الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خوفًا من الموت.
فعن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد أن غالب بن عبد الله الليثى وقف خطيبًا في رجال هذه السرية (قبيل العركة) فقال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له وأن تطيعونى ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمرًا، فإنه لا رأى لمن لا يطاع، ثم ألف بينهم فقال: يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان -لا يفارق كل رجل زميله- وإياكم أن يرجع إلى أحدكم فأقول: أين فلان صاحبك؟ فيقول: لا أدرى، وإذا كبرت فكبروا. ثم قال: فكبر وكبروا، وأخرجوا السيوف قال: فأحطنا بالحاضر (وفي الحاضر) نعم وقد عطنوا (1) مواشيهم فخرج إلينها الرجال فقاتلوا ساعة، فوضعنا السيوف حيث شئنا منهم، ونحن نصيح بشعارنا: أمت أمت، وخرج أسامة بن زيد في أثر رجل منهم يقال له نهيك بن مرداس فأبعد، وحوينا على الحاضر وقتلنا من قتلنا، ومعنا النساء والماشية، فقال أميرنا: أين أسامة بن زيد؟ فجاء بعد ساعة من الليل. فلامه أميرنا لائمة شديدة وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال: إني خرجت في أثر رجل جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال: لا إله إلا الله. فقال أميرنا أأغمدت سيفك؟ قال: لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب، قال: قلنا والله بئس ما فعلت وما جئت به تقتل امرءًا يقول: لا إله إلا الله؟ فندم وسقط (بضم السين) في يديه قال: واستقنا النعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرة كل رجل، أو عدلها من الغنم. وكان يحسب الجذور بعشرة من الغنم. (مغازى الواقدي ج 2 ص 724).
النبي يحقق مع الجندي أسامة
ولم يتخذ قائد السرية غالب الليثي أي إجراء ضد أسامة بن زيد للتصرف الخاطئ الذي تصرفه. بل تركه حتى قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أجرى معه التحقيق بشأن قتله ذلك الرجل السلم.
(1) انظر معنى كلمة عطن في كتابنا صلح الحديبية.
فلدى اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على تفصيل الحادث وجد وجدًا شديدًا وأنب أسامة قائلًا: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟
فقال أسامة (أثناء التحقيق): يا رسول الله إنما قالها تخوفًا من السلاح. فقال صلى الله عليه وسلم مكررًا ثانية: ألا شققت قلبه فتعلم صادق هو أم كاذب ثم قرأ قوله تعالى.: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (1).
والواقع أن أسامة قد شعر بتأنيب الضمير وأنه قد ارتكب خطأ بقتله مرداس بن نهيك. فقد روى عنه أنه قال: لما طعنت مرداس برمحى فقتلته، وجدت من ذلك موجدة شديدة حتى ما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت على رسول الله فقبلنى واعتنقنى. ولكنه لما علم بإقدام أسامة على قتل مرداس قال: اقتلتموه إرادة ما معه؟ ثم قرأ على أسامة قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} فقال أسامة استغفر لي يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف بلا إله إلا الله قال أسامة فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ثم استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أدانه أنه قد قتل مؤمنًا خطأ وحكم عليه بأن يعتق رقبة مؤمنة كفارة عما ارتكب لأنه قتل رجلًا مؤمنًا عن إجتهاد خاطئ حيث ظنه مشركًا في حقيقة أمره وأنه إنما نطق بالشهادتين خوفًا من الموت وبعد أن أهوى إليه السيف.
وبهذه المناسبة روى الواقدي عن المقداد بن عمرو الكندى (2) أنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت رجلًا من الكفار يقاتلنى، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ منى بشجرة فقال:(أسلمت لله)، أقتله بعد أن قالها؟ (يعني الشهادتين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله. قال: فإني قتلته فماذا؟ قال: فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال (3).
(1) النساء آية 93.
(2)
انظر ترجمة المقداد بن الأسود في كتابنا (غزوة بدر الكبرى).
(3)
مغازى الواقدي ج 2 ص 725.
وقد روى ابن سعد في طبقاته الكبرى. أن أسامة بن زيد- بعد الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسم أنه لن يقاتل بعدها أحدًا يشهد أن لا إله إلا الله مهما كان.
وقال في السيرة الحلبية: إن ذلك هو سبب اعتزال أسامة بن زيد الفتنة الكبرى. واعتذاره عن الاشتراك في القتال إلى جانب أمير المؤمنين على رضي الله عنهم أجمعين) أثناء الحرب الأهلية الطاحنة التي نشبت أيام الجمل وصفين. فقد كان أسامة بن زيد ضمن فئة من الصحابة التزموا الحياد من تلك الحروب الدامية المؤسفة. وقد روى عن أسامة أنه قال لأمير المؤمنين على (معتذرًا عن مقاتلة معاوية وحزبه والزبير وصحبه): لو أدخلت يا أمير المؤمنين يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها. ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله وقلت له: أعطى الله عهدًا ألا أقتل رجلًا يقول: لا إله إلا الله (1).
-5 -
حملة الجناب (2) شوال سنة سبع من الهجرة
وهي أكبر حملة عسكرية يشنها الجيش النبوى على المشركين في نجد عقب الانتصار الساحق على اليهود في معركة خيبر.
قاد هذه الحملة الكبيرة إلى ديار غطفان وفزارة والقبائل الوثنية المجاورة: بشير بن سعد (3). وكان هدف الحملة إحباط مشروع غزو كبير كان السيد الأحمق المطاع سيد فزارة عيينة بن حصن قد أعده للزحف على المدينة واحتلالها.
