المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول - منهج النقد في علوم الحديث

[نور الدين عتر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌التقريظ:

- ‌تصدير الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث

- ‌الفصل الأول: تمهيد في منشأ مصطلح الحديث:

- ‌الرواية والدراية في علم الحديث:

- ‌الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

- ‌مدخل

- ‌الدور الأول: دور النشوء

- ‌الدور الثاني: وهو دور التكامل

- ‌الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة

- ‌الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا

- ‌الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث

- ‌الدور السادس: عصر الركود والجمود

- ‌الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث

- ‌الباب الثاني: في علوم رواة الحديث

- ‌الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

- ‌الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي

- ‌المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية

- ‌المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة

- ‌الباب الثالث: في علوم رواية الحديث

- ‌الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي

- ‌الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله

- ‌نتيجة الباب

- ‌الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد

- ‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

- ‌الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود

- ‌نتائج الباب:

- ‌الباب الخامس: في علوم المتن

- ‌الفصل الأول: في علوم الحديث من حيث قائله

- ‌الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته

- ‌نتيجة عامة:

- ‌الباب السادس: في علوم السند

- ‌الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال

- ‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

- ‌نتائج مهمة:

- ‌الباب السابع: في العلوم المشتركة بين السند والمتن

- ‌الفصل الأول: في تفرد الحديث

- ‌الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم

- ‌الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث

- ‌نتيجة وموازنة:

- ‌الخاتمة:

- ‌مناقشات ونتائج عامة:

- ‌شبهات ومناقشات:

- ‌أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه

- ‌ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث

- ‌ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون

- ‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

- ‌ ثبت المصادر المخطوطة مع بيان أماكن وجودها مختصرا:

- ‌ ثبت المراجع المطبوعة:

- ‌للمؤلف:

الفصل: ‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

ويشمل هذه الأنواع من الحديث.

1 -

الحديث الصحيح.

2 -

الحديث الحسن.

3 -

الصحيح لغيره.

4 -

الحسن لغيره.

1 -

الحديث الصحيح:

وقد ذكروا هنا تعرف الحديث الصحيح الذي يحكم بصحته بلا خلاف بين أهل الحديث، ونختار لك تعريفا سليما من العيب والنقد، فنقول:

ص: 241

الحديث الصحيح: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معلا.

شرح التعريف:

اشتمل على الصفات التي يشترط توفرها في الحديث كي يكون صحيحا، وهي خمس:

1 -

الاتصال: ومعناه أن يكون كل واحد من رواة الحديث قد تلقاه ممن فوقه من الرواة وهكذا إلى أن يبلغ التلقي قائله. فخرج بذلك المرسل والمنقطع بأي نوع من أنواع الانقطاع.

لأنه إذا لم يكن متصلا فمعناه أنه سقط من سنده واسطة أو أكثر، ويحتمل أن يكون الواسطة المحذوف ضعيفا، فلا يكون الحديث صحيحا.

2 -

العدالة في الرواة: وقد سبق شرح معناها وتفصيل شروطها، وهي ركن هام في قبول الرواية، لأنها الملكة التي تحث على التقوى، وتحجز صاحبها عن المعاصي والكذب وما يخل بالمروءة، فخرج بهذا الشرط الحديث الموضوع، وما ضعف لاتهما الراوي بالفسق والإخلال بالمروءة، أو غير ذلك

3 -

الضبط ومعناه أن يحفظ الراوي الحديث في صدره أو كتابه، ثم يستحضره عند الأداء، وهذا الشرط يستدعي عدم غفلته، وعدم تساهله عند التحمل والأداء، إلى آخر ما ذكرنا في أبحاث الضبط وفي علوم الرواية.

4 -

عدم الشذوذ: والشذوذ هو مخالفة الراوي الثقة لمن هو أقوى منه لأنه إذا خالفه من هو أولى منه بقوة حفظه أو كثرة عدد كان مقدما عليه، وكان المرجوح شاذا. وتبين بشذوذه وقوع وهم في رواية هذا الحديث.

ص: 242

والحقيقة أن نفي الشذوذ يتحقق بالشروط السابقة، لكنهم صرحوا بانتفائه لأن الضبط ملكة عامة بالنسبة لجملة أحاديث الراوي، إلا أنه قد يحتمل أن يقع منع وهم في حديث ما، دون أن يفقد صفة الضبط لسائر حديثه، فهذا يخل بصحة الحديث الذي وهم فيه فقط، لذلك صرحوا بنفي الشذوذ.

5 -

عدم الإعلال: ومعناه سلامة الحديث من علة تقدح في صحته، أي خلوه من وصف خفي قادح في صحة الحديث والظاهر السلامة منه، فخرج بهذا الشرط الحديث المعلل، فلا يكون صحيحا.

ووجه دلالة هذه الشروط الخمسة على صحة الحديث: أن العدالة والضبط يحققان أداء الحديث كما سمع من قائله، واتصال السند على هذا الوصف في الرواة يمنع اختلال ذلك في أثناء السند، وعدم الشذوذ يحقق ويؤكد ضبط هذا الحديث الذي نبحثه بعينه وأنه لم يدخله وهم، وعدم الإعلال يدل على سلامته من القوادح الظاهرة، فكان الحديث بذلك صحيحا لتوفر عامل النقل الصحيح واندفاع القوادح الظاهرة والخفية. فيحكم له بالصحة بالإجماع.

أما ما تجده أحيانا من اختلافهم في تصحيح حديث من الأحاديث، فإنه ناشي عن أحد أمرين:

الأول: أختلافهم في أن الحديث هل استوفى شروط الصحة التي أوضحناها، فحكم كل بما انتهى إليه اجتهاده.

الثاني: اختلافهم في اشتراط بعض هذه الشروط للصحة، كالحديث المرسل، بعض العلماء يصححه إذا استوفى بقية الشروط،

ص: 243

وبعضهم يضعفه لأنه ليس بمتصل، كما سنفصل ذلك في الحديث المرسل (1)، وكاشتراط أن لا يكون الحديث غريبا.

مثال الصحيح: ما رواه البخاري ومسلم (2) قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك".

فهذا إسناد صحيح متصل بسماع العدل الضابط عن مثله: البخاري ومسلم إمامان جليلان في هذا الشأن، وشيخهما قتبية بن سعيد ثقة كبير المحل ثبت. وجرير هو ابن ابن عبد الحميد حفظه وهذا لا يضر فإن قتيبة من كبار تلامذة جرير متقدم السماع منه. وعمارة بن القعقاع ثقة أيضا، وكذا أبو زرعة التابعي وهو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي. رجال هذا السند كلهم ثقات احتج بهم الأئمة، وتسلسل الإسناد معروف عند المحدثين وليس ثمة ما يخالفه، والمتن كذلك موافق لما وردت به الأدلة فالحديث صحيح لذاته.

حكم الحديث الصحيح:

أجمع العلماء من اهل الحديث ومن يعتد به من الفقهاء والأصوليين على أن الحديث الصحيح حجة يجب العمل به، سواء كان روايه واحدا لم يروه غيره، أو رواه معه راو آخر، أو اشتهر برواية ثلاثة فأكثر ولم يتواتر.

(1) برقم 63. ص 371 - 373.

(2)

البخاري: أول الأدب ج 8 ص 2، ومسلم أول البر والصلة ج 8 ص 2 كذلك.

ص: 244

وهذا أمر بدهي في نظرنا تقضي به الفطرة الإنسانية لا يحتاج إلى كثير من الاستدلالات والبراهين، فما من إنسان إلا وهو يعول في إبرام شؤونه في العمل، أو التجارة، أو الدراسة، أو غيرها على ما يخبره به واحد موثوق من الناس، حيث يقع في نفسه صدق المخبر ويغلب على احتمال الغلط أو احتمال الكذب.

بل إن الشؤون الكبرى في مصير الأمم يعتمد فيها على أخبار الآحاد الثقات، كالسفراء، أو المبعوثين من قبل الحكومات، فالتوقف عن قبول خبر الواحد يفضي إلى تعطيل الدين والدنيا.

ثم إن العلماء بعد أن اتفقوا على وجوب العمل بالحديث الصحيح الآحادي في أحكام الحلال والحرام اختلفوا في إثبات العقائد ووجوبها به. فذهب أكثر العلماء إلى أن الاعتقاد لا يثبت إلا بدليل يقيني قطعي هو نص القرآن أو الحديث المتواتر.

وذهب بعض العلماء من أهل السنة وابن حزم الظاهري إلى أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي ويوجب الاعتقاد، وأن هذا العلم القطعي علم نظري برهاني لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل. وقوى بعض الكاتبين العصريين هذا المذهب تبعا لميله إلى ابن حزم الظاهري.

