الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال
ويشمل الأنواع الآتية:
1 -
المتصل:
2 -
المسند:
3 -
المعنعن.
4 -
المؤنن.
5 -
المسلسل.
6 -
العالي.
7 -
النازل.
8 -
المزيد في متصل الأسانيد.
وننبه إلى أن الأصل في هذا المبحث هو الأول المتصل، وأما الأنواع الأخرى فإنها تشتمل مع الاتصال على وصف زائد يبين كيفية الاتصال أو على وصف عارض له نفصله لدى دراسة كل منها إن شاء الله.
1 -
المتصل:
ويقال له الموصول أيضا، وعرفوه بأنه هو الذي سمعه كل واحد من رواته ممن فوقه حتى ينتهي إلى منتهاه، سواء كان مرفوعا أو موقوفا.
وقولهم: "الذي سمعه" يلحق به فيما نرى ما تلقاه بوسيلة أخرى من وسائل التحمل المعتبرة، كالعرض والمكاتبة. والإجازة الصحيحة، وإنما ذكرو السماع في التعريف لأنه الغالب. وقد حرصوا في بحث المعنعن أن المتأخرين استعملوا "عن" في الإجازة، وأن ذلك لا يخرجه من قبيل الاتصال (1).
مثال المتصل المرفوع: ما رواه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله"(2).
ومثال المتصل الموقوف: ما رواه مالك أيضا عن نافع أنه سمع عبد اله بن عمر يقول: "من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه"(3).
فكل من الحديثين متصل، أو موصول، لأن رواته سمعوه من بعضهم البعض إلى منتهاه.
أما المقطوع وهو ما أضيف إلى التابعي إذا اتصل سنده، فلا خلاف في أنه يدخل تحت هذا النوع، لكن الجمهور قالوا: لا يقال
(1) قارن التدريب: 108، وحاشية الأبياري: 29، والأجهوري: 38، وجامع الأصول:58.
(2)
الموطأ: 1: 23. وهذا الإسناد هو سلسلة الذهب.
(3)
الموطأ "مال يجوز من السلف": 2: 85.
له: موصول أو متصل مطلقا، بل ينبغي أن يقرن بما يميزه عن سابقيه فيقال: هذا متصل إلى سعيد بن المسيب مثلا. وأجاز بعض العلماء أن يطلق عليه: موصول، أو متصل، بدون أن يقيد بشيء أسوة بالنوعين السابقين.
وكأن السر فيما ذهب إليه الجمهور أن الذي ينتهي إلى التابعي يسمونه "المقطوع"، وهو بظاهره اللغوي ضد الموصول، فميزوه بإضافته إلى التابعي رعاية لذلك (1).
2 -
المسند:
الحديث المسند: هو ما اتصل سنده مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يحل الموقوف والمقطوع ولو اتصل إسنادهما، ولا المنقطع، ولو كان مرفوعا. وهذا هو المعتمد المشهور في تعريف المسند. قطع به الحاكم واقتصر عليه. وجزم به في النخبة (2).
(1) قارن علوم الحديث وشروح الألفية وغيرها بالتقريب واختصار علوم الحديث.
(2)
لكنه قال في تعريفه: "بسند ظاهره الاتصال". ثم فسره فقال: "ويفهم من التقييد بالظهور أن الانقطاع الخفي كعنعنة المدلس والمعاصر الذي لم يثبت لقيه لا يخرج عن كونه مسندا لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذلك". وهذا التفسير للمسند لم نجد أحدا سبق به، بل وجدنا ما يدل على خلافه. فقد وجدنا في المسانيد أحاديث منقطعة كثيرة، نسرد لك ما استخرجناه بتتبع مائتي حديث من أول مسند أحمد وهي ذوات الأرقام: 7، 18، 27، 37، 46، 49، 60، / 62، 64، 65، 66، 68، 68، 69، 70، 71، 81، 98، 106، 107، 108، 109، 113، 115، 118، 126، 132، 140، 142، 193، 194، فهذه ثلاثون حديثا وجدت في مائتي حديث نبه العلامة أحمد شاكر على انقطاعها، ومنها ما هو ظاهر الانقطاع. ثم إن الحاكم قد صرح بنفي التدليس عن المسند، فلا يصح قول الحافظ: "وهذا التعريف موافق لقول الحاكم
…
".
مثاله: حديث ترك صلاة العصر في النوع السابق، فإنه مرفوع متصل.
لكن بعض المحدثين أطلق المسند على غير ما ذكرناه، مما يوجب التنبيه عليه:
فقد أطلق بعضهم المسند على ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، موصولا كان أو غير موصول، وهو مذهب ابن عبد البر (1)، ومنه قوله الدارقطني في سعيد بن عبيد الثقفي:"ليس بالقوي، يحدث بأحاديث يسندها وغيره يوقفها"(2). فقوله: "يسندها": أي يرفعها.
وقد يطلق المسند على تأليف في أسانيد الأحاديث، مثل مسند الشهاب، ومسند الفردوس، أي أسانيد أحاديثهما.
3 و 4 - المعنعن والمؤنن:
هذان النوعان يدرسان بعض الصيغ التي يستعملها الرواة في النقل عمن فوقهم، لما فيها من احتمال عدم الاتصال.
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 1: 21.
(2)
تهذيب التهذيب: 4: 61، وانظر فتح المغيث:40.
والمعنعن: هو الذي يقال في سنده: فلان عن فلان، من غير تصريح بالتحديث أو الأخبار أو السماع
…
وقد تشدد بعض الناس فعده من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بالتصريح بالسماع ونحوه.
والصحيح الذي عليه العمل التوسط فيه وأنه من الحديث المتصل، ذهب إلى هذا جماهير الأئمة من أهل الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم الصحيحة وقبلوه. وادعى أبو عمر بن عبد البر، والداني إجماع أهل النقل على ذلك.
لكنهم اشترطوا لكي يحكم للمعنعن بالاتصال شرطين: الأول: أن يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه بالعنعنة، والثاني أن يكون بريئا من وصمة التدليس. فإذا استوفى ذلك صار قوله:"عن فلان" كقوله: "حدثني أو سمعت
…
" لأنه لما تحقق لقاؤه وكان لا يدلس فهو لا يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، فيكون قوله "عن" على ظاهر الاتصال حتى يثبت خلافه فنأخذ به.
وأما المؤذن: فهو الذي يقال في سنده: فلان أن فلانا ..
ومذهب الجمهور وهو الصحيح أنه كالمعنعن، ولا عبرة بالحروف والألفاظ إنما هو باللقاء والمجالسة والسماع.
وقد خالف مسلم بن الحجاج في اشتراط التنصيص على ثبوت اللقاء والاجتماع في المعنعن والمؤنن، وادعى في مقدمة صحيحه أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه، وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد وإن لم ينص على أنهما اجتمعا أو تشافها، فاكتفى مسلم بإمكان اللقاء بين الراوي وبين من روى عنه مع السلامة من التدليس.
وقد ورد العلماء دعوى الإجماع التي استشهد بها مسلم، بأن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه جماعة من أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري وغيرهما كما قيل (1)، وأجابوا عما أورده من الأحاديث بأنه "يمكن أن يكون قبول الأئمة لذلك لقرائن اقترنت بها أفادت اللقاء
…
" (2).
وقوي بعضهم مذهب مسلم بأن المسألة في الثقة غير المدلس، ومثله إذا قال: عن فلان، ينبغي أن يكون سمعه منه، وإلا كان مدلسا، والمسألة في غير المدلس (3).
إلا أنه لا ريب أن مذهب الجمهور أحوط، لأن الاتصال فيه أقوى، ولذلك كانت هذه المسألة من مرجحات صحيح البخاري على صحيح مسلم.
وقد يستشكل ما ذكرنا بما وقع في الحديث على شرط الاتصال ثم تبين أنه ليس بمتصل. كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". وفي رواية أخرى عن سالم قال: قال
(1) وقال في قواعد التحديث: 123: "والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا، مع براءة المعنعن من التدليس، وإلا فليس بمتصل" فتأمل! !
(2)
جامع التحصيل لأحكام المراسيل للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي 140. وقد وسع الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: 365 - 373 نقد مذهب مسلم، فانظره وانظر تعقيبنا عليه.
(3)
انظر التفصيل في فتح الملهم شرح صحيح مسلم: 1: 40 - 41 و 148 - 150. هذا ويجب أن يعلم أن الفريقين متفقان على اشتراط الانفصال لصحة الحديث، إنما الخلاف في إثبات الاتصال بهذا الطريق، فأثبته مسلم، ولم يقبله البخاري، فتنبه.
ابن عمر: سمعت عمر يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم .. "(1).
ظاهر الرواية الأولى يوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر الرواية الثانية يوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف نجعل المؤنن متصلا؟ !
ونجيب عن ذلك بأن إدراك ابن عمر في هذا الحديث مشترك متردد، لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعمر، فقد أدركهما ابن عمر، وصحبهما، فصلحت "أن" للرواية عنهما، ولو كان الادراك قاصرا على أحدهما لتعين الاتصال عن طريقه. وهذا ملحظ دقيق جدا ينبغي التنبه له، والحذر من الغلط بسببه.
