الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصديق فصحبته، وكانت له عباءة فدكية (1) فإذا ركب خلها (2) عليه بخلال، وإذا نزلنا بسطها. فلما قفلنا قلت: يا أبا بكر رحمك الله علمنى شيئًا ينفعنى الله به. قال قد كنت فاعلا ولو لم تسألنى، لا تشرك بالله، وأقم الصلاة، وآت الزكاة وصم رمضان، وحج البيت، واعتمر، ولا تتأمر (3) على اثنين من المسلمين.
قال: قلت: أما ما أمرتنى به من الصلاة والصوم والحج والزكاة والعمرة فأنا فاعله، وأما الإِمارة فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى وهذه المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها. قال: إنك استنصحتنى فجهدت لك نفسي، إن الناس دخلوا في الإِسلام طوعا وكرها. فأجارهم الله من الظلم، - وهم عواد الله وجيران الله وفي أمانته، فمن أخفر فإنما يخفر الله في جيرانه، وإن شاة أحدكم أو بعيره ليذهب فيظل ناتئا عضله غضبا لجاره، والله من وراء جاره. قال فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه جئته فقلت: يا أبا بكر، ألم تنهنى أن أتأمر على اثنين؟ قال: بلى، وأنا على ذلك! قال: فما لك تأمرت على أمة محمَّد؟ قال: اختلف الناس وخشيت عليهم الهلاك، ودعوا إلى فلم أجد لذلك بدًا (4).
قتلى الفريقين في معركة مؤتة
مما لا جدال فيه والذي أجمع عليه المؤرخون هو أن معركة (مؤتة) من أعنف المعارك - بل هي أعنف معركة خاضها المسلمون في العهد النبوى - فقد التقى فيها ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين بمائتى ألف مقاتل ظلوا يروحونهم ويغادونهم القتال طوال ستة أيام كاملة.
(1) فدكية: نسبة إلى فدك وهي قرية كان يسكنها اليهود. قريب من خيبر بينها وبين المدهنة ست ليال (كذا قال في وفاء الوفاء ج 2 ص 355).
(2)
خلها عليه. قال في النهاية في غريب الحديث: أي جمع بين طرفيها بخلال عن عود أو حديد.
(3)
تأمر عليهم: تسلط. كذا قاله في الصحاح.
(4)
مغازي الواقدي ج 2 ص 772 وما بعدها.
ولا أدل على عنف المعركة وضراوتها من استشهاد قادة الجيش الإِسلامي وأمرائه الثلاثة. ومقتل قائد أعراب النصارى مالك بن رافلة الذي كان يقول مائة ألف منهم.
لقد اندقت في يد قائد الجيش خالد بن الوليد (كما ذكر البخاري في صحيحه) تسعة سيوف. وهذا يدل على عنف المعركة وضراوة القتال وأن عدد القتلى بين الفريقين كان كبيرًا.
كما أن سياق المؤرخين يدل على أن الجيش الإِسلامي أنزل بالجيش الروماني وأتباعه من المرتزقة من خليط الأعراب أشنع هزيمة شهدها جيش. وهذا يعني أن قتالا ضاريًا دار سجالا بين الفريقين.
كما يدل هذا السياق أيضًا على أن المسلمين نزلت بهم هزيمة في مؤتة لم يعرفوا مثلها في تاريخهم في تلك الحقبة من الزمن. حتى أنقذ خالد بن الوليد الموقف. وبحيلة حربية وخدعة عسكرية بارعة أوقع في صفوف الجيش الروماني خسائر فادحة.
وإليكم مقاطع من أقوال المؤرخين وأصحاب السير والمغازى التي تدل (ولا بد) على أن خسائر الفريقين في معركة مؤتة كانت كبيرة جدًّا.
1 -
قال ابن سعد في طبقاته الكبرى ج 2 ص 130. . "ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قط، حتى لم أر اثنين جميعا. فأخذ اللواء خالد بن الوليد ثمَّ حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا".
2 -
روى البخاري في صحيحه عن خالد بن الوليد أنَّه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبتت في يدي إلا صفيحة يمانية" قال ابن كثير في البداية والنهاية ج 4 ص 249: "وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم".
3 -
روى الواقدي عن عبد الله بن الحارث بن الفضيل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: وهو يصف ضراوة معركة مؤتة - بعد أن كشف الله له. وهو بالمدينة عن مكانها وقد أخذ خالد الراية وتولى القيادة: "الآن
حمى الوطيس" (1) وهو تعبير عن عنف القتال وضراوته. وقد عبر به صلى الله عليه وسلم عن اشتداد الجلاد في معركة حنين.