ونحن إذا نظرنا إلى الأحاديث الصحيحة على ضوء قواعد العلم والمعرفة بأحوال الرواة نجد أنها تتفاوت في استيفائها صفات الصحة من أعلى مراتبها وأقوى أحوالها إلى أدنى وصف الصحيح، وذلك يفضي بنا إلى تفصيل في حكم الصحيح يقسمه إلى قسمين:

1 -

القسم الأول: الخبر الصحيح الذي لم يحتف بما يقويه، وهذا يفيد الرجحان الغالب ويقع في القلب موقع القبول وربما يظنه

ص: 245

بعض الناس ولا سيما العوام يقينا، لعدم تفريقهم بين الأمرين، وإنما هو علم قائم على الاستنباط القوي لصحة الخبر، وهذا يجب العمل به، والأخذ بمقتضاه في الأحكام كما سبق أن ذكرنا.

أما وجوب العقيدة والإيمان بمقتضاه فلا يجب. لأن الراوي الثقة ليس معصوما من الخطأ، فقد يخطئ، وإن كان ذلك بعيد الوقوع، كما أن من الرواة الثقات من اختلف فيه العلماء جرحا وتعديلا، وهم كثيرون. مما ينزل بحديثهم الصحيح عن درجة القطع اليقيني الذي يجب الاعتقاد به ويكفر جاحده. لكن هذا لا يعني أن يحل للمسلم إنكاره لمستند شرعي مقبول، كما وقع من عمر رضي الله عنه حيث رد حديث فاطمة بنت قيس وقال:"لا ندع كتاب الله لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت (1) ". فأوقع ذلك عند عمر من الشك في حفظها إياه ما جعله يخالفه.

ونحو ذلك يقع للفقهاء الكبار لما عندهم من عمق النظر في الحديث (2) إن كان ذلك قد يتوهمه من لا علم عنده بفقه النصوص هجرا للسنة. وهذا الإمام الترمذي رحمه الله يقول في بعض المسائل: "كذا قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث".

2 -

القسم الثاني: من خبر الواحد الصحيح: قسم يفيد العلم اليقيني ويجب الاعتقاد به. وهو ما تتوفر فيه شروط الصحة بشكل قاطع لا مجال للاحتمال فيه، لما احتف به من المقويات، ومن ذلك:

آ- أن يكون الحديث موضع إجماع على الاحتجاج به بين العلماء.

(1) سبق تخريجه في ص 53.

(2)

كما سبق أن ذكرنا عن بعض أحاديث الموطأ في ص 105.

ص: 246

ب- أن يكون الحديث متصلا، بروايته من طريق أئمة الحديث الحفاظ، ولا يكون غريبا، ذكره الحافظ ابن حجر.

جـ- وكذا إذا كان الحديث مرويا بما قيل إنه أصح الأسانيد ولم يكن غريبا أيضا.

فمثل هذه الصور يفيد العلم القطعي للمتبحر في معرفة أحوال الرجال؛ مثل روايات مالك عن نافع عن ابن عمر، فالمحث يقطع بها، لما يعلم من حال كل واحد منهم من الورع والتقى والحفظ العظيم المتين بحيث يستبعد عن مثلهم في العادة وقوع الخطأ، فإذا خرج عن الغرابة بأن يروى من وجه آخر أو أكثر استحال لدى العالم أن يقع فيه الخطأ وارتقى إلى اليقين القاطع، وإن كان الخبر لا زال آحاديا غير متواتر.

ولذلك أدلة كثيرة نذكر منها:

1 -

أنه تواتر أنه عليه الصلاة والسلام قد أرسل إلى ملوك الأرض وعظمائها في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وقد أرسل إلى كل منهم في أغلب الأحوال رجلا واحدا يحمل دعوته عليه الصلاة والسلام، ويبلغ أركان الإيمان والإسلام، وكل واحد من الوافدين خبره آحادي، وقد جعله النبي ملزما بالحجة، موجبا للانقياد.

2 -

تواتر أيضا عليه الصلاة والسلام كان يرسل الواحد أو الاثنين فقط من أصحابه إلى أهل القطر العظيم لتعليمهم أركان الإيمان والإسلام والأحكام اليقينية القطعية وغيرها، ولولا أن يفيد القطع لما أكتفى بذلك صلى الله عليه وسلم.

وغير ذلك كثيرا جدا يطول استقصاؤه ويصعب حصره.

ص: 247

أصح الأسانيد:

ونظرا لما ذكرنا من تفاوت الأسانيد في درجات القوة فقد حكم بعض الأئمة بالتفضيل المطلق لبعض الأسانيد، فقالوا:"إنه أصح الأسانيد" أي كلها، واختلفوا في ذلك على أقوال (1) نذكر منها:

1 -

أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر.

وهذا قول البخاري، وهو امر تميل إليه النفوس وتنذب إليه القلوب. وتسمى سلسلة هذا السند سلسلة الذهب.

2 -

أصحها: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه.

3، 4 - أصحها: محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي.

وهو مذهب علي بن المديني وسليمان بنحرب، إلا سليمان قال أجودها: أيوب السختياني عن ابن سيرين، وابن المديني قال: عبد الله بن عون عن ابن سيرين.

5 -

سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. قاله ابن المبارك والعجلي ورجحها النسائي.

وهذه الأقوال وإن اتلفت فإنه يمكن الإفادة منها، بأنه (2) "يمكن للناظر المتقن ترجيح بعضها على بعض من حيث حفظ الإمام الذي رجح واتفانه، وإن لم يتهيأ ذلك على الاطلاق فلو يخلو النظر فيه من فائدة، لأن مجموع ما نقل عن الأئمة من ذلك يفيد ترجيح التراجم

(1) أخرجها الخطيب في الكفاية في فصل نفيس: 397 - 404.

(2)

كما قال الحافظ ابن حجر. التدريب: 31.

ص: 248

التي حكموا لها بالأصحية على مالم يقع له حكم من أحد منهم".

لكن الحاكم النيسابوري أبا عبد الله لحظ خطورة هذا التفضيل الشامل، فذهب في المسألة مذهبا آخر اختاره ابن الصلاح والنووي والعلماء حيث إنه أقرب للاحتياط والدقة في الترجيح، وهو أنه (1):"ينبغي تخصيص القول في أصح الأسانيد بصحابي أو بلد مخصوص بأن يقال: أصح أسانيد فلان أو الفلاينين كذا ولا يعمم".

ومن أمثلة ذلك قول الحاكم:

"أصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم عنه.

وأصح أسانيد عمر: الزهري عن سالم عن أبيه عن جده.

وقال: أصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر.

واصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبي هريرة .. ".

أصح أحاديث الباب وأحسن:

يوجد في كلام المحدثين قولهم: "أصح شيء في الباب كذا" أو "أحن شيء في الباب كذا". ويكثر ذلك في جامع الترمذي، وفي تاريخ البخاري.

قال النووي في الأذكار: لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث. فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفا، ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا (2).

(1) معرفة علوم الحديث: 54 - 56 وانظر التدريب: 36.

(2)

التدريب: 39. وانظر التوسع في كتابنا الإمام الترمذي: 175 - 176.

ص: 249

مصادر الحديث الصحيح:

صنف العلماء في الحديث الصحيح كتبا كثيرة أشهرها صحيحا البخاري ومسلم. ولكثرة شهرة الكتابين ظن من لا علم عنده من الناس أنهما استوعبا الحديث الصحيح. وهذا خطأ كبير، فإنهما لم يقولا ذلك، بل نبها على أنهما تركا كثيرا من الحديث الصحيح مخافة الطول.

ونتكلم هنا عن الكتب الخاصة الحديث الصحيح، والكتب التي صنفت على الصحيحين استدراكا أو استخراجا. وهذه الكتب الصحيحة التي سنعرف بها هي:

الموطأ، صحيح البخاري، صحيح مسلسم، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حبان، المختارة.

1 -

الموطأ:

مؤلفه الإمام مالك بن أنس الفقيه المجتهد نجم الآثار النبوية من كبار أئمة المسلمين، ومن فقهاء المدينة الذين تحققت بهم كلمة النبي صلى الله عليه وسلم:"يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة"(1).

ألف مالك كتابه لإشارة الخليفة أبي جعفر المنصور عليه أن يفعل ذلك، وظل ينقحه سنين كثيرة يختار ما هو الأصح للمسلمين، والأنسب للدين، حتى صار أصح الكتب في عصره، فقال الإمام الشافعي:"لا أعلم كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك".

وذهب بعض العلماء إلى أن الموطأ أول ما صنف في الحديث الصحيح، لما علم من تحري الإمام مالك في اختيار أحاديثه. وقد

(1) الترمذي أواخر العلم وحسنه: 4: 47، والمسند: 2: 299.

ص: 250

اعترض على هذا الرأي بأن مالكا لم يخص كتابه بالحديث الصحيح، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات أيضا، أي التي يقول فيها: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا .. وعلى ذلك يكون البخاري هو أول من صنف في الصحيح.

