الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصر بعد هزيمة
والواقع الذي لا بد من أن يسلم به الباحث عقب تحقيقه في مختلف النصوص المتعلقة بمعركة (مؤتة) هو أن جيش الإِسلام قاتل ببسالة منقطعة النظير طوال ستة أيام. ولكنه في اليوم السادس أصيب بهزيمة منكرة، وتمزق تمزقًا مريعًا. ولكنه في اليوم نفسه استعاد تنظيمه فتلاحمت صفوفه من جديد، بعد أن تحمل القائد خالد بن الوليد مسئولية قيادته، فأعاد إليه ثقته بنفسه. ثمَّ قاده إلى القتال من جديد حتى جعله في اليوم السابع ينزل بالرومان وحلفائهم أشنع هزيمة، ويسجل لنفسه، أروع انتصار. سماه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في رواية البخاري - فتحًا. يضاف إلى ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته الكبرى عن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي عامر (1) أن المسلمين في (مؤتة) هزموا أسوأ هزيمة عرفوها في تاريخهم عقب استشهاد قادتهم الثلاثة، ثمَّ هزموا (بعد ذلك) أعداءهم الرومان وحلفاءهم أشنع هزيمة عرفوها في تاريخهم. حيث ركبهم المسلمون ووضعوا فيهم السيوف حيث شاءوا. وذلك بعد أن تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش (2).
رأي ابن كثير في هزيمة المسلمين وانتصارهم
ومن المؤرخين الذين اعتبروا ما قام به المسلمون في (مؤتة) هو فتحًا وانتصارًا. . الإِمام ابن كثير الحجة والقدوة في التاريخ وقد أيد رأيه هذا في كتابه (البداية والنهاية) بعدة أدلة فقال:
لما قتل ابن رواحة مساءً بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته وميمنته ميسرته، فأنكروا (أي الرومان) ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم (يعني المسلمين) وقالوا: قد جاءهم مدد،
(1) أبو عامر هذا ذكره ابن منده وأخرج من طريق عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن أبي اليسر عن أبي عامر (نفسه) قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام فذكر الحديث (الإِصابة في تمييز أسماء الصحابة ج 4 ص 124).
(2)
انظر طبقات ابن سعد الكبرى ج 2 ص 130.
فرعبوا وانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. ثمَّ يسند ابن كثير رأيه هذا بقول إمام آخر في التاريخ هو موسى بن عقبة فيقول .. وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة (1) رحمه الله في مغازيه، فإنَّه قال بعد عمرة الحديبية ثم صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فمكث بها ستة أشهر، ثمَّ أنَّه بعث جيشًا إلى مؤتة. فانطلقوا حتى إذا لقوا ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة وبها جموع من نصارى العرب والروم، بها تنوح وبهراء فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثمَّ التقوا على زرع أحمر، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثمَّ أخذه جعفر فقتل، ثمَّ أخذه عبد الله بن رواحة فقتل، ثمَّ اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد المخزومي فهزم الله العدو وأظهر المسلمين.
ثمَّ يعلق ابن كثير على كلام موسى بن عقبة فيقول: فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالدًا إنما حاش بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط. وموسى بن عقبة والواقدى مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم، وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعًا. . ثمَّ أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه، ورواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين لما ذكر من الحديث. ثمَّ يستطرد ابن كثير فيقول: قلت: ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق وبين قول الباقين، وهو أن خالدًا، لما أخذ الراية حاش بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدى الكافرين من الروم والمستعربة، فلما أصبح وحول الجيش ميمنة وميسرة ومقدمة وساقة -كما ذكره الواقدي- توهم الروم أن ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزمهم بإذن الله، والله وأعلم.
وفي موضع آخر يقول ابن كثير (معضدًا رأيه بأن جيش الإِسلام قد انتصر في مؤتة) يقول: بعد أن يورد حديثًا مطولا رواه الإِمام أحمد عن عوف
(1) هو موسى بن أبي عياش الأسدي، يعتبر من أقدم وأوثق المؤرخين وكتابه في المغازي من أهم المصادر لمن أتى بعده من المؤرخين. وهو من طبقة ابن إسحاق والواقدي. وأثنى عليه الإمام مالك فقال: عليكم بمغازي موسى بن عقبة.
ابن مالك الأشجعي عن معركة مؤتة وقصة الجندى اليمانى الذي قتل أحد فرسان الروم وغنم فرسه وسلاحه، فصادر خالد كل ذلك من الجندى اليمانى. فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم خالدًا أن يعيد إلى الجندى اليمانى ما كان قد صادره منه (فرس الرومى وسلاحه) - يقول ابن كثير: وهذا يقتضي أنهم (أي المسلمين) غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم وقتلوا من أمرائهم، وقد تقدم فيما رواه البخاري أن خالدًا رضي الله عنه قال: اندقت في يدي يوم (مؤتة) تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية، وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلًا، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم.
ثمَّ يقول ابن كثير: وهذا هو اختيار موسى بن عقبة والواقدى والبيهقي، وحكاه ابن هشام عن الزهري. قال البيهقي رحمه الله: إنه اختلف أهل المغازي في فرارهم (أي المسلمين) وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى ذلك، ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين، وأن المشركين انهزموا. قال: وحديث أنس بن مالك (أي الذي أخرجه البخاري) عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثمَّ أخذها - (أي الراية) - خالد ففتح الله عليه" يدلّ على ظهورهم والله أعلم.
ثمَّ يزيد الإِمام ابن كثير رأيه تعضيدًا فيقول: وقد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذرى - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على مالك بن رافلة. وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال يفتخر:
طعنت ابن رافلة بن الأراش
…
برمح مضى فيه ثمَّ انحطم
ضربت على جيده ضربة
…
فمال كما مال غصن السلم
وسقنا نساء بني عمه
…
غداة رقوقين سوق النعم
وهذا يؤيد ما نحن فيه لأنَّ من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه، ثمَّ إنه صرح في شعره أنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه والله أعلم. وأما ابن إسحاق فإنَّه ذهب إلى أنَّه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدى الروم، وسمى هذا نصرا وفتحا "أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو