المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه - منهج النقد في علوم الحديث

[نور الدين عتر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌التقريظ:

- ‌تصدير الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث

- ‌الفصل الأول: تمهيد في منشأ مصطلح الحديث:

- ‌الرواية والدراية في علم الحديث:

- ‌الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

- ‌مدخل

- ‌الدور الأول: دور النشوء

- ‌الدور الثاني: وهو دور التكامل

- ‌الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة

- ‌الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا

- ‌الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث

- ‌الدور السادس: عصر الركود والجمود

- ‌الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث

- ‌الباب الثاني: في علوم رواة الحديث

- ‌الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

- ‌الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي

- ‌المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية

- ‌المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة

- ‌الباب الثالث: في علوم رواية الحديث

- ‌الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي

- ‌الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله

- ‌نتيجة الباب

- ‌الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد

- ‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

- ‌الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود

- ‌نتائج الباب:

- ‌الباب الخامس: في علوم المتن

- ‌الفصل الأول: في علوم الحديث من حيث قائله

- ‌الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته

- ‌نتيجة عامة:

- ‌الباب السادس: في علوم السند

- ‌الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال

- ‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

- ‌نتائج مهمة:

- ‌الباب السابع: في العلوم المشتركة بين السند والمتن

- ‌الفصل الأول: في تفرد الحديث

- ‌الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم

- ‌الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث

- ‌نتيجة وموازنة:

- ‌الخاتمة:

- ‌مناقشات ونتائج عامة:

- ‌شبهات ومناقشات:

- ‌أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه

- ‌ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث

- ‌ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون

- ‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

- ‌ ثبت المصادر المخطوطة مع بيان أماكن وجودها مختصرا:

- ‌ ثبت المراجع المطبوعة:

- ‌للمؤلف:

الفصل: ‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

يقول تسيهر ومن يقلده:

"والناقد المسلم يبقى باردا أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية "يعني أنها مسفة جدا" بشرط واحد هو أن يكون الإسناد بحسب القاعدة. والامتياز النبوي لمحمد هو وسيلة للتغلب على مثل هذا المشكلات".

ثم يقول بعد ذلك:

"ونوضح هذه الخصوصية لنقد الحديث عند المسلمين بذكر مثال مأخوذ من حقل تطبيقه نفسه، فيوجد بين الفئات العديدة من الأحاديث المغرضة فئة نستطيع أن نسميها فئة "أحاديث المذهب"، وهذه الأحاديث هي الأحاديث المختلفة في داخل نزعة مذهب علمي التي يقصد بها البرهنة على تفوق هذا المذهب في مقابل نزعة منافسة وأن يخلع شيئا من الثقل والقوة على آرائها المذهبية الخاصة. ولم تنتحل الأحاديث المغرضة بعدد كبير ضد البدع الاعتقادية فقط، بل إن الواضعين كانوا يدخلون النبي نفسه كحكم أعلى في الخلاف الذي يفصل بين علماء العراق وعلماء الحجاز، فللبرهنة على أن أبا حنيفة هو أفضل فقيه من فقهاء الشريعة الدينية اخترع تلامذته الحديث التالي: "يكون في أمتي يوما رجل يقال له أبو حنيفة وسيكون سراج الأمة".

الحديث بشكل مباشر من فم النبي، ولم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلا اسم العالم العراقي" (1).

(1) من الفصول التي ترجمها لنا الزميل الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ من كتاب "دراسات في السنة الإسلامية".

ص: 473

انتهت الترجمة الحرفية لما قاله بورشيه مستخلصا عن جولدتسيهر أستاذ المستشرقين المتحاملين على الإسلام.

وقد كنت أتساءل عن المنهج الذي يريد هؤلاء الناس أن نأخذه عنهم كي نحسن نقد الروايات حتى عثرت عليه ظاهرا جليا في مناقشاتهم لأهل الحديث، وظهر أوضح ما يكون في هذه الكلمة التي يتحدث فيها عن مثال تطبيقي من علم الحديث، فإذا منهجهم المنتظر منهج متهافت يقوم على التسرع في الحكم والمجازفة، بعيدا عن التحقيق والرواية، حتى لقد أصاب هؤلاء الناقدون من أنفسهم المقاتل بطعنهم المفتعل في منهج المحدثين وتطبيقهم لقواعد الحديث.

