الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود
ونتكلم فيه عن هذه الأنواع فقط:
1 -
الحديث الضعيف، وتنوعه.
2 -
الحديث المضعف.
3 -
المتروك.
4 -
المطروح.
5 -
الموضوع.
وهي الأنواع الناشئة عن اختلال شروط القبول في الرواي، بالطعن فيه، أما سائر الأنواع فنستخلصها من استقراء أحوال المتن والسند في الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.
1 -
الضعيف:
أحسن ما يعرف به الحديث الضعيف هو:
ما فقد شرطا من شروط الحديث المقبول.
وشروط الحديث المقبول ستة هي:
العدالة: الضبط "ولو لم يكن تاما"، الاتصال، فقد الشذوذ، فقد العلة القادحة، العاضد عند الاحتياج إليه.
كذا عدها البقاعي والسيوطي وغيرهما (1): لكن عبروا بقولهم: "الضبط" بدون زيادة "ولو لم يكن تاما". وهذا مشكل لأنه إذا فقد تمام الضبط بأن خف ضبط الراوي، فإنه يصير عندئذ حسنا، ولا يكون ضعيفا، لذلك كان الصواب في التعبير عن هذا الشرط ما قلناه:"الضبط ولو لم يكن تاما".
والسبب في الحكم على الحديث بالضعف لفقد أحد شروط القبول أن باجتماع هذه الشروط ينهض الدليل الذي يثبت أن الحديث قد أداه رواته كما هو، فإذا اختل واحد منها فقد الدليل على ذلك.
وهنا يتضح لنا احتياط المحدثين الشديد في شروطهم لقبول الحديث، حيث جعلوا مجرد فقد الدليل كافيا لرد الحديث والحكم عليه بالضعف، مع أن فقد الدليل ليس دليلا محتما على الخطأ أو الكذب في رواية الحديث، مثل ضعف الحديث بسبب سوء حفظ الراوي وغلطه
(1) انظر التدريب: 105. وتوضيح الأفكار: 1: 248. وانظر شرح الزرقاني: 30 وحاشية الأبياري: 25.
مع صدقه وأمانته، فإنه لا يعني أنه قد أخطأ فيه حتما، بل يحتمل أن يكون قد أصاب، لكن لما طرأ هذا التخوف القوي من وقوع الخطأ فيه حكمنا عليه بالرد.
كذلك ضعف الحديث بسبب فقد الاتصال فإنه يضعف للجهالة بحال الواسطة المفقودة، فيحتمل أن يكون من الثقات وأن يكون من الضعفاء، وعلى فرض أنه ضعيف فإنه يحتمل أن يكون أخطأ فيه أو حرفه
…
فأخذ المحدثون بعين الاعتبار احتمال الاحتمال، وجعلوا ذلك قادحا في قبول الحديث، وذلك غاية ما تكون الحيطة المنهجية في النقد العلمي.
أقسام الضعيف:
يتبين من التعداد الذي أوضحناه لشروط القبول: أن هذا الاصطلاح: "ضعيف" لقب عام يشمل كل حديث مردود مهما كان سبب رده، وأنه بالتالي يتنوع أنواعا كثيرة جدا، وذلك أنا إذا جعلنا اختلال كل شرط على حدة نوعا تحصل معنا ستة أنواع، فإذا أضفنا إلى كل واحد من الستة اختلال باقي الشروط بعده كانت الأنواع كثيرة جدا، بلغت في إحصاء فضيلة أستاذنا الشيخ محمد السماحي/ 510/، مع إمكان الزيادة إذا اعتبرنا تفاصيل الشروط وفروعها (1).
لكن المحدثين لم يفردوا كل صورة بنوع خاص لما في ذلك من التطويل الذي يوعر سبيل العلم، ولا يجدي ثمرة زائدة على المقصود، إنما صنفوها بحسب الأنواع الرئيسية. حيث إنها ضوابط كافية لتمييز المقبول من المردود تندرج تحتها كافة الصور، كما أنها تبين إلى أي مستوى بلغ الضعف، هل هو هين يصلح للتقوية إن وجد العاضد، أو شديد لا يصلح، أو مكذوب مختلق جزما.
(1) انظر قسم مصطلح الحديث: 130 - 134.
ولا ريب أن هذا التمييز الدقيق لمراتب الضعيف هدف عظيم يقصد إليه فن المصطلح، وحيث تحقق التوصل إليه بهذه الأنواع الرئيسية، فإن الاستمرار في تتبع الفروع غير المتناهية فضول عقلي وبحث نظري مجرد عن الفائدة التطبيقية.
لكن المحدثين درجوا عند الاطلاق قولهم "ضعيف" على ما يضعف بسبب من الطعن في روايه، لاختلال في شروط القبول في الراوين لذلك يمكن أن يعتبر من هذه الناحية، نوعا خاصا بالأحوال الناشئة عن اختلال شرطي القبول في الراوي وهما: العدالة، وتشتمل على خمسة شروط كما عرفت من قبل، فكل شرط منها اختلاله صورة من صور الضعف. والضبط وله صور كثيرة. فأدرج المحدثون هذه الصور كلها تحت الضعيف ولم يخصوها بلقب خاص.
مراتب الضعيف وأضعف الأسانيد:
ولما أن أسباب الضعف -كما عرفت- تتفاوت قوتها في توهين الحديث فإن مراتب الحديث الضعيف تتفاوت بحسب ذلك، فمنه الضعيف أيسر الضعف حتى يكاد يحكم بحسنه، ومنه ضعيف أشد الضعف.
وقد عدد الحاكم أو هي الأسانيد: نشرح لك أمثلة منها (1):
أو هي أسانيد الشاميين: محمد بن قيس المصلوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة.
محمد بن قيس هو: محمد بن سعيد، وقيل في اسمه غير ذلك كان يضع الحديث صلب في الزندقة. وعبيد الله مختلف فيه وهو إلى الضعف.
(1) معرفة علوم الحديث: 56 - 58 إلا المثال الأخير فليتنبه.
أقرب. وعلي بن يزيد ضعفوه وتركه الدارقطني. وأما القاسم فهو ابن عبد الرحمن الشامي صدوق يرسل كثيرا، وله أفراد.
وأوهى أسانيد المصريين: أحمد بن محمد بن حجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده، عن قرة بن عبد الرحمن بن حيويل. يروى بهذا الإسناد أحاديث كثيرة عن جماعة.
أحمد بن محمد بن حجاج: قال ابن عدي: "يكتب حديثه مع ضعفه". وأبوه في حديثه نظر. وجده رشدين ضعيف، وقرة بن عبد الرحمن صدوق له مناكير.
وأوهى أسانيد ابن عباس: السدي الصغير محمد بن مروان عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس.
محمد بن مروان تركوه واتهم بالكذب. والكلبي هو محمد بن السائب تركوه وكذبه سليمان التيمي وزائدة وابن معين. وأبو صالح هو باذام ضعيف مدلس.
قال الحافظ ابن حجر: هذه سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب (1).
وينبغي أن يتنبه (2): إلى أن هذا باعتبار ضعف الرواة، وأنه كما يتفاوت ضعف الحديث بسبب ضعف الرواة يتفاوت باعتبار فقد الصفات الأخرى بحسب الصفة أو الصفات المفقودة. وقد ميز المحدثون بين مراتب الضعف الناشيء من القدح في رجاله، فهناك الضعف الذي يقبل التقوية وهذا يسمونه ضعيفا أيا كان سبب ضعفه، وهناك الضعف الشديد الذي لا ينجبر وهذا يطلقون عليه أيضا الضعيف ويؤخذ من
(1) التدريب: 60. وقد اعتمدنا في شرح الأسانيد على كتاب المغني في الضعفاء.
(2)
كما أوضحه فضيلة أستاذنا السماحي في قمس المصطلح: 135 - 136.
تعابيرهم تمييزه كقولهم ضعيف جدا. أو فيه فلان متروك أو متهم. إلا أن كثيرا من المحدثين ميزوا بعض حالات الضعيف بألقاب خاصة بها هي: "المنكر، المتروك، المطروح" ندرسها فيما يلي: واتفقوا على تمييز الضعف الأخس وهو الكذب المختلق بلقب خاص هو "الموضوع".
وهكذا تأتي الأنواع التي ندرسها في هذا الفصل شاملة لأنواع الضعف الناشيء، من الطعن في الرواة، ثم ندرس في الأبحاث الآتية باقي أركان الحديث: أحوال المتن، وأحوال السند، والأحوال المشتركة بينهما، ونطبقعليها الضابط العام للقبول والرد، فتأتي بذلك الدراسة شاملة كل جوانب الحديث على غاية من الدقة والأحكام.
ضعف الإسناد لا يقتضي ضعف المتن:
وههنا مسألة جدا تدل على دقة نظر المحدثين في تطبيق أصول النقد، حيث نبهوا على أنه لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، كما أنه لا يلزم من صحة السند صحة المتن.
فقد يضعف السند ويصح المتن لوروده من طريق آخر، كما أنه قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة.
لذلك قالوا (1): إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف فلك أن تقول: ضعيف بهذا الإسناد. وليس لك أن تقول هذا ضعيف كما يفعله بعض المتمجهدين في هذا العلم الشريف، وتعني به ضعف متن الحديث بناء على مجرد ضعف ذلك الإسناد، فقد يكون الحديث مرويا بإسناد آخر صحيح يثبت بمثله الحديث، بل يتوقف جواز الحكم بضعف الحديث على حكم إمام من أئمة الحديث الحفاظ بأنه لم يرو بإسناد يثبت به، أن الحكم المطلق عليه بأنه حديث ضعيف. أو نحو هذا مفسرا وجه القدح
(1) كما في علوم الحديث: 92 - 93 وسائر مصادر هذا العلم.
فيه، أما إذا حكم عليه بالضعف ولم يفسر سببه فإن الحكم فيه هو حكم الجرح غير المفسر الذي بيناه سابقا (1).
حكم الحديث الضعيف:
لما كان الحديث الضعيف على احتمال أن يكون راويه قد حفظه وأداه على وجهه الصحيح، فقد كان ذلك مثار اختلاف كبير بين العلماء في العمل به، دارت به مناقشات طويلة (2)، حتى وضع بعض العصريين بعض عباراتهم في غير موضعها، وتقلب بينها بحيث يعسر على القارئ معرفة وجهه فيها.
وتقدم إليها حاصل مذاهب العلماء في هذه المسألة الهامة:
المذهب الأول: أنه يعمل بالحديث الضعيف مطلقا أي في الحلال والحرام والفرض والواجب بشرط أن لا يوجد غيره. ذهب إلى ذلك بعض الأئمة الأجلة كالإمام أحمد وأبي داود وغيرهما.
وهذا محمول على ضعيف غير شديد الضعف، لأن ما كان ضعفه شديدا فهو متروك عند العلماء، وأن لا يكون ثمة ما يعارضه.
وكأن وجهة هذا المذهب أن الحديث الضعيف لما كان محتملا للإصابة ولم يعارضه شيء فإن هذا يقوي جانب الإصابة في روايته فيعمل به.
روى الحافظ ابن منده أنه سمع محمد بن سعد الباوردي يقول: "كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم
(1) في صفحة 96 - 98 من كتابنا هذا.
(2)
انظر في المسألة: الكفاية: 133 - 134. وعلوم الحديث: 93، والتدريب: 196 وتوضيح الأفكار: 2: 109 - 113 وتوجيه النظر: 289 - 293 وقواعد التحديث: 117 - 121 والأجوبة الفاضلة: 36 - 59. وغيرها.
يجمع على تركه". قال ابن منده: "وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال".
وهذا مذهب الإمام أحمد فإنه قال: "إن ضعيف الحديث أحب إليه من رأي الرجال لأنه لا يعدل إلى القياس إلا بعد عدم النص"(1).
وقد تأول جماعة من العلماء (2) هذه الروايات بأن المراد بها معنى آخر غير المعنى المتعارف لكلمة "ضعيف"، وهذا المعنى المراد هو "الحسن"، لأنه ضعف عن درجة الصحيح.
لكن هذا التأويل يشكل عندنا بما قاله أبو داود (3) ولفظه:
"وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل، وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل، وهو مثل: الحسن عن جابر، والحسن عن أبي هريرة، والحكم عن مقسم عن ابن عباس
…
".
حيث جعل أبو داود الحديث غير المتصل صالحا للعمل عند عدم الصحيح، ومعلوم أن المنقطع من أنواع الحديث الضعيف لا الحسن.
كما أنه على تأويل الضعيف بالحسن لا معنى لتخصيص هؤلاء الأئمة بالعمل به به وتقديمه على القياس، لأن هذا مذهب جماهير العلماء.
المذهب الثاني: يستحب العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال من المستحبات والمكروهات، وهو مذهب جماهير العلماء من
(1) علوم الحديث: 33 - 34. والتدريب: 97.
(2)
انظر النقول عنهم في التعليقات الحافلة على الأجوبة الفاضلة: 47 - 48.
(3)
في رسالته إلى أهل مكة: 7.
المحدثين والفقهاء وغيرهم، وحكى الاتفاق عليه بين العلماء الإمام النووي (1) والشيخ علي القاري وابن حجر الهيتمي (2).
وقد أوضح الحافظ ابن حجر شروطه خير إيضاح فقال (3):
"إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
الأول: متفق عليه، وهو أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه.
الثاني: أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا.
الثالث: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله".