تفريع على المعنعن والمؤنن:
وينبني على ما ذكرناه من شرط الاتصال في المعنعن والمؤنن تعميم الحكم بالاتصال فيما ذكره الراوي عمن لقيه بأي لفظ كان إذا لم يظهر منه تدليس، سواء قال: عن فلان أو فلانا، أو قال فلان أو روى فلان أو حدث، وذلك لأن العبرة ليست بالحروف والألفاظ، ولكن بالمجالسة واللقاء والسماع.
ومن الحجة في ذلك "أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان باطلاقه الرواية عنه من غير ذكر الواسطة بينه وبينه مدلسا، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يعرف بالتدليس".
(1) البخاري بلفظه: 8: 132، ومسلم: 5: 80 وانظر مثالا آخر في الكفاية: 406 - 407.
5 -
المسلسل:
المسلسل في اصطلاح المحدثين: هو ما تتابع رجال إسناده على صفة واحدة أو حال واحدة للرواة أو للرواية.
وله أنواع كثيرة بحسب تعدد أحوال الرواة وصفاتهم وأحوال الرواية.
أما أحوال الرواة، فهي إما أقوال أو أفعال، أو أقوال وأفعال معا، وكذا القول في صفاتهم أيضا.
وينقسم المسلسل أقساما كثيرة:
الأول: المسلسل بأحوال الرواة القولية: مثل حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ إني أحبك، فقل في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
تسلسل بقول كل واحد من رواته "وأنا أحبك فقل"(1). وكحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة".
وقال عائشة رضي الله عنها: يرحم الله لبيدا وهو الذي يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
…
وبقي في خلف كجلد الأجرب
يتأكلون خيانة مذمومة
…
ويعاب سائلهم وإن لم يشغب
(1) أخرجه أبو داود في الوتر "باب الاستغفار": 2: 86 مسلسلا لراويين فقط والنسائي في الصلاة "الدعاء بعد الذكر": 1: 192 غير مسلسل. ووقع مسلسلا خارج الكتب السنة لجماعة من العلماء. أخرجه مسلسلا في المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة: 13 - 15.
قالت عائشة: يرحم الله لبيدا كيف لو أدرك زماننا هذا؟ . قال عروة بن الزبير الراوي عن عائشة رحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا هذا؟ !
تسلسل بقلو كل راو: رحم الله فلانا كيف لو أدرك زماننا هذا؟ ! (1) قال الشيخ محمد عابد السندي: قد جزم العلائي وغيره بصحة تسلسله (2).
الثاني: المسلسل بأحوالهم الفعلية: مثل حديث أبي هريرة: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقال:"خلق الله الأرض يوم السبت".
تسلسل بتشبيك كل واحد من رواته يده بيد من رواه عنه (3). وكالمسلسل بوضع اليد على الكتف، والمسلسل بوضع اليد على الرأس.
الثالث: المسلسل بأحوالهم القولية والفعلية: مثاله حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره" وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على لحيته، وقال:"آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره".
(1) أخرجه العلامة المحدث محمد عبد الباقي الأيوبي في كتابه المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة: 71072.
(2)
المناهل السلسلة: 73.
(3)
أخرجه تام التسلسل الحاكم في المعرفة: 33034. وتسلسل أيضا للعلامة المحدث الشيخ محمد الأمير الكبيرن أخرجه من طريقه بسنده شيخنا العلامة الدكتور محمد السماحي في قسم المصطلح: 285. وصاحب المناهل السلسلة: 31 - 33.
تسلسل بصدور ذلك من كل رواته (1).
الرابع: المسلسل بصفات الرواة القولية، وهي تقارب الأحوال القولية، بل تماثلها على التحقيق (2).
الخامس: المسلسل بصفات الرواة الفعلية: مثل اتفاق أسماء الرواة، كالمسلسل بالمحمدين، ومثل اتفاق صفاتهم، كالمسلسل بالفقاء، أو الحفاظ، أو المعمرين، أو الصوفيين.
السادس: المسلسل بصفات الرواية: وتتعلق بصيغ الأداء أو زمانه أو مكانه.
مثال صفات الرواية المتعلقة بصيغ الأداء: المسلسل بقول كل واحد من رواته سمعت فلانا، أو أخبرنا فلان، أو أخبرنا فلان والله ..
ومثال صفات الرواية الزمانية: المسلسل بروايته يوم العيد.