بيان ذلك:

1 -

أن المحدثين قد ذكروا أن من دلائل الوضع في الحديث مخالفته للوقائع الحسية المشاهدة، أو للتاريخ، وذلك أمر مفروغ منه في كتب المصطلح، مطبق على أوسع نطاق في نقد الأحاديث كما يشاهد في كتب الأحاديث الموضوعة.

وهذه واقعة لطيفة لها دلالتها الهامة جرت مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي سنة 447، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ:"أظهر بعض اليهود كتابا بإسقاط النبي صلى الله عليه وسلم الجزية عن الخيابرة -يعني يهود خيبر-، وفيه شهادة الصحابة، فعرضه الوزير على أبي بكر؟ فقال: هذا مورو! قيل: من أين قلت هذا؟ ، قال: "فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح بعد خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات قبل خيبر بسنتين". فاستحسن الوزير ذلك منه ولم يقبل

ص: 474

منهم ما في هذا الكتاب (1).

فهذا الناقد المسلم لا يتردد لحظة ولا يتوقف عن الحكم ببطلان الوثيقة المزورة التي أسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أساتذة الأفك في العالم، وها نحن نجعل هذه التجربة التي خاضها أجداد تسيهر من قبل هدية إليه تعبيرا عن الموقف البارد الذي يزعمه في حق النقاد المسلمين. ولا ندري إذا كان تسيهر وأمثاله لا يزالون بعد هذا يقولون:"إن الناقد المسلم يبقى باردا أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية". إذن فما الذي يمكن أن يعتبر موقفا حاميا والنووي، والعراقي والعسقلاني، في الأرض المقدسة، ولن يكون ذلك بعيدا بإذن الله تعالى.

2 -

زعم أن الامتياز النبوي أي ادعاء كون الخبر المغيب أو الخارق للعادة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وسية للتغلب على التناقضات التاريخية في الأحاديث.

وهذا القول منه غاية في المكابرة والبعد عن الحق، حيث أحال

(1) التذكرة: 1141، وانظر طبقات الشافعية الكبرى: 4: 35، والإعلان بالتوبيخ للسخاوي: 10، والخطيب البغدادي للدكتور يوسف العش: 235، وقد أحال إلى هذه المصادر وغيرها، وأوردنا ذلك في تصديرنا لكتاب:"الرحلة في طلب الحديث" للخطيب البغدادي، مع واقعة أخرى في عتق سلمان ص 53 و 54.

لكن الغريب أن القوم لم يرتدعوا بما حاق بهم من الخيبة بل حاولوا تثبيت هذه الوثيقة كرة ثانية فأحضروا هذا الكتاب بين يدي ابن تيمية رحمه الله وحوله اليهود يزفونه ويجلونه وقد غشي بالحرير والديباج فلما فتحه وتأمله بزق عليه وقال: هذا كذب من عدة أوجه وذكرها، فقاموا من عنده بالذل والصغار. انظر القصة وتفصيل الأوجه وهي عشرة في كتاب تلميذه ابن القيم:"المنار المنيف في الصحيح والضعيف": 102 - 105.

ص: 475

المعجزات وإبناء النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيب إلى اختلاق الرواة عوضا من أن يجعله هذا الاعجاز يعيد النظر في موقفه، كما فعل بعض المستشرقين حيث اعتنق الإسلام حين انزاحت عن بصائرهم غشاوة التعصب.

والحقيقة أن أنباء الغيب المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة الثابتة كثيرة تفوق درجة التواتر في جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة في ظهور المسيح الدجال اليهودي وفي نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مما لا يسع أحدا إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه (1).

وإذا كانت أنباء الغيب لا تقبل في زعم تسهير فلا ندري لماذا يتعب نفسه في الطعن على الإسلام واصطناع البحث العلمي من أجل ذلك وهو إنما يفعل ذلك لتشكيك المسلمين وتشتيتهم تمهيدا لتحقيق النبوءة المزعومة عن أرض الميعاد!

