الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي
ويشتمل على تمهيد في تعريف الرواة وألقابهم العلمية، ثم على الأبحاث الآتية:
1 -
صفة من تقبل روايته ومن ترد.
2 -
الجرح والتعديل.
3 -
الصحابة.
4 -
الثقات والضعفاء.
5 -
من اختلط في آخر عمره من الثقات.
6 -
الوحدان.
7 -
المدلسون.
تعريف الرواة وألقابهم العلمية:
الراوي هو من تلقى الحديث وأداه بصيغة من صيغ الأداء (1).
وقد صنف العلماء رواة الحديث كلهم (2) بحسب كثرة مروياتهم
(1) المنهج الحديث قسم الرواة ص 5.
(2)
من رحل منهم ومن لم يرحل. قارن علوم الحديث ومصطلحه: 75.
وعنايتهم بالحديث وفنونه إلى درجات علمية، خصوا كل واحدة منها بلقب يميزها، وهي:
1 -
المسند: وهو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية.
2 -
المحدث: وهو كما عرفه ابن سيد الناس: "من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه"(1).
أي صار يقصد للإفادة في الحديث ورواته حتى اشتهر بذلك، وعرف خطه لكثرة ما يكتب من الأجوبة على أسئلة الناس.
وقال ابن الجزري: "المحدث: من تحمل الحديث رواية واعتنى به دراية"(2).
3 -
الحافظ: أرفع من المحدث وهو كما يؤخذ من كلامهم: من توسع في الحديث وفنونه بحيث يكون ما يعرفه من الأحاديث وعللها أكثر مما لا يعرفه (3). وقال ابن الجزري: "الحافظ: من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج لديه".
وقد تفاوتت عبارات العلماء في تعريف الحافظ حتى بلغوا أحيانا ما عده بعض الباحثين تغاليا في الحفاظ، كقول الزهري:"لا يولد الحافظ إلا كل أربعين سنة"، وقولهم في الإمام أحمد بن حنبل "كان يحفظ ألف ألف حديث".
(1) انظر ترتيب الراوي ص 11. وقسم الرواة ص 197.
(2)
شرح الشرح: 3.
(3)
كما يفيده كلام ابن سيد الناس والمزي انظر التدريب ص 10، 11.
وهذا صدر عنهم باعتبار المرتبة العليا في الحفظ. كما أنهم صرحوا يتفاوت العرف وأثر اختلاف الزمان في ذلك.
وقد وضع للأئمة من كبار الحفاظ ألقاب تشعر بتفوقهم، هي التالية:
4 -
الحجة: وهو فيما يبدو لنا يطلق على الحافظ من حيث الاتقان، فإذا كان الحافظ عظيم الاتقان والتدقيق فيما يحفظ من الأسانيد والمتون لقب بالحجة .. وعرفه المتأخرون بأنه من يحفظ ثلاثمائة ألف حديث مع معرفة أسانيدها ومتونها
…
ويدخل في الأحاديث التي يذكرون عددها في حفظ العلماء بعشرات الألوف أو مئات الألوف يدخل فيها تعدد الأسانيد للحديث الواحد، واختلاف الروايات، فإن تغيير الحديث بكلمة في السند أو المتن يعتبر بها حديثا جديدا، وكن اجتهد المحدثون ورحلوا من أجل كلمة في حديث.
5 -
الحاكم: وهو من أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير.
6 -
أمير المؤمنين في الحديث: وهو أرفع المراتب وأعلها، وهو من فاق حفظا وإتقانا وتعمقا في علم الأحاديث وعللها كل من سبقه من المراتب بحيث يكون لاتقانه مرجعا للحكام والحفاظ وغيرهم.
ومن أمراء المؤمنين في الحديث: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم. ومن المتأخرين الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وغيرهم رحمه الله ورضي عنهم (1).
(1) ذكرهم شيخنا العلامة محمد السماحي في قسم الرواة: 199 - 200، وقد رجعنا إليه في هذه التعريفات، وصنف الذهبي تذكرة الحفاظ جمع فيها من لقب بالحافظ بالمعنى الذي يشمل الحافظ والحجة فما فوق
…
وهذه المراتب العلمية إنما يلحظ فيها الحفظ لا اقتناء الكتب حتى إن من كانت عنده الكتب ولا يحفظ ما فيها لا يعتبر عندهم محدثا.
ولكن بعض الناس في هذه العصر هان عندهم العلم، ولم يفقهوا منه إلا تقليب الأوراق عن طريق الفهارس، حتى راح بعضهم يستخف بحفظ القرآن أو الحديث، ويقول:"يزيد الكتاب نسخة"! ! . وهذا يدل على مبلغ ما عندهم من معرفة الفضل لذوي الفضل.
1 -
صفة من تقبل روايته ومن ترد:
هذا النوع من علوم الحديث له أهمية بالغة، إذ أنه يبحث في شروط الراوي الذي يقبل حديثه ويحتج به.
وقد اختلفت عبارات العلماء في تعداد صفات القبول، فمن مقل ومن مكثر، وجمع أبو عمرو بن الصلاح تلك الخصال، فقال (1):
"أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يروي. وتفصيله: أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل،
(1) في علوم الحديث: 94. وهذه الخصال سبق إلى سردها بتفصيل، أوسع الإمام الشافعي في الرسالة، في أثناء تعريفه للحديث الصحيح: 370 - 371.
حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابة إن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني".
وبالتأمل في هذه الصفات وغيرها مما ذكره العلماء نجد أنها لدى النظر ترجع كلها إلى أمرين ذكرهما ابن الصلاح هما: العدالة والضبط.
فلنشرح كلها من العدالة والضبط فيما يلي:
أولا: العدالة
وهي ملكة تحمل صاحبها على التقوى، واجتناب الأدناس وما يخل بالمروءة عند الناس.
ويشترط فيها الأمور الآتية:
أ- الإسلام: لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، وغير المسلم ليس من أهل الرضى قطعا.
ب- البلوغ: لأنه مناط تحمل المسؤلية، والتزام الواجبات وترك المحظورات.
ج- العقل: لأنه لا بد منه لحصول الصدق وضبط الكلام.
د- التقوى: وهي اجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر.
أما الكبائر فركوبها فسق قطعا، وكذا الاصرار على الصغائر، لأن الاصرار يجعلها كبيرة -والعياذ بالله- كما قالوا:"لا صغيرة مع الإصرار".
ودليل اشتراط التقوى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقوله عز من قائل:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . وهذه
الآيات وإن كانت في الأموال ونحوها فإن الرواية للحديث دين، فهي أجدر من المال في أن يشترط لها هذا الشرط.
هـ- الاتصاف بالمروءة وترك ما يخل بها، وهو كل ما يحط من قدر الإنسان في العرف، الاجتماعي الصحيح، مثل التبول في الطريق، وكثرة السخرية والاستخفاف، لأن من فعل ذلك كان قليل المبالاة، لا نأمن أن يستهتر في نقل الحديث النبوي.
هذه الخصال إذا توفرت في الراوي عرفت عدالته وكان صادقا، لأنها إذا اجتمعت حملت صاحبها على الصدق وصرفته عن الكذب لما توفر فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الادراك التام لتصرفاته وتحمل المسؤولية.
ثانيا: الضبط
هذه الصفة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه، ومراد المحدثين بالضبط أن يكون الراوي:"متيقظا غير منفعل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني".
ويعرف كون الراوي ضابطا بمقياس قرره العلماء واختبروا به ضبط الرواة، وهو كما لخصه ابن الصلاح:"أن نعتبر -أي نوازن- رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والاتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لروايتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه".
فإذا اجتمع في الراوي هذان الركنان: العدالة والضبط، فهو حجة يلزم العمل بحديثه، ويطلق عليه "ثقة". وذلك لأنه قد تحقق
فيه الاتصاف بالصدق، وتحلى بقوة الحفظ التي تمكنه من استحضار الحديث وتسعفه لأدائه كما سمع، فتحقق أنه أدى الحديث كما سمعه، فصار حجة، وإذا اختل فيه شيء من خصال الثقة، كان مردود الحديث بحسب الاختلال الذي لحقه.
ونذكر لك فيما يلي أهم الفروع لذلك (1):
فروع اختلال العدالة:
1 -
لا يقبل حديث الراوي الكافر، بل يجب أن يكون وقت روايته للحديث مسلما، فإن الكفر أعظم موجبات العداء للدين وأهله، فكيف تقبل رواية الكافر مهما كان عليه من الصدق؟ ! . وها نحن نتتبع أخبار المحدثين السابقين واللاحقين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين، فمحال أن نجد محدثا أو عالما تلقى الحديث أو علم الإسلام عن غير المسلمين.
2 و 3 - لا تقبل رواية الصبي والمجنون، لأنهما لا مسؤولية عليهما، فقد يتعمد الصبي الكذب بهذا الاعتبار، أو يتساهل، والمجنون أولى لأنه فاقد شريطة الضبط من الأصل.
4 -
لا يقبل خبر الفاسق بارتكاب المعاصي والخروج عن طاعة الله تعالى، وإن لم يظهر عليه الكذب، وكذلك من كان فسقه بسبب كذبه في حديث الناس وإن توقى الكذب في الحديث النبوي، لأنه لا يؤمن أن يقع فيه حيث إنه مستهتر بمقام ربه، قد هتك الستر بينه وبينه والعياذ بالله، ولأن النصوص قد نهت عن قبول خبره بمجرد
(1) توسعنا في صفات الرواة والفروع التي تترتب على اختلالها في بحث خاص في الجرح والتعديل يسر الله إخراجه.
الفسق. إلا إذا أقلع عن ذنبه وتاب توبة نصوحا تبدل ما كان من حاله، إلى حال التقى فإنه يقبل خبره وتعود عدالته؛ لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .
أما من لم يقع في الكبيرة، ولا عرف بالاصرار والاستهتار في الصغائر، فإنه يقبل حديثه، ويغتفر له ما قد يبدو من من الهفوات، ويوهب نقصه لفضله.
5 -
ترفض رواية التائب من الكذب في الحديث:
لكن العلماء استثنوا خبر التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل خبره، وفي هذا يقول ابن الصلاح (1):
"التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تقبل روايته أبدا وإن حسنت توبته على ما ذكر عن غير واحد من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري
…
".
والسبب في عدم قبوله الزجر والتغليظ، والمبالغة في الاحتياط للحديث، كما أن الشريعة غلظت حرمة أعراض الناس فردت شهادة القاذف ولو تاب بعد ذلك على ما ذهب إليه كثير من العلماء.
واستدل السيوطي (2) على ذلك باستدلال بديع يدل على تحقيقه
(1) في علوم الحديث: 104.
(2)
في تدريب الراوي: 221.
وفقهه فقال: "ذكروا في باب اللعان أن الزاني إذا تاب وحسنت توبته، لا يعود محصنا ولا يحد قاذفه بعد ذلك لبقاء ثلمة عرضه، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا
…
".
6 -
خبر المبتدع:
المبتدع هو من فسق لمخالفته عقيدة السنة، وتنقسم البدعة إلى قسمين: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، أما المبتدع الذي يرمى ببدعة مكفرة فترد روايته قولا واحدا، خلافا لمن شذ في ذلك. لكن ينبغي التثبت مما يرمى به، وألا تسرع بتكفيره، خلافا لما درج عليه كثير من المبتدعة في الأعصر الخالية وفي زماننا هذا حديث تهوكو في رمي المسلمين بالكفر والشرك لمجرد الأوهام (1).
وأما المبتدع الذي لم يبلغ في بدعته حد الخروج عن الملة وخلع ربقة الإسلام فقد قال فيه ابن الصلاح:
"اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته، فمنهم من رد روايته مطلقا لأنه فاسق ببدعته .. ، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن.
وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته. وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء. وقال أبو حاتم بن حبان البستي من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافا.
وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولالها. والأول بعيد مباعد للشائع
(1) قارن بتدريب الراوي: 216. ولقط الدرر حاشية نزهة النظر: 89 - 90.
عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول (1) ".
واشترط الإمام الجوزجاني شرطا آخر لقبول رواية المبتدع غير الداعية هو أن لا يكون الحديث الذي رواه مؤيدا لبدعته، فقال:"ومنهم زائغ عن الحق -أي عن السنة- صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكرا إذا لم يقو به بدعته".
وأيد الحافظ ابن حجر هذا الرأي فقال:
"ما قاله -اي الجوجاني- مته، لأن العلة التي رد لها حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولم يكن داية"(2) اهـ.
وإجماع الأئمة على تلقي الصحيحين بالقبول، وفيهما أحاديث المبتدعة غير الدعاة خير شاهد لتقوية هذا المذهب.
وأما ما وقع في الصحيحين من الرواية لبعض المبتدعة الدعاة، فلا يخل بهذه القاعدة، ولا يطعن في الكتابين (3) لأنه قليل نادر جدا كما حقق الحافظ ابن حجر (4)، وقد توفر فيهم من الصدق: ما لو أن أحدهم أن يخر من السماء أهون عليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك استثني هؤلاء الرواة القلائل. وواضح أن هذا أمر لا يستطيع تقديره غير أولئك الأئمة المعاصرين للرواة أو قريبي العهد بهم كما أن النادر لا حكم له (5).
(1) علوم الحديث: 103 - 104.
(2)
شرح النخبة نسخة لقط الدرر: 91.
(3)
انظر إيراد ذلك في تدريب الراوي: 217 - 218.
(4)
انظره مفصلا في هدي الساري: 2: 1780179.
(5)
قارن رأينا هذا بما ارتآه أحمد شاكر في الباعث الحثيث ص 100 - 101.
7 -
خبر من أخذ على الحديث أجرًا: مضت سنة الصحابة والتابعين أن يرووا الحديث للناس احتسابا يبتغون الأجر عند الله، حتى شاع قولهم:"علم مجانا كما علمت مجانا"(1). ثم جاء بعض الرواة وخالفوا هذا العرف وصاروا يتقاضون من طلابهم أجرا لإسماعهم الحديث.
وقد أثار هذا التصرف اسيتاء علماء الحديث ونقاده، واستنكروه، وحذروا من السماع من هؤلاء المتاجرين بالرواية، لما في صنيعهم هذا من خرم المروءة، ولما يخشى أن يجر أحدهم الحرص على الأجر إلى الوقوع في شبهة الكذب أو صريح الكذب لكي يرغب فيه
…
! !
لك بعض حفاظ الحديث الثقات ألجأتهم ظروف معيشتهم الضيقة لأخذ الأجرة، حيث كانوا محط رحال الطلاب، حتى لقد منعهم اشتغالهم بالعلم ونشره عن الكسب لعيالهم، فاغتفر لهم النقاد ذلك لما علم من صدقهم وأمانتهم، مثل أبي نعيم الفضل بن دكين، وعبد العزيز المكي وهما من شيوخ البخاري، قال أبو نعيم:"يلومونني على الأجر وفي بيتي ثلاثة عشر، وما في بيتي رغيف"(2).
وفيما عدا تلك القلة التي تقاضت الأجر على الحديث جرى سائر المحدثين على رفض الأجرة وضربوا لذلك أمثلة عالية جدا.
قال جعفر بن يحيى البرمكي: "ما رأينا في القراء مثل عيسى بن يونس عرضت عليه مائة ألف فقال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا
…
".
وأهدى أصحاب الحديث للأوزاعي شيئا، فلما اجتمعوا قال لهم:
(1) الكفاية ص 153 و 154.
(2)
تهذيب التهذيب: 8: 275.
أنتم بالخيار، إن شئتم قبلته ولم أحدثكم أو رددته وحدثتكم، فاختاروا الرد، وحدثهم، ومرض أبو الفتح الكروخي راوي جامع الترمذي، فأرسل إليه بعض من كان يحضر مجلسه مقدارًا من الذهب، فما قبله لمجرد اشتباهه أن صاحبه أرسله لأجل أنه كان يسمع منه الحديث، وقال:"بعد السبعين واقتراب الأجل آخذ على حديث رسول الله شيئا! ! "، ورده مع الاحتياج إليه (1).
فروع اختلال الضبط:
1 -
لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث، ومعنى التلقين أن يعرض عليه الحديث الذي ليس من مروياته، ويقا له: إنه من روايتك، فيقبله ولا يميزه، وذلك لأنه مغفل فاقد لشرط التيقظ، فلا يقبيل حديثه.
2 -
لا تقبل رواية من كثرت الشواذ أين المخالفات، والمناكير أي التفرد الذي لا يحتمل منه. جاء عن شعبة أنه قال:"لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ"، وعلة هذا أنه يدلى على عدم حفظه.
3 -
لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته، إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح، لأن كثرة السهو تدل على سوء الحف أو التغفيل، فلا يكون الراوي ضابطا.
4 -
ورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم أن من غلط في حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأصر على روايته
(1) فتح المغيث بتصرف يسير: 149 - 153.
لذلك الحديث سقطت رواياته ولم يكتب عنه، وفي هذا نظر، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك.
5 -
لا تقبل رواية من يتساهل في نسخته التي يروي منها إن كان يروي الحديث من كتاب، كمن يحدث من أصل غير صحيح أي من كتاب أو مكتوب غير مقابل على الأصول المسموعة المتلقاة عن المصنفين بالسند الصحيح (1).
تساهل المتأخرين في شروط الراوي:
راعى المحدثون هذه الشروط بكل أمانة ودقة، وتناولوا في كلامهم عن الرجال أحوالهم كلها للتثبت من سلامة حديث الراوي واستيثاقا منه، حتى جاء عصر التدوين فدونت الأحاديث في المصنفات والمسانيد، والجوامع والمعاجم والأجزاء، ونقلت هذ المؤلفات عن أصحابها بالأسانيد الصحيحة كما ينقل الحديث الواحد، حتى كثتر النسخ لكل كتاب، وشاعت في الأقطر شيوع التواتر. فأصبحت العمدة عندئذ على هذه النسخ المنقولة بالسند إلى مؤلفيها، وقامت مقام الرواة، فتساهل العلماء في بعض شروط الراوي، واكتفوا بما يحصل المقصود، وهو أهليته بكونه عدلا، وحسن رعايته وضبطه للكتاب.
وقد أبان الإمام ابن الصلاح أمر ذلك وأوضحه فقال (2):
"اعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم أو كان عليه من تقدم.
(1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح: 1050106 وقد فصلنا كلامه وعللناه.
(2)
المرجع السابق: 108 - 109.
ووجه ذلك ما قدمناه أول كتابنا هذا (1)، من كون المقصود آل آخرا إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في اأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها.
فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بها الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما، بالغا، عاقلا، غير متظاهر بالفسق والسخف. وفي ضبطه بوجود سماه مثبتا بخر غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه
…
ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث، ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم
…
لضمان صاحب الشريعة حفظها.
قال البيهقي، فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية برواية غيره، والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا، وتبقى هذه الكرامة التي خصصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم".
تقسيم الرواة من حيث معرفة صفتهم:
ينقسم رواة الحديث من حيث معرفة صفتهم وعدم معرفتها إلى قسمين:
القسم الأول علوم الحديث انظر ص (13).
(1) أي كتابه علوم الحديث انظر ص 13.
أما مجروح. فيعمل بما علم فيهم من الجرح والتعديل حسب المراتب التي سنرشحها.
القسم الثاني: من لم يعرف وصفه: وهو المحهول.
وهذا يقسم بحسب نوع الجهالة إلى ثلاثة أقسام: وذلك أن الجهالة إما أن تكون في عين الراوي وهو مجهول العين، أو في صفته الظاهرة والباطنة معا وهو مجهول الحال، أو في صفته الباطنة مع العلم بحاله الظاهر أنه على العدالة ويسمى "المستور". فانقسم المجهول بذلك إلى ثلاثة أقسام درج عليها المحدثون في منصفات علوم الحخديث ثم جاء الحافظ ابن حجر، فذهب تقسيمه قسمين تكلم عليهما في النخبة وشرحه. فقال:"فإن سمي الراوي وانفرد راو وحد بالرواية عنه فهو مجهول الحال وهو المستور".
وهذا التقسيم هو الذي نختاره. ونتكلم على قسمي المجهول فيما يلي:
مجهول العين:
قال الخطيب 1 في تعريفه: "المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتنهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، وممن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد" ا. هـ.
وحاصله أن مجهول العين هو من لم يرو عنه إلا راو واحد. ومن أمثلته عمرو ذو مر، وجبار الطائي لم يرو عنهم غير أبي إساق السبيعي.
"ولا تزال جهالة العين عن الراوي إلا أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه".
وإنما يصبح من طبقة "مجهول الحال" وهو من لم تعرف عدالته الظاهرة ولا الباطنة أو "المستور" وهو من عرفت عدالته الظاهرة أي لم يوقف منه على مفسق، لكن لم تثبت عدالته الباطنة، وهي التي ينص عليها علماء الجرح والتعديل ولو واحد منهم (1).
وحكم هذا على الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يقبل حديثه، وقيل يقبلمطلقا وهو قول مردود لا يلتفت إليه، وقيل غير ذلك مما لا نظيل بذكره.
نعم يقبل حديث مجهول العين على الأصح، بأحد أمرين ذكرهما الحافظ:
الأول: أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح.
الثاني: وكذا أي الأصح إذا زكاه من يتفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك. أي إذا كان هذا المتفرد من أئمة الجرح والتعديل ثم زكى من انفرد بالرواية عنه قبل حديثه (2).
مجهول الحال وهو المستور:
وهذا قال الحافظ في حكمه: "قد قبل روايته جماعة بغير قيد" أي بغير اعتبار لعصر دون عصر وردها الجمهور. وذلك لأنه يجوز أن يكون غير عدل، فلا تقبل روايته، حتى يتبين حاله.
(1) تنقيح الأنظار وشرحه توضيع الأفكار: 2: 192. وانظر مع هذا المرجع للتوسع في التقسيم الثلاثي وأحكامه فتح المغيث: 135 - 145، وانظر ما يأتي في نوع الوحدان لزاما رقم عام 6 ص 136 - 137.
(2)
شرح النهبة مع شرحه للقاري: 153 - 154.
والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال أي احتمال العدالة وضدها، لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله (1).
وما اختاره الحافظ من التوقف في خبر المستور حتى يتبين حاله، لا يختلف كثرا عما ذكرناه عن الجمهور من عدم قبول روايته، غاية الأمر أنه أراد ألا يعتبر ذلك جرحا له وطعنا فيه، وذلك ما تقضي به العدالة في الحكم، والتحري فيه (2).
وسبب اختيارنا هذا التقسيم الثنائي أنه أقرب للعمل به، فإن التقسيم الثلاثي السابق إنما يمكن لمن شاهد الرواة، فإنه هو الذي يمكن أن يشاهد العدالة الظاهرة والباطنة معا بالبحث والفحص أو يشاهد الظاهرة فقط، فيكون الراوي عنده مستورا. وأما بالنسبة إلينا فليس أمامنا إلا المصنفات في الرجال، وهذه يصعب العثور فيها على التمييز بين مجهول الحال والمستور، فكان هذان القسمان بالنسبة إلينا سواء.
(1) شرح شرح النخبة: 155.
(2)
وهذا لا يخالف ما نقله السخاوي عن الحافظ: أنه تثبت به الكراهة وينزل النهي المروي بهذا الطريق عن التحريم، لأن ذلك من قبيل فضائل الأعمال وهم يتساهلون فيها كما سيأتي في أحكام الحديث الضعيف.
كما نشير هنا إلى أن المستور هو غير من عرف بالعناية بالعلم، الآتي في 103 - 104. فتنبه.