ومثال صفات الرواية المكانية: المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم. وغير ذلك من أقسام يعرف مما ذكرناه.
والتسلسل يفيد اتصال حلقات الإسناد مع ما اقترن بها من صفة خاصة أو حالة خاصة، وذلك يقوي معنى الاتصال في الحديث، لذلك قال الحاكم (3). "فإنه نوع من السماع الظاهر الذي لا غبار عليه".
وقال ابن الصلاح (4): "وخيرها ما كان فيه دلالة على اتصال السماع، وعدم التدليس، ومن فضيلة التسلسل اشتماله على مزيد الضبط من الرواة".
(1) أخرجه الحاكم تام التسلسل في المعرفة: 31 - 32. وصاحب المناهل السلسلة 35 - 38.
(2)
شرح الألفية: 4: 13.
(3)
في المعرفة: 29.
(4)
في علوم الحديث: 249. وانظر المناهل المسلسلة: 3.
لكن المسلسلات على الرغم من عذوبة وقعها تسلم رواية التسلسل فيها من ضعف، وإن صح أصل الحديث. ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في أثناء إسناده، وذلك نقص فيه. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا:"الراحمون يرحمه الرحمن" المسلسل بأول حديث سمعته، فإنه إنما يصح التسلسل فيه بالأولية من أول السند إلى سفيان بن عيينة، وينقطع هذا التسلسل بين سفيان ومن فوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أصح مسلسل يروى في الدنيا المسلسل بقراءة سورة الصف، رواه الترمذي في جامعه (1)، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرتا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وهو العزيز الحكيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال ابن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة. فقرأها علينا عبد الله بن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة. قال: ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير.
ونضيف إلى هذا فنقول: أصح أقسام التسلسل المسلسل بالحفاظ، كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر، بل إن الحافظ ابن حجر قال في شرح النخبة (2):"إنه يفيد القطع حيث لا يكون غريبا".
(1) في التفسير "باب سورة الصف": 5: 412 - 413.
(2)
: 27. والأمثلة التي أوردناها مخرجة بإسنادهما في المناهل السلسلة، لم نطول بالعزو إليه.
وقد جمع العلماء الأحاديث المسلسلة في مصنفات، منها كتاب للسخاوي فيه مائة حديث، وجمعها العلامة المحدث محمد عبد الباقي الأيوبي "المتوفى سنة (1364) " في كتاب سماه "المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة" فبلغ /212/ حديثا، هو أوسع ما وقفنا عليه.
وهذا لم يستوف المسلسل بصفات الرواة، ولا سيما المسلسل بالحفاظ، ولو استوفاها لكانت أكثر من ذلك بكثير.
6 -
العالي:
الإسناد العالي: هو الذي قل عدد رجاله مع الاتصال:
وكذا إذا تقدم سماع روايه، أو تقدمت وفاة شيخه (1).
وعلو الإسناد له عند المحدثين شأن كبير، وذلك أنه يفيد قوة السند، لأنه يبعد احتمال الخلل عن الحديث، لأن كل رجل من رجاله قد يحتمل أن يقع من جهته خلل، فإذا قلت الوسائط تقل جهات الاحتمال للخل، فيكون علو السند قوة للحديث.
قال الحافظ أبو الفضل المقدسي (2): "أجمع أهل النقل على طلبهم العلو ومدحه، إذ لو اقتصروا على سماعه بنزول لم يرحل أحد منهم". وقد رحل المحدثون فيه، وأتعبوا مطاياهم من أجله. ما إن يسمع أحدهم
(1) قارن فتح المغيث: 335.
(2)
هو محمد بن طاهر، في مسألة العلو والنزول: ق 5/ آ.
بحديث عن محدث في عصره حتى يرحل إليه ليسمعه منه مباشرة.
قال أحمد بن حنبل: "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف". وقيل ليحيى بن معين في مرضه الذي مات فيه: "ما تشتهي؟ " قال: "بيت خالي، وإسناد عالي".
وينقسم العلو بحسب جهته أقساما خمسة، ترجع إلى قسمين رئيسين: علو مسافة بقلة الوسائط، وعلو صفة.
أما العلو بالمسافة فهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث العدد بإسناد صحيح نظيف. وهذا علو مطلق، وهو أفضل أنواع العلو وأجلها. قال محمد بن أسلم الطوسي الزاهد:"قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل".
ووجه كلامه هذا فيما نرى: أن قرب الإسناد يفيد قوة السند كما عرفت، واستخراج المحدث لذلك يقربه إلى الله عز وجل.
وقد اعتنى العلماء بