الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رِبَاطِ الْخَيلِ} (1) فقد أثبت أبطال (مؤتة) المسلمون من أصحاب محمَّد أن القوة المادية ليست كل شيء في كسب النصر أو الحيلولة دون التعرض للهزائم الساحقة وإنما الشرط الأساسي لكسب النصر. أو الصمود والثبات لمنع وقوع الهزائم الساحقة المدمرة. هو توفر العقيدة السليمة الصادقة وتغلغلها في قلب الإِنسان المسلم.
كيف انتصرت العقيدة في مؤتة
لقد كان كل شيء مادى يوحى على نحو لا يقبل النقاش على أن الهزيمة الساحقة المدمرة ستكون من نصيب الجيش الإِسلامي في مؤتة.
فمن وجهة النظر العسكرية وحسب المقاييس والموازين الحربية العادية التي بها يتم تقييم الموقف الحربى ويعطى بها (مقدما) ما يشبه الحساب الذي لا يخطئ. كان النصر مضمونًا للرومان على المسلمين كنتيجة حتمية لتفوقهم الهائل الساحق على المسلمين في كل شيء.
فجيش الإِسلام (حسب هذه الموازين والمقاييس العسكرية) مقضى عليه في (مؤتة) على أيدى الرومان إما بالموت وإما بالوقوع في الأسر.
وهذا تقدير لا يمكن لأى خبير عسكرى أن يطعن في صحته من وجهة انظر العسكرية العادية التي عَبْرَها يضع القادة الخطط وينتظرون النتائج للمعارك.
فثلاثة آلاف مقاتل. مهما بلغوا من الشجاعة وقوة البأس وشدة المراس والصبر على الحرب لا يمكنهم (حسب المقاييس العادية الطبيعية) الصمود ساعة واحدة في وجه مائتي ألف مقاتل بل لا يمكنهم النجاة من أن يُقتَلوا أو يقعوا جميعهم أسرى في أيدى تلك القوات الكثيفة الغامرة الهائلة التي كانت تحيطهم كما يحيط البحر الهادر نقطة من اليابسة صغيرة.
ذلك هو التقدير الصحيح والمفهوم الذي لا غبار على صحته وسلامته لدى من ينظرون إلى المعارك على أنها قتال بين فريقين. هم من طينة واحدة
(1) الأنفال / 60.
(طينة البشر). تكون فيها (عادة) الغلبة والنصر للأكثر عددًا والأجود تسليحًا والأحسن تدريبًا والأكثر علمًا بفنون الحرب. وكل هذه العناصر المطلوب توفرها لكسب النصر الساحق. كانت متوفرة لدى قيادة الجيش الروماني الذي تصادم مع جيش الإِسلام في مؤتة.
ولكن جيش الإِسلام الصغير في (مؤتة) قلب موازين النظريات العسكرية التقليدية التي تقول: إنه - لكي تضمن القيادة النصر - يجب إعداد المحارب إعدادًا ماديًا كاملًا من حيث التسليح والتدريب والإِلمام بالعلوم العسكرية وفنونها (تكنولوجيًا) والتفوق في العدة والعدد.
فقد أثبت الصمود الرائع - الذي أبداه المسلمون في معركة مؤتة والذي يمكن. . نظرًا لعدم التكافؤ بين القوتين المتحاربتين وصفه بأنّه أعلى نموذج للنصر المؤزر -. أثبت أن التفوق في القوة المادية. بل وحتى العلوم والفنون العسكرية ليس هو كل شيء لكسب المعارك.
وإنما العامل الأساسي والأول لكسب النصر وتحقيق الأهدف في المعارك هو العقيدة الصحيحة السليمة.
وهذا هو الذي أثبتته عمليًّا وخلدته في سجل التاريخ - كحقيقة واقعة - أحداث معركة مؤتة التاريخية. . فمتانة العقيدة ورسوخها في نفوس الجيش الإِسلامي. قد أبطلت عامل التفوق الهائل لدى الجيش الروماني في معركة (مؤتة).
إذ جعلت العقيدة الإِسلامية - لا القوة الحربية لدى المسلمين - الجيش الروماني يبدو وكأنه مصاب بالشلل.
وإلا فما هو التفسير لصمود ثلاثة آلاف مقاتل في وجه مائتي ألف مقاتل سبعة أيام متوالية ثبت المسلمون خلالها. وظلوا يقاتلون الرومان فيها قتالًا شرسًا ضاريًا. موقفين تقدمهم ومنزلين بهم أفدح الخسائر.