على أن المسلمين لم يتلقوا أحاديث الخوارق وأنباء الغيب جزافا من غير تمييز، بل محصوها وفحصوها فصحا دقيقا ميزوا به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، وها هي ذي الأحاديث الكثيرة في ذم الأمويين وفي مدحهم وفي التنبئ ببعض الوقائع لهم تملأ بطون الكتب الخاصة بالأحاديث الموضوعة والتحذير منها، وها هي ذي أيضا الأحاديث الساقطة في فضل العباس وفي التنبي بدولة العباسيين والأحاديث فيهم مدحا أو غير ذلك قد جمعت في كتب الموضوعات والضعيفات التالفة للتحذير منها.

أرأيت لو كان المحدثون يودون إثبات المعجزات ولو بالتلفيق أفما

(1) انظر أحاديث هذين الأمرين في كتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" لفضيلة مولانا محمد شفيع ابن مفتي باكستان. واخترنا هذين المثالين لتوفر المرجع الذي يبحثهما ويجمع أحاديثهما.

ص: 476

كانوا يختارون من هذه الأحاديث ما فيه إنباء عن واقع مجرد بعيد عن المدح أو الذم على الأقل؟ ! فما لنا لا نجد لهذه الروايات ظلا في كتب السنة المعتمدة؟ ! ولماذا نجد كتب الموضوعات تحذر من جملة كبير من أحاديث المعجزات والخوارق

؟ !

3 -

إن الحديث الذي أورده على "أنه مأخوذ من حقل تطبيق هذا العلم نفسه" لهو نفسه برهان عظيم يثبت دقة نظر المحدثين، فإنهم قد وسموا بالكذب راويه مأمون بن أحمد السلمي الهروي منذ الأيام التي ظهر فيها وطلع على الناس بهذا الحديث ونحوه، وكان منه آنذاك عصرية الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله، كما نقل عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (1).

وقد كنت فيما خلا من الزمن أتساءل عن هؤلاء الناقدين (2) أن يكونوا اطلعوا في كتب الأحاديث الموضوعة والتالفة على بعض تلك الأحاديث التي يتذرعون بها فحسبوا بما أوتوا من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر السنة النبوية؟ ! فقد -والله- وجدت ذلك واقعا بهم على أفحش وضع وأبينه سقوطا حيث مخرقوا على العالم بحديث موضوع كذبه المحدثون ونفوه منذ اللحظة الأولى لصدوره من آفكه! .

4 -

قوله: "ولم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلا اسم العالم العراقي".

هذا قول مناقض للحقيقة وللواقع تماما، حيث إن هذا الحديث قد استنكر هو وأضرابه غاية الاستنكار من قبل العلماء كلهم ومن قبل العامة على حد سواء، حتى سقط راويه نفسه ولم يعد يسمع منه

(1): 3: 429 - 430.

(2)

في المدخل إلى علوم الحديث: 17.

ص: 477

أحد، وقد قال الحاكم في المدخل (1)، بعد أن أورد هذا الحديث:"ومثل هذه الأحاديث يشهد من رزقه الله أدنى معرفة بأنها موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فهل يصدق بعد هذا من زعم أن الناس تلقوا الحديث بالقبول حتى إن الواضعين بزعمه الفاسد ورأيه الكاسد "لم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقونه"، أو أن الواقع هو عكس ذلك وأن الأمة جميعها قد رفضت هذا الحديث رفضا باتا قاطعا منذ الوهلة الأولى لصدوره عن مزوره كما رفضت سائر الأكاذيب وتبرات منها.

5 -

إن هذا الحديث من أشهر الأحاديث الموضوعة، لكثرة ما نبه عليه العلماء في مختلف العصور في تصانيفهم الحديثية المشتهرة المتداولة بين الخاصة والعامة من كتب الموضوعات وكتب مصطلح الحديث وكتب الرجال:

1 -

ذكره ابن حبان " (354) هـ" في كتابه الضعفاء وحذر منه كما ذكر الذهبي في الميزان.

2 -

وذكره الحاكم " (405) هـ" في المدخل إلى كتاب الإكليل كما أوضحنا.

3 -

وذكره محمد بن طاهر المقدسي " (507) هـ" في تذكرة الموضوعات: (144).

4 -

وذكره الإمام عبد الرحمن بن الجوزي " (597) هـ" في الموضوعات الكبرى: 2: 47 - 49 وقال: "حديث موضوع لعن الله واضعه".

(1) المدخل إلى كتاب الإكليل ق 291 وانظر لسان الميزان: 5: 8.

ص: 478

5 -

والذهبي "748 هـ" في ميزان الاعتدال كما سبق.

6 -

والحافظ ابن حجر "852 هـ" في لسان الميزان ج 5 ص 8.

7 -

والسخاوي "902 هـ" في فتح المغيث: 114.

8 و 9 - والسيوطي "911 هـ" في تدريب الراوي: 181، واللآلئ المصنوعة: 1: 457.

10 -

والحافظ ابن عراق "963 هـ" في تنزيه الشريعة: 2: 30.

11 و 12 - والشيخ علي القاري في شرح النخبة: 128، والموضوعات الكبرى: 76، وقال:"موضوع باتفاق المحدثين".

13 -

والشوكاني في الفوائد المجموعة: 420.

14 -

والإبياري في حاشيته نيل الأماني: 53.

15 -

والعلامة حسين خاطر في لقط الدرر: 73.

هذه خمسة عشر مرجعا في أعصر متتالية منذ عصر الراوي الوضاع حتى عصرنا هذا، وفي حقول الحديث المتنوعة: حقل القواعد كالمدخل وتدريب الراوي، وحقل التطبيق الذي زعم الطاعن أنه يرجع إليه كالميزان وغيره من كتب الرجال، وكتب الموضوعات مثل كتاب ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق، كل المصادر في شتى الحقول توضح كذب هذا الحديث وتفضح إفكه، وهي كلها بحمد الله مشهورة معروفة متداولة، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أنه يدين المحدثين من حقل تطبيقهم بأنهم يسيرون الأحاديث الموضوعة أو أنها تنطلي عليهم، على حين أنهم سيروا في الناس وأذاعوا في كل عصر ومصر في كل زمان ومكان التحذير من الأحاديث الموضوعة والتنبيه عليها بما في ذلك هذا الحديث نفسه الذي استشهد به الطاعه، حيث توالي المحدثون على التحذير منه في المصنفات

ص: 479

المشهورة المتداولة على مر العصور وكر الدهور. فهل لمنصف بعد ذلك أن يقبل شيئا من أمثال المستشرق، أو يعول على دعوام التجرد والموضوعية .. ؟ !

من مآخذنا على المستشرقين:

لقد أسفرت المناقشة العلمية الموضوعية لمن انتقد المحدثين عن فشلهم في مطاعنهم التي وجهت إلى منهج المحدثين النقدين بل إنها زادته قوة وثباتا، على حين كشفت أهداف الطاعنين وزيف بها رجم المصطنعة، وكشفت اختلال منهجهم العلمي من وجوه كثيرة نلخص منها ههنا:

1 -

وضع النصوص في غير موضعها، وتحميلها مالا تطيقه ألفاظها ولا يستمد من معانيها، على نحو ما سبق أن ذكرنا في رواية "الأكابر عن الأصاغر"(1).

2 -

اعتمادهم على نصوص مفردة مقتطعة عما ورد في موضوعها مما يوضح المراد منها ويبينه، وذلك كثير في أبحاثهم. ومنه استدلال تسيهر على أن تصنيف الحديث تأخر إلى القرن، الثالث بما ورد عن الإمام أحمد أنه قال في سعيد بن أبي عروبة " (156) هـ": "هو أول من صنف الأبواب بالبصرة

لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ" فاستدل بقوله: "لم يكن له كتاب" على "أنه لم يؤلف ك تابا" (2). مع أن المحدثين يستعملون هذا في الدلالة على أن المحدث حافظ متين الحفظ لا يعتمد على الكتاب في روايته للحديث. وهذا لا يدل على أن المحدث لم يصنف كتابا من محفوظاته، وهو يصرح في أول كلمته بأنه صنف، والشواهد على ذلك كثيرة في ترجمة سعيد من كتب الرجال.

(1) رقم عام 14 ص 155 - 156.

(2)

تاريخ التراث العربي: 1: 1: 229.

ص: 480

3 -

أنهم يعولون على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي، مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وهو ليس كتابا علميا، ولا كتاب حديث، إنما يعتمد عليه في الأدب والفكاهات، ثم هو صاحب بدعة تحمله على الطعن في أئمة الإسلام، ومع ذلك فلم يبال ناقد منهج المحدثين أن يستشهد به في الحط من قدر إمام جليل، كالإمام مالك بن أنس.