وقد وجه الحافظ الهيتمي الاستدلال للعمل بالضعيف في فضائل الأعمال فقال: "قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لأنه إن كان صحيحا في نفس الأمر فقد أعطي حقه من العمل به. والألم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم ولا ضياع حق للغير"(4).
المذهب الثالث: لا يجوز العمل بالحديث الضعيف مطلقا، لا في
(1) انظر الأذكار للنووي: 7 و 217 ونقل العلامة الجليل المحدث السيد علوي المالكي المكي رحمه الله عن النووي إجماع العلماء على ذلك، في كتابه المنهل اللطيف في أحكام الحديث الضعيف:13.
(2)
أنظر الأجوبة الفاضلة: 37 و 42.
(3)
كما نقل عنه السخاوي في خاتمة القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: 258. وانظر الأجوبة الفاضلة: 43 وانظر بعض المناقشات الهامة حول الشروط في المنهل اللطيف: 8 و 9 - 10.
(4)
الأجوبة الفاضلة: 42.
فضائل الأعمال ولا في الحلال والحرام، نسب ذلك إلى القاضي أبي بكر بن العربي، وقال به الشهاب الخفاجي والجلال الدواني، ومال إليه بعض العصريين من الكاتبين مستدلا بأنها كالفرض والحرام لأن الكل شرع، وأن في الأحاديث الصحاح والحسان مندوحة عن الأحاديث الضعيفة.
هذا والمسألة ذات إشكالات كثيرة ومناقشات نرجو أن نوفق لبسطها في مقام آخر إن شاء الله، إلا أنه يبدو أن أوسط هذه المذاهب هو أعدلها وأقواها، وذلك أننا إذا تأملنا الشروط التي وضعها العلماء للعمل بالحديث الضعيف، فإننا نلاحظ أن الضعيف الذي نبحث فيه لم يحكم بكذبه، لكن لم يترجح فيه جانب الإصابة، إنما بقي محتملا، وهذا الاحتمال قد تقوى بعدم وجود معارض له وبانضوائه ضمن أصل شرعي معمول به، مما يجعل العمل به مستحبا ومقبولا، رعاية لذلك.
أما زعم المعارضين أن العمل بالضعيف في الفضائل اختراع عبادة وتشريع في الدين لما لم يأذن به الله تعالى. فقد أجاب عنه العلماء بأن هذا الاستحباب معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين، والعمل بالحديث الضعيف من هذا القبيل، فليس ثمة إثبات شيء من الشرع بالحديث الضعيف.
وفي رأيي أن الناظر في شروط العمل بالحديث الضعيف يجد فيها ما ينفي الزعم بأنه إثبات شرع جديد، وذلك أنهم اشترطوا أن يكون مضمونه مندرجا تحت أصل شرعي عام من أصول الشريعة الثابتة، فأصل الشريعة ثابت بالأصل الشرعي العام، وجاء هذا الخبر الضعيف موافقا له.
مثال ذلك:
ما أخرجه ابن ماجه في سننه (1) حدثنا أبو أحمد المرار بن حمويه ثنا محمد بن المصفى ثنا بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلتي العيدين يحتسب لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب". فهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أن ثور بن يزيد قد رمي بالقدر لكنه هنا يروي ما لا صلة له ببدعته، فلا يخل بالاحتجاج به، ومحمد بن مصفى صدوق كثير الحديث حتى وصفه ابن حجر بأنه حافظ، وقال الذهبي: ثقة مشهور. لكن وقعت له في رواياته المناكير. وفي سند الحديث: بقية بن الوليد وهو من الأئمة الحفاظ صدوق، لكنه كثير التدليس عن الضعفاء روى له مسلم متابعة فقط. وهو هنا لم يصرح بما يثبت سماعه للحديث فيكون الحديث ضعيفا (2).
وقد ذهب العلماء إلى أنه يستحب إحياء ليلتي العيدين بذكر الله تعالى وغيره من الطاعات لهذا الحديث الضعيف لأنه يعمل به في فضائل الاعمال كما قرر النووي (3).
ونحن نعلم أن قيام الليل والتعبد فيه ورد الحض عليه في القرآن والسنة المتواترة، والتقرب إلى الله تعالى بالذكر والدعاء ونحوهما مرغب فيه كل الأوقات والأحوال، وكل ذلك يشمل بعمومه ليلتي العيدين اللتين لهما من الفضل ما لهما.
وهذا يوضح تماما أن الحديث لم يشرع شيئا جديدا، إنما جاء
(1) آخر الصيام برقم 1782.
(2)
انظر مزيدا من التفصيل في كتابنا الصلوات الخاصة: 102 - 103.
(3)
في الأذكار: 207. وانظر ص 7 منه.
بجزئية موافقة لأصول الشريعة ونصوصها العامة، مما لا يدع أي مجال للتردد في استحباب العمل به والأخذ بمقتضاه.
رواية الحديث الضعيف:
أما مجرد رواية الحديث الضعيف في غير العقائد وأحكام الحلال والحرام، كأن يروي في الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ ونحو ذلك فقد أجاز العلماء المحدثون رواية ما سوى الموضوع وما يشابهه من غير اهتمام ببيان ضعفه، والآثار عنهم في ذلك كثيرة مستفيضة ذكر الخطيب البغدادي جملة منها في كفايته (1).
منها قول الإمام أحمد: "إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال أو مالا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد".
لكن علماء الحديث يراعون الدقة في رواية الحديث الضعيف، لذلك لا يسوغون روايته بصيغة جازمة في نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لك أن تقول في روايتك لحديث ضعيف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا
…
، أو فعل، أو أمر، وما أشبه ذلك من الألفاظ الجازمة بصدوره عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما تقول فيه:
"روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يروى، أو ورد، أو يحكى، أو ينقل
…
" وهكذا تقول أيضا فيما تشك في صحته وضعفه".
(1) 133 - 134.
إنما تقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيما ظهر صحته أو حسنه.
لكن المتقدمين كانوا يتساهلون في ذلك، وربما عبروا عن الصحيح بقولهم:"روي"، اعتمادا على اشتهار الأحاديث والأسانيد في عصرهم، كما ستقف عليه في بحث المعلق (1) إن شاء الله تعالى.
مصادر الحديث الضعيف:
لما كان الحديث الضعيف ذا أثر خطير في الدين فقد عني أئمة الحديث بالتأليف في التنبيه عليه وبيان أسباب ضعفه، ليظهر ما يصلح للتقوية أو يؤخذ به في الفضائل ومالا يصلح لشيء من ذلك.
ونسوق إليك أهم هذه المصادر:
1 -
الكتب التي صنفها العلماء في الضعفاء من الرواة (2)، فإنهم يوردون لمناسبة الكلام على الراوي أحاديث من مروياته تنبيها على ضعفها، أو استدلالا بها على ضعفه، فهي ألصق بما غلب عليه إطلاق الضعيف، وهو الذي ضعف لجرح روايه.
2 -
مصادر نص العلماء على أن تفردها بحديث أمارة على ضعفه. قال السيوطي في ديباجة كتابه الجامع الكبير (3).
"
…
كل ما عزي لهؤلاء الأربعة -يعني العقيلي في الضعفاء، وابن عدي في الكامل في الضعفاء، والخطيب البغدادي، وابن عساكر- أو عزي للحكيم الترمذي في نوادر الأصول، أو للحاكم في تاريخه، أو للديلمي في مسند الفردوس فهو ضعيف، فيستغنى
(1) الآتي برقم 64 ص 374 - 378.
(2)
سردنا منها جملة هامة فيها سبق: 130 - 132.
(3)
كنز العمال: 1: 8 طبع الهند بتصرف يسير وزيادة ما بين-
بالعزو إليها أو إلى بعضها عن بيان ضعفه" انتهى كلامه.
ونحوها "حلية الأولياء" لأبي نعيم.
وهذه المصادر لا يختص فيها الضعف باختلال شروط الرواة، بل يوجد فيها ما يضعف لقادح آخر في السند أو المتن.
3 -
المصادر التي ألفها العلماء في أنواع من الحديث الضعيف ضعفت لغير جرح الرجال، مثل الكتب المصنفة في المراسيل، والمدرج، والمصحف، والعلل، وغير ذلك مما سنذكره لدى استقصاء أحوال السند والمتن وبيان حكم كل إن شاء الله تعالى.
2 -
المضعف:
وهو الذي لم يجمع على ضعفه، بل ضعفه بعضهم وقواه آخرون: إما في المتن أو في السند.
أفرد هذا النوع ابن الجوزي، واستدرك عليه السخاوي بأنه يشترط فيه أن يترجح التضعيف أو يتساويا ولا يترجح شيء منهما.
وهو شرط لا بد منه، فكم من الأحاديث الصحيحة ما وقع في سنده راو ضعفه بعض العلماء، لكن لم يعد بجرحه.
وهذا النوع أعلى مرتبة من الضعيف المجمع عليه (1).
لكن هذا اطلاقه غير مسلم في رأينا، لأنه قد يترجح
(1) انظر فتح المغيث للسخاوي: 39، وتوجيه النظر:239.
التضعيف: ويكون أشد جرحا مما أجمع على ضعفه، كما إذا فسر بجارح مفسق، وصح ثبوت ذلك عنه ثبوتا مؤكدا، فإنه أشد مما أجمع على ضعفه لسوء حفظ راويه.
ولهذا فإن الأولى ما درج عليه جمهور المحدثين من عدم إفراد هذا النوع.
3 -
المتروك:
هذا النوع ذكره شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر وعرفه بأنه (1):
هو الحديث الذي يرويه من يتهم بالكذب ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته ويكون مخالفا للقواعد المعلومة، وكذا من عرف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي.
وهذا النوع يسمى متروكا ولم يسم موضوعا، لأن مجرد الاتهما بالكذب لا يسوغ الحكم بالوضع (2). وقد يطلق عليه بعض المحدثين المنكر، كما سيأتي تفصيله (3).
مثاله حديث عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الحارث عن علي. وهو مما قيل فيه أو هي الأسانيد.
(1) في شرح النخبة: 30 بتصرف يسير جدا.
(2)
قسم المصطلح: 203، وفيه تفصيل هام لشرح هذا النوع.
(3)
في بحث المنكر رقم 79 ص 430 - 432.
وحديث الجارود بن يزيد النيسابوري قال الذهبي: ومن بلاياه عن بهز عن أبيه عن جده أنه قال: "إذا قال لامرأته أنت طالق إلى سنة إن شاء الله فلا حنث عليه".
الجارود كذبه أبو أسامة، وضعفه علي، وقال ابود داود: غير ثقة، وقال النسائي والدراقطني: متروك (1).
4 -
المطروح:
هذا النوع أفرده الحافظ الذهبي وعرفه بأنه:
ما نزل عن الضعيف وارتفع عن الموضوع.
ومثل له الذهبي بحديث جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس (2).
وهي سلسلة يروى بها أحاديث كثيرة منها: عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا قال: "تجب الصلاة على الغلام إذا عقل والصوم إذا أطاق"(3).
جويبر: قال ابن معين ليس بشيء، وقال الجوزجاني: لا يشتغل به. وقال النسائي والدراقطني وغيرهما: متروك.
(1) ميزان الاعتدال: 1: 384.
(2)
توجيه النظر: 253.
(3)
الميزان، 1: 427؟
وقد أدى نظر بعض العلماء إلى أن هذا القسم هو الحديث المتروك السابق فيكون هذا القسم مما له اسمان.
ولعلك ترى تقارب ما بين النوعين، خلا أن السابق أدنى إلى الموضوع من هذا.
5 -
الحديث الموضوع:
الحديث الموضوع: هو المختلق المصنوع.
أي الذي ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا، وليس له صلة حقيقية بالنبي صلى الله عليه وسلم. وليس هو بحديث، لكنهم سموه حديثا بالنظر إلى زعم راويه.
وكثيرا ما يكون اللفظ المزعوم من كلام الحكماء أو الأمثال، أو من آثار الصحابة ينسبه الواضع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يكون من نسج خياله وإنشائه.
والحديث الموضوع هو شر الأحاديث الضعيفة، وأشدها خطرا، وضررا على الدين وأهله.
وقد أجمع العلماء على أنه لا تحل روايته لأحد علم حاله في أي معنى كان إلا مقرونا ببيان وضعه، والتحذير منه، وذلك لما اشتهر من الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث يرى
أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (1).
أسباب الوضع وأصناف الواضعين:
وقد عني العلماء بدراسة أسباب الوضع وتصنيف الواضعين بحسب الأسباب التي دعتهم إلى الوضع، لما في ذلك من إلقاء الضوء لكشف الأحاديث الموضوعة.
ونقدم هنا عرضا مستخلصا مما بحثوه:
1 -
أول أسباب الوضع ظهورا هو الخلاف الذي دب بين المسلمين بسبب الفتنة وما أعقبها من تصدع الجماعة الإسلامية إلى فرق مختلفة، حيث راح أصحاب كل فرقة يضعون الأحاديث انتصارا لمن يزعمون أنه أحق بالخلافة، ولما يبتغونه من المآرب، ومما يزيدنا أسفا أن ينجرف بعض المنتسبين إلى السنة فيعارض المنحرفين بأحاديث يختلقها أيضا لتقوية السنة والجماعة
…
وهكذا كثرت الأحاديث الموضوعة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس ومعاوية وغيرهم، مثل: حديث: "أبو بكر يلي أمتي بعدي". وحديث: "علي خير البشر من شك فيه كفر".
وحديث: "الأمناء ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية".
وغير ذلك مما وضع لتأييد فريق ضد فريق آخر في المسائل الخلافية التي وقعت بين الفرق والمذاهب، مثل حديث:"القرآن غير مخلوق". وحديث: "لا تقوم الساعة حتى يقولوا بآرائهم"(2).
(1) سبق تخريجه في ص 34. وانظر التدريب: 178. واعتمدنا في بحث الحديث الموضوع على مقدمة ابن الجوزي لكتابه الموضوعات، وخاتمة اللآلئ المصنوعة للسيوطي، وديباجة الحافظ ابن عراق لكتابه "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة".
(2)
انظر الكلام على هذه الأحاديث في كتاب "المغني في الضعفاء" للذهبي وقد أثبتنا أرقامها في فهرسته.
2 -
العداء للإسلام وقصد تشويهه:
وهو ما عمد إليه الزنادقة خصوصا من أبناء الأمم المغلوبة، فقد كانوا يعتزون بدولهم القوية، ويحقرون العرب، فلما زالت دولتهم ودالت على أيدي العرب عز ذلك عليهم، وراحوا يسعون لإفساد أمر المسلمين بالدس حيث عجزوا أن ينالوا منهم بالقوة أو بالحجة والبرهان. ووجدوا القرآن الكريم محفوظا متواترا فعمدوا إلى الحديث يدسون فيه ويختلقون، لإفساد الدين على أهله وإفساد عقولهم وتفكيرهم، وللصد عن دين الله وتهجينه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة (1).
قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث.
وقال ابن عدي في عبد الكريم بن أبي العوجاء: -لما أخذ وأتي به محمد بن سليمان بن علي فأمر بضرب عنقه- قال: "والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام".
ومن أمثلة ذلك حديث: رأيت ربي يوم عرفة بعرفات على جمل أحمر عليه إزاران .... ". رواه أبو علي الأهوازي أحد الكذابين في كتابه في الصفات، قبح الله واضعه.
وحديث: "إن الله إذا غضب انتفخ على العرش حتى يثقل على حملته". أخرجه ابن حبان واتهم به راويه أيوب بن عبد السلام، وهو كذاب. والحديث من أبشع الكذب والاختلاق.
ومثل محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، روى عن
(1) تأويل مختلف الحديث: 279، وانظر ما سبق ص 34 - 35.
حميد بن أنس مرفوعا: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله" زاد في الحديث "إلا أن يشاء الله" لدعم ما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والتنبؤ.
3 -
الترغيب والترهيب لحث الناس على الخير:
صنع ذلك قوم من الجهلة ينسبون إلى الزهد والتعبد، حملهم التدين المتلبس بالجهل على وضع أحاديث في الترغيب والترهيب ليحثوا الناس على الخير ويزجروهم عن الشر بزعمهم الفاسد.
أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (1) عن يحيى بن سعيد القطان قال: "لم تر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث". قال مسلم" "يقول: يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب. وروى ابن عدي بإسناده عن أبي عاصم النبيل قال: "ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث"(2).
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي (3): "المتشتغلون بالتعبد الذين يترك حديثهم على قسمين: منهم من شلغته العبادة عن الحفظ فكثر الوهم في حديثه فرفع الموقوف ووصل المرسل.
وهؤلاء مثل أبا بن أبي عياش ويزيد الرقاشي، وقد كان شعبة يقول في كل منهما: لأن زاني أحب إلي من أن أحدث عنه.
ومثل:
…
عبد الله بن محرر -قال ابن المبارك "لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله بن محرر لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة، فلما رأيته كانت بعرة أحب إلي منه"(4) -.
(1): 13
(2)
شرح علل جامع الترمذي: 93.
(3)
: 96.
(4)
مقدمة مسلم: 21: وهذا زدناه على كلام الحافظ ابن رجب.
ومنهم: من كان يتعمد الوضع ويتعبد بذلك! ! كما ذكر عن محمد بن أحمد بن غالب غلام الخليل وعن زكريا بن يحيى الوقار المصري".اهـ.
وغلام الخليل الذي ذكره الحافظ ابن رجب كان يتزهد ويهجر شهوات الدنيا ويتقوت الباقلاء صرفا! ! ، قيل له: هذه الأحاديث التي تحدث بها من الرقائق؟ فقال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة. قال أبو داود: أخشى أن يكون دجال بغداد (1).
وأما زكريا بن يحيى الوقار فقد كان فقيها صاحب حلقة، فقيل: كان من العلماء العباد الفقهاء، نزح عن مصر أيام محنة القرآن إلى طرابلس الغرب، قال ابن عدي:"يضع الحديث"، وقال صالح جزرة الحافظ:"حدثنا زكريا الوقار وكان من الكذابين الكبار! ! (2) ".
وهذا الصنف من الواضعين أشد الأصناف خطرا وأعظمهم ضررا، حيث يقع حديثهم من العامة موقع القبول والتسليم، لا يظنون بهم الكذب ولا يتوقعون، وقد سبق فيهم المثل:"عدو عاقل خير من صديق جاهل". وكم ترى من أعاجيب هذه الفئة التي تفصل التعبد وتزكية النفس عن العلم، حتى أصبحوا حجة على الدين، مفسدة لعقول المسلمين.
4 -
التوصل إلى الأغراض الدنيوية: كالتقرب من الأمراء، أو تجميع الناس حول الراوي كما كان يفعل القصاص والشحاذون أيضا حتى عظم البلاء من مثل هذه الفئات. ومن أمثلة ذلك:
قصة غياث بن إبراهيم حين دخل على المهدي وكان المهدي يحب
(1) الميزان: 1: 141 - 142.
(2)
الميزان: 2: 77.
الحمام ويلعب به، فإذا قدامه حمام فقيل لغياث حدث أمير المؤمنين فقال: حدثنا فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح"، فأدخل فيه قوله:"أو جناح". فأمر له المهدي ببدرة، فلما قام قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال المهدي: أنا حملته على ذلك. ثم أمر بذبح الحمام، ورفض ما كان فيه.
ومثل القصص الإسرائيلية الغريبة، كقصة عوج بن عنق، وابتلاء أيوب، ونحوهما مما هو ظاهر الوضع لائح الاختلاق.
والقصاص أولع الناس بالإغراب، يستميلون به وجوه العوام إليهم، ويستدرون أموالهم بالمناكير والأكاذيب من الأحاديث.
قال ابن قتيبة (1): "ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثا عجيبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون. فإذا ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران. وعجيزتها ميل في ميل، ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء فيه سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعو ألف قبة
…
فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفا كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها. وكلما كان من هذا أكثر كان العجب أكثرن والقعود عند أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع! ! ".