وقد أشرنا أكثر من مرة في مؤلفاتنا السابقة. إلى أن القبائل الواقعة شرقي المدينة (مثل غطفان وفزارة وأسد وأشجع وحنيفة) هم من أشد الناس عداوة
(1) السيرة الحلبية ج 2 ص 311.
(2)
الجناب (بكسر الجيم) قال في مراصد الاطلاع موضع بعراض خيبر ووادي القرى. قيل من منازل بني مازن، وقيل من منازل فزارة. والجناب الحنظل أيضًا موضع باليمن.
(3)
بشير بن سعد بن ثعلبة من الخزرج الأنصار. صحابى محارب فاضل. شهد بدرًا. المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو والد النعمان بن بشير الأنصاري. قتل بشير شهيدًا في معركة اليمامة.
للنبي صلى الله عليه وسلم مع طاقات عسكرية هائلة- سواء من الناحية البشرية أو من ناحية القدرة القتالية حيث إنه معترَف لهذه القبائل بالشراسة في القتال والصبر على النزال.
وقد دل سياق المؤرخين على أنه بإمكان هذه القبائل الوثنية الشرقية. أن تحشد في أسرع وقت جيشًا لا يقل عدده عن عشرين ألف مقاتل.
ولهذا كانت كثرة عددهم وتفوقهم في ميادين الحرب قد أغرتهم أكثر من مرة بالمسلمين حيث حاولوا عدة مرات غزو المسلمين في المدينة وإنهاء وجودهم. وهو أمر لم يجرؤ أحد عليه سوى قريش التي نقلت المعركة ضد المسلمين إلى ضواحي المدينة (أحد) ولكن دون أن تجرأ على التفكير يومها. في احتلال المدينة.
أما هؤلاء الأعراب الشرسون العتاة. فقد كان هدفهم -في كل محاولاتهم الحربية- احتلال المدينة والقضاء على المسلمين فيها قضاء تامًّا .. فعلوا ذلك منفردين. وفعلوه بالاشتراك مع غيرهم من الذين جمعتهم بهم العداوة للإِسلام.
وآخر محاولة خطيرة قام بها هؤلاء الأعراب للإِطاحة بالمسلمين واحتلال المدينة وانتهابها. هي تلك المحاولة التاريخية التي قاموا بها -بالاشتراك مع خيبر ويهود المدينة وقريش- في السنة الرابعة من الهجرة ضمن حلف عسكرى ثلاثي لاكتساح المدينة ونسف الوجود الإِسلامي بأكمله في السنة الرابعة الهجرية.
وقد حاولت هذه القبائل الوثنية مرة أخرى مساندة يهود خيبر لضرب القوات الإسلامية الزاحفة على خيبر وذلك في أوائل السنة السادسة من الهجرة.
ففي هذه السنة جهزت فزارة وبنو أسد وحدهما حوالي خمسة الآف مقاتل. ألف منها رابط مع اليهود في حصونهم بخيبر .. وأربعة آلاف بقيادة عيينة بن حصن تحركت من مضاربها في صحارى نجد لضرب القوات الإسلامية من الخلف. إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل على النحو الذي فصلناه في كتابنا السادس من هذه السلسلة (غزوة خيبر).
وبالرغم من الفشل المتلاحق الذي منيت به هذه القبائل الوثنية الشرقية الشجاعة القوية في كل محاولة تقوم بها للقضاء على المسلمين أو خضد شوكتهم فإن كثرة عدد هذه القبائل الغامر وقدرتهم القتالية الممتازة، ظلا عامل غرور يدفع بهذه القبائل العظيمة المحاربة إلى استضعاف المسلمين والتفكير دائمًا في القيام بغزوهم والإِطاحة بهم وهدم كيانهم داخل عاصمتهم المدينة.
ففي شهر شوال من السنة السابعة للهجرة (أي بعد حوالي سنة كاملة من تصفية اليهود واندحار حلفائهم الوثنيين هؤلاء في خيبر) تبلغت القيادة الإِسلامية في المدينة -عن طريق رجال استخباراتها العسكريين المنتشرين بين مضارب تلك القبائل الوثنية شرقي المدينة أن القائد الفزاري الشهير. عيينة بن حصن يقوم بتحشيد قبائل غطفان وفزارة وأشجع وأسد في منطقة يقال لها "يمن (1) وجبار (2) "نحو الجناب وهو موضع يعارض خيبر ووادي القرى شمال شرقي المدينة.
وإن هدف هذه التجمعات الوثنية هو الزحف على المسلمين وأخذهم على حين غرة في المدينة نفسها.
فقد جاء في التقرير الشفوى الذي قدمه جهاز الاستخبارات النبوية (أن عيينة بن حصن الفزاري قد بعث إلى تللث القبائل يقول لهم: إما أن تسيروا إلينا وإما أن نسير إليكم. فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد).
غير أن ما جاء في تقرير الاستخبارات العسكرية النبوية لم يكن مفاجأة للقيادة في المدينة. فقد كانت المدينة تتوقع أن يعاود الغرور هذه القبائل الوثنية القوية، لما هي عليه من كثرة في العدد وخبرة بالحرب ولكونها أقرب القبائل الوثنية إلى المدينة التي طالما سال لعاب هؤلاء الأعراب الأجلاف. كلما تذكروا خيراتها الزراعية. التي طالما حاولوا اجتياحها وانتهابها كما فصلناه في عدة مواضع من بحوثنا المتعلقة بهذه القبائل في كتبنا الستة من هذه السلسلة.
(1) قال في مراصد الاطلاع: (يمن -بفتح أوله وسكون ثانيه- ماء لغطفان من بني قو وروءاف على الطريق بين تيماء وفيد.
(2)
جبار (بضم أوله وفتح ثانيه) ماء لبنى حميس بن عامر بن ثعلبة، بين المدينة وفيد.