4 -

أنهم يورودن مقدمات جزئية ضعيفة ثم يبنون عليها نتائج ضخمة فضفاضة لا تناسب تلك المقدسات ولا تنتج منها.

وتتخذ هنا حديث الهروي المختلق في ذم الشافعي ومدح أبي حنيفة مثالا لذلك.

هذا الحديث زعم الناقد أنه درج في الناس وغفل المحدثون عنه، بينما هو أشهر في بيان وضعه من نار على علم. ولو فرضنا أن باحثا وجد حديثا ضعيفا جاز على بعض المحدثين فهل يدل ذلك على فشل منهج النقد من أساسه؟ كلا! فإن القانون كثيرا ما يكون سليمان ثم تأتي الآفة من تصرف بعض العاملين به أو من ذهوله. فهذا لو تحقق إنما يكون سهوا من المحدث الذي جاز عليه الحديث، وأي علم في الدنيا لم يتعرض عالم من علمائه للنقد في بعض بحثه، ثم لم يكن ذلك مسقطا لذلك العلم ولا لذلك العالم، إلا إذا كثر منه ذلك فإنه تكون أخطاؤه محسوبة عليه تضعف الثقة به، ويبقى بنيان العلم شامخا.

5 -

اغفال الحقائق التي تخالف استنتاجاتهنم وتبطلها. ومن ذلك أن جولد تسهير حكم بالوضع على الرواية الصحيحة: "أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال تسيهر: "إن هذا الخبر بعينه فيه نظر، فلم يرو عن مالك إلا في

ص: 481

رواية واحدة من روايت الموطأ هي رواية الشيباني، وقد تلقف هذا الخبر الواحد علماء الحديث المتأخرون فكان منطلقا لهم، وروجوا له، وهذا الخب رليس إلا تعبيرا عن الرأي الحسن السائد حول الخليفة الورع وحبه للسنة" (1).

قال الأستاذ فؤاد سيزكين يتعقب ذلك (2):

"ولكن لا يجوز لنا أن نبادر فنزعم أن هذا الخبر الذي ورد في الموطأ برواية الشيباني تلميذ مالك لا يعكس إلا حسن رأي المتأخرين "في عمر"، فليست كل روايات الموطأ بين أيدينا فنحكم بعدم ورود هذا الخبر إلا في رواية واحدة، وفوق هذا فجولد تسيهر يعلم أن هذا الخبر وارد كذلك في سنن الدارمي هذا وقد ذكره كل من ابن سعد والبخاري! ! "اهـ.

على أنه لو سلم لتسيهر دعواه أن التفرد بالشيء يبطله فإنه يؤدي إلى بطلان أمور كثيرة أتى بها في كتبه وأبحاثه هي لباب مقاصده فيها، فهل يقبل أن ينسحب حكمه هذا عليه؟ ! .

6 -

يقول الأستاذ فؤاد سيزكين: "هذا ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى أن جولد تسيهر لم يدرس كتب علم أصول الحديث دراسة شاملة رغم أنه عرف قسما منها كان ما يزال مخطوطا في ذلك الوقت. وفوق هذا فيبدو لنا أنه لم ينظر رغم كثرة مصادره إلى بعض المعلومات في سياقها وفي ضوء ظروفها، ويبدو لنا كذلك أنه لم يصب في فهم المواضع

(1) جولد تسيهر.

GoIdziheI. Mup. Stud II 211.

(2)

في كتاب تاريخ التراث العربي: 1: 1: 226.

ص: 482

التي قد تعطي لأول وهلة دلالة تختلف عن معناها الحقيقي اختلافا أساسيا" (1).

ويقول سيزكين أيضا: "أن جولد تسيهر على تضلعه في اللغة العربية قد أساء فهم بعض المعلومات الواردة في كتب الحديث وضرب بهذا منذ البداية في اتجاه خاطئ"(2).

ونحن لا نتعرض لواقع الخطأ في فهم النصوص أو في الأخذ المقتطع للنص عما يكمله أو النقل المحرف، ولا نود الخوض في أسباب ذلك ودوافعه، لكن نجد أنه لزاما علينا إزاء ذلك أن نصرح بأن هذا الواقع يجعلنا عاجزين عجزا تاما كاملا عن الاعتماد على شيء من نظريات المستشرقين وأبحاثهم هم وأتباعهم الذين يعتمدون عليهم.