5 -
أن يقع الوضع في حديث الراوي من غير تعمد وقصد لذلك، كأن يغلط فيرفع إلى النبي صلى الله وسلم كلام بعض الصحابة أو غيرهم، وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه، كما وقع
(1) في تأويل مختلف الحديث: 279 - 280 باختصار يسير.
لسفيان بن وكيع مع وراقة قرطمة، وكمن تدخل عليه آفة في حفظه أو في بصره أو في كتابه فيروي ما ليس من حديثه غالطا.
وهذا الصنف من الوضع أشد الأصناف خفاء لأنهم لم يتعمدوا وهم أهل صدق، فاستخراج ذلك دقيق جدا إلا من الأئمة النقاد، وأما باقي الأصناف فالأمر فيهم أسله، لأن كون تلك الأحاديث كذبا لا يخفى إلا على الأغبياء.
محاربة الوضع وأهم وسائلها:
انبرى العلماء لمحاربة الوضع ودرء مفاسد الوضاعين، واتبعوا من أجل ذلك وسائل علمية دقيقة نلخصها لك فيما يلي:
1 -
البحث في أحوال الرجال وتتبع سلوكهم ورواياتهم، حتى فارقوا من أجل ذلك الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن، ومعرفة الرواة، وقد ميزوا بذلك بين الثقات الأثبات، وبين أهل الصدق الذين وقع لهم تخليط، وأهل الكذب والفسوق، وذلك بتطبيق المعايير التي تثبت العدالة والضبط. مما سبق شرحه.
2 -
التحذير من الكذابين وفضحهم، والإعلان بكذبهم على رؤوس الخلائق. قال يحيى بن سعيد: سألت شعبة وسفيان الثوري ومالك ابن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أولا يحفظه؟ قالوا: بين أمره للناس (1).
وقال سفيان بن عيينة: كنا نتقي حديث داود بن الحصين.
وقال أيضا: لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره (2). وذلك لأنه كان يدلس.
(1) الكفاية: 43.
(2)
مقدمة الجرح والتعديل: 40 - 41.
وقال حماد بن زيد: كلمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد وجرير بن حازم في رجل، قلنا: لو كففت عن ذكره، فكأنه لأن وأجابنا، ثم مضيت يوما أريد الجمعة فإذا شعبة يناديني من خلفي، فقال: ذاك الذي قلت لكم فيه لا أراه يسعني" (1).
فهذا عبد الرحمن بن إسحاق شيخ عابد لكنه نحى إلى بدعة القدرية أي المعتزلة. قال سفيان بن عيينة: "كان قدريا فنفاه أهل المدينة، فجاءنا ههنا -يعني إلى مكة- فلم نجالسه"(2).
وكان جعفر بن الزبير وعمران بن حدير في مسجد واحد مصلاهما، وكان الزحام على جعفر بن الزبير وليس عند عمران أحد، وكان شعبة يمر بمهما فيقول: يا عجبا للناس اجتمعوا على أكذب الناس وتركوا أصدق الناس، فما أتى عليه قليل حتى رأيت ذلك الزحام على عمران، وتركوا جعفر وليس عنده أحد.
وهكذا كان أئمة الحديث لهم القدم الراسخ في المجتمع، والكلمة النافذة، قال الإمام الذهبي (3):"فشهادة الفرد منهم ترد الكثير من الأخبار، وتوثيق الحجة منهم موجبة للاحتجاج بما ثبتوه من أحاديث سيد الأبرار، إن هذا لهو الفخار، وإن في ذلك لعبرة الأولى الأبصار (4) ".
(1) الكفاية: 44.
(2)
تقدمة الجرح والتعديل: 47.
(3)
في ديباجة كتابه المغني في الضعفاء.
(4)
ومن هنا فإنا لا نرتضي ما ذكره الكاتبون في هذا البحث عن القاص الذي قام في مسجد الرصافة فقال: حدثني أحمد بن حنبل ويحي بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة منها طيرا=
3 -
البحث عن الأسانيد: فلا يقبل حديث لا يوجد له إسناد، بل يعتبر باطلا وما روي بسنده يبحث فيه سندا ومتنا على ضوء شروط القبول، وقواعد هذا العلم.
4 -
اختبار الحديث بعرضه على الروايات الأخرى والأحاديث الثابتة، فيتبين بذلك ما وقع فيه من وهم أو علة وقعت من أهل الصدق.
5 -
وضع ضوابط يكشف بها الحديث الموضوع.
6 -
التصنيف في الأحاديث الموضوعة، للتنبيه عليها، والتحذير منها.
ونذكر لك فيما يلي تفصيلا لهذين العنصرين:
علامات الحديث الموضوع:
وهي علامات استخلصها المحدثون من أبحاثهم وتنقيبهم عن
= منقاره من ذهب وريشه من مرجان. . . وأخذ في قصة طويلة نحوا من عشرين ورقة وحين فرغ وجمع قطيعات النقد قال يحي بن معين له: من حدثك بهذا الحديث؟ قال أحمد بن حنبل ويحي بن معين، فقال:"أنا يحي بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! ".
فقال: "لم أزل أسمع أن يحي بن معين أحمق ما تحققته إلا الساعة، كأن ليس في الدنيا يحي بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحي بن معين.
فوضع أحمد كمه على وجهه وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما". فهذه القصة تنافي ما كان عليه الناس آنذاك حيث كانت ألوية السنة مرفوعة، وكلمة العلماء مسموعة، وقد سبق الذهبي ثم ابن عراق إلى التنبيه على خللها وسقوطها، قال الذهبي في الميزان: إبراهيم بن عبد الواحد البكري لا أدري من ذا، أتى بحكاية منكرة! أخاف أن تكون من وضعه، وذكر الحكاية المذكورة. وانظر تنزيه الشريعة: 1: 14. وقارنه بالميزان وفيه""أخاف ألا تكون من وضعه"؟ ! .
الأحاديث الموضوعة واحدا واحدا، تيسر معرفة الحديث الموضوع وتكفي مؤونة التطويل، وقد شملت هذه الضوابط النظر في حال الراوي، وفي حال المروي، كما نفصله فيما يلي:
علامات الوضع في الراوي:
1 -
إقراره بوضع الحديث. نحو أبي عصمة نوح بن أبي مريم، وميسرة بن عبد ربه.
قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة". وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، لما جمع من خصال وعلم لم ينتفع به، قال ابن حبان: "جمع كل شيء إلا الصدق! ".
وقال عبد الرحمن بن مهدي قلت لميسرة بن عبد ربه.
"من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا
…
" قال: "وضعتها أرغب الناس فيها! ! ".