وعندما قتل آخر قائد من قادة الجيش الإِسلامي الثلاثة ورجحت كفة الجيش الروماني وبدا وكأنه قد كسب المعركة نهائيًا. وأن إبادة هذا الجيش
الصغير أصبحت أمرًا مفروغًا منه. إذا بالقائد الجديد لهذا الجيش يعيد تنظيمه (في تلك الساعات الحاسمة) من جديد ويشن به هجومًا كاسحًا يشيع الفوضى والهلع والارتباك في صفوف الجيش الروماني. ثمَّ ينسحب بسلام وانتظام دون أن يخسر رجلًا واحدًا. ودون أن يجرأ الجيش الروماني على تعقبه وملاحقته أثناء انسحابه. مع علم قيادة الجيش الروماني. أن الجيش الإِسلامي الصغير المنسحب. تفصله عن عاصمته التي قرر الانسحاب إليها مسافة لا تقل عن ستمائة ميل. مزروعة كلها بعناصر معادية للجيش المسلم الأمر الذي يجعل (حسب المقاييس العسكرية العادية) من السهل على الجيش الروماني تعقب الجيش الإِسلامي المنسحب وتمزيقه وإبادته.
ولكن شيئًا من هذا لم يحدث. بل - بدلًا من أن تفكر قيادة الجيش الروماني في مطاردة الجيش الإِسلامي المنسحب ومهاجمته وهو ينسحب - كان سرورها عظيمًا بانسحابه من الميدان. لأنها عانت منه خلال الأيام الستة في مؤتة ما نسخ من أذهانها كل مفاهيمها عن المحارب العربي بعد أن أصبح مسلمًا. له عقيدة يرى الاستشهاد في سبيل نصرتها غاية ما يتمنى. فما هو السر في كل هذا الذي حدث مما يمكن اعتباره من الخوارق للعادة؟ .
إن الباحث العسكري الخبير المنصف - وهو يضع أحداث محركة مؤتة في المختبر للتحليل - لن يجد أية صعوبة (بعد ظهور عدم التكافؤ بين الجيشين المتصادمين في مؤتة على النحو الذي فصلنا). لن يجد أية صعوبة في إصدار حكمه القاطع بأن ما حققه الجيش الإِسلامي الصغير من انتصارات بصموده ذلك الذي بلغ ما يقرب الإِعجاز. إنما كان يرجع إلى عامل واحد. هو عامل العقيدة. عقيدة الإِسلام التي رسخت في قلب كل جندى من جنود ذلك الجيش المسلم الصغير.
والتي كانت الإِيجابية الرئيسية لرسوخ هذه العقيدة هو حرص كل واحد من هؤلاء الجنود على الموت في سبيل الله أكثر من حرصه على الحياة. . هذه الإِيجابية الرائعة التي عبر عنها أصدق تعبير القائد الثالث في هذه المعركة التاريخية الخالدة بقوله: (والله يا قوم إن التي تكرهون لهي التي خرجتم تطلبون الشهادة فانطلقوا بنا إلى عدوّنا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما
شهادة) وذلك عندما تردد بعض الصحابة (بمدينة معان) في مصادمة الرومان عندما بلغهم العدد الهائل الذين هم فيه.
إذن فالعامل الرئيسى في الانتصارات الرائعة التي حققها المسلمون في معركة (مؤتة التاريخية الخالدة إنما هو العقيدة الإِسلامية الراسخة التي أبطلت فعاليتها العظيمة عامل التفوق المادى والعلمى الساحق لدى الجيش الروماني وجعلت هذا التفوق (في ميزان النتائج) يبدو وكأنه صفر من اليسار في علم الحساب.
وعامل العقيدة الإِسلامية الصادقة وتغلغلها ورسوخها في نفس المحارب المسلم لم يكن في معركة (مؤتة) وحدها العامل الرئيسى الأوّل في إبطال عامل التفوق المادى الساحق الذي يواجهه المحارب المسلم في العهود التي كانت عزة الإِسلام فيها هي السائدة الغالبة المنتصرة.
بل لقد كان المحاربون المسلمون دائمًا في تلك العهود يتفوق عليهم أعداؤهم في العدد والعدة وكل مستلزمات النصر المادية والفنية. ولكن النصر الساحق دائمًا يكون للمسلمين على أعدائهم في كل تلك المعارك.