2 -
الجرح والتعديل:
الجرح عند المحدثين: هو الطعن في راوي الحديث بما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه (1).
والتعديل: عكسه، وهو تزكية الراوي والحكم عليه بأنه عدل أو ضابط (2).
وعلم الجرح والتعديل ميزان رجال الرواية، يثقل بكفته الراوي فيقبل، أو تخف موازينه فيرفض، وبه نعرف الراوي الذي يقبل حديثه ونميزه عمن لا يقبل حديثه.
ومن هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، وبذلوا فيه أقصى جهد، وانعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه للحاجة الملجئة إليه (3).
قال بعض الصوفيين لعبد الله بن المبارك: أتغتاب؟
قال: "اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل".
وقال أبو تراب النخشبي الزاهد لأحمد بن حنبل: "يا شيخ لا تغتب العلماء! ".
(1) قسم الرواة: 82. بزيادة قولنا: "أو يخل".
(2)
المرجع السابق: 55.
(3)
انظر إحياء علوم الدين "آفات اللسان": 3: 148 - 150، ورياض الصالحين "باب ما يباح من الغيبة": 374 - 375"، وانظر الرفع والتكميل للكنوي مع التعليق عليه: 9 - 11. والتدريب: 520.
فقال له أحمد: "ويحك! هذا نصيحة، ليس هذا الغيبة"(1).
وقال أبو بكر بن خلاد ليحيى بن سعيد: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله؟ ! ".
فقال: لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "لم لمْ تذبّ الكذب عن حديثي؟ ! "(2).
ولولا ما بذله الأئمة النقاد في هذا الشأن من الجهود في البحث عن عدالة الرواة واختبار حفظهم وتيقظهم حتى رحلوا في سبيل ذلك، وتكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين والضعفاء المخلطين، لاشتبه أمر الإسلام، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجالون (3).
شروط الجارح والمعدل:
يجب أن تتوفر في الجارح والمعدل الخصال التي تجعل حكمه منصفا كاشفا عن حال الراوي، وهي:
1 -
يشترط في الجارح والمعدل: العلم والتقوى، والورع والصدق، لأنه إن لم يكن بهذه المثابة فكيف يصير حاكمًا على غيره بالجرح والتعديل، وهو ما زال مفتقرا لإثبات عدالته! !
(1) الكفاية: 45. والتدريب: 520.
(2)
الكفاية: 44. والتدريب الموضع السابق.
(3)
انظر التوسع في مشروعية الجرح والتعديل ومناقشة من اعترض على المحدثين في كتاب "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين": 235 - 237.
قال الحافظ (1): "وينبغي ألا يقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ أي مستحضر ذي يقظة تحمله على التحري والضبط فيما يصدر عنه".
2 -
أن يكون عالما بأسباب الجرح والتعديل.
قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة "وتقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف لئلا يزكي بمجرد ما يظهر له ابتداء من غير ممارسة واختبار".
3 -
أن يكون عالما بتصاريف كلام العرب، لا يضع اللفظ لغير معناه، ولا يجرح بنقله لفظا هو غير جارح.
خصال لا تشترط في الجارح والمعدل:
1 و 2 - لا يشترط كون الجارح أو المعدل ذكرا أو حرا، بل المعتمد أنه تقبل تزكية كل عدل وجره ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا (2).
3 -
قيل لا يقبل الجرح ولا التعديل إلا بقول رجلين كما في الشهادة. لكن الأكثرين على الاكتفاء في جرح الراوي وتعديله بالواحد، إذا استوفى شروط الجارح والمعدل، كما نقهل الآمدي وابن الحاجب وغيرهما (3). وهذا كما قال ابن الصلاح (4):"هو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره أنه يثبت بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادة".
(1) في شرح النخبة 237، وانظر الرفع والتكميل:16018.
(2)
كذا صرح به العراقي في شرح ألفيته ج 2: ص 5. وانظر الرفع والتكميل: 53.
(3)
الأحكام في أصول الإحكام للآمدي: 1: 185 والمختصر في أصول الفقه لابن الحاجب: 2: 64. وشرح مسلم الثبوت: 2: 150.
(4)
علوم الحديث: 98 - 99.
آداب الجارح والمعدل:
وثمة آداب ينبغي على الجارح والمعدل مراعاتها، من أهمها:
1 -
الاعتدال في التزكية، فلا يرفع الراوي عن مرتبته، ولا ينزل عنها. كما يقع لكثير من الناس في عصرنا.
2 -
لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، لأن الجرح شرع للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
3 -
لا يجوز الاقتصار على نقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما من النقاد، لأن في ذلك إجحافا بحق الراوي وقد عاب المحدثون من يفعل ذلك.
4 -
لا يجوز جرح من لا يحتاج إلى جرحه لأن الجرح شرع للضرورة، فما لم توجد إليه لا يجوز الخوض فيه، وقد شدد العلماء النكير على من فعل ذلك، ونبهوا على خطئه، ولكن هذا لم يجد نفعا -ويا للأسف- مع بعض الغلاة من المنتسبين إلى العلم في هذا العصر، فقد ظنوا أن مجابهة مخالفيهم بالطعن والقذف دليل على وفرة العلم وقوة الفهم، حتى صار "من عاداتهم الخبيثة: أنهم كلما ناظروا أحدا من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، وبحثوا عن أعماله العرضية، وخلطوا ألف كذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل ساجد، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقب مقابلهم بالتعدي والظلم بجعل المناظرة مشاتمة، والمباحثة مخاصمة" (1).
وحسبنا في الحكم على هذا المسلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(2).
(1) عن الرفع والتكميل انظر آداب الجرح فيه ص: 47 - 51.
(2)
مسلم في البر: 8: 11.
بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"(1).
شروط قبول الجرح والتعديل:
الشرط الأول: أن يصدر الجرح والتعديل ممن استوفى شروط الجارح والمعدل
قال اللكنوي رحمه الله في الرفع والتكميل (2).
"يجب عليك ألا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل، بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه، فإن الأمر ذو خطر وتهويل. ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كا. فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه، وله صور كثيرة لا تخفى على مهرة كتب الشريعة، فمنها:
أن يكون الجارح في نفسه مجروحا، فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه وكذا تعديله ما لم يوافقه فيه غيره.
قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب -بعد ما نقل عن الأزدي قوله فيه: "غير مرضي"- قلت: "لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي"(3).
ومنها: أن يكون الجارح من المتعنتين المشددين، فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل له تشدد في هذا الباب يجرحون الراوي بأدنى جرح، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر، وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، وقال حسن غريب: 4: 350. وفي المعنى أحاديث كثيرة.
(2)
في الإيقاظ: 19 ص 115 - 125 باختصار يسير.
(3)
تهذيب التهذيب: 1: 36.
غيره ممن ينصف ويعتبر، فمنهم أبو حاتم، والنسائي، وابن معين، وابن القطان، ويحيى القطان، وابن حبان، وغيرهم فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه، فليثبت العاقل في الرواة الذين تفردوا بجرحهم وليتفكر فيه".
قال الذهبي (1) في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي عارم شيخ البخاري بعد أن ذكر توثيقه نقلا عن الدارقطني: قلت: القائل الذهبي: "فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان الحشاف المتهور في عارم، فقال: "اختلط في آخر عمره وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعرف هذا من هذا ترك الكل ولا يحتج بشيء منها؟ ! " قلت:"ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثا منكرا فأين ما زعم" انتهى كلام الذهبي.
الشرط الثاني: لا يقبل الجرح إلا مفسرا أي مبين السبب، أما التعديل فلا يشترط تفسيره
هذا الذي عليه جمهور العلماء، واقتصر على إيراده ابن الصلاح دون الأقوال الأخرى.
قال ابن الصلاح (2):
"التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا، وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه وذلك شاق جدًّا.
(1) في الميزان ج 4 ص 8.
(2)
في علوم الحديث: 96.
وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسرا مبين السبب، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه، لينظر فيه أهو جرح أو لا. وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله".
وذكر الخطيب الحافظ (1) أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل البخاري ومسلم وغيرهما.
وعقد الخطيب بابا في "بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر مالا يصلح جارحا"(2)، منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه! ! . ومنها عن مسلم بن غبراهيم أنه سئل عن حديص لصالح المري فقال: ما تصنع بصالح! ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد! ؟ .
استشكال الجرح المجمل في كتب الرجال:
وقد أورد ابن الصلاح ههنا استشكالا لا بد أن يورده كل مسلم بالحديث، وهو أن كتب الجرح والتعديل التي صنفها الأئمة، "قل ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف .. وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر".
وهذا الإشكال قد أجاب عنه الإمام أبو عمرو بن الصلاح جوابا
(1) في الكفاية: 108.
(2)
في الكفاية: 110 وهذا الشرط اشترطه ابن الصلاح للعمل بالجرح مطلقا، واشترطه الحافظ ابن حجر لتقديم الجرح إذا عارضه التعديل. انظر حاشية لقط الدرر:137.
حسنا ارتضاه العلماء، فقال (1): وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف.
ثم من انزاحت عن الريبة ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن" (2).
فاحفظ هذه الفائدة الهامة في باب الجرح المبهم. ولا تبادر تقليدا لمن لا يعرف الحديث وأصوله إلى تضعيف الحديث وتوهينه بمجرد الأقوال المبهمة، والجروح غير المفسرة.
الشرط الثالث: يقبل الجرح المجمل غير المفسر
في حق من خلا من التعديل على ما اختاره الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (3) حيث قال: "فإن خلا المجروح عن التعديل، قبل الجرح فيه مجملا غير مبين السبب، إذا صدر عن عارف على المختار، لأنه إذا لم يكن فيه تعديل كأنه في حيز المجهول، وإعمال قول المجروح أولى من إهماله".
(1) علوم الحديث: 98. وانظر شرح الألفية: 2: 11 - 14 وغيرهما.
(2)
ومن المحققين من اختار جوابا آخر فقال: "الحق أنه إنْ كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه، وإلا فلا". وهو جواب إمام والخطيب البغدادي، انظر شرح الألفية ج 2 ص 15. والكفاية: 107 - 108. لكنا نرجح جواب ابن الصلاح لما وجدنا أن كثيرا من الأئمة العلماء بهذا الشأن ورد عنهم الجرح ثم استفسروا ففسروه بما لا يصلح جرحا.
(3)
وقد عرفت ما قاله ابن الصلاح فيما سبق: انظر ما سبق في المستور: 89 و 90 - 91.
الشرط الرابع: أن يسلم الجرح من الموانع التي تمنع قبوله
فإذا وجد مانع من قبول الجرح أو التعديل لم يقبل.
تعارض الجرح والتعديل:
إذا تعارض الجرح والتعديل في راوٍ واحد بأن ورد فيه الجرح والتعديل، ففيه أقوال ذكرها العلماء.
الصحيح الذي نقله الخطيب البغدادي عن جمهور العلماء وصححه ابن الصلاح وغيرهما عن المحدثين وجماعة من الأصوليين أن الجرح مقدم على التعديل ولو أن المعدلون أكثر، "لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل".
لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها في تقديم الجرح، فقد وجدناهم يقدمون التعديل على الجرح في مواطن كثيرة، ويمكننا أن نقول إن القاعدة مقيدة بالشروط الآتية:
1 -
أن يكون الجرح مفسرًا، مستوفيًا لسائر الشروط، لما مر معك سابقًا.
2 -
أن لا يكون الجارح متعصبًا على المجروح أو متعنتًا في جرحه. فلم يقبل كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري لما بينهما من الجفاء (1).
3 -
أن لا يبين المعدل أن الجرح مدفوع عن الراوي، ويثبت ذلك بدليل الصحيح، مثل ثابت بن عجلان الأنصاري: قال العقيلي: "لا يتابع على حديثه". وتعقب ذلك أبو الحسن بن القطان بأن ذلك
(1) علوم الحديث: 99.
لا يضره إلا إذا كثرت منه رواية المناكير ومخالفة الثقات وأقر ذلك الحافظ ابن حجر فقال: "وهو كما قال"(1).
وهذا يدل على أن اختلاف ملحظ النقاد يؤدي إلى اختلافهم في الجرح والتعديل، لذلك قال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال:"لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". أي لأن الثقة إذا ضعف يكون ذلك بالنظر لسبب غير قادح، والضعيف إذا وثق يكون توثيقه من الأخذ بمجرد الظاهر (2).
فاعرف هذه القيود التي ذكرناها لقاعدة تقديم الجرح، فقد زل كثير من الباحثين لغفلتهم عن التقييد والتفصيل، توهمًا منهم أن الجرح مطلقًا أي جرح كان، مقدم على التعديل مطلقًا أي تعديل كان من أي معدل كان في شأن أي راوٍ كان، فوقعوا بسبب ذلك في الخطأ (3).
بم يثبت تعديل الراوي وجرحه:
يثبت تعديل الراوي وجرحه بعدة وسائل، تتحدث عن أهمها فيما يلي:
1 -
أن ينص اثنان من أهل العلم على عدالته. وذلك باتفاق الجماهير من العلماء، قياس على التزكية في الشهادة حيث يشترط فيها اثنان.
(1) هدي الساري: 2: 120.
(2)
انظر شرح النخبة وقارنه بحاشية لقط الدرر: 136.
(3)
انظر تفصيلها في الرفع والتكميل في مواضع متفرقة، وانظر تلخيصها في تعليقنا على علوم الحديث:99.
2 -
أن يستفيض بين أهل الرواية أن فلانا ثقة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة استغنى بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصًا. مثل: مالك. وشعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر.
قال الخطيب في الكفاية (1): "فهؤلاء وأمثالهم لا يسأل عن عدالتهم، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين، وخفي أمره على الطالبين".
والدليل على ذلك أن العلم بظهور المستور من أمرهم واشتهار عدالتهم بالاستفاضة والشهرة أقوى في النفوس من تعديل واحد أو اثنين.
وقد سئل الإمام أحمد عن إسحاق بن راهويه، فقال:"مثل إسحاق يسأل عنه؟ ! . إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين".
وسئل ابن معين عن أبي عبيد القاسم بن سلام فقال: "مثلي يسأل عنه؟ ! هو يسأل عن الناس".
وحكم الجرح فيما ذكرنا كالتعديل أيضًا.
3 -
التعديل بواحد: اختار الخطيب البغدادي وابن الصلاح وكثير من المحققين أن يثبت التعديل بواحد (2).
واستدلوا على ذلك: بأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلا
(1) باب المحدث المشهور بالعدالة: 86.
(2)
الكفاية: 96. وعلوم الحديث: 98 - 99. والتقريب وشرحه التدريب: 204. وفتح المغيث للسخاوي: 123.
يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات، فإنها لا تقبل من شاهد واحد. واستدلوا أيضا بأن التزكية بمنزلة الحكم من المعدل بأن الراوي عدل، والحكم لا يحتاج فيه لاثنين.
وخالف بعض العلماء فقال: لا يثبت التعديل إلا باثنين، قياسا على الجرح والتعديل في الشهادات. وقد عرفت الفرق بينهما من قبل فلا يصح هذا القياس.
4 -
تعديل من عرف بالعناية بحمل العلم: قال ابن عبد البر: "كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة، حتى يتبين جرحه في حاله، أو في كثرة غلطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (1).
وقد انتقده ابن الصلاح فقال: "وفيما قاله اتساع غير مرضي"، وكأن ابن الصلاح لحظ في ذلك إلى الشبه بالمستور.
لكن صوب هذا القول المحققون من أهل الحديث كالجزري، والمزي، والذهبي، والسخاوي، وصوروه بما لا يشابه مجهول الحال، قال الذهبي:
"ولا يدخل في ذلك المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم، فكل من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث وأنه معروف بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تليينا
(1) الحديث أخرجه ابن عبد البر وقال: أسانيده مضطربة. ورواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء
…
وقد طال كلام العلماء عليه، وحسنه بعضهم لتعدد طرقه وشواهده انظر التدريب: 199 - 200 وفتح المغيث: 125 - 126.
ولا اتفق لهم على علم بأن أحدا وثقه، فهذا الذي عناه الحافظ وأنه يكون مقبول الحديث، إلى أن يلوح فيه جرح" (1).
ويؤيد ذلك قول أبي عمران: الشهرة والمعرفة بين أهل العلم تدل على عدالته، فإنهم لو علموا فيه جرحا لبينوه وما سكتوا عنه، فكان ذلك دليلا على عدالته.
وسائل مردودة للجرح والتعديل:
1 -
التعديل على الإبهام، كأن يقول حدثني الثقة، أو من لا أتهم، من غير أن يسميه، لم يكتف به على الصحيح حتى يسميه، لأنه وإن كان ثقة عنده فربما لو سماه كان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددا في القلب.
وكذا لو قال: كل شيوخي ثقات لم يعمل بتزكيته حتى يسمي الرواة.
لكن استثنوا من ذلك الإمام المجتهد، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، إذا قال ذلك كفى في حق من يقلده في المذهب (2).
2 -
ذهب ابن حبان إلى أن الراوي إذا خلا من أن يكون مجروحا أو فوقه في السند مجروح أو دونه مجروح ولم يرو منكرا، فإنه يقبل حديثه، لذلك فإنه يوثق الراوي المجهول إذا روى عن ثقة وكان الراوي عنه ثقة، ولم يرو منكرا.
ولا يخفى أنه لا يلزم مما ذكره أن يكون الراوي ثقة فما أكثر
(1) فتح المغيث: 126.
(2)
الكفاية: 373 و 72. وانظر ضوابط تعيين المبهم في قول مالك والشافعي: "حدثني الثقة" في تعجيل المنفعة لابن حجر: 547 - 548.
الضعفاء الذين يروون عن الثقات، وما أكثر الثقات الذين يروون عن الضعفاء. لذلك وصف ابن حبان بالتساهل في تصحيح الأحاديث وفي تعديل الرواة (1)، في هذه النقطة وهي تعديل المجهولين، وإن كان متعنتا في الجرح من جهة أخرى لأدنى سبب يلوح له.
3 -
إذا روى العدل عن راو، وسماه، لم يكن تعديلا عند الأكثرين من أهل الحديث، وهو الصحيح لأن هؤلاء رووا عن الثقات وعن غيرهم.
4 -
عمل العالم وفتياه على وفق حديث يرويه ليس حكما بصحته. كذلك مخالفته للحديث ليست قدحا في صحته ولا في رواته، لأن عمله على وفق الحديث قد يكون احتياطا، أو لدليل آخر وافق الخبر. وكذلك عمله على خلافه قد يكون لمانع من معارض قوي أو تأويل. وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر حديث:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، ولم يعمل بظاهره، ولم يكن ذلك قدحا في نافع راويه (2). وفي الموطأ سبعون حديثا ترك مالك رضي الله عنه العمل به، منها أحاديث في الصحيحين.
ألفاظ الجرح والتعديل ومراتبها:
اصطلح علماء هذا الفن على استعمال ألفاظ يعبرون بها عن وصف حال الراوي من حيث القبول أو الرد، ويدلون بها على المرتبة التي ينبغي أن يوضع فيها من مراتب الجرح أو التعديل، ولا ريب أن معرفة
(1) انظر مذهب ابن حبان في كتابه مختصر تاريخ الثقات: 3260327.
(2)
الموطأ: 2: 79، وانظر المنتقى: 5: 55 - 56.
هذه الألفاظ في غاية الأهمية لطالب الحديث، والباحث فيه، لأنها الأداة التعبيرية التي تعرفنا صفة الراوي.
وقد كتب العلماء كثيرا عن هذه المراتب واجتهدوا في تقسيمها وبيان منازلها. وكان أول ما وصلنا من ذلك تصنيف سيد النقاد الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي "المتوفى (327) هـ" في كتابه العظيم "الجرح والتعديل"(1)، فقد صنف مراتب التعديل أربع مراتب، ومراتب التجريح أربعا.
مراتب التعديل عند الرازي:
قال ابن أبي حاتم: "وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
1 -
فإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن أو ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه.
2 -
وإذا قيل له: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.
3 -
وإذا قيل: "شيخ"، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.
4 -
وإذا قالوا: "صالح الحديث" فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
مراتب الجرح عند الرازي:
1 -
وإذا أجابوا في الرجل بـ"لين الحديث" فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا.
(1): 1/ 1/ 37.
2 -
وإذا قالوا: "ليس بقوي" فهو بمنزلة الأولى في كتبة حديثه إلا أنه دونه.
3 -
وإذا قالوا: "ضعيف الحديث"، فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به.
4 -
وإذا قالوا: "متروك الحديث"، أو "ذاهب الحديث"، أو "كذاب" فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه. وهو المنزلة الرابعة.
وقد تابع الرازي على هذا التقسيم ابن الصلاح والنووي وغيرهما (1) فوافقوه موافقة تامة. وجاء غيرهما فوافقوا على التقسيم وأحكامه من حيث الاجمال وزادوا عليه بعض التفاصيل، أشهرهم الذهبي، والعراقي، وابن حجر، والسخاوي.
قال الذهبي في ديباجة ميزان الاعتدال:
1 -
فأعلى الرواة المقبولين: ثبت حجة، وثبت حافظ، أو ثقة متقن، وثقة ثقة.
2 -
ثم ثقة.
3 -
ثم صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس.
4 -
ثم محله الصدق، وجيد الحديث، وصالح الحديث، وشيخ وسط، وشيخ حسن الحديث، وصدوق إن شاء الله، وصويلح، ونحو ذلك.
فقد زاد رتبة أعلى من الأولى عند ابن أبي حاتم، وجعل الثالثة والرابعة مرتبة واحدة.
(1) علوم الحديث ص 110113، والتقريب 228 - 235.
أما في الجرح فقال:
1 -
وأردأ عبارات الجرح: دجال، كذاب، وضاع، يضع الحديث.
2 -
ثم: متهم بالكذب، ومتفق على تركه.
3 -
ثم متروك، وليس بثقة، وسكتوا عنه ....
4 -
ثم واه بمرة، وليس بشيء، وضعيف جدا، وضعفوه
…
5 -
ثم يضعف، وفيه ضعف، وقد ضعف، وليس بالقوي، سيئ الحفظ
…
إلخ.
وجاء العراقي فتابع الذهبي في تقسيمه وأدخل عليه تفصيلا وإيضاحا كلمة: المرتبة الأولى -المرتبة الثانية، بدلا من كلمة ثم. وتوسع في ذكر ألفاظ كل مرتبة، وأبان حكم المراتب وأوضحه.
فالأولى والثانية من مراتب التعديل، إذا قيل للواحد شيء من ألفاظهما فهو ممن يحتج بحديثه والثالثة يكتب حديثه وينظر فيه، والرابعة بمنزلة التي قبلها يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دونها.
وقال في المراتب الثلاث الأولى من مراتب الجرح:
"وكل من قيل فيه ذلك من هذه المراتب الثلاث لا يحتج به ولا يستشهد به ولا يعتبر به"، وفي المرتبتين الرابعة والخامسة:"يخرج حديثه للاعتبار".
ثم جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني فزاد في نخبته مرتبة في التعديل أعلى من المرتبة التي زادها الذهبي والعراقي وهي ما عبر فيها بأفعل التفضيل، كأوثق الناس، فصارت مراتب التعديل خمسا وزاد عليها في كتابيه "تهذيب التهذيب"، و"تقريب التهذيب" رتبة أخرى
اعتبرها أعلى أيضا وهي رتبة الصحابة، فصارت مراتب التعديل ستا. وصنيع الحافظ ابن حجر في إفراد رتبة الصحبة معقول، فإن توثيقهم إنما علم بالنصوص من الكتاب والسنة، وهي أعلى دلالة وأسمى شرفا ممن ثبتت عدالته بتعديل بشر.
وأما مراتب الجرح فزاد عليها الحافظ رتبة المبالغة كأكذب الناس، وتابعه عليها السخاوي فصارت مراتب الجرح ستا أيضا.
التقسيم المختار لمراتب الجرح والتعديل:
ونحن نختار هذا التقسيم للمراتب فنفصلها بعد هذا التمهيد ونسوق لك مع كل رتبة ما ينطبق عليها من ألفاظ الجرح أو التعديل، بدءا من أعلى مراتب التعديل إلى أسوأ مراتب التجريح.
مراتب التعديل:
"المرتبة الأولى": وهي أعلاها شرفا، مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
"المرتبة الثانية": وهي أعلى المراتب في دلالة العلماء على التزكية، وهي ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة، أو عبر بأفعل التفضيل، كقولهم، أوثق الناس، وأثبت الناس، وأضبط الناس، وإليه المنتهى في التثبت. ويلحق به: لا أعرف له نظيرا في الدنيا، وقولهم: لا أحد أثبت منه، أو من مثل فلان، أو فلان لا يسأل عنه.
"المرتبة الثالثة": إذا كرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت، أو ثقة متقن، أو مع إعادة اللفظ الأول، كقولهم: ثقة ثقة، ونحوها، وأكثر ما وجدوا
قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة ثقة ثقة
…
، إلى أن قال تسع مرات، ومن هذه المرتبة قول ابن سعد في شعبة:"ثقة مأمون ثبت حجة، صاحب حديث".
"المرتبة الرابعة": ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق، كثقة. أو ثبت أو متقن، أو كأنه مصحف، أو حجة، أو إمام، أو عدل ضابط. والحجة أقوى من الثقة.
"المرتبة الخامسة": ليس به بأس، أو لا بأس به، أو صدق، أو مأمون، أو خيار الخلق. أو ما أعلم به بأسا، أو محله الصدق.
"المرتبة السادسة": ما أشعر بالقرب من التجريح، وهي أدنى المراتب، كقولهم: ليس ببعيد من الصواب، أو شيخ، أو يروى حديثه، أو يعتبر به، أو شيخ وسط، أو روي عنه. أو صالح الحديث، أو يكتب حديثه، أو مقارب الحديث، أو ما أقرب حديثه، أو صويلح، أو صدوق إن شاء الله، أو أرجو أن لا بأس به، أو جيد الحديث، أو حسن الحديث. أو وسط، أو مقبول، أو صدوق تغير بأخرة، أو صدوق سيء الحفظ، أو صدوق له أوهام، أو صدوق مبتدع، أو صدوق يهم.
"ثم إن الحكم في أهل هذه المراتب: الاحتجاج بالأربعة الأولى منها. وأما التي بعدها فإنه لا يحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة الضبط، بل يكتب حديثهم ويختبر، وأم السادسة فالحكم في أهلها دون أهل التي قبلها، وفي بعضهم من يكتب حديثه للاعتبار دون اختبار ضبطهم لوضوح أمرهم". كذا قال الحافظ السخاوي (1)، وهو ينطبق على تقسيمنا هذا أيضا، لما عرفت أثناء
(1) فتح المغيث: 159.
الشرح. وهو موافق لما قاله ابن أبي حاتم وأقره ابن الصلاح في أحكام التقسيم لمراتب التعديل.
وهذا اتفاق منهم على أن كلمة "صدوق" لا يحتج بمن قيلت فيه إلا بعد الاختبار والنظر، ليعلم هل يضبط الحديث أو لا (1).
وذلك يرد ما زعمه بعض الناس من أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته، دون أن يقيده بأن ينظر فيه.
مراتب الجرح:
"المرتبة الأولى": وهي أسهل مراتب الجرح، قولهم: فيه مقال، أو أدنى مقال، أوضعف، أو ينكر مرة ويعرف أخرى، أو ليس بذاك، أو ليس بالقوي، أو ليس بالمتين، أو ليس بحجة، أو ليس بعمدة، أو ليس بمأمون (2)، أو ليس بالمرضي، أو ليس يحمدونه، أو ليس بالحافظ، أو غيره أوثق منه، أو فيه شيء، أو فيه جهالة، أو لا أدري ما هو، أو فيه ضعف، أو لين الحديث، أو سيئ الحفظ، أو ضعف، أو للضعف ما هو. أو فيه لين "عند غير الدارقطني، فإنه قال: إذا قلت: لين لا يكون ساقطا متروك الاعتبار ولكن مجروحا بشيء لا يسقط لا يسقط به عن العدالة".
(1) قال ابن الصلاح وقرره الأئمة بعده: "هذا كما قال -يعني كما قال الرازي في الصدوق: يكتب حديثه وينظر فيه- لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر حتى يعرف ضبطه".
وقد استوفينا بحث مسألة الصدوق وأزحنا عنها غبار التقول في كتابنا "ماذا عن المرأة" بتحقيق دقيق، فارجع إليه لزاما ص 93 - 94 و 186 - 196 الطبعة الثالثة.
(2)
كذا في فتح المغيث ص 161 وهو مشكل، لأن ظاهرها فيه طعن بعدالة الراوي.
ومنه قولهم: تكلموا فيه، أو سكتوا عنه، أو مطعون فيه. أو فيه نظر، عند غير البخاري، فإنه يقول ذلك فيمن تركوا حديثه.
"المرتبة الثانية": وهو أسوأ من سابقتها، وهي: فلان لا يحتج به، أو ضعفوه، أو مضطرب الحديث، أو له ما ينكر، أو حديثه منكر، أو له مناكير، أو ضعيف، أو منكر، عند غير البخاري، أما البخاري فقد قال:"كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه".
وحكم من ذكر في هاتين المرتبتين -كما بين السخاوي-: يعتبر بحديثه، أي يخرج حديثه للاعتبار- وهو البحث عن روايات تقويه ليصير بها حجة- لاشعار هذه الصيغ بصلاحية المتصف بها لذلك، وعدم منافاتها لها.
"المرتبة الثالثة": أسوأ من سابقتيها. كقولهم: فلان رد حديثه، أو مردود الحديث، أو ضعيف جدا، أو ليس بثقة، أو واه بمرة، أو طرحوه، أو مطروح الحديث، أو مطروح، أو ارم به، أو لا يكتب حديثه، أو لا تحل كتابة حديثه، أو لا تحل الرواية عنه، أو ليس بشيء، أو لا يساوي شيئا، أو لا يستشهد بحديثه، أو لا شيء خلافا لابن معين.
"المرتبة الرابعة": كقولهم: فلان يسرق الحديث، وفلان متهم بالكذب أو الوضع، أو ساقط، أو متروك، أو ذاهب الحديث، أو تركوه، أو لا يعتبر به، أو بحديثه، أو ليس بالثقة، أو غير ثقة، وكذا قولهم: مجمع على تركه، ومود أي هالك، وهو على يدي عدل.
"المرتبة الخامسة": كدجال، والكذاب، والوضاع، وكذا: يضع، ويكذب، ووضع حديثا.
"المرتبة السادسة": ما يدل على المبالغة كأكذب الناس، أو إليه
المنتهى في الكذب، أو هو ركن الكذب، أو منبعه، أو معدنه. ونحو ذلك.
وحكم هذه المراتب الأربع الأخيرة قال فيه السخاوي: "إنه لا يحتج بواحد من أهلها ولا يستشهد به، ولا يعتبر به".
إيضاح لبعض هذه الألفاظ:
ونوضح فيما يلي ما يحتاج إلى الشرح من هذه الألفاظ، ونبين ما وجد فيه اصطلاح خاص لبعض العلماء، لم يوافق فيه المصطلح العام الذي ذكرنا مراتبه:
1 -
قولهم: "لا بأس به"، أو "ليس به بأس" قال ابن معين: إذا قلت: "ليس به بأس فثقة". ومثله عند دحيم الحافظ أيضا. أما عند غيرهما فإنه من المرتبة التي دون ثقة وهي الخامسة (1).
2 -
قولهم: "إلى الصدق ما هو" يعني أنه قريب من الصدق ما هو ببعيد (2).
3 -
قولهم: "مقارب الحديث" بفتح الراء وكسرها من صيغ التعديل على الصحيح. والمعنى على الفتح أن حديث غيره يقارب حديثه، والمعنى على كسر الراء أن حديثه يقارب حديث غيره، أي أن حديثه ليس بشاذ ولا منكر (3) وهو من المرتبة السادسة، ومثله في الرتبة:"ما أقرب حديثه".
4 -
قولهم: "تعرف وتنكر"، أو "يعرف وينكر"
(1) الرفع والتكميل: 100 - 101.
(2)
فتح المغيث: 158. وانظر للتوسع في هذا القول توضيح الأفكار: 2: 265. والتعليق على تدريب الراوي لشيخنا الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه الله: 236. وكتابه المختصر: 69.
(3)
انظر فتح المغيث: 158 و 163.
على الوجهين، والمعنى: أنه يأتي مرة بالأحاديث المعروفة ومرة بالأحاديث المنكرة، فأحاديثه تحتاج إلى عرض وموازنة بأحاديث الثقات المعروفين.
وقد وجدنا المحدثين أكثر استعمالا للصيغة الأولى، ولعل ذلك لأنها وردت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم (1).
5 -
قولهم: "منكر الحديث"، و"يروي المناكير"، وقولهم:"حديث منكر".
بين هاتين العبارتين فرق ينبغي التنبه له، فإن معنى العبارة الأولى كثرة تفرده.
وقولهم: "حديث منكر". اصطلح المتأخرون على أن المنكر هو الحديث الذي رواه ضعيف مخالفا للثقة.
لكن المتقدمين كثيرا ما يطلقون النكارة على مجرد التفرد، ولو كان الراوي ثقة، وذلك كثير في كلام الإمام أحمد بن حنبل، ودحيم، وغيرهما (2).
ومن هذا تعلم خطأ من ضعف يزيد بن خصيفة راوية حديث أن الصحابة كانوا في عهد عمر يصلون التراويح عشرين ركعة، حيث ضعفه شيئا لأن الإمام أحمد قال فيه في رواية عنه:"منكر الحديث"، وقد عرفت أن هذا القول من الإمام أحمد لا يقتضي تضعيف الحديث، بل هو حكم منه بأنه يتفرد بأحاديث وليس يضر الثقة أن يتفرد بأحاديث، إنما يضره المخالفة، والمقصود هنا هو التفرد، بدليل أن أحمد رضي الله عنه وثقه أيضا، وكذلك اعتمد توثيقه جماهير العلماء.
(1) وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" أخرجه البخاري في علامات النبوة 4: 199 ومسلم في الإمارة "الأمر بلزوم الجماعة": 6: 20.
(2)
ارجع في هذا إلى علوم الحديث: 71 - 72، وتعليقنا الذي أوضحنا فيه ذلك. وانظر الرفع والتكميل:97.
6 -
قولهم: "يسرق الحديث"، سرقة الحديث معناها أن يكون محدث ينفرد بحديث، فيجيء السارق ويدعي أنه سمعه أيضا من شيخ ذاك المحدث، أو يكون الحديث عرف براوٍ فيضيفه السارق لراوٍ غيره ممن شاركه في طبقته (1).
7 -
قولهم: "هل على يدي عدل". كان الحافظ العراقي يقول إنه من ألفاظ التوثيق، وينطق به "على يدي عدل" بكسر الدال الأولى وبرفع اللام وتنوينها، لكن حقق الحافظ ابن حجر أنها من ألفاظ التجريح الشديد كناية عن الهالك، لأنه مأخوذ من المصل السائر:"وضع على يدي عدل" وعدل هو رجل من شرط تبع، فكان تبع إذا أراد قتل رجل دفعه إليه (2).
وثمة اصطلاحات أخرى تحتاج للتنبيه أضربنا عنها كي لا نخرج عما يناسب الاختصار الذي نقصده.