وكذلك حديث أبي الطويل في فضائل القرآن سورة سورة، بحث عنه باحث حتى اعترف له رواية أنه وضعه، وكل من أودع هذه الأحاديث الموضوعة في تفسيره فهو مخطئ، كالواحدي، والثعلبي، والزمخشري والبيضاوي، يذكرون في آخر تفسير كل سورة قسما من هذه الأحاديث في فضلها.
وقد صح جملة من الأحاديث في فضائل سورة من القرآن خاصة وهي: الفاتحة، البقرة، آل عمران، السبع الطوال جملة، الكهف.
يس، الدخان، تبارك، الزلزلة، النصر، الكافرون، الإخلاص، المعوذتان (1).
2 -
أن يكذبه التاريخ: مثل ما وقع للمأمون بن أحمد أنه ذكر بحضرته الخلاف في كون الحسن سمع من أبي هريرة أو لم يسمع منه، فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"سمع الحسن من أبي هريرة"(2). ولذلك أمثلة كثيرة (3).
3 -
أن تحف بالراوي قرائن تدل على كذبه:
مثل الذي وقع لغياث بن إبراهيم في القصة التي أوردناها.
وأسند الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي، فقال: مالك؟ قال: ضربني المعلم، قال: لأخزينهم اليوم، حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعا:"معلموا صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين".
وقيل لمأمون بن أحمد الهروي: ألا ترى إلى الشافعي ومن تبعه بخراسان؟ فقال حدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا عبيد الله بن معدان الأزدي عن أنس مرفوعا: "يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي هو سراج أمتي"(4).
قال السيوطي (5): "ومن القرائن كون الراوي رافضيا والحديث في فضائل أهل البيت".
(1) التدريب: 190، وانظر تفصيلها في كتاب الاتقان: 2: 153 - 155.
(2)
شرح النخبة: 31. وقارن به تنزيه الشريعة: 1: 6.
(3)
أوردنا منها في بحث التاريخ: 143 - 144.
(4)
انظر المدخل إلى كتاب الإكليل ق 291 آوغيره.
(5)
في التدريب: 180.
علامات الوضع في المروي:
1 -
الركة في اللفظ أو المعنى كما قال ابن الصلاح وغيره.
واعترض الحافظ ابن حجر فقال: "المدار في الركة على ركة المعنى لأن هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداء
…
أما ركة اللفظ فقط فلا تدل على ذلك، لاحتمال أن يكون الراوي رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح".
إلا أنا نرى في الاعتراض شيئا يدعو للبحث، فإن المحدثين اشترطوا للرواية بالمعنى أن يكون راوي المعنى عالما باللغة عالما بما يحيل معاني الألفاظ، ومن زعم أنه رواه بالمعنى فأتى به ركيك التركيب متهافت التناسب فإنه لا شك قد أخل بالمعنى ويجب أن يرد، كما أننا لا نعلم حديثا مقبولا قد جاء مسف الألفاظ مخل التراكيب.
قال الإمام البقاعي: "ومما يرجع إلى ركة المعنى الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير، أو بالوعد العظيم على الفعل اليسير، وهذا كثير في حديث القصاص".
قال ابن الجوزيك "وإني لأستحي مع وضع أقوام وضعوا: من صلى كذا فله سبعون دارا، في كل دار سبعون ألف بيت، في كل بيت سبعون ألف سريرن على كل سرير سبعون ألف جارية. وإن كانت القدرة لا تعجز، ولكن هذا تخليط قبيح.
وكذلك يقولون: "من صام يوما كان كأجر ألف حاج وألف معتمر وكان له ثواب أيوب. "وهذا يفسد مقادير موازين الاعمال". انتهى.
ومما يتصل بهذا الأصل ويرد لركة المعنى: أحاديث فضل الباذنجانن والأرز، والعدس، وغير ذلك، فإنها تنبو عما عرف من
مضمون الأحاديث الصحيحة، ومهمة الهداية التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما حكم أئمة الحديث بالوضع لهذا السبب لأنه حصلت لهم من مزاولة ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم هيئة نفسانية وملكة قوية يعرفون بها ما يجوز أن يكون من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز، كما سئل بعضهم كيف تعرف أن الشيخ كذاب؟ قال: إذا روى "لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها" علمت أنه كذاب.
قال الربيع بن خثيم (1): "إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها".
وقال ابن الجوزي: "الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب".
قال البلقيني: "وشاهد هذا أن إنسانا لو خدم إنسانا سنتين وعرف ما يحب وما يكره، فادعى إنسان أنه كان يكره شيئا يعلم ذلك أنه كان يحبه فبمجرد سماعه يبادر إلى تكذيبه"(2).
2 -
أن ينقب عن الحديث ثم لا يوجد عند أهله من صدور الرواة وبطون الكتب، بعد أن تم استقراء الأحاديث وتدوينها (3).
قال الحافظ العلائي: "وهذا إنما يقوم به الحافظ الكبير الذي قد أحط حفظه بجميع الحديث أو معظمه كالإمام أحمد، وعلي بن المديني ويحيى بن معين، ومن بعدهم: كالبخاري، وأبي حاتم، وأبي زرعة،
(1) أسنده عنه الحاكم في المعرفة: 62.
(2)
التدريب: 179.
(3)
انظر ما سبق في النوع /1/ ص 88 لزاما.
ومن دونهم: كالنسائي ثم الدارقطني
…
، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع، هذا مما يأباه تصرفهم".
قال الحافظ ابن عراق: "فاستفدنا من هذا أن الحفاظ الذين ذكرهم وأضرابهم إذا قال أحدهم في حديث لا أعرفه أو لا أصل له كفى ذلك في الحكم عيه بالوضع والله أعلم"(1).
ومما ذكروه من ذلك حديث "إن الله أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل منافق، وعلى كل منافق أن يبغض كل مؤمن" قال الإمام القاري: لم يوجد. وحديث: "إن الله لا يقبل دعاءا ملحونا" قال القاري: "لا يعرف له أصل"(2).
3 -
أن يكون الحديث مخالفا للقضايا المقررة، كأن يكون مخالفا للعقل ولا يقبل التأويل، أو اشتمل على أمر يدفعه الحسن والمشاهدة، أو الواقع التاريخي.
ومن أمثلة هذا الصنف: حديث "خلق الورد من عرقي" قال الذهبي في المغني (3): باطل.
وحديث: "تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر" وهذا باطل (4). وبطلانه ظاهر جدا فكم من فقير تختم ولم يستغن وكم من غني لم يدفع الفقر عنه عقيق ولا مانع عياذا بالله تعالى.
وكحديث: "إذا عطس الرجل عند الحديث فهو دليل صدقه".
(1) انظر تنزيه الشريعة: 1: 7 - 8. والتدريب: 180.
(2)
المصنوع: 35.
(3)
رقم 5883.
(4)
المغني/ 1504/ وانظر المغني عن الحفظ والكتاب لعمر بن بدر الموصلي: 42.