هذه حقيقة واقعة ناصعة شهدتها (معارك بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين. واليمامة وبزاخة (1) واليرموك والقادسية ونهاوند (2) وجبل الطارق وزلاقة (3)
(1) بزاخة (بضم أوله وفتح ثانيه) ماء لبنى أسد بن خزيمة بنجد دارت فيه معركة فاصلة بين جيوش الخلافة بقيادة خالد بن الوليد وبين قوات المرتدين بقيادة طليحة بن خويلد الأسدي.
(2)
نهاوند (بفتح أوله وثانيه وسكون ثالثه) مدينة عظيمة في فارس فتحها النعمان بن مقرن المزني. ثمَّ استشهد في معركة فتحها. ومعركتها حاسمة تشبه معركة القادسية. واستشهد فيها أيضًا عمرو بن معدى كرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي وكلا الرجلين ارتدا عن الإِسلام ثمَّ تاب وجاهد في سبيل الله حتى استشهد.
(3)
زلاقة (بفتح الزاى وتشديد اللام) موضع في شمال الأندلس قرب الحدود الفرنسية. دارت فيها معركة طاحنة بين أمير المسلمين يوسف بن تاشفين البربرى حاكم مراكش وعرب الأندلس من جهة وبين الملك الأذفونش من جهة أخرى. وقد انتصر فيها المسلمون بعد قتال مريع وبعد أن انهزمت بعض طلائعهم أمام النصارى وقد جرح في هذه المعركة الملك الأذفونش. ثمَّ مات - بعد ذلك - متأثرًا بجراحه.
وحطين (1) والقسطنطينية (2) وذات الصوارى (3) فالانتصارات العظيمة في تلك المعارك الحاسمة وأمثالها. والتي مكنت الإِسلام وجعلت المسلمين (فترة من الزمن) أعز أمة في الأرض. لم يكن العامل في تحقيقها عامل التفوق المادى بكثرة العدد والعُدد. ولا عامل التفوق (التكنولوجى) بإجادة العلوم والفنون العسكرية. كلا فعامل التفوق في كل هذه الأمور المادية والعلمية والفنية هو في جانب أعداء الإِسلام. . وإنما العامل الرئيسى والأول في تحقيقها هو عقيدة الإِسلام المكينة الصادقة الراسخة. التي بصلابتها ورسوخها في القلوب المؤمنة. غيَّر المسلمون (خلال تسعين سنة) مجرى التاريخ كله. إذ طوى خلالها جند الإِسلام (على قلتهم وكثرة أعدائهم) بساط ثلاث إمبراطوريات كانت جميعها تتنازع سيادة العالم كله.
وبعد؛ فإن المحارب المسلم (عربيًّا كان أو غير عربي) لا سبيل له يصل به إلى تحقيق الانتصارات الحاسمة على عدوه إلا بالتزام عقيدة الإِسلام وعلى المستوى الذي التزم به رجال (مؤتة) واليمامة واليرموك والقادسية.
(1) حطين (بكسر أوله وثانيه مع التشديد) موضع في فلسطين بين عكا وطبرية. وعلى بعد ثمانية أميال من بحيرة طبرية. موضع له تاريخ خالد. . حيث دارت فيه المعركة الحاسمة بين جيوش صلاح الدين وبين ملوك الصليبيين وأنزل بهم تلك الهزيمة المنكرة التي مكنته من استعادة فلسطين كلها وطرد الصليبيين منها. بعد أن حرر بيت المقدس منهم.
(2)
القسطنطينية: مدينة عظيمة تقع على خليج البوسفور كانت عاصمة الإِمبراطورية البيزنطية (الروم الشرقية) فتحها السلطان محمَّد الفاتح التركى سنة 857 هـ 1453 م وهو في الحادية والعشرين من عمره بعد معركة رهيبة اشترك فيها ربع مليون جندى تركى قاموا عليها بالهجوم عن طريق البحر فاقتحموها.
(3)
ذات الصوارى: معركة بحرية هائلة دارت في مياة البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم سابقًا) بالقرب من الشواطئ التونسية ما بين الأسطول الإِسلامي المؤلف من حوالي ثلاثمائة سفينة بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وما بين الأسطول الروماني المؤلف من حوالي ألف سفينة بقيادة قسطنطين بن هرقل. وقد انتصر المسلمون في هذه المعركة بعد قتال رهيب تماسك فيه الفريقان بالشعور واستخدموا الخناجر بدل السيوف. حتى احمرت مياة البحر من الدماء. وقد فر قائد الأسطول الروماني قسطنطين منهزمًا على سفينة القيادة إلى صقلية وهناك مات متأثرًا بجراحه وقيل اغتاله نصارى صقلية حنقًا عليه لانهزامه أمام المسلمين.