الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يحدث في قوم مثلها قط (1).
استدراك وتعقيب
إذن فالذي لا يمكن لأى باحث إلا أن يرجحه هو أن عدد ضحايا هذه المعركة الطاحنة (معركة مؤتة) من الفريقين قد بلغ المئات. . واقتصار المؤرخين على ذكر أسماء هذا العدد القليل من القتلى لا ينفى هذه الحقيقة التي لا بد من التسليم بها.
فالمؤرخون الذين تحدثوا عن هذه المعركة الطاحنة لم ينفوا جسامة الخسائر في هذه المعركة وضخامة عدد القتلى فيها. بل أثبتوا ذلك في الجملة بكل وضوح كما تقدم.
ولكنهم كمؤرخين ثقات أمناء يقدرون مسئولية ما يكتبون للأجيال التي من بعدهم لم يذكروا إلا ما أوصل الرواة إلى علمهم أسماء هذا العدد الضئيل من القتلى. الذين هم (دونما شك) أقل عشرات المرات من العدد الحقيقي لضحايا هذه المعركة الطاحنة.
وكما قلنا فإن اقتصار المؤرخين على ذكر هذا العدد القليل من شهداء المسلمين ولأقل منه من قتلى الرومان لا ينفى وجود عدد ضخم من القتلى بين الفريقين لم يتمكن أحد من إحصائهم. لذلك اكتفى المؤرخون بالإِشارة إلى ضخامة عددهم دونما إعطاء تفصيل بأعدادهم وأسمائهم، كقولهم (كما تقدم). . فكانت الهزيمة وقتل المسلمون واتبعهم المشركون -وكقولهم: - لما تولى خالد انكشف المشركون منهزمين فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم قط.
ولكن ما بين أيدينا من مصادر تاريخية لا تذكر من قتلى المسلمين سوى عدد قليل. ذكر الواقدي أنهم ثمانية فقط. وذكر ابن هشام عن ابن إسحاق أنهم اثنا عشر شهيدا. . حسب رواية الواقدي أربعة من المهاجرين. وأربعة من الأنصار. وحسب رواية ابن إسحاق. أربعة من
(1) مغازي الواقدي ج 2 ص 764 وطبقات ابن سعد ج 2 ص 129 - 130 وزاد المعاد ج 2 ص 276 - 277 وإمتاع الأسماع ص 348 - 349 والبداية والنهاية ج 4 ص 244 وما بعدها.
المهاجرين وثمانية من الأنصار. وأسماؤهم كالتالي. من المهاجرين.
1 -
جعفر بن أبي طالب (1).
2 -
زيد بن حارثة (2).
3 -
مسعود بن الأسود بن حارثة العدوي (3).
4 -
وهب بن سعد بن أبي سرح العامري (4).
ومن الأنصار
1 -
عبد الله بن رواحة (5) من الخزرج.
2 -
عبّاد بن قيس (6) من الخزرج.
3 -
الحارث بن النعمان بن أساف (7) من الأوس.
4 -
سراقة بن عمرو بن عطية (8) من الخزرج.
5 -
أبو كليب بن عمرو (9) من الأوس.
6 -
جابر بن عمرو بن زيد (10) من الأوس.
7 -
عمرو بن سعد (11) من الأوس.
(1) تقدمت ترجمة جعفر فيما مضى عن هذا الكتاب.
(2)
انظر ترجمة زيد بن حارثة في كتابنا "غزوة بدر الكبرى".
(3)
هو مسعود بن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف العدوي القرشي. . معروف بابن العجماء هو وأخوه مطيع من السبعين الذين هاجروا. وشهدوا بيعة الرضوان. وكان من رواة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4)
هو وهب بن سعد بن أبي سرح الفهرى القرشي، أحد القائد الشهير عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قال ابن سعد في الطبقات: شهد بدرًا في قول موسى بن عقبة. آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سويد بن عمرو. وقتلا يوم مؤتة معا. . شهد وهب أحدا والخندق والحديبية وخيبر. استشهد وله من العمر أربعون سنة.
(5)
انظر ترجمة عبد الله بن رواحة في كتابنا "غزوة بدر الكبرى".
(6)
هو عباد بن قيس بن عبسة بن أمية بن مالك الخزرجى الأنصاري قال ابن سعد: شهد بدرًا هو وأخوه سبيع.
(7)
هو الحارث بن النعمان بن أساف بن نضلة النجارى الأنصاري.
(8)
هو سراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء الخزرجى. شهد بدرًا وأحدًا والخندق وخيبر والحديبية.
(9)
قال في الإِصابة: أبو كليب ويقال له أبو كلاب بن عمرو بن زيد بن عوف الأنصاري.
(10)
هو جابر بن عمرو بن زيد شقيق أبي كليب.
(11)
هو عمرو بن سعد بن الحرث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن أقصى بن حارثة. ذكره ابن =
8 -
عامر بن سعد (1) من الأوس.
هذه هي الأسماء التي ذكر المؤرخون أن أصحابها استشهدوا من المسلمين. ثمانية فقط على ما قاله الواقدي. واثنا عشر على ما ذكره ابن إسحاق. وبقية المؤرخين لا يخرجون عن نطاق هذا العدد.
وهو عدد لا يتناسب وما وصف به المؤرخون (دونما استثناء) المعركة من ضراوة وعنف وشدة وطول جلاد استمرت سبعة أيام متوالية لا يفصل فيها بين عشرات الألوف من المتحاربين إلا ظلام الليل.
ويمكن أن يبرز هنا سؤال وهو. . أن عنف المعركة وضراوتها وعدم تمكن الجيش الإِسلامي من البقاء في ساحاتها (بعد انتهائها) وقتا كافيا يمكنه من إحصاء عدد قتلى الأعداء من الرومان وحلفائهم من العرب غير المسلمين. الذين أكد المؤرخون أنَّه عدد كان ضخما للغاية. حيث وصفوا بأن مقتلة حدثت فيهم لم يحدث مثلها قط. فلماذا لم يذكر المؤرخون المسلمون سوى عدد قليل من قتلى المسلمين الذين لا بد وأن يكونوا (تناسبا مع طول المعركة وضراوتها وعنفها) أكثر بكثير من هذا العدد القليل الذي لم يتجاوز الاثنى عشر شهيدًا على ما جاء في سيرة ابن هشام، وثمانية شهداء على ما جاء في مغازي الواقدي؟ ؟
ويمكن الإِجابة على التساؤل بما يلي:
1 -
إن اقتصار بعض المؤرخين على ذكر هذا العدد القليل من قتلى المسلمين. لا ينفى (بصورة قاطعة) أن يكون عدد الشهداء أكثر بكثير من هذا العدد. فأصحاب السير لا يسجلون في سجلاتهم إلا ما ثبت لديهم من الأسماء.
2 -
يمكن القول أن جمهرة الجيش الإِسلامي في مؤتة هم من أبناء البادية من مختلف القبائل الذين لم يكونوا من سكان المدينة المعروفين. بدليل أن قائد ميمنة المسلمين هو رجل من بني عذرة. وهي قبيلة بدوية. لم
= شهاب في مختصر السيرة النبوية.
(1)
هو عامر بن سعد أخو عمرو بن سعد بن عامر بن ثعلبة.
يترجم له أصحاب معاجم تراجم الصحابة سوى قولهم أنَّه عباية بن مالك العذرى.
3 -
يتضح للمتتبع لمراحل معركة مؤتة أن قادة وزعماء ووجوه المهاجرين والأنصار وأهل السابقة لم يأت ذكر لأسمائهم بين قادة وجنود جيش الإِسلام في مؤتة. إذا استثنينا زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وثابت بن أقرم وخالد بن الوليد الذي لم يمض على إسلامه يوم ذاك سوى ثلاثة أشهر: الأمر الذي يعضد القول: أن جمهرة الجيش الإِسلامي هم من أهل البادية من مختلف القبائل الذين عمر الإِسلام قلوبهم حديثًا. فخاضوا تلك المعركة الضارية العنيقة الطويلة بتلك الشجاعة والبسالة المتناهيتين.
4 -
من هنا أمكن القول. . إن شهداء كثيرين من مختلف أبناء القبائل (البادية) صرعوا في هذه المعركة الطاحنة، لم يتمكن أحد ممن هم مرجع لرواة الحديث والسير والتراجم من التعرف عليهم ومعرفة أسمائهم وإحصاء عددهم. لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المسلمين لم يسيطروا على مكان المعركة (بأية صورة من الصور) بعد انتهائها، يمكنهم من التعرف على كل القتلى وإحصاء عددهم. بل كان همهم الوحيد بعد أن صرع قادتهم الثلاثة وبعد أن استمر القتال سبعة أيام أن ينسحبوا ببقية الجيش سليمًا من الميدان ودونما خسارة تذكر. وهذا هو الذي حدث بالفعل فبالخدعة الحربية التي ذكرنا تفصيلها فيما مضى من هذا الكتاب تمكن خالد بن الوليد من أن يسحب الجيش الإِسلامي ويخلصه من خطر الإِبادة أو الوقوع في الأمر. . فترك الميدان للرومان وحلفائهم فبقى مكان المعركة تحت سيطرة الرومان وحلفائهم. وهؤلاء (لبقائهم مسيطرين على ساحة الميدان بعد انتهاء المعركة وانسحاب المسلمين الذين انسحب بهم خالد على عجل وفي حذر شديد) يستطيعون أن يحصوا بحرية ودقة عدد القتلى من الفريقين. ويسجلوهم في سجلات تاريخهم. ولكن ما بين أيدينا من مصادر التاريخ البيزنطى المترجم (وهو شيء قليل جدًّا) لم نجد فيه أي ذكر لمعركة مؤتة بل ولا حتى لمعركة اليرموك التاريخية الشهيرة.
وقد يكون البيزنطيون أرخوا لمعركة مؤتة وذكروا تفاصيلها وأعطوا إحصاءا دقيقا عن عدد قتلى الفريقين. ولكن هذا التاريخ ضاع كما ضاع العنصر البيزنطى نفسه وتلاشى بعد أن اختلط وامتزج بسلالات وشعوب أخرى حتى لم يعد له أي وجود كأمة مستقلة. كما هو الحال بالنسبة للعرب.
أما الشهداء الاثنا عشر فكلهم مشهورون معروفون فهم من الأنصار والمهاجرين ومن أهل المدينة. فعندما افتقدهم أهلوهم شاع خبر استشهادهم وسهل على رواة الحديث وكتاب التاريخ والسير أن يسجلوهم في سجلاتهم. لا سيما وأن قطبى تدوين السيرة النبوية (محمَّد بن عمر الواقدي ومحمد بن إسحاق) هما من أهل المدينة.
أما الشهداء من أبناء القبائل من أهل البادية (وهم الأكثرون فيما نظن) فلم يكن (بالتأكيد) لشيوع ذكر استشهادهم ما كان لشيوع ذكر استشهاد أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، لأنَّ ذويهم منتشرون متفرقون في نواحى البادية. فصار من الصعب على المختصين في تدوين السير والمغازى من أهل الحاضرة الحصول على أسمائهم وأعدادهم، وليس هناك ديوان إحصاء للجند في ذلك العهد يسجل فيه المنخرطون في سلك الجيش. ثمَّ إثبات أسماء الذين تم استشهادهم في المعركة. حتى يحرص ذوو الشهداء من أهل البادية على تسجيلهم في هذا الديوان. ويسهل بالتالى على كتاب السير والمغازى الحصول على أسمائهم وأعدادهم بصورة دقيقة كاملة. . فمما لا شك فيه (إذن) أن هناك جنودا للإِسلام مجهولين كثيرين استشهدوا في معركة مؤتة الطاحنة كلهم من أبناء القبائل البادية. لم يعرف عددهم ولم تعرف أسماؤهم للأسباب التي ذكرنا.
هذا مجرد اجتهاد واستنتاج وتقييم جعلنا نبديها استساغتنا للقاعدة الفلسفية التاريخية التي وضعها فيلسوف التاريخ والاجتماع الأوّل الإِمام ابن خلدون والتي أخذنا بها. . والقائلة (وكما طبقها الإِمام ابن خالدون في مقدمته الشهيرة) أن على المؤرخ الباحث أن لا يجمد على النصوص المتعلقة بالتاريخ بل عليه أن يقيم الأحداث ويزن الأمور بميزان العقل ويستخرج