قال ابن القيم (1): "هذا وإن صحح بعض الناس سنده، فالحس يشهد بوضعه، لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله! ولو عطس مئة ألف رجل عند حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بصحته بالعطاس".
وكحديث: المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش".
ومما يندرج في هذه العلامة للوضع: أن يكون الحديث خبرا عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله منهم إلا واحد.
مثل الأحاديث التي تروى في تعيين اسم الخليفة مصرحة بكونه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث:"أبو بكر يلي أمتي من بعدي"(2). وحديث: "علي وصبي"(3). ونحوها فإنها باطلة، لأن أحدا من الصحابة أولهم وآخرهم لم يستدل على شيء من ذلك بحديث يصرح بالاسم، إنما فهموا اختيار الخليفة من إشارات النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليه.
4 -
أن يكون الحديث مناقضا دلالة القرآن القطعية أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي مع عدم إمكان الجمع والتوفيق في ذلك كله.
قال الإمام السبكي في جمع الجوامع (4): "كل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل فمكذوب أو نقص منه ما يزيل الوهم".
(1) في المنار المنيف: 51.
(2)
المغني: 5738.
(3)
المغني: 5070.
(4)
: 2: 71. وانظر التدريب: 180.
مثل حديث مقدار مدة الدنيا "وأنها سبعة آلاف، ونحن في الألف السابعة".
وهذا من أبين الكذب كما قال العلماء، لأنه يجعل كل أحد عالما بتوقيت القيامة. وقد قال تعالى:{إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} . وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . وها قد مضى على البعثة أكثر من ألف عام ولم تقم الساعة؟ !
ومثل حديث: "ثلاثة لا يلامون على سوء الخلق: المريض، والصائم حتى يفطر، والإمام العادل"(1). فهذا يناقض الأحاديث الكثيرة الواردة في الحض على الصبر وحسن الخلق، ولا سيما للصائم.
قال ابن الجوزي: "ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع".
ولا بد في هذين الصنفين من علامات الوضع من التنبه إلى شرط هام، وهو عدم إمكان التوفيق والجمع بين الحديث المدروس وبين ما عارضه إذا لم يكن راويه ضعيفا.
قال أستاذنا المحقق الشيخ محمد السماحي أمتع الله به (2).
"وهنا مسألة هامة جدا، وهي أن كثيرا من الباحثين اليوم يعمدون إلى أحاديث صحيحة في الصحيحين أو أحدهما -قال نور الدين أو صحيحة عند غيرهما من الأئمة المعتمدين- ثم يعارضونها بالمعقول تارة وبالمنقول أخرى، ويدعون عليها الوضع بحجة أنهم تحاكموا إلى القواعد فحكمت لهم بما يقولون". "والاعتدال في ذلك أن ننظر الحديث الذي
(1) تنزيه الشريعة الفصل الثاني من الصوم: 2: 166. والأولى أن يكون في الأول.
(2)
في قسم المصطلح: 189.
هو محل الإشكال فإن أمكن فهمه على وجه يتفق مع القواعد ولا يتعارض معها فهو المطلوب، ولا داعي إلى تجريح الرجال
…
" انتهى.
والواقع أن ما ثبت صحته عند أئمة الحديث لا يرد عليه ما تكلف له هؤلاء من الطعون، وقد سبق العلماء من قبل إلى بحث مثل هذا الإشكال وإزاحته عن الأحاديث الصحيحة في علم مختلف الحديث الذي يأتيك إن شاء الله تعالى (1).
5 -
استقراء الأبواب: أي قولهم: لم يصح في الباب شيء، أو إلا حديث كذا، وذلك لما قاموا به من استقراء للأحاديث وتبويبها.
وهو ضابط هام رأينا التنبيه عليه لعظيم فائدته، ومن أمثلته:
أحاديث ذم الأولاد، كلها كذب من أولها إلى آخرها.
أحاديث التواريخ المستقبلة: كل حديث فيه إذا كانت سنة كذا حل كذا وكذا، أو يكون في سنة كذا أو شهر الفلاني كذا وكذا باطل. أحاديث مدح العزوبة، كلها باطلة (2).
أحاديث فضائل الأزهار، كحديث فضل النرجس، والورد، والمرزنجوش، والبنفسج، والبان كلها كذب (3).
لكن ينبغي التنبه إلى خطورة هذا الحكم واحتمال خطئه، لما فيه من الحصر لأمر واسع منتشر.
مصادر الحديث الموضوع:
عني أئمة الحديث بتأليف الكتب في بيان الأحاديث الموضوعة، وبذلوا في ذلك غاية جهدهم، صيانة للمسلمين من الوقوع في الباطل، وذبا عن الدين الحنيف.
وإليك أهم هذه المصادر فيما يلي:
(1) في الباب التالي: رقم 52 ص 337 - 341.
(2)
و (3) انظر المغني عن الحفظ والكتاب للموصلي: 39 - 40.
1 -
الموضوعات: للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة (597) وهو من أقدم وأوسع ما صنف في هذا الفن، لكنه انتقد بإيراده كثيرا مما لا دليل على وضعه، بل هو ضعيف، بل وفيه الحسن والصحيح! وهذا عدوان ومجازفة.
قال شيخ الإسلام ابن حجر (1): "غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع، والذي ينتقد عليه بالنسبة إلى مالا ينتقد قليل جدا. قال: وفيه من الضرر أن يظن ما ليس بموضوع موضوعا، عكس الضرر بمستدرك الحاكم فإنه يظن ما ليس بصحيح صحيحا. ويتعين الاعتناء بانتقاد الكتابين فإن الكلام في تساهلهما أعدم الانتفاع بهما إلا لعالم بالفن".
لذلك تعقب العلماء كتاب ابن الجوزي هذا وتناولوه بالتهذيب والتنقيح.
2 -
"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911) هـ اختصر فيه كتاب ابن الجوزي، وتعقبه فيما ليس بموضوع، وألحق روايات من الموضوعات لم يذكرها ابن الجوزي، فجاء كتابا حافلا عظيم النفع.
3 -
"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" للحافظ أبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني المتوفى سنة (963) هـ.
لخص فيه موضوعات ابن الجوزي وما زاده السيوطي وغيره في تآليفهم الكثيرة. وقدم له بفصل جمع فيه أسماء الكذابين فتجاوز عددهم ألفا وستمائة، وهي فائدة قيمة جدا أتى بها هذا الكتاب.
4 -
"المنار المنيف في الصحيح والضعيف" للحافظ ابن قيم الجوزية " (751) هـ".
5 -
"المصنوع في الحديث الموضوع". للحافظ علي القاري " (1014) هـ".
وهذا الكتاب وسابقه مختصران نافعان جدا.
(1) كما نقل في التدريب: 182.