مصادر الجرح والتعديل:
والمصنفات في الجرح والتعديل عديدة كثيرة، معظمها في دراسة أحوال الرواة تفصيلا مما سنذكره في معرفة الثقات والضعفاء.
وصنفوا أيضا في قواعد الجرح والتعديل تآليف نافعة من أهمها:
1 -
مقدمة كتاب الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي.
2 -
الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي " (1304) هـ". وهو كتاب نفيس جدا في غاية الفائدة طبع في حلب ثم في بيروت في جزء واحد متوسط.
(1) فتح المغيث: 160.
(2)
المرجع السابق: 163.
3 -
الصحابة رضي الله عنهم:
الصحابة رضوان الله عليهم هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحمل أعبائها، ومن ثم لم يقع خلاف "بين العلماء أن الوقوف على معرفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أوكد علم الخاصة، وأرفع علم الخبر، وبه ساد أهل السير"(1).
وأصل الصحبة في اللغة يطلق على مجرد الصحبة، دون اشتراط استمرارها طويلا، وعلى ذلك درج المحدثون.
قال الحافظ ابن حجر:
"الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم -مؤمنا به، ومات على الإسلام".
فقوله: "من لقي" يدخل في الصحابة من طالت مجالسته أو قصرت ومن غزا أو لم يغز. وقوله: "مؤمنا به" خرج به من لقيه كافرا ثم أسلم بعد ذلك ولم يجتمع به صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام (2).
مثل رسول هرقل.
(1) الاستيعاب في أسماء الأصحاب: 1: 8.
(2)
الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر ج 1 ص 10. وانظر علوم الحديث: 263، وهذا التعريف مأخوذ من كلام البخاري في صحيحه أول فضائل الصحابة ج 5 ص 2.
أما الأصوليون: فيراعي كثير منهم دلالة العرف في معنى الصحبة. فيطلقون اسم الصحابي على "من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ منه".
وهو مروي عن سعيد بن المسيب فقد كان يقول: "الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين"(1).
لكن انتقد العلماء هذا القول بأنه يؤدي إلى إخراج أقوام وقع الاتفاق على اعتبارهم من الصحابة، قال ابن الصلاح (2):
"لكن في عبارته ضيق يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي، ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة".
وقد اختار أصحاب الحديث هذا التوسع نظرا إلى شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم بركته التي تحصل للمؤمن إذا لقيه، فأعطوا كل من رآه صلى الله عليه وسلم مؤمنا به حكم الصحبة.
ومعرفة الصحابة لها فوائد مهمة في الدين والعلم. منها:
1 -
أنهم هداة البشرية بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم أمثلة تطبيق الدين، سيرتهم تملأ القلوب يقينا، وتحث الهمم على الجهاد والعمل، وتلهب الحماس في النفوس.
2 -
معرفة الحديث المرسل وتمييزه عن المنقطع والموصول، فإذا لم نعرف الناقل للحديث أهو صحابي أو ليس بصحابي لا يمكن لنا ذلك.
(1) الكفاية: 50. وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف.
(2)
علوم الحديث: 264.
وقد ذكر العلماء ضوابط يعرف بها الصحابي، نحررها لك فيما يلي:
1 -
التواتر، بأن ينقل إثبات صحبته عن عدد كثير جدا من الصحابة، كالخلفاء الراشدين الأربعة، وكبار الصحابة المعروفين لدى الخاصة والعامة.
2 -
الشهرة والاستفاضة القاصرة عن رتبة التواتر، كضمام بن ثعلبة، وعكاشة بن محصن.
3 -
أن يروي عن واحد من الصحابة أن فلانا له صحبة، مثل حممة الدوسي: شهد له أبو موسى الأشعري فقال: "إنا والله ما سمعنا فيما سمعنا من نبيكم صلى الله عليه وسلم وما بلغ علمنا إلا أن حممة شهيد"(1).
4 -
أن يروي عن أحد التابعين أن فلانا له صحبة (2).
5 -
أن يقول هو عن نفسه إنه صحابي، وذلك بشرطين: أن يكون ثابت العدالة وأن يكون في المدة الممكنة، وهي مائة سنة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. لقوله في آخر عمره لأصحابه:"أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد" رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
ورواه مسلم من حديث جابر ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: "أقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ".
(1) انظر تدريب الراوي: 399. والإصابة: 1: 354. والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 69.
(2)
هذا زاده الحافظ ابن حجر، وقال فيه وفي سابقه أنهما:"بناء على قبول التزكية من واحد، وهو الراجح".
وقد كان آخر الصحابة موتا سنة مائة وعشر سنين وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه (1).
ولهذا التحديد النبوي المعجز لم يصدق الأئمة أحدا ادعى الصحبة بعد المدة المذكورة. وقد ادعاها جماعة فكذبوا، آخرهم رتن الهندي ادعى الصحبة بعد الستمائة، فياله من كذاب (2).
طبقات الصحابة:
فصل الحاكم النيسابوري (3) طبقات الصحابة بحسب النظر الدقيق إلى سبقهم في الإسلام وشهود المشاهد الفاضلة، فجعلهم اثنتي عشرة طبقة، فقال:
"أولهم: قوم أسلموا بمكة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. والطبقة الثانية من الصحابة: أصحاب دار الندوة، وذلك أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وأظهر إسلامه حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة فبايعه جماعة من أهل مكة.
والطبقة الثالثة من الصحابة: المهاجرة إلى الحبشة.
والطبقة الرابعة من الصحابة: الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، يقال: فلان عقبي.
والطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار.
والطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد.
(1) تدريب الراوي: 412.
(2)
اعتمدنا في بحث ثبوت الصحبة على كتاب الإصابة: 1: 14 - 15 وانظر الكفاية: 52. وغيره.
(3)
في كتابه معرفة علوم الحديث: 22 - 24.
والطبقة السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
والطبقة الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.
والطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضٍيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . وكانت بيعة الرضوان بالحديبية لما صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، وصالح كفار قريش على أن يعتمر من العام المقبل.
والطبقة العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح، منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، وغيرهم، وفيهم كثرة.
والطبقة الحادية عشرة: هم الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش.
ثم الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة" اهـ.
واشتهر تقسيم الصحابة تقسيما إجماليا إلى ثلاث طبقات:
طبقة كبار الصحابة، كالعشرة المبشرين بالجنة، ومن في طبقتهم ممن تقدم إسلامهم، وطبقة أوساط الصحابة، وطبقة صغار الصحابة الذين تأخر إسلامهم أو كانوا صغارا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقدر عدد الصحابة كلهم بما يزيد على مائة ألف، وقدرهم أو زرعة الرازي مائة ألف وأربعة عشر ألفا (1).
(1) تدريب الراوي: 405 - 406.
عدالة الصحابة:
وقد اختص الله الصحابة رضي الله عنهم بخصيصة ليست لطبقة من الناس غير طبقتهم، وهي أنهم لا يسأل عن عدالة أحد منهم، فهم جميعهم عدول ثبتت عدالتهم بأقوى ما تثبت به عدالة أحد، فقد ثبتت بالكتاب، والسنة، وبالإجماع، والمعقول.
أما القرآن: فقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .
وهذا ينطبق على الصحابة كلهم، لأنهم المخاطبون مباشرة بهذا النص.
وغير ذلك كثير من الآيات في فضل الصحابة والشهادة بعدالتهم.
وأما السنة: ففي نصوصها الشاهدة بذلك كثرة غزيرة، منها:
حديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم"(2).
(1) البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ج 6 ص 8. ومسلم: 7: 188.
(2)
الإصابة: 1: 21.
ومما ورد في إثبات عدالة مجهول الصحابة: حديث ابن عباس الصحيح قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال:"أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ " قال: "نعم" قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا". أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وله شاهد من حديث أنس، وحديث ربعي بن حراش، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد معرفة إسلامه.
وفي الصحيحين من حديث عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له؟ فقال: كيف؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما! ! (1)
فهذه النصوص وغيرها كثير تثبت العدالة لكل صحابي، من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن طالت صحبته، ومن ظفر بمجرد اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الإجماع: فيقول أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب (2)"قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول".
وقال الخطيب في الكفاية (3): "هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء".
ونقل الإجماع محمد بن الوزير اليماني عن أهل السنة وعن الزيدية والمعتزلة أيضا وكذا الصنعاني (4).
(1) انظر تنقيح الأنظار: 2: 467 - 469.
(2)
ج 1 ص 8.
(3)
: 49.
(4)
توضيح الأفكار: 2: 469.
وقال ابن الصلاح (1): "ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة".
وأما دلالة العقل: فقد قررها وأحسن فيها الخطيب البغدادي فقال (2):
"على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين.
هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء".
وبهذا ثبتت عدالة الصحابة بالأدلة القطعية النقلية والعقلية، مما لا يدع للشك أو التردد مجالا في ثبوت هذه الخصوصية الفاضلة لأحد منهم رضي الله عنهم.
لذلك شدد العلماء النكير على من يقدح في هؤلاء الكرام، لما أنه شأن المارقين، والحائدين عن سواء الطريق، ورحم اله إمام الحديث أبا زرعة الرازي حيث قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما
(1) علوم الحديث: 265.
(2)
الكفاية: نفس الصفحة.
يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (1).
من مناقب الصحابة:
1 -
اختلفت الروايات وأقوال العلماء في أول الصحابة إسلاما اختلافا، واختار ابن الصلاح في ذلك اختيارا حسنا راعى فيه الاحتياط، وأخذ به العلماء من بعده.
قال ابن الصلاح: "الأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال".
2 -
أفضل الصحابة بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام: أبو بكر عبد الله بن عثمان "أبي قحافة" التيمي، وسمي بالصديق لمبادرته إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الناس كلهم، ثم بعده عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب.
ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية.
3 -
اشتهر بعض الصحابة بالعلم، وانتشر علمهم في الآفاق:
أ- قال أحمد بن حنبل: "ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثروا الرواية عنه وعمروا: أبو هريرة، وابن عمر،
(1) وقد استوفينا دراسة الشبهات الواردة على مسألة عدالة الصحابة دراسة منهجية في كتابنا أصول الجرح والتعديل واستقصينا أسباب القدح فيهم، وبينا بطلانه من جميع الوجوه. وانظر إن شئت أيضا كتاب السنة للدكتور مصطفى السباعي: 305 - 353 وكتاب الأضواء الكاشفة، والمنهج الحديث قسم التاريخ.
وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس". وأبو هريرة أكثرهم حديثا وحمل عنه الثقات.
ب- العبادلة: "عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، هؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو هذا فعلهم.
وأكثر الصحابة في الفتوى ابن عباس.
أما ابن مسعود ونحوه من كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة، فقد تقدم موتهم، لكن هؤلاء تأخر متوهم، واحتاج الناس إلى علمهم، لقلة الصحابة إذا ذاك، فكثرت الرواية عنهم وكثر نقل الفقه عنهم. جـ- رؤساء الصحابة في العلم: قال مسروق: "وجدت علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ستة: عمر وعلي، وأبي، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود. ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين: علي، وعبد الله".
واستقصى أبو محمد بن حزم الظاهري فقهاء الصحابة استقصاء له أهميته وفائدته البالغة، في رسالة خاصة بالمجتهدين (1)، بلغ عددهم فيها مائة واثنين وستين:
فالمكثرون هم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم. قال: ويمكن أن يجمع من فقه كل واحد منهم سفر ضخم.
(1) في آخر كتاب جوامع السيرة 319 - 323. وانظر قسم الرواة: 27 - 28، وتصدير معجم فقه ابن حزم لفضيلة الأستاذ محمد المنتصر الكتاني: 41 - 42.
والمتوسطون من فقهاء الصحابة عشرون، منهم أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الله بن الزبير
…
ويمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا.
