الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث
هذه دعوى اخترعها بعض غلاة المستشرقين من قديم، وأقام بناءها على وهم فاسد سبقت مناقشتة في بحث كتابة الحديث.
يقول هذا الزعم: أن الحديث بقي مائيت سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول الواحدج منهم: سمعت فلانا يقول سمعت فلانا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن لما أن الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على حق.
وقد قام عليماء السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوع إلى أقسام كثيرة جدا، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح أو هذا الحديث موضوع (1).
وقد سبق لنا في بحثو كتابة الحديث، وتأريخ الإسناد، وشروط الرواة، التحقيق الذي يغني عن نقاش هذا الزعم، فنكتفي بهذه الخلاصات للرد عليه هنا:
1 -
أن تدوين الحديث قد بأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وشمل قسما كبيرا من الحديث، كما حققناه بالأدلة القاطعة (2)، وأشرنا إلى أمثلة من تلك الكتابة. وننبه هنا إلى ما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في
(1) من الفصول المترجمة من كتاب "دراسات في السنة الإسلامية" مع إدماج مسأةل كتابة الحخديث، وانظرها بعزوها في كتاب علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح.
(2)
: 45 - 50.
تراجم هؤلاء الرواة تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جدا تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة، حتى لقد يقع في ظن الباحث أن الحديث قد دون جميعه منذ عهده المبكر (1).
2 -
أن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة كثيرا في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة (200) للهجرة بكثير، بل أنه قد تم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120 - (130) هـ (2). بدليل الواقع الذي يحثدنا عن ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد " (154) " وجامع سفيان الثوري " (161) " وهشام بن حسان " (148) " وابن جريج " (150) " وغيرها كثير.
وقد وجد العلماء بعض هذه الجوامع، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند، ليكون إخراجه شاهد حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة.
3 -
أن علماء الحديث وضعوا شروطا لقبول الحديث تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط، حتى يؤدي كما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوضحنا من شروط الراوي التي توفر فيه غاية الصدق لما اجتمع فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الادراك التام لتصرفاته وتحمل المسؤولية، كما أنها توفر فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معا مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه (3)، وكما أوضحناه من شروط الصحيح والحسن التي تكفل ثقة الرواة ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد وسلامته
(1) انظر على سبيل المثال فؤاد سيزكين في "تاريخ التراث العربي": 1: 1: 231 وما بعد، وفيه نقول هامة وتتبع جيد.
(2)
كما حدده أبو طالب المكي في قوت القلوب: 1: 350 وانظر تاريخ التراث: 1: 229.
(3)
كما بيناه في صفات من تقبل روايته وفروعها: 70 - 79.
من القوادح الظاهرة والخفية (1). ثم بما بيناه من دقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد الدليل على صحته، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضاد له (2).
4 -
أن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا، بل تنبهوا إلى عوامل في الرواية المكتوبة لم يتنبه إليها هؤلاء المتطفلون بالاقتراح عليهم، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح، لذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه، ونجد عليها إثبات السماعات وخط المؤلف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها ..
فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم، وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات، والمستندات المكتوبة.
5 -
أن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم، بل قتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة (35) هجرية، لصيثانة الحديث من الدس (3).
وقد ضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحاثا عنها، واختبارا لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطا أساسيا لتكوين المحدث (4).
6 -
أن المسلمين -كما تبين مما سبق. لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السنة في
(1) كما أوضحناه في شروط الصحيح ص 242 - 243.
(2)
في الحديث الضعيف ص 286 - 287.
(3)
انظر ص 55 - 56.
(4)
انظر بحث هذا والتنبيه على حرصهم، حتى بلغ بهم أن يرحلوا في الحديث الواحد في ص 56 - 57.
قيود رواية المبتدع (1)، ولبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع (2).
7 -
أن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم، وقد بحثنا ذلك في جلاء في هذا الكتاب، فكان على هذا القائل أن يسلم لهم، كما أننا نستدل على دقة العلم وإحكام أهله له بتقاسيمه وتنويعاته. بل لا يعبد علما ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع؟ ! !
8 -
إن علماء الحاديث قد أفردوا لكل نوع من الحديث وعلومه كتبا تجمع أفراد هذا النوع من أحاديث، أو أسانيد أو رجال، كما أوضحناه في بحث كل نوع في كتابنا هذا، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع.
ونحن نقول له: كذلك وقع التنوع في كل علم وكل فن، فلو قال إنسان كيف نحكم على هذا المرض بأنه كذا وأنواع الأمراض تعد بالمئات، وكيف نبين هذا المركب الكيمائي من بين المركبات التي تعد بالآلاف لحلناه على الخبراء المتخصصين ليأخذ منهم الجواب الشافي، والحل المقنع.
فكما يرجع في الطب إلى الأطباء، وفي الهندسة إلى المهندسين وفي الكيمياء إلى علمائها، والصيدلة إلى أصحابها .... كذلك فارجع في الحديث إلى علماء الشرع المتخصصين في هذا العلم لأخذ البيان الجلي المدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث تريده وتود معرفة حاله.
(1) ص 83 - 84.
(2)
ص 302 - 304.