظيم) أن يفطن لمثل هذه الحقيقة ويدعو للتمسك بها أمثال (اللواء الركن مصطفى طلاس) فيقول - معقبًا في غير ارتياح على احتفال بعض بني قومه بالعيد المئوى لزعيم الشيوعية العالمية فلاديمير لينين -. . "في التاريخ أمثلة تدل دلالة قاطعة على أن ما من أمة تعرّضت أراضيها للغزو الأجنبي والاحتلال، إلا هبَّت تنشد ماضيها وتبحث عما فيه من أمجاد. لعلها تجد ما يبعث الحياة في حاضرها، فتبرهن على أصالتها ودورها في الحضارة الإِنسانية. وحسب معلوماتى التاريخية ليس ثمة أمة داهمها الغزو كما ذكرت، واحتلت أجزاء من أراضيها احتلالًا استيطانيًا، بل وربما هددت بالسحق والإِبادة والتشريد، ثمَّ انبرت تفاخر بتاريخ غير تاريخها وتحتفل بقادة غير قادتها، وهي إن فعلت ذلك، إذن كان مثلها (مثل القرعاء، تتباهى وتفاخر بشعر جارتها).
أقول هذا عندما رأيت الصور والملصقات تغص بها الشوارع في دمشق العربية، لرجل لا يمتّ إلى تاريخنا بصلة غير صلة الإِنسانية، مع تقديرى
العميق لمناقبه الفذة، قررت أن أكتب شيئًا مهما كان قليلًا في ذكرى الرسول العربي" (1).
حقًّا إنه ليس أحد أحق بالرثاء من أمة تتجاهل تاريخها الزاخر بالأمجاد والبطولات والطافح بذكرى الأبطال الخالدين ثمَّ تدلج في ظلام المبادئ الهدامة المستوردة باحثة عن نفايات البشر وشذاذ الآفاق والسفاحين الملحدين لتجعل منهم مثلها الأعلى في النضال وقدوتها المثلى في التربية والسلوك.
إن نتيجة مثل هذا التصرف، لن تكون إلا كما كانت، الاندحار يتلوه الاندحار، والهزيمة تتلوها الهزيمة حتى تعود أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى الانتهال من منبع الإِسلام الصافى الشافى الذي انتهل منه أبطال معركة (مؤتة) فسجلوا من الانتصارات في العهد النبوى وما تلاه من عهود زاهرة، ما حشى فم التاريخ بذكراهم العاطرة، التي ظلت وستظل إلى الأبد أُنشودة الدهر المفضلة التي يتغنى بها. .
إلى الإِسلام من جديد أيها المسلمون (عربًا كنتم أم غير عرب) إلى حقيقة الإِسلام المتمثلة في التمسك به قولًا وعملًا، لا إلى القشور التي لا تعدو الانتساب إلى هذا الدين الخالد فحسب، إلى الإِسلام الحقيقي إن كنتم تتوقون حقًّا إلى أن يكون الله معكم لينصركم على أعدائكم. وإلا فلا تلوموا إلا أنفسكم فلا عزة لكم ولا نصر بغير الإِسلام. وتذكروا دائمًا قول الفاروق عمر بانى دولة الإِسلام العظمى. . "من طلب العزة بغير الإِسلام أذله الله".
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعًا لما فيه فلاحنا في الدنيا ونجاتنا في الآخرة إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
محمَّد أحمد باشميل
جدة. . . المملكة العربية السعودية
1392 هـ - 1972 م
(1) الرسول العربي وفن الحرب ص 15 من مقدمة مؤلفه اللواء الركن مصطفى طلاس.