والمقلون في الفتيا هم الباقون: مثل جرير بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن أبي أوفى، وسمرة بن جندب، هؤلاء وغيرهم مقلون في الفتيا جدا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك.
4 -
آخرهم على الإطلاق موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة، توفي كما سبق سنة عشر ومائة (1).
وأما آخرهم وفاة بالنسبة للبلاد فقد قالوا:
آخر من مات بمكة أبو الطفيل، وآخر من مات بالمدينة محمود بن الربيع " (99) "، وبالبصرة أنس " (93) "، وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى " (86) "، وبالشام عبد الله بن بسر " (96) " بحمص، وبمصر عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي " (86) ". رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وجعلنا من محبيهم وتابعيهم بإحسان (2).
المصنفات في تراجم الصحابة:
يقول أبو عمر يوسف بن عبد البر (3): "وما أظن أهل دين من
(1) وقال ابن الصلاح مات سنة مائة من الهجرة والتحقيق ما ذكرناه.
(2)
باختصار عن التدريب: 412 - 414، وقارن علوم الحديث: 265 - 271 واختصار علوم الحديث 183 - 190 وفي بعض ما ذكرنا من الوفيات خلاف لم نطول بذكره
(3)
الاستيعاب: 1: 8 - 9.
الأديان إلا وعلماؤهم معتنون بمعرفة أصحاب أنبيائهم لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته" اهـ.
ولا ريب أن المسلمين كانوا أعظم الأمم عناية بمعرفة أصحاب نبيهم، وها هي ذي المؤلفات في الصحابة تتجاوز العشرات من الكتب، نعرفك بأهمها، وهي أربعة مؤلفات قيمة أخرجتها المطابع:
1 -
"الاستيعاب في أسماء الأصحاب" للإمام الحافظ المحدث الفقيه أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري المتوفى سنة (463) هـ عن مائة سنة كاملة.
قصد فيه إلى جمع ما تفرق في كتب الصحابة المدونة من قبله ذكر منها في مقدمته خمسة عشر مرجعا، وأشار إلى مراجع أخرى كثيرة لم يذكرها (1)، واقتصر في جمعه "ذلك على النكت التي هي البغية من المعرفة بهم". فلذلك سمى كتابه "الاستيعاب" ورتبه على حروف المعجم.
لكن انتقد عليه أنه فاته جمع من الصحابة كثير، فإن غاية ما جمعه يبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة.
وأنه كما قال ابن الصلاح شأنه بذكر ما شجر بين الصحابة، وحكاياته فيه عن الأخباريين لا المحدثين. والمحدثون لا يرتاحون إلى هؤلاء الأخباريين، لأن الغالب عليهم الإكثار والتخليط فيما يروونه.
2 -
كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، للإمام المحدث الحافظ عز الدين علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير المتوفى سنة (630) هـ.
جمع في كتابه هذا بين الكتب التي هي غاية ما انتهى إليه الجمع في الصحابة حتى عهده، فاجتمع له من الصحابة /7500/. وعني
(1) الاستيعاب: 1: 9 - 10.
بترتيبه على الأحرف ترتيبا أدق من كتاب الاستيعاب (1)، فجاء كتابا عظيما حافلا. قال الحافظ:(2)"إلا أنه تبع من قبله، فخلط من ليس صحابيا بهم، وأغفل كثيرا من التنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم".
3 -
كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" للإمام الحافظ البحر الحجة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852) هـ.
جمع في كتابه ما كتبه السابقون، وأعاد النظر في مراجع الصحابة الأولى من كتب السنة وتاريخ الرواة والسير والمغازي، فاستخرج منها أسماء صحابة فاتت غيره.
وقد رتب الكتاب على أحرف الهجاء وقسم كل حرف أربعة أقسام، عني فيها بتمييز من ثبت لقاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يثبت، ونبه فيه على ما ذكر في الكتب السابقة على سبيل الوهم والغلط، وهذا زبدة ما يمخضه من هذا الفن اللبيب الماهر، وقد وقع فيه التنبيه على عجائب يستغرب وقوع مثلها (3).
4 -
كتاب "حياة الصحابة" للعلامة الداعية المحدث الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي -الهندي المتوفى سنة (1383) تغمده الله برحمته.
وهو كتاب بديع جدا في هذا الفن، تناول فيه سيرة الصحابة رضي الله عنهم من حيث كونهم أمثلة عليا في تطبيق هذا الدين، ومن حيث كونهم قدوة تحتذى في العلم والعمل والتقى والورع، فجمع فيه أخبارهم مرتبة على الأبواب لا الأسماء. مثل:"باب تحمل الشدائد في الله"، "باب الهجرة"، "باب الجهاد" وهكذا
…
والكتاب بهذا عدة هامة، وسلاح ماض للداعية لا يستغنى عنه
(1) انظر تقدمة أسد الغابة 305.
(2)
الإصابة: ج 1 ص 4.
(3)
ج 1 ص 6 - 9.
4 -
الثقات والضعفاء:
هذا النوع من علوم الحديث ثمرة من ثمار النوعين الأول والثاني، فإنه ينتج من الأبحاث التي قام بها العلماء لمعرفة صفة كل راو من رواة الحديث، ثم ما رأوه مناسبا له من مراتب الجرح والتعديل.
من هنا نبه العلماء على أهمية هذا النوع، وأنه كما قال ابن الصلاح:
"من أجل نوع وأفخمه، فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه".
وقد لقي هذا العلم عناية أئمة الحديث في القديم والحديث، فصنفوا فيه التآليف الكثيرة، تكلموا فيها على الرواة مما شاهدوه من أحوالهم أو ما نقلوه من الكلام في صفاتهم عن أئمة العلم.
وتنقسم التصانيف ثلاثة أقسام: ما أفرد في الثقات، وما أفرد في الضعفاء، وما جمع فيه من الثقات والضعفاء.
أما المؤلفات في الثقات: فأشهرها:
1 -
"كتاب الثقات" للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي "المتوفى (354) "، ذكر فيه من هو ثقة بما يشمل اصطلاحه الخاص الذي سبق أن أشرنا إليه (1).
(1) في صفحة 104 - 105.
2 -
"الثقات" للإمام أحمد بن عبد الله العجلي "المتوفى (261) " في مجلد متوسط الحجم، لكنه غير مرتب، فرتبه الإمام السبكي وسماه "ترتيب الثقات".
3 -
"كتاب تذكرة الحفاظ" للإمام الحافظ شمس الدين محمد الذهبي "المتوفى سنة (748) هـ"، ترجم فيه لكل من بلغ مرتبة توصف بالحافظ، وقال في مقدمته:
"هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي، ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف".
وأما المؤلفات في الضعفاء:
فكثيرة جدا مثل كتب الضعفاء للبخاري، والنسائي، والعقيلي، وابن حبان، والجوزجاني، والأزدي، وغيرهم، ممن كانوا المرجع والعمدة في هذا الفن، ومن أهم هذه المؤلفات:
1 -
"الكامل في الضعفاء"، للحافظ الإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي "المتوفى (365) " جمع فيه ما سبقه من التآليف، وأضاف إليها أشياء لم يسبق إليها، وأورد فيه كل من تكلم فيه، ولو لم يكن الكلام مؤثرا، لكنه على كل حال جمود وتشديد.
2 -
"ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، للإمام الذهبي، اعتمد فيه على كتاب الكامل، فسار على منهجه في إيراد كل من تكلم فيه (1).
(1) فينبغي أن تتنبه إلى أن ذكر الراوي في كتاب "الكامل"، أو "الميزان" لا يستلزم أن يكون ضعيفا. وقد أوهم بعض الناس غير هذا حيث قال في يزيد بن خصيفة:"ذكره الذهبي في الميزان، ومعلوم أنه يذكر فيه من تكلم فيه"، فأوهم بهذا أن كل المذكورين في الميزان ضعفاء، مع أن الذهبي نبه في مقدمة الكتاب وفي خاتمته، ثم في مواطن كثيرة من الكتاب على ما ذكرناه. فالقول بعد ذلك أنه يذكر فيه من تكلم فيه هذا القول على إطلاقه تعمية وتلبيس لا يليقان بالبحث المنصف.
لكنه تعقب ابن عدي، وشنع عليه في مواطن كثيرة لأنه أورد في كامله من الثقات الحفاظ ما لا يناسب الكتاب.
3 -
"المغني في الضعفاء"، للإمام الذهبي أيضا، جمع فيه من تكلم فيهم من الرواة على سبيل الاختصار الشديد، فاجتزأ في الكلام على كل راو بجملة يسيرة، لخص فيها أبحاثا طويلة، ويسر على القارئ البحث، مع تفرده بفوائد ليست في غيره.
وقد حققنا هذا الكتاب على نسخ خطية منها نسخة قيمة مقروءة على المؤلف، وعليها خطه، وعلقنا عليه بما يهدي إليه البحث من خلاف رأي الذهبي، أو باستكمال فائدة ضرورية.
كذلك عنينا بالراوة المتكلم فيهم من رجال الصحيحين أو أحدهما، فأوضحنا في التعليق دفع الطعن عن البخاري ومسلم في الرواية لهم في الصحيح، مع التعليل الفني الحديثي.
4 -
"لسان الميزان" للحافظ ابن حجر العسقلاني أورد فيه من رجال كتاب الميزان من لم يذكرهم في كتابيه تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب. وهو يذكر كلام الذهبي في الميزان أولا، ثم يتكلم بما عنده تأييدا للذهبي، أو نقدا له، أو استدراكا عليه.
وأما الكتب التي تجمع الثقات والضعفاء:
فهي كتب كثيرة وفي غاية من الأهمية، منها:
1 -
"الجرح والتعديل"، للإمام سيد النقاد عبد الرحمن بن الإمام أبي حاتم الرازي "327"، وهو كتاب جليل في هذا الشأن اعتمد فيه مصنفه على أئمة العلم، ولا سيما الإمام الكبير والده، رحمهما الله.
2 -
"الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني المقدسي
"600" اقتصر فيه على رجال الكتب الستة فقط. وكان السابق لهذا الاقتصار، فحذا العلماء من بعده حذوه، واستدركوا عليه أشياء في كتابه.
3 -
"تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، للإمام الحافظ الحجة أبي الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي "المتوفى 742"، رحمه الله، هذب كتاب الكمال السابق، واستدرك عليه ما فاته واستوفى البحث فيه في كل راو، فجاء كتابا حافلا لم يصنف مثله.
4 -
"تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر، لخص فيه تهذيب الكمال، وأضاف إليه فوائد زادها على الكتاب الأصل فبلغ ثلث حجمه، وطبع في اثني عشر مجلدا.
5 -
"تقريب التهذيب" للحافظ ابن حجر أيضا، لخص فيه تهذيب التهذيب، وأتى فيه بنتائج البحث في كل راو بكلمة واحدة، واستعمل الرموز المصطلحة للكتب التي تروي له، فرمز للبخاري: خ، ولمسلم: م، ولأبي داود: د، وللترمذي: ت، وللنسائي: س، ولابن ماجه: ق، وللستة: ع، ولأصحاب السنن، أي ما عدا البخاري ومسلما: عه.
مثل: "خ م د ت ق أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، أبو جعفر السرخسي ثقة حافظ، من الحادية عشرة. مات سنة ثلاث وخمسين".
فالرموز تعني أن هذا الراوي روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه القزويني. وقوله:"الدارمي": نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها. والسرخسي: نسبة إلى البلد التي عاش فيها. وقوله: من الحادية عشرة، أي ممن مات بعد المائتين. فتكون وفاته سنة مائتين وثلاث وخمسين.
والكتاب بهذه المثابة في غاية الأهمية لطالب الحديث.
5 -
من اختلط في آخر عمره من الثقات:
معنى الاختلاط فساد العقل، وعدم انتظام الأقوال والأفعال.