ونسجل في النهاية هذه النتائج العامة في هذا العلم العظيم:

1 -

أهمية الهدف الجليل الذي نشأ من أجله علم مصطلح الحديث، أو علوم الحديث، وهو صيانة الحديث النبوي الذي هو أعظم المصادر الإسلامية بعد كتاب الله.

2 -

أن الأمة الإسلامية قد عنيت بتحقيق هذا الهدف منذ أول عهدها بالرواية كما أوضحه بحثنا عن الحديث في عصر الصحابة (3)، وأهم قوانين الرواية التي اتبعوها (4).

3 -

أن قواعد علوم الحديث، قواعد نقد شاملة تدرس جوانب الحديث كلها دراسة تامة دقيقة، وإن كانت في مصادر هذا العلم مفرقة فيما يبدو.

(1) المرجع السابق.

(2)

المرجع السابق: 225.

(3)

ص 37 وما بعدها من هذا الكتاب.

(4)

ص 51 وما بعدها.

ص: 483

4 -

أن قواعد علوم الحديث ترتبط في مجموعها برباط وحدة الهدف ارتباطا يشكل منها نظرية نقدية ومنهجا علميا كاملا، يقوم على أساس بدهي مسلم به تتفرع عنه أصول البحث النقدي.

وإذا كان السابقون لم يقوموا بمثل تلك الصياغة في تآليفهم فإن تعليقاتهم على فوائد كل نوع من هذا العلم وعلى قواعد التي أوضحناها في مواطنها توضح تلعقهم بها ووضوح أساساها لديهم، وقد جاء كتابنا هذا يعبر عن هذا المنهج النقدي المتكامل تعبيرا نرجو أن يكون قويا واضحا موفقا بفضله.

5 -

أن جهود المحدثين في حقل تطبيق هذا المنهج النقدي العظيم قد بلغت الغاية في الوصول إلى الهدف المنشود، وهذه تصانيفهم الكثيرة في أنواع الحديث، ما اختص منها بالصحيح، وما جمع إليه الضعيف، أو اختص بالموضوع، أو بنوع مستقل من علوم الحديث الأخرى كالمرسل والمدرج

هذه التصانيف برهان عملي على مدى ما بلغوه من العناية في تطبيق هذا المنهج حتى أدوا إلينا تراث النبوة صافيا نقيا.

ولقد كان حقا ما شهد به العلماء من تحقيق هذا الغرض العظيم. فقال عبد الله بن المبارك حين سئل: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ..

وكان حقا ما قال ابن خزيمة: "ما دام أبو حامد بن الشرقي في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال أيضا: "حياة أبي حامد بن الشرقي تحجب بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقال الدارقطني: "يا ال بغداد لا تظنوا أن أحدا يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي".

ص: 484

ورحم الله الإمام الثوري حيث قال: "الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض"(1).

أجل والله، ولنعم الحراس الأمناء كانوا، تحقق بهم الوعد الآلهي بحفظ هذه الملة، وجرت على أيديهم هذه المكرمة التي اختص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة. رضي الله عنهم وأجزل مثوبتهم، وسلك بنا من محض فضله سبيلهم.

وأخيرا، لا بد من أن أشيد بالشكر لمن كرر علي الطلب وأكد من إخواني الكرام أن أكتب في هذا الفن الجليل، ذاكرا أثره في توجيه هميت لصياغة أفكاري وخطتي في هذا الكتاب أرجو الله تبارك وتعالى أن يمن بقبوله، وأن لا يخيب من أحسن بي ظنه، وأن يغفر لي وله.

وأحمد الله تعالت صفاته، وتباركت أسماؤه، وأثني عليه كما هو أهله، وأسأله المزيد من فيض فضله، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآل كل وصحبه وسلم تسليما.

وكتب

نور الدين عتر

خادم القرآن وعلومه والحديث وعلومه

(1) انظر هذه المأثورات في اللآلئ المصنوعة: 2: 472 و 474 وفيه تصحيف في كلمة سفيان الثوري قومناه من تنزيه الشريعة: 1: 16.

ص: 485