4 -
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ج 4 ص 348 أن موسى بن عقبة قال إن المسلمين والروم والعرب المتنصرة التقوا على زرع أحمر فاقتتلوا قتالا شديدًا.
5 -
ذكر الواقدي في مغازيه ج 2 ص () عن أبي هريرة أنَّه قال: "شهدت مؤتة فلما دنا المشركون رأينا مالًا قبل لأحد من العدة والسلاح والديباج والحرير والذهب فبرق (بكسر الراء) بصرى، فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعًا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: إنك لم تشهد بدرًا معنا. إنا لم ننصر بالكثرة" فمن ثنايا هذا الحديث يفهم أن المعركة كانت رهيبة ضارية.
6 -
قال المقريزى في إمتاع الأسماع ص 348. . "وسقط اللواء - أي لواء المسلمين - فاختلط المسلمون والمشركون، وانهزم المسلمون أسوأ هزيمة (وقتلوا)، واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح يا قوم، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا، فما يثوب إليه أحد، ثمَّ تراجعوا فأخذ اللواء ثابت بن أقرم، وصاح. . يا للأنصار، فأتاه الناس من كل وجه وهم قليل، وهو يقول: إليّ أيها الناس، فلما نظر إلى خالد بن الوليد قال: خذ اللواء يا أبا سليمان؟ فقال: لا آخذه أنت أحق به. أنت رجل لك سن، وقد شهدت بدرًا، قال ثابت: خذه أيها الرجل، فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه فثبت حتى تكركر (2) المشركون. وحمل بأصحابه ففض جمعا من جمعهم، ثمَّ دهمه منهم بشر كثير فانحاش بالمسلمين". ثمَّ يقول المقريزى: "ثمَّ انكشفوا -أي الرومان- منهزمين فقتلوا منهم مقتلة لم
(1) قال المقريزي: (حمى الوطيس) كلمة لم تسمع إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوطيس حقيرة تحتفر في الأرض فتوقد فيها النار ويصغر رأسها، ويخرق فيها خرق للدخان ثمَّ يوضع فيها اللحم ويسد، ثم يؤتى من الغد واللحم غاب لم يحترق، ولحمها شواء وهذه الكلمة من بليغ المجاز في شدة الحرب وقيامها واحتدامها.
(2)
كركره عن الشيء: ردَّه ودفعه وحبسه. فتكركر: ارتد.
يقتلها قوم" (1).
7 -
وقال ابن برهان الدين في السيرة الحلبية ج 2 ص 192. . أن خالدًا لا أصبح جعل مقدمة الجيش ساقة. وساقته مقدمة وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فظن المشركون مجئ مدد للمسلمين فرعبوا وانهزموا فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم، وكانت مدة القتال سبعة أيام وروى البخاري عن خالد. قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية أهـ (2).
هذه المقاطع من أقوال المؤرخين وأصحاب الحديث توحى بأن القتال استمر عنيفا ضاريًا بين الفريقين في مؤتة لمدة سبعة أيام. وأن الحرب كانت خلال هذا القتال العنيف الضارى الرهيب سجالا بين المسلمين والرومان - وأن الضحايا من الفريقين كانت طوال الأيام الستة كثيرة دونما شك.
ثم انهزم المسلمون في اليوم السادس - وبعد مصرع قادتهم وأمرائهم الثلاثة - هزيمة منكرة لم يصابوا بمثلها في العهد النبوى. . فقد مزق الرومان صفوف المسلمين إلى درجة أنَّه لم ير اثنان من الجند مجتمعين. وكان القتل في المسلمين ذريعا في تلك الفترة الصعبة.
حتى تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش. وأعاد تنظيمه فتغير الموقف وتحول ميزان المعركة لصالح المسلمين. حيث شن بهم خالد على الرومان وحلفائهم هجوما معاكسا صاعقا فكشفهم وأنزل بهم هزيمة منكرة جعلت جند الإِسلام يركبونهم ويضعون فيهم سيوفهم حيث شاءوا مما مكنهم من أن يصرعوا عددًا هائلا من جنودهم، وجعل أصحاب المغازي والسير والحديث يصفون ذلك (كما تقدم) بأنّه مقتلة لم يقتلها قوم قط.
هذا هو منطوق المعركة كما ورد في مصادر الحديث والتاريخ. . ومفهوم هذا المنطوق. . وحسب التقديرات والاستنتاجات في العرف العسكري
(1) إمتاع الأسماع ص 349.
(2)
السيرة الحلبية ج 2 ص 192.