وفائدة دراسة الرواة المختلطين تمييز المقبول من حديثهم من غير المقبول (1)، لذلك نبهوا على أن "هذا فن عزيز مهم
…
".
وقد ألف فيه الإمام الحافظ العلائي خليل بن كيكلدي "المتوفى (761) " ثم أفرده بالتصنيف الإمام الحافظ إبراهيم بن محمد سبط ابن العجمي الحلبي المتوفى سنة (841) هـ وسماه "الاغتباط بمن رمي بالاختلاط"(2).
والحكم في حديث من رمي بالاختلاط من الثقات قرر فيه المحدثون: التفصيل: فما سمع منهم قبل الاختلاط يقبل ويحتج به.
أما ما سمع بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده فإنه يرد ولا يقبل (3).
ويتميز ذلك بالراوي عنه.
(1) فتح المغيث: 485.
(2)
انظر شرح الألفية للعراقي: 4: 153. وتعليق شيخنا العلامة محمد راغب الطباخ على نكت العراقي وكتاب الاغتباط قد طبعه شيخنا رحمه الله وجزاه عنا وعن العلم خير الجزاء وقد رجعنا إليه في دراسة هذا النوع، ويقع في 27 صحيفة.
(3)
علوم الحديث: 352، والاغتباط:3.
ومن القرائن التي تتميز بها الرواية قبل الاختلاط أن يكون الحديث من رواية الكبار من أصحاب الراوي المختلط أي الذين علم أنهم سمعوا منه في وقت مبكر وإن لم ينص على تاريخ سماعهم. فقد وجدناهم يصرحون بصحة رواية هؤلاء، مثل عطاء بن السائب، قال الخطيب في الكفاية (1):"قد اختلط في آخره عمره، فاحتج أهل العلم برواية الأكابر عنه مثل سفيان الثوري وشعبة لأن سماعهم منه كان في الصحة، وتركوا الاحتجاج برواية من سمع منهم أخيرا".
ومثل سعيد بن أبي سعيد المقبري: قيل أنه اختلط قبل وفاته بأربع سنين فأخرج له البخاري من حديث مالك وإسماعيل بن أبي أمية وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهم من الكبار كما في هدي الساري.
قال العلامة التهانوي (2)"قلت فرواية الكبار من أصحاب المختلط محمولة على الصحة".
وقد وقع في الصحيحين أحاديث يروى عمن اختلط من الثقات، مما قد يستشكل، فقال ابن الصلاح (3):
"واعلم أن من كان من هذا القبيل محتجا به في الصحيحين أو أحدهما فإنا نعرف على الجملة أن ذلك مما تميز وكان مأخوذا عنه قبل الاختلاط".
وهذا جواب سديد أيده العلماء وقرروه في مصنفاتهم (4) يشهد له إجماع العلماء على تلقي أحاديث الكتابين بالقبول.
(1): 137.
(2)
في إنهاء السكن: 98.
(3)
: 357.
(4)
انظر شرح الألفية: 4: 161 ـ والاغتباط نفس المكان، وفتح المغيث: 486، والتدريب: 528، وغيرهما.
وقد عني النقاد في أبحاث هؤلاء الرواة ببيان تاريخ اختلاطهم، ومن سمع منهم قبل الاختلاط، ومن سمع بعده ومن لم يتبين وقت سماعه.
وينقسم هؤلاء الرواة بحسب سبب اختلاطهم أقساما كثيرة:
منهم من اختلط لخرفه أو هرمه أو مرضه أو مصاب نزل به، مثل سعيد بن أبي عروبة، الثقة الحافظ، ابتدأ اختلاطه سنة اثنتين وأربعين، واستحكم به سنة خمس وأربعين ومائة واستمر حتى وفاته سنة خمس وخمسين ومائة. وعامة الرواة سمعوا منه قبل اختلاطه، وممن عرف أنه سمع منه بعد اختلاطه وكيع بن الجراح، والمعافى بن عمران الموصلي.
ومنهم من اختلط لذهاب بصره، كعبد الرزاق بن هام الصنعاني الإمام صاحب المصنف، قال أحمد:"من سمع منه بعدما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فغنه كان يلقن فيتلقن".
والضابط لم سمع منه قبل الاختلاط أن يكون سماعه قبل المائتين.
فممن سمع منه قبل الاختلاط الأئمة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ووكيع ويحيى بن معين.
وممن سمع منه بعد ذلك: إبراهيم بن منصور الرمادي، وإسحاق ابن إبراهيم الدبري (1).
هذا وقد تنكب جادة الصواب بعض من نصب نفسه للحديث إذ ضعف حديث عبد الرزاق الذي في مصنفه في صلاة التراويح بأن عبد الرزاق قد اختلط، ليسلم له دعواه عدم مشروعية أدائها عشرين
(1) علوم الحديث: 355، وفتح المغيث: 490 والمغني في الضعفاء رقم 3687.
ركعة، فقد عرفت أن كتبه صحيحة، وإن التخليط أضر بما سمع منه مما كان يحدث به من حفظه. لكن الرجل ضحى بهذا الجامع العظيم من جوامع الحديث النبوي في سبيل فكرته التي يصر عليها.
ومن أقسام المخلطين أيضا من اختلط لذهاب كتبه، فحدث من حفظه فخلط في حديثه. مثل عبد الله بن لهيعة المصري القاضي: احترقت كتبه فراح يحدث من حفظه، فوقع في حديثه التخليط، ولم يتميز من حديثه ما كان قبل الاختلاط إلا النادر، قال في التقريب:"صدوق، اختلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما. وله في مسلم بعض شيء مقرون".
6 -
الوحدان:
وهم الرواة الذين لم يرو عنهم إلا راو واحد فقط.
وفائدة هذا العلم معرفة المجهول إذا لم يكن صحابيا.
ومن أمثلته من الصحابة: وهب بن خنبش، والمسيب بن حزن والد سعيد، وعمرو بن تغلب.
ولصعوبة الحكم بالتفرد انتقد العلماء كثيرا مما قيل فيه: لم يرو عنه إلا واحد.
وادعى الحاكم في كتابه "المدخل إلى كتاب الإكليل"(1) أن الشيخين لم يخرجا من رواية هذا النوع شيئا، لكن انتقده بعض العلماء بجماعة من الرواة أخرج لهم الشيخان ليس لهم إلا راو واحد (2).
وذكر الذهبي (3) عشرة من الصحابة أخرج لهم البخاري ليس لهم سوى راو واحد فقط.
والجواب عن هذا بالنسبة للصحابة أنه ليس بضائر في حقهم، لأنهم عدول كما عرفت. وقد ثبت استثناء الحاكم إياهم (4).
وأما بالنسبة لغير الصحابة فالجواب أن "الشرط الذي ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم، فإنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد قط"(5).
(1) ق 188 من المجموعة الحديثية المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الأحمدية بحلب.
(2)
انظر شروط الأئمة الخمسة للحازمي: 33. وشروط الأئمة الستة للمقدسي: 15.
(3)
في سير أعلام النبلاء: ج 8 ق 253 - 254.
(4)
فتح المغيث: 18. وانظر: 418 - 419 وانظر ما سبق في بحث المجهول: 89 - 91.
(5)
هدي الساري ج 1: ص 6. وانظر كتابنا الإمام الترمذي: 61.
7 -
المدلسون:
المدلس: هو من يحدث عمن سمع منه ما لم يسمع منه بصيغة توهم أنه سمعه منه. كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان.
والتدليس على أقسام تأتي في الحديث المدلس، مع بيان حكمها إن شاء الله.
وتتفاوت أحوال المدلسين تفاوتا كبيرا، فمنهم من احتمله الأئمة لثقته وندرة تدليسه، بحيث يرى المحدث أن هذا من صحيح حديثه، ليس مما دلسه. ومنهم من احتملوه لكونه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل سفيان بن عيينة الإمام الكبير، وقد أخرج له الشيخان (1). ومنهم ثقات كثر تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين، مثل بقية بن الوليد الحمصي، فلا يحتج بحديث هذا الصنف إلا إذا صرح بالسماع (2). ومنهم ضعفاء لا يحتج بهم ولو صرحوا بالسماع، وازدادوا بالتدليس ضعفا مثل عطية العوفي. وقد فصل مراتبهم الحافظ العلائي (3) بأحسن بيان، واستمد منه الحافظ ابن حجر.
(1) جامع التحصيل ق 38 آ، وتعريف أهل التقديس: 2 و 9. والتبيين: 9.
(2)
جامع التحصيل ق 38 ب و 40 آوتعريف أهل التقديس: 2 و 17، والتبيين:6. والمغني: 944.
(3)
في كتاب جامع التحصيل لأحكام المراسيل ق 40 آوانظر ديباجة التعريف.
وقد عني المحدثون بهذا الفن، فأفرد كثير من الأئمة أسماء المدلسين بالتصنيف مثل:
1 -
"التبيين في أسماء المدلسين"، للبرهان الحلبي الحافظ.
2 -
"تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" لابن حجر، وهو أجمعها وأوسعها إحصاءً، وقد بلغ مجموع ما احتواه /152/ مائة واثنين وخمسين مدلسا فقط. ومن هنا فإنا لا نستطيع أن نوافق الباحث الفاضل الدكتور صبحي الصالح على قوله (1):"ما أقل من سلم من التدليس" فهذا قول مبالغ جدا في تضخيم أمر التدليس، وغلو لا ستنده الحقيقة العلمية. وهذا أوسع إحصاء للمدلسين يبلغ مائة واثنين وخمسين مدلسا من بين آلاف الرواة، مما يدل على أن الأولى أن نقول:"ما أكثر من سلم من التدليس".
نتائج الفصل:
ونسجل في ختام الفصل هذه النتائج الهامة في منهج النقد الحديثي:
1 -
إن المقياس الذي يعرف به الراوي المقبول من المردود مقياس موضوعي شامل، حيث لم يكتف فيه المحدثون بمجرد استقامة السلوك الديني، بل لاحظوا العوامل الداخلية، فنظروا إلى ما يخشى أن يدفع الراوي من انحياز فكري "بدعة" أو اجتماعي إلى عدم التحري في
(1) في كتابه علوم الحديث ومصطلحه: 175 - 176، وسنستوفي مناقشة ما أثير من المزاعم في هذا الصدد في كتابنا "أصول الجرح والتعديل" إن شاء الله تعالى. وانظر لزاما ما يأتي في الحديث المدلس برقم 66.
النقل، ودرسوا حالة النفسية من حيث الاعتدال والتحرز، أو الاستهتار والتساهل على ضوء ما أسمعوه "بالمروءة"، وراعوا أهليته العلمية والذهنية للأداء الصحيح في شروط الضبط. فجاء مقياسهم هذا موضوعيا لا يتحيز ولا يحيف، شاملا كافة العوامل الدينية والنفسية والاجتماعية التي تدفع إلى الصدق وتنزه الراوي عن الكذب وتجعله قمينا بأداء الحديث كما هو، وبذا أصبح ميزانا يعرف حقيقة الرواة بكل دقة وإنصاف وعدالة.
2 -
إن المحدثين طبقوا هذا المقياس تطبيقا دقيقا تجلى في مراتب الجرح والتعديل وعبارتها التي تحدد منزلة الراوي من القبول أو الرد تحديدا دقيقا يبين ما يحتج به من التعديل، وما يكتب حديثه وينظر فيه، وما يعتبر به من مراتب الضعف، ثم ما يترك ولا يلتفت إليه. يبينون بذلك واقع الراوي بيانا علميا صادقا.
3 -
إن ثمار هذا التطبيق أودعت في تصانيف متنوعة كثيرة، بين العلماء فيها حال كل راو من القبول أوالرد، وما فيه من اختلاف اجتهاد العلماء وتقديرهم. ويجد الباحث في تلك المصادر من المعارف الدقيقة ما يعد بحق آية البحث النقدي في الرواة وفين التاريخ، تجعل الناقد بصيرا بالحقائق الدقيقة في هذا الركن الهام من أصول البحث النقدي.