وأجيب بأنه تبين اتصالها، وصلها ابن عبد البر في "التميهد" جميعا خلا أربعة أحاديث من البلاغات لم يصل أسانيدها (1). لكن ابن الصلاح وصلها في جزء خاص (2). فيكون الموطأ أول مصنف في الحديث الصحيح، قبل صحيح البخاري.

والتحقيق أن الاختلاف في هذا يسير يمكن أن يعتبر خلافا لفظيا، وذلك بأن نقول:

الموطأ أو كتب الصحيح وجودا، بالنظر إلى مطلق الجمع للحديث الصحيح، نعني جمعه ممزوجا بغير المرفوع من أقوال الصحابة والتابعين، وذلك وصف الموطأ، فإنه جمع في الباب بعض ما ورد فيه من الحديث المرفوع ومن أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وكثيرا ما يعقب عليها ببيان العمل بها وما يتفرع عليها من مسائل الفقه. فلم يكن الموطأ مجردا للحديث المرفوع بل ممزوجا بغيره.

أما الجامع الصحيح للإمام البخاري فهو أول مصنف للحديث الصحيح المرجد، لأن البخاري ميز أقوال الصحابة والتابعين فلم يوردها في سياق واحد مع الحديث المرفوع، بل أورد منها أشياء في تراجم "أي عناوين" الأبواب.

(1) ذكرها ابن عبد البر في التقصي: 247 و 253 و 254، وانظر اختصار علوم الحديث:30. والتدريب: 41. ومفتاح السنة للخولي: 22 - 23.

(2)

انظر الرسالة المستطرفة: 4 - 5.

ص: 251

2 -

الجامع الصحيح للبخاري:

مؤلفه: الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي ولاء.

ولد سنة (194) بخزتنك قرية قرب بخارى، وتوفي فيها سنة (256).

وبدت عليه علائم الذكاء والبراعة منذ حداثته: حفظ القرآن -وهو صبي- ثم استوفى حفظ حديث شيوخه البخاريين ونظر في الرأي وقرأ كتب ابن المبارك حين استكمل ست عشرة سنة، فرحل في هذه السن إلى البلدان وسمع من العلماء والمحدثين وأكب عليه الناس وتزاحموا عليه ولم تبقل لحيته.

قال شيخه محمد بن بشار الحافظ: "حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى".

وعنه أيضا قال: "ما قدم علينا مثل البخاري".

وقال الإمام الترمذي (1): "لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل".

قال البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتابا مخصترا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح.

وهذا يدل على عقلية مبتكرة مبدعة، إذ أخذت هذه الكلمة منه الاهتمام وبعثته للعمل على تأليف كتابه، وسماه كما ذكر ابن الصلاح

(1) في أوائل كتاب العلل: 32.

ص: 252

والنووي (1): "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".

قصد البخاري في صحيحه إلى إبراز فقه الحديث الصحيح واستنباط الفوائد منه، وجعل الفوائد المستنبطة تراجم للكتاب "أي عناوين له"، ولذلك فإنه قد يذكر متن الحديث بغير إسناد وقد يحذف من أول الإسناد واحدا فأكثر، وهذان النوعان يسميان تعليقا (2).

وقد يكرر الحديث في مواضع كثيرة من كتابه يشير في كل منها إلى فائدة تستنبط من الحديث، وذكر في تراجم الأبواب علما كثيرا من الآيات والأحاديث وفتاوى الصحابة والتابعين، ليبين بها فقه الباب والاستدلال له، حتى اشتهر بين العلماء "فقه البخاري في تراجمه"(3).

3 -

صحيح مسلم:

مصنفه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ولد بمدينة نيسابور سنة (206) هـ وتوفي بها سنة (261) هـ. كان إماما جليلا مهابا، وكان غيروا على السنة والذب عنها، تلمذ على البخاري وأفاد منه ولازمه. وهجر من أجله من خالفه، وكان في غاية الأدب مع إمامه البخاري حتى قال له يوما:"دعني أقبلرجلك يا إمام المحدثين وطبيب الحديث وعلله".

وقد أثنى أئمة العلم على مسلم، وقدمه أبو زرعة وأبو حاتم على أئمة عصره (4). وقال شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء "كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم، ما علمته إلا خيرا"(5).

(1) علوم الحديث: 22. وشرح البخاري للنووي: 7.

(2)

انظر بحث المعلق الآتي برقم 64 ص 374 - 375.

(3)

بتصرف عن شرح البخاري للنووي ص 9.

(4)

تاريخ بغداد: 13: 101 وتذكر الحفاظ: 589.

(5)

تهذيب التهذيب: 10: 127.

ص: 253

وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة جليل القدر من الأئمة"(1).

وقال النووي: "أجمعوا على جلالته وإمامته، وعلو مرتبته، وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها

" (2).

وكتابه "المسند الصحيح"" ويطلق عليه "الجامع الصحيح" سار فيه على أسلوب آخر غير منهج البخاري في صحيحه.

وذلك أن مسلما لم يقصد فقه الحديث، بل قصد لإبراز الفوائد الإسنايدة في كتابه، لذلك فإنه يروي الحديث في أنسب المواضع به، ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع. بينما البخاري يفرق الحيث في مواطن متعددة، يرويه في كل موطن بإسناد جديد أيضا.

حكم أحاديث الصحيحين:

والحكم في أحاديث الصحيحين أنها كلها صحيحة، وذلك بالنسبة للأحاديث المخرجة بالإسناد المتصل الذي يساق بصيغة الرواية المعروفة، مثل "حدثنا" أو"أخبرنا". أما الأحاديث المعلقة فلها حكم خاص نوضحه في بحث الحديث المعلق إن شاء الله تعالى.

ثم إن الإجماع قد انعقد على صحة أحاديث الكتابين، فإذا قيل هذا الحديث رواه البخاري، أو مسلم، كان ذلك كافيا للحكم بصحة الحديث. لا حاجة إلى أن يحكم عليها بالصحة، إلا أن يكون التنطع والتشبع (3).

(1) التهذيب: 10: 128.

(2)

تهذيب الأسماء: 2: 90.

(3)

من عجيب أمر من اصطنع ذلك في عصرنا أنه يستشهد بقول السابقين "صحيح أخرجه البخاري" أو صحيح متفق عليه، فبجعله دليلا لصحة قوله مثلا:"أخرجه البخاري، قلت وهو صحيح". مع أن البون شاسع ظاهر بين العبارتين الأولى تأكيد للصحة بإخراج البخاري أو مسلم، والثانية تأسيس جديد للحكم بالصحة كما لا يخفى على من له إلمام بالعربية.

ص: 254

وإذا قيل متفق عليه أو على صحته فمعناه أنه اتفق عليه البخاري ومسلم، لا أنه متفق عليه من الأمة جميعها، لكن الإجماع انعقد على صحة أحاديثهما على الوجه الذي عرفت، فإنه يلزم من اتفاقهما اتفاق الأمة عليه لتلقيهم إياهما بالقبول.

هذا وقد يستشكل ما ذكرناه بما وقع من الانتقاد على أحاديث في الصحيحين أو أحدهما، كالذي اشتهر عن الدارقطني أنه انتقد على الشيخين أحاديث ضعفها، اتفقا على بعضها، وتفرد كل واحد منهما عن الآخر بأحاديث أخرى. لكن العلماء تعرضوا منذ أمد بعيد لهذه الانتقادات وأماطوا اللثام عن اندفاعها، وأنها لا تضر بالاحتجاج بالكتابين.

وقال الحافظ ابن حجر في هدي الساري (1):

"والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني". ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه.

وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا.

وروى الفربري عن البخاري قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته".

(1) 2: 81 - 83. وله بقية مفصلة نفيسة فانظرها.

ص: 255

وقال مكي بن عبدان سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته".

فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمها في ذلك على غيرهما، فيدفع الاعتراض من حيث الجملة". اهـ.

المفاضلة بين الصحيحين:

ثم إن العلماء اختلفوا في أي الكتابين أرجح من الآخر، فذهب جمهور المحدثين إلى ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم، وذهب جماعة من العلماء من أهل المغرب وغيرهم إلى ترجيح صحيح مسلم على البخاري.

والتحقيق أن الخلاف بين الفريقين سهل، وأنه شكلي أكثر منه موضوعي، وذلك أن جهة المفاضلة مختلفة بين الفريقين.

فالجمهور رجعوا صحيح البخاري بالنظر إلى المقصد الأصلي عند المحدثين، وهو توفر الصحة، وهذا هو الحق فإن البخاري أشد اتصالا وأتقن رجالا مع صحيح مسلم كما ذكر الحافظ ابن حجر.

وقد فصل الحافظ ذلك (1) بأوجه ستة، تجتزئ منها هنا بما يلي:

1 -

أن البخاري يشترط في المعنعن ثبوت اللقي بين الراويين لكي يحكم باتصال السند، أما مسلم فإنه يكتفي بإمكان اللقي مع انتقاء التدليس (2)، ومن هنا كان شرط البخاري أشد من شرط مسلم، فيكون أصح. وهذا الوجه كاف ليكون الفيصل في ترجيح البخاري.

(1) في هدي الساري: 1: 7 - 8 وانظر التدريب: 42 - 44.

(2)

كما سيأتي في المعنعن رقم 56 ص 351 - 352. فانظره لزاما.

ص: 256

2 -

أن البخاري يخرج عن الثقات من الدرجة الأولى البالغة في الحفز والاتقان، ويخرج عن طبقة تليها في التثبت، ومسلم يخرج عن هذه أكثر من البخاري.

3 -

أن ما طعن على البخاري من الأحاديث والرواة الذين أخرج لهم أقل مما طعن على مسلم، وهذه الطعون وإن أجاب عنها العلماء، لكن السلامة من الطعن أولىن فالبخاري أعلى صحة لكونه أبعد وأقل تعرضا للنقد من مسلم.

وأما مذهب من فضل صحيح مسلم فوجهه ما اعتنى به مسلم من منهج التأليف في كتابهز وما استتبعه من المزايا، وذلك -كما أوضح الحافظ ابن حجر- (1)" .. أن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله، في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق، ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه. -قال نور الدين وإخراه إياه في غير مظنته-، بل ج مع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع تبعا لا مقصودا". يعني أن هذا جعل كتاب مسلم أيسر تناولا للوصول إلى الحديث فيه، وأنفع للفقيه في التعرف على اختلاف الرواة في بعض ألفاظ الحديث.

هذا ويجب التنبه إلى أن هذا التفضيل تفضيل إجمالي للصحيحين على بعضهما، وليس معناه أن كل حديث في البخاري أصح من أي حديث في مسلم، بل كثيرا ما يوجد في صحيح مسلم حديث أصح من حديث

(1) في هدي الساري: 1: 8. وانظر التدريب: 44.

ص: 257

في البخاري، ولكن جملة الصحة في البخاري أرجح من جملتها في مسلم، وهذا أمر يقع فيه اللبس كثيرا لطلبة العلم.

4 -

صحيح ابن خزمية: للإمام المحدث الكبير أبي عبد الله وأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة " (311) هـ". وقد عرف صاحبه بالتحري، حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد، فيقول: إن صح الخبر" أو "إن ثبت كذا" ونحو ذلك (1).

5 -

صحيح ابن حبان: للإمام المحدث الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي، المتوفى سنة " (354) هـ" تلميذ ابن خزيمة، ويسمى كتابه هذا "التقاسيم والأنواع". وهو على ترتيب مخترع ليس على الأبواب. ولا على المسانيد، والكشف منه عسر جدا، وقد صرح في أوله أنه سلك هذا المنهج في الكتاب، كي يعتمد الناس فيه على الحفظ، ولا يعتمدوا على شيء من الترتيب المعروف (2).

وقد رتبه على الأبواب الأمير علاء الدين أبو الحسن علي بن بلبان الفارسي الحنفي المتوفى بالقاهرة سنة " (739) هـ" وسماه "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (3) ".

هذان الكتابان صحيحا ابن خزيمة وابن حبان اشترط صاحباهما الصحة فيما يخرجانه فيهما، إلا أن العلماء لم يجمعوا عليهما، بل وقعت انتقادات لأحاديث فيهما تساهلا في تصحيحها، وابن حبان أكثر تساهلا، لما عرفت قبل من مذهبه في تعديل بعض المجهولين (4).

(1) التدريب: 54 والرسالة المستطرفة: 16.

(2)

مطلع الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان.

(3)

طبع منه العلامة أحمد شاكر رحمه الله جزءا واحدا.

(4)

في صفحة 104 - 105، وانظر التدريب والرسالة المستطرفة- الموضعين السابقين.

ص: 258

6 -

المختارة، للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة " (643) هـ"، وقد سماه في الرسالة المستطرفة: "الأحاديث الجياد المختارة مما ليس في الصحيحين أو أحدهما، وهو كتاب التزم ما يصلح للحجية، حتى جعله السيوطي في ديباجة جمع الجوامع، أحد كتب خمسة جميع ما فيها صحيح.

قال الحافظ ابن كثير (1): "وكتاب المختارة فيه علوم حسنة حديثية، وهو أجود من مستدرك الحاكم لو كمل".

والكتاب مرتب على المسانيد على حروف المعجم، لا على الأبواب، ولم يكمل، وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها (2).

لكن انتقد على الكتاب تصحيح أحاديث لا تبلغ رتبة الصحة، بل ولا رتبة الحسن، نبه العلماء في شروح كتب الحديث عليها لمناسبة تخريجها.

ومن ذلك حديث: "ركعتان من متأهل خير من ثنتين وثمانين ركعة من العزب". رواه تمام في فوائده، والضياء في المختارة عن أنس. قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (3):"أخرجه من طريق بقية الضياء في المختارة، لكن تعقبه الحافظ ابن حجر في أطرافه، فقال: هذا حديث منكر ما لإخراجه معنى". وقال الذهبي في الميزان (4): "باطل".

وحديث: "علي أصلي، وجعفر فرعي". رواه الطبراني والضياء في المختارة. قال المناوي في فيض القدير (5): "قال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم".

(1) في كتابه البداية 13: 17.

(2)

الرسالة المستطرفة: 29.

(3)

: 2: 160 وانظر تنزيه الشريعة: 2: 205.

(4)

في ترجمة راويه مسعود بن عمرو البكري: 3: 164.

(5)

: 4: 356. وانظر مجمع الزوائد ج 9 ص 273.

ص: 259

وغير ذلك مما تعقبه العلماء على كتاب المختارة (1)، يحتم على طالب العلم التثبت والتحري فيما يعزى إلى هذا الكتاب، أو يصحح لوجوده فيه.

المستدركات على الصحيحين:

المستدرك: كتاب يخرج فيه صاحبه أحاديث لم يخرجها كتاب ما من كتب السنة، وهي على شرط ذلك الكتاب، أي رجالها يروى لهم ذلك الكتاب.

وقد ألفت عدة كتب استدركت أحاديث على الشيخين (2)، أشهرها وأكثرها تداولا بين العلماء كتاب "المستدرك على الصحيحين" للإمام المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري "المتوفى سنة (405) هـ"، أودعه أحاديث على شرطهما، أو شرط أحدهما، وأخرج فيه أحاديث صحيحة ليست على تلك الصفة (3)، فجاء كتابا كبيرا حافلا.

لكن العلماء انتقدوه بأنه متساهل في التصحيح واسع الخطو فيه.

وقد صنف الحافظ شمس الدين محمد الذهبي المتوفى " (748) هـ" ملخصا لهذا المستدرك، وتعقب ما فيه من النكارة والضعف، وخلص إلى نتيجة هامة في أحاديث هذا الكتاب، حيث قرر أن فيه جملة وافرة على شرطهما، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وإن كان فيه علة،

(1) التعليقات على الأسئلة العشرة الكاملة: 153 - 155.

(2)

ذكر بعضا منها في الرسالة المستطرفة: 17 - 19.

(3)

ذكر تحقيق شرط الشيخين وعمل الحاكم في المستدرك في التدريب: 65 - 70 وانظر التوسع في كتاب "الحاكم النيسابوري" للزميل الدكتور محمود ميرة: 298 وما بعد.

ص: 260

وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح وفي بعض ذلك موضوعات، أثارت الإمام الذهبي حتى أنحى باللوم على الحاكم وراح يقسم بالله في بعضها إنه لموضوع! !

وقد كشف الحافظ ابن حجر الستر عن العذر في هذا التساهل الذي فرط من الحاكم وهو إمام جليل. وذلك لأنه مات قبل أن يكمل تنقيح مسودات الكتاب.

قال الحافظ: "وقد وجدت في قريب نصف الجزء الثاني على تجزئة ستة من المستدرك: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم". قال الحافظ: "والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة إلى ما بعده"(1).

المستخرجات على الصحيحين:

الكتاب المستخرج أو المخرج: هو كتاب يروي فيه صاحبه أحاديث كتاب معين بأسانيد لنفسه، فيلتقي في أثناء السند مع صاحب الكتاب الأصل في شيخه أو من فوقه (2).

لكن لا يتوهم أنه يروى الحديث بنفس لفظ الكتاب الأصلي، وإنما يرويه بحسب ما نقله إليه رجال سنده، مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ، وربما كان تفاوتا في المعنى.

ولهذه الطريقة في التصنيف فوائد كثيرة (3) من أهمها:

(1) التدريب: 52. وانظر للتوسع كتاب "الحاكم النيسابوري": 115 - 138.

(2)

قارن شرح الألفية: 1: 21 والتدريب: 56.

(3)

ذكر منها سبعة فوائد في التدريب: 59 وأوصلها ابن حجر إلى عشرة فوائد ذكر نصه بها الصنعاني في توضيح الأفكار ج 1 ص 72 - 73. وانظر شرح الألفية السيوطي لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد: 38.

ص: 261

1 -

علو الإسناد: توضيح ذلك أن أبا نعيم الأصفهاني مثلا لو روى حديثا عن عبد الرزاق من طريق البخاري أو مسلم لم يصل إليه إلا بأربعة، وإذا رواه عن الطبراني عن الدبري وصل باثنين.

2 -

الزيادة في قدر الصحيح، لما يقع فيها من ألفاظ زائدة، وتتمات في بعض الأحاديث تثبت صحتها بهذه التخاريج.

3 -

أنه يندفع بروايات المستخرج ما قد يتوهم من النقد على إسناد صحيح كأن يثبت في إسناد المستخرج تصريح المدلس بالسماع، وتعيين المبهم، وغير ذلك.

قال الحافظ ابن حجر: "وكل علية أعل بها حديث في أحد الصحيحين جاءت رواية المستخرج سالمة منها".

والكتب المخرجة كثيرة، منها استخرج أحاديث الصحيحين، ومنها ما استخرج أحاديث غيرهما.

وأهم المستخرجات على الصحيحين: المستخرج للإسماعيلي وللبرقاني كلاهما على البخاري، والمستخرج لأبي عوانة، وأبي جعفر بن حمدان على مسلم، والمستخرج لأبي نعيم الأصفهاني، وأبي عبد الله بن الآخرم كلاهما على الصحيحين معا.

لكن روايات المستخرجات على الصحيحين أو أحدهما ليست صحيحة دائما، لأن المستخرج قد يوثق بعض الرواة ولا يكون ثقة أو نحو ذلك، وإن كان أصل الحديث صحيحا لتخريجه في كتاب مجمع على صحته.

أقسام الصحيح بحسب تخريجه:

وحيث إنه قد أصبحت العمدة في معرفة الحديث الصحيح على

ص: 262

المراجع التي خصصت له بالدرجة الأولى فقد قسمه العلماء بحسب قوة المرجع الذي أخرجه أقساما عدة فقالوا:

أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم.

وهذا كله كما عرفت تفضيل إجمالي بحسب قوة الكتاب في جملته، لا يقتضي تفضيل كل حديث في كتاب على كل حديث في كتاب دونه في الرتبة (1).

2 -

الحديث الحسن:

هذا النوع من الحديث له أهمية خاصة، لما وقع فيه بين العلماء من الاختلاف، ولمافي الحكم على الحديث بالحسن من الدقة.

والذي يتبين بالبحث أن اختلاف المحدثين يرجع في صورته الجوهرية إلى اختلاف مرادهم من الحديث الحسنن منهم من أراد الحسن لذاته، ومهم من أراد الحسن لغيره.

والذي ندرسه هنا هو الحسن لذاته، ونختار في تعريفه هذه العبارة فنقول:

(1) وبهذا يندفع الاعتراض على التقسيم بالحديث المشهور، أو بغيره "انظر التدريب: 64". لأن هذا التقسيم إنما هو بالنظر إلى المراجع التي اشترطت الصحة كما أوضحنا.

ص: 263

الحديث الحسن: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه غير شاذ ولا معلل (1).

وبالموازنة بين هذا التعريف، وبين تعريف الحديث الصحيح، نجد بينهما تشابها كبيرا، حيث اتفقا في سائر الشروط عدا ما يتعلق بالضبط، فالحديث الصحيح راويه تام الضبط، وهو من أهل الحفظ والاتقان، أما راوي الحديث الحسن فهو قد خف ضبطه.

وهذا ينطبق عليه ويوضحه قول ابن الصلاح: "أن يكون من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والاتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا"(2).

لكن التعريف الذي اخترناه جاء مختصرا، ودقيقا، لأنه ميز الحسن عن الضعيف بالشروط التي تضمنها، ثم ميزه عن الصحيح بأنه قل ضبطه.

(1) بتصرف يسير عن شرح النخبة: 17، وانظر شرح البيقونية للزرقاني:25.

(2)

وهذا المعنى للحديث الحسن هو الذي قصده الإمام حمد الخطابي حيث قال في معالم السنن ج 1 ص 11: "الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلمءا، ويستعمله عامة الفقهاء.

إلا أن العلماء انتقدوا هذا التعريف بأنه لا يحقق الغاية منه، وهي تمييز الحسن عما يشابهه وهو الصحيح، قال ابن كثير: فإن كان المعرف هو قوله: "ما عرف مخرجه واشتهر رجاله" فالحديث الصحيح كذلك بل والضعيف. وإن كان بقية الكلام من تمام الحد فليس هذا الذي ذكره مسلما له" أي لا يسمل له قوله: إن أكثر الحديث من قبيل الحسان، ولا هو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.

ص: 264

فجاء مطابقا للمعرف، ميزا له عن غيره تماما.

مثال الحديث الحسن: ما رواه أحمد (1) قال: ثنا يحيى بن سعيد عن بهز بن حكيم حدثني أبي عن جدي قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب.

فهذا الحديث سنده متصل، لا شذوذ فيه ولا علة قادحة، حيث لم يقع في هذه السلسلة أي اختلاف بين الرواة ولا في المتن.

والإمام أحمد وشيخه يحيى بن سعيد وهو القطان إمامان جليلان، وبهز بن حكيم من أهل الصدق والصيانة حتى وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين والنسائي وغيرهم، لكن استشكل العلماء بعض مروياته حتى تكلم فيه شعبة بن الحجاج بسبب ذلك، وهذا لا يسلبه صفة الضبط، لكنه يشعر بأنه خف ضبطه (2)، ووالده حكيم وثقه العجلي وابن حبان. وقال النسائي: ليس به بأس. فيكون حديث بهز هذا حسنا لذاته كما حكم العلماء بل هو من أعلى مراتب الحسن.

ومن هذا تبين أن ثمة تشابها كثيرا بين الحسن والصحيح. حتى إن طائفة من أهل الحديث جعلت الحسن مندرجا في الصحيح، ولم يجعلوه نوعا منفردا، وهو الظاهر من كلام الحاكم أبي عبد الله النيسابوري في تصرفاته.

لكن العمل بين المحدثين استقر على اعتبار الحسن نوعا منفردا،

(1) في المسند ج 5 ص 5.

(2)

المغني رقم 1007، والتهذيب: 1: 498 - 499.

ص: 265

لأن الحديث الذي يحتج به إما أن يكون في أعلا درجات القبول، وهو الصحيح، أو في أدناها وهو الحسن.

حكم الحديث الحسن:

الحديث الحسن مقبول عند الفقهاء كلهم في الاحتجاج والعمل به وعليه معظم المحدثين والأصوليين، وذلك لأنه قد عرف صد راويه وسلامة انتقاله بالسند، وخفة الضبط كما عرفت لا تخرجه عن الأهلية للأدءا كما سمع، لأن المقصود أنه درجة أدنى من الصحيح، من غير اختلال في ضبطه، وما كان كذلك فإن النفس تميل إلى قبوله، ولا يأباه القلب، والظن يحسن بسلامته فيكون مقبولا.

مراتب الحديث الحسن:

تتفاوت مراتب الحديث الحسن كما تفاوتت مراتب الصحيح، وذلك بحسب قرب راوي الحسن ذاته من الصحيح في ضبطه.

وقد ذكروا هنا أمثلة من تفاوت مراتب الحسن لذاته:

فذكر الذهبي أن أعلا مراتبه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأمثال ذلك مما قيل أنه صحيح، وهو من أدنى مراتب الصحيح. ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه، كديث الحارث بن عبد الله (1)، وعاصم بن ضمرة.

وهكذا يتوسط الحديث الحسن بين منزلتي الصحة والضعف، وقد يكون أدنى إلى الصحة حينا، وأدنى إلى الضعف حينا آخر، ولا تزال مثل هذه الحال مثار اجتهاد العلماء وتحريهم، وموضع تخوفهم، حتى عسر التعبير عن الحسن وضبطه على بعض منهم لأنه أمر

(1) هو الحارث الأعور، قارن هذا بترجمته في الميزان للذهبي، وتأمل.

ص: 266

نسبي، وشيء ينقدح في نفس الحافظ، وربما تقصر عبارته عن تبريريه تفصيلا (1).

3 -

الصحيح لغيره:

الصحيح الذي سبق تعريفه هو الذي بلغ درجة الصحة بنفسه دون أن يحتاج إلى ما يقويه ويسميه العلماء الصحيح لذاته. وهذا لا يشترط للحكم بصحته أن يكون عزيزا أي أن يروى من وجه آخر.

أما الصحيح لغيره: فهو الحديث الحسن لذاته إذا روي من وجه آخر مثله أو أقوى منه بلفظه أو بمعناه، فإنه يثقوى ويرتقي من درجة الحسن إلى الصحيح، ويسمى الصحيح لغيره.

مثال ذلك: حديث بهز بن حكيم السابق، فقد أخرجه الشيخان عن أبي هريرة باللفظ الذي سبق في الحديث الصحيح. والظاهر أن السائل المبهم فيه هو معاوية بن بهز، وقد ورد بلفظ:"من أبر" في بعض طرقه عند مسلم (2). فقوي حديث بهز بذلك، وأصبح "صحيحا لغيره".

والسبب في هذا الارتقاء أن الحسن بهذا التعدد للسند تجتمع له

(1) هذا في رأينا محمل قول ابن كثير "أنه أمر نسبي ينقدح عند الحافظ، ربما تقصر عبارته عنه". أما ما يجعل أمرا وجدانيا غير منضبط فذلك مالا نقبله، وذلك الذي أردنا رده في اطروحتنا ص 161.

(2)

وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري، في أوله رقم /5/، وانظر فتح الباري: 10: 309.

ص: 267

القوة من الجهتين، ويزول بذلك ما كان يخشى من جهة خفة ضبطه، وينجبر ذلك النقص اليسير، فيلتحق الإسناد بدرجة الصحيح.

4 -

الحسن لغيره:

وهو الذي ترقى إلى درجة الحسن بالتقوية أيضا، وهذا النوع هو المقصود في الأصل عند الإمام الترمذي من قوله "حديث حسن".

وقد كشف الترمذي النقاب عن هذا النوع من الحديث، وأبان مقصده منه؛ فقال يعرف الحديث الحسن في كتابه (1):

"وما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا: كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن.

فقد بين الترمذي أنه يشرح اصطلاحا استعمله في كتابه خاصة. ولم يجعل هذا شرحا لاصطلاح المحدثين عامة، ثم وصف الحديث الحسن بثلاثة أوصاف هي قيود في التعريف تميزه عما عداه:

الأول: "أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب".

هذا قيد يخرج حديث المتهم بالكذب، ويدخل في الحسن ما كان بعض رواته سيء الحفظ، أو مستورا لم ينقل فيه جرح ولا تعديل.

(1) في كتاب العلل آخر جامعه: 5: 758. و 340 من الشرح.

ص: 268

أو اختلف في جرحه وتعديله ولم يترجح فيه شيء، أو مدلسا روى بالعنعنة فإن أوصاف هؤلاء يصدق عليها عدم الاتهام بالكذب.

لكن ظاهر هذا الوصف لراوي الحسن مشكل لأنه يشمل الثقة والمغفل الشديد التغفيل الكثير الخطأ. وحديث الثقة من الصحيح لا الحسن، والمغفل الكثير الخطأ الفاحش لا يعتبر به كما عرفت.

والجواب عن هذا أنه لا يصلح أن يقصد الثقة بهذا التعبير، لأنه يشير إلى انخفاض منزلته، كما لا يصلح أن يقال عن السيف الصارم إنه خير من العصا! !

وأما المغفل الذي يخطئ الكثيرن فهو في حكم المتهم بالكذب، لأن الترمذي نفسه صرح بأنه لا يشتغل بالرواية عنه (1).

القيد الثاني: "ألا يكون الحديث شاذا".

والمتتبع يعلم أن مراد الترمذي من الشاذ أن يروي الثقات خلافه، فاشترط في الحديث الحسن أن يسلم من المعارضة، لأنه إذا خالف الثقات كان مردودا.

القيد الثالث: "أن يروى من غير وجه نحوه".

يعني أن يروى الحديث من طريق أخرى فأكثر على أن تكون مثله أو أقوى منه لا دونه، ليترجح به أحد الاحتمالين -كما قال السخاوي (2) -، لكن لا يشترط أن يروى بلفظه، بل يكفي أن يروى بمعناه من وجه أو وجوه أخر.

هذا ونلاحظ أن الترمذي لم يشترط اتصال السند في الحديث الحسن فيدخل فيه المنقطع إذا استوفى سائر الشروط.

(1) علل الترمذي بشرحه: 78 وانظر تعليقنا عليه: 385.

(2)

في فتح المغيث: 24.

ص: 269

والحاصل أن الحسن لغيره هو الحديث الذي فيه ضعف غير شديد كأن يكون راويه ضعيفا لا ينزل عن رتبة من يعتبر به، أو مدلسا لم يصرح بالسماع، أو كان سنده منقطعا، وكل ذلك مشروط بأمرين: ألا أن يكون الحديث شاذا، وأن يروى من وجه آخر مثله أو أقوى منه بلفظه أو بمعناه.

وإذا أطلق الترمذي قول "حديث حسن" فإن الأصل فيه أن يراد به هذا.

ونمثل للحسن لغيره بمثال نسوقه من جامع الترمذي:

قال الترمذي (1): "حدثنا علي بن حجر حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن عطية عن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين".

قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن، وقد رواه ابن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر:

حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر: فصليت معه في الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن". انتهى.

فالحديث في إسناده الأول "الحجاج" وهو ابن أرطأة. قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: "صدوق كثير الخطأ والتدليس". وفيه عطية وهو ابن سعد بن جنادة العوفي، وهو كسابقه أيضا مع كونه شيعيا، لكن كلا منهما لم يتهم بالكذب ولم ينزل عن رتبة الاعتبار.

(1) في "باب ما جاء في التطوع في السفر": 2: 437 - 438.

ص: 270

وقد حسن الترمذي حديثهما لأنه اعتضد بروايته من وجه آخر كما رأيت، وهذا الطريق الآخر فيه ابن أبي ليلى وهو فقيه جليل لكن تكلم فيه المحدثون من قبل حفظه. لكن الحديث تقوى بوروده من هذا الطريق، ومن هنا حسنه الترمذي.

حكم الحديث الحسن لغيره:

الحديث الحسن لغيره حجة يعمل به أيضا عند جماهير العلماء من المحدثين والأصوليين وغيرهم، لأنه وإن كان في الأصل ضعياف لكنه قد انجبر وتقوى بوروده من طريق آخر، مع سلامته من أن يعارضه شيء، فزال بذلك ما نخشاه من سوء حفظ الراوي أو غفلته، وتحصل بالمجموع قوة تدل على أنه ضبط الحديث، وحسن الظن براويه أنه حفظه وأداه كما سمعه، لذلك سمي الحديث حسنا.

جمع الصحيح أو الحسن مع غيرهما:

أكثر الإمام الترمذي من الجمع بين الصحة والحسن وبين غيرهما في أحكامه على الأحاديث، وهو استعمال سبقه إليه بعض المتقدمين أيضا، لكن العلماء استشكلوا وقوع ذلك عند الترمذي على ضوء ما سبق بيانه في تعريف الصحيح والحسن، وكثرت أقولاهم جدا في هذه العبارات، وقد حققنا بحث ذلك بتوسع في كتاب الإمام الترمذي (1)، وأفضنا في مناقشة أهم تلك الآراء، حتى خلصنا إلى نتيجة نطمئن إليها على ضوء قواعد العلم ودراسة تصرف الترمذي في هذه العبارات، نلخصها فيما يلي:

1 -

قول الترمذي: "صحيح غريب"، معناه أن الحديث قد

(1) 185 - 199 فانظره.

ص: 271

جمع بين الصحة والغرابة أي تفرد الراوي به، والحديث الغريب قد يكون صحيحا، وقد يكون حسنا، وقد يكون ضعيفا.

2 -

قول الترمذي: "حسن صحيح"، يفيد أنه تعددت أسانيد الحديث، وبلغ درجة الصحة، فجمع الحسن إلى الحسن، ليبين أنه خرج عن حد الغرابة.

3 -

قول الترمذي: "حسن غريب"، إن كانت الغرابة في السند والمتن وهو الذي لم يرو إلا بإسناد واحد، فهذا يعني أن الحديث حسن لذاته. وقد يحكم عليه بذلك لوجود دلالئل تقوي معناه.

وإذا كان الحديث غريبا في الس فقط -وهو الذي اشتهر من عدة أوجه، ثم جاء من طريق غير مشهور- فهذا متفق مع تعريف الحديث الحسن عند الترمذي، لأنه يصدق عليه أنه روي من غير وجه.

4 -

قول الترمذي: "حسن صحيح غريب" إن كان غريبا سندا فقط فالمعنى على ما ذكرنا في "حسن صحيح" غاية الأمر أنه أفاد أن في الإسناد تفردا عما اشتهرت به الأسانيد الأخرى. وإن كان غريبا سندا ومتنا فيكون قد ذكر الحسن هنا لإفادة أنه ورد ما يوافق معنى الحديث (1).

(1) أما إن كان الحديث غريبا سندا ومتنا ولا يكون ثمة شيء يوافق معناه، فهذا التعبير يفيد التردد في الحديث بين الصحة والحسن للخلاف بين العلماء فيه، أو عدم الجزم من المجتهد، على ما اتجه إليه الحافظ ابن حجر. لكن لم أقع بعد على مثال من الترمذي يصلح لهذه الصورة الأخيرة. فالله تعالى أعلم.

ص: 272

اصطلاحات شاملة للصحيح والحسن:

كثيرا ما يستعمل المحدثون للدلالة على قبول الحديث ألقابا غير قولهم: "صحيح"، أو قولهم:"حسن"، مثل "الجيد"، و"القوي"، و"الصالح"، و"المعروف"، و"المحفوظ"، و"المجود"، و"الثابت".

فأما الجيد، فقد قرر الحافظ ابن حجر أنه لا مغايرة بين صحيح وجيد عندهم، ومنه في جامع الترمذي في الطب:"هذا حديث جيد حسن"، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيحن وكذا القوي.

وأما الصالح، فيشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج بهما، ويستعمل أيضا في ضعيف ضعفا يسرا لأنه يصلح للاعتبار.

وأما المعروف فهو مقابل المنكر، والمحفوظ مقابل الشاذ.

والمجود والثابت يشملان أيضا الصحيح والحسن.

ومن ألفاظهم أيضا "المشبه" وهو يطلق على الحسن وما يقاربه. قال أبو حاتم: أخرج عمرو بن حصين الكلابي أول شيء أحاديث مشبهة حسانا، ثم أخرج بعد أحاديث موضوعة فأفسد علينا ما كتبنا" (1).

الحكم بالصحة أو الحسن على المسند:

يقع كثيرا في كلام المحدثين قولهم: "هذا حديث صحيح الإسناد" أو "حسن الإسناد"، أو "سند صحيح"، ونحو ذلك، فهذا دون

(1) تدريب الراوي: 104 - 105.

ص: 273

قولهم "حديث صحيح" أو"حديث حسن"، لما عرفنا من دقة نظر المحدثين الذي لا يغفل عن فحص المتن اكتفاء بدرس السند، فلا ملازمة عند المحدثين بين صحة السند وصحة المتن، بل قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة قادحة.

ومن هنا كان لا بد من النظر إلى هذا الحكم بحسب قائله الذي صدر منه، فغن كان حافظا معتمدا ولم يذكر له علة ولا قادحا فالظاهر صحة المتن، أو ح سنه لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر، لكن الحافظ ابن حجر يلفت النظر هنا إلى أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله "صحيح" إلى"صحيح الإسناد" إلا لأمر حاك في صدره.

ويتصل بهذا فائدة أخرى نضمها إلى ما ذكره العلماء في هذا الصدد وهي ما درج عليه الحافظ الهيثمي في كتابه العظيم "مجمع الزوائد" من قوله في الحديث: "رجاله ثقات" أو "رجاله رجال الصحيح"، فهذه العبارة ينبغي أن تكون دون قولهم:"صحيح الإسناد" لأنها تزيد على عدم ذكر السلامة من الشذوذ والعلة فقد الحكم باتصال السند، وإن كان الظاهر من تتبع كلامه أنه يميز المنقطع بالتنبيه عليه، كان يقول: رجاله رجال الصحيح غير أنه منقطع، أو مرسل.

مصادر الحديث الحسن:

لم يفرد العلماء الحديث الحسن بالتصنيف، بل جمعوا معه الصحيح، ونزلوا إلى الضعيف، وإن كانوا لا ينزلون في هذه التصانيف إلى الضعيف التالف إلا قليلا نادرا جدا.

وأهم مصادر الحديث الحسن: السنن الأربعة، والمسند للإمام أحمد، ومسد أبي يعلى الموصلي، نعرف بها فيما يلي:

ص: 274

1 -

"الجامع" للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، المولود سنة (209) هـ والمتوفى سنة (279) هـ.

وكان الترمذي من خواص تلامذة البخاري، شهد له العلماء بالعلم والحفظ والمعرفة، وبالديانة والورع، حتى إنه لغلبة الخشية عليه كف بصره آخر عمره بكاء من خشية الله تعالى.

قال الحافظ أبو سعيد الإدريسي: "أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كاد يضرب به المثل في الحفظ"(1).

وكتابه "الجامع" المشهور بـ"سنن الترمذي" أهم مصادر الحديث الحسن، عني به فيه، وأشاد به. قال ابن الصلاح:"كتاب أبي عيسى الترمذي رحمه الله أصل في معرفة الحديث الحسن وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه".

ويمتاز الكتاب بكثرة فوائده العلمية وأصنافها، وفي ذلك يقول ابن رشيد:

"إن كتاب الترمذي تضمن الحديث مصنفا على الأبواب وهو علم برأسه، والفقه وهو علم ثانن وعلل الحديث ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب وهو علم ثالث، والأسماء والكنى وهو علم رابع، والتعديل والتجريح وهو علم خامس، ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه وهو علم سادس، وتعديد من روى ذلك وهو علم سابع.

(1) شروط الأئمة الستة: 17، والتهذيب: 9: 388.

ص: 275

هذه علومه المجملة، وأما التفصيلية فمتعددة، وبالجملة فمنفعته كثيرة، وفوائده غزيرة" (1).

2 -

"السنن" للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المولود سنة " (202) هـ" والمتوفى سنة " (273) هـ".

وأبو داود من تلامذة البخاري أيضا، أفاد مه وسلك في العلم سبيله، وكان يشبه الإمام أحمد في هديه ودله وسمته.

قال محمد بن إسحاق الصاغاني وإبراهيم الحربي: "لين لأبي داود الحديث كما لين لداود الحديد".

وقال الحافظ موسى بن هارون: "خلق أبو داو في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه". وقال الحاكم أبو عبد الله: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة"(2).

وكتابه "السنن" صنفه وانتقاه من خمسمائة ألف حديث، عني فيه بأحاديث الأحكام وجمعها عناية كبيرة، ولخص طريقته فيه بقوله:(3): "وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وفيه مالا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".

وقد اختلفت الآراء في قول أبي داود "ما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح" هل يستفاد منه أن ما سكت عليه في كتابه فهو صحيح أو أنه حسن؟ . وقد اختار ابن الصلاح والنووي وغيرهما أن يحكم عليه بأنه حسن، ما لم ينص على صحته أحمد ممن يميز بين الصحيح والحسن.

(1) بتصرف يسير عن قوت المغتذي للسيوطي: 1: 215 ومقدمة تحفة الأحوذي 175 - 176.

(2)

تذكرة الحفاظ: 591 - 592. وغيرها.

(3)

في رسالته إلى أهل مكة: 6.

ص: 276

وقد تأملنا سنن أبي داود فوجدنا الأحاديث التي يسكت عليها متنوعة جدا؛ فمنها الصحيح المخرج في الصحيحين، ومنها صحيح لم يخرجاه، ومنها الحسن، ومنها أحاديث ضعيفة أيضا لكنها صالحة للاعتبار، ليست شديدة الضعف، فتبين بذلك أن مراد أبي داود من قوله "صالح" المعنى الأعم الذي يشمل الصحيح والحسن، ويشمل ما يعتبر به ويتقوى لكونه يسير الضعف. وهذا النوع يعمل به لدى كثير من العلماء، مثل أبي داود وأحمد والنسائي، وإنه عندهم أقوى من رأي الرجال (1).

3 -

"المجتبى" للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المولود سنة " (215) هـ" والمتوفى " (303) هـ".

قال الدارقطني: "أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره".

وقال الحافظ ابن يونس: "كان النسائي إماما حافظا ثبتا"(2).

وقد اشتهر النسائي بشدة تحريه في الحديث والرجال، وأن شرطه في التوثيق شديد. وضع كتابا كبيرا جدا حافلا عرف "بالسنن الكبرى" وهذا الكتاب"المجتبى" المشهور بسنن النسائي منتخب منه وقد قيل إن اسمه المجتنى" بالنون.

وكتاب "المجتبى" هذا يسير على طريقة دقيقة تجمع بين الفقه وفن الإسناد، فقد رتب الأاديث على الأبواب، ووضع لها عناوين تبلغ أحيانا منزلة بعيدة من الدقة، وجمع أسانيد الحديث الواحد في موطن واحد، وبذلك سلك أغمض مسالك المحدثين وأجلها.

(1) انظر رسالة أبي داود: 7، وعلوم الحديث: 33 - 34 وغيرهما.

(2)

تذكرة الحفاظ: 698 - 701.

ص: 277

4 -

"سنن المصطفى" لابن ماجه محمد بن يزيد القزويني الحافظ الكبير المفسر، ولد سنة " (209) هـ" وتوفي سنة " (273) ".

قال أبو يعلى الخليلي الحافظ: "ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه، محتج به، له معرفة وحفظ

".

قال ابن ماجه "عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها"(1).

وقد اعتبر هذا الكتاب رابع السنن، ومتمم الكتب الستة التي هي المراجع الأصول للسنة النبوية، وكان المتقدمون يعدونها خمسة، ليس فيها كتاب ابن ماجه، ثم جعل بعضهم الموطأ سادسها، ولما رأى بعض الحفاظ كتابه كتابا مفيدا قوي النفع في الفقه ورأى من كثرة زوائده أدرجه في الأصول وجعلوه آخرها منزلة (2)؛ وذلك لأنه تفرد بأحاديث عن رجال متهمين بالكذب، وبسرقة الأحاديث مما حكم عليه بالبطلان أو السقوط أو النكارة.

ومما تقدم نعلم أن إطلاق "الصحيح" على حد كتب السنن الأربعة هذه أو عليها مجتمعة مع الصحيحين ناشيء عن التساهل، لأن أحاديث الأربعة ليست كلها صحيحة، نعم أكثرها صحيح أو حسن، وربما كان ذلك سبب إطلاق الصحاح عليها من باب التغليب.

5 -

"المسند" للإمام المبجل أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والحديث، ولد سنة " (164) " وتوفي " (241) "

قال الشافعي: "خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه من أحمد بن حنل".

(1) تذكرة الحفاظ: 636.

(2)

الرسالة المستطرفة: 10.

ص: 278

وقال إبراهيم الحربي: "رأيت أحمد كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين". وقال أبو زرعة لعبد الله بن أحمد: "كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث".

كان الإمام أحمد غيورا على السنة، شديد التأسي بالسلف، وقد كان لموقفه العظيم من المعتزلة وقولهم بخلق القرآن أثر عيظم في سلامة اتجاه الفكر الإسلامي، وحسبنا في ذلك قول علي بن المديني:"إن الله أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة"(1).

وضع الإمام أحمد هذا الكتاب ليكون مرجعا للمسلمين وإماما، وجعله مرتبا على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث كما هي طريقة ألفا تقريبا. فيها الصحيح والحسن والضعيف، ومنها أحاديث يسيرة شديدة الضعف حتى حكم على بعضها بعض المحدثين بالوضع.

لكن الحافظ ابن حجر ألف كتابا سماه "القول المسدد في الذب عن المسند" حقق فيه نفي الوضع عن أحاديث المسند التي أشرنا إليها، وظهر من بحثه أن غالبها جياد وأنه لا يتأتى القطع بالوضع في شيء منها، بل ولا الحكم بكون واحد منها موضوعا إلا الفرد النادر مع الاحتمال القوي في دفع ذلك (2).

6 -

"المسند" لأبي يعلى الموصلي أحمد بن علي بن المثنى ولد سنة عشر ومائتين، وارتحل في طلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، وعمر وتفرد ورحل إليه الناس. توفي سنة (307) هـ". وحضر جنازته من الخلق جمع عظيم.

(1) تذكرة الحفاظ: 431 - 432.

(2)

تعجيل المنفعة: 6. وانظر التدريب: 100 - 101.

ص: 279

أثنى عليه العلماء ووصفوه بالحفظ والاتقان والدين، قال الحاكم النيسابوري:"كنت أرى أبا علي الحافظ "وهو شيخ الحاكم" معجبا بأبي يعلى وإتقانه وحفظه لحديثه حتى كان لا يخفى عليه منه إلا اليسير".

قال الحاكم: "وهو ثقة مأمون".

ومسند أبي يعلى الذي نتكلم عنه هو المسند الكبير، وله مسند آخر صغير، والمسند الكبير مرجع ضخم حافل، يقارب في درجة أحاديثه المسند للإمام أحمد، قال فيه الحافظ محمد بن الفضل التميمي:"قرأت المسانيد كمسند العدني ومسند ابن منيع وهي كالأنهار، ومسند أبي يعلى كالبحر يكون مجتمع الأنهار"(1).

هذه أهم مصادر الحديث الحسن، وهي تجمع الصحيح والضعيف إلى الحسن كما عرفت، وإذا ضمت هذه إلى مصادر الحديث الصحيح السابقة كانت المجموعة حاوية كافة الأحاديث المقبولة لا يفوتها إلا النزر اليسير، مما يؤكد على أهل العلم العناية بها واستخراج كنوزها.

تصحيح المتأخرين وتحسينهم للأحاديث:

قام أئمة الحديث منذ العصور الأولى بنقد الأحاديث، وتمييز مقبولها من مردودها، وتكلموا في عللها، وأتوا في ذلك بأبحاث دقيقة تكشف خبايا الأسانيد والمتون، كأنما كانوا يطوفون مع الرواةن وينتقلون مع المتون خلال حلقات الإسناد. فكانت أبحاثهم وأحكامهم حجة تلقاها العلماء بالقبول. واحتجوا بأحكامهم في صحتها وحسنها، وعملوا بمقتضاها.

ولما امتد الزمن وبعد العهد بالرواة خشي بعض أئمة المسلمين وهو

(1) تذكرة الحفاظ: 707 - 708. وقارن بالرسالة المستطرفة: 53 - 54.

ص: 280

الإمام أبو عمرو بن الصلاح أن لا تقع أحكام المتأخرين الموقع الصائب كالذي كان عليه أولئك الأعلام، فأبدى تشككه في صلاحية المتأخرين لهذه المهمة الجليلة، فقال في كتابه علوم الحديث:

"إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المشهورة فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته لعى ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والاتقان، فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة".

لكن العلماء لم يوافقوا ابن الصلاح على ذلك، بل أجازوا النظر في الأحاديث والحكم عليها، لمن تمكن من علماء المتأخرين وقويت معرفته. صرح بذلك النووي، وابن كثير، والعراقي وغيرهم في عصورهم والعصور التي بعدهم، وأشهر من ناقش ذلك واعتنى بنقضه الحافظ عبد الرحيم العراقي، ثم تليمذه الحافظ ابن حجر.

أما الحافظ العراقي فقد انتقد ابن الصلاح في نكته على كتابه بأن عمل هذا الحديث جرى على خلاف ما رآه ابن الصلاح وحكم به، قال:"ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهلية ذاك منهم إلا ان منهم من لا يقبل ذاك منهم، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئا فأنكر عليه تصحيحه".

وإذا كان الحافظ العراقي قد خص التصحيح بالذكر، فإن جواز الحكم بالحسن أولى، وهذه أبحاث أولئك الأعلام تتناول التحسين

ص: 281

للأحاديث التي لم يسبقوا إلى الحكم عليهان كما تتناول الصحيح. وقد حسن جماعة كثيرون كما ذكر السيوطي أحاديث صرح الحفاظ بتضعيفها، وقد حسن الحافظ المزي حديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم" مع تصريح الحفاظ بتضعيفه.

وأما الحافظ ابن حجر فرأى أن مجرد مخالفة العلماء لابن الصلاح ليست كافية من غير إقامة دليل ولا بيان تعليل، فعمد إلى مناقشة ما استدل به أبو عمرو. فنقض احتجاجه بوقوع الخلل في الأسانيد بأنه لا يدل على التعذر إلا في جزء ينفرد بروايته من وصف بذلك التساهل.

ثم قال الحافظ رحمه الله: "ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما صحيح وقبول ما ليس بصحيح. فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك المتقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان"(1).

وقد أثارت هذه المناقشات اهتمام الإمام السيوطي فكتب في المسألة بحثا خاصا سماه "التنقيح لمسألة التصحيح"(2) جنح فيه إلى التوفيق بين رأي ابن الصلاح ورأي من خالفه، وخرج مذهب ابن الصلاح تخريجا حسنا فقال (3):

"والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده، وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان:

صحيح لذاته، وصحيح لغيره، كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح

(1) تدريب الراوي: 81 - 82.

(2)

مخطوط في الظاهرية في مجموع رقم/ 5896/ عام.

(3)

ورقة 39 ب.

ص: 282

وغيره، والذي منعه ابن الصلاح إنما هو القسم الأول دون الثاني كما تعطيه عبارته.

وذلك أن يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد لم تتعدد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة لاتصاله وثقة رجاله فيريد الإنسان أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعا لأن مجرد ذلك لا يكتفي به في الحكم بالصحة، بل لا بد من فقد الشذوذ ونفي (1) العلة، والوقوف على ذلك الآن متعسر بل متعذر لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للئامة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم من تكون شيوخه التابعين أو اتباع التابعين أو الطبقة الرابعة، فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة في العلل، فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته، لاحتمال أن يكون له علة خفية لم نطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان.

وأما القسم الثاني: فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنع من كان في عصره ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته

".

وهذا تحقيق جيد من السيوطي يحقق الاحتياط للسنة، والإفادة من كنوز مصادرها العظيمة، وقد تحمل السيوطي عهدة الاستقراء الذي ذكره، وهو إمام حافظ ثقة.

(1) غير ظاهرة في المخطوطة فقرأناها هكذا.

ص: 283

غير أنه لما كان العهد قد بعد برجال الأسانيد فإنه يجب الاحتياط الشديد في هذا الأمر، ولا يظن ظان أنه من السهولة بحيث يكتفي فيه بتقليب كتب في الرجال، كما يتوهم بعض الناس، حتى قد يتجرأ على مخالفة الأئمة فيما حققوه وقرروه، بل يجب أن يوضع في الحسبان كافة احتمالات الوهن والنقد في السند والمتن، ثم لا يكون الحكم جازما، بل هو حكم على الظاهر الذي تبدى لنا، لذلك قال السيوطي في التدريب (1):"والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله: صحيح إن شاء الله".

(1): 82 وفيه بحث موسع فارجع إليه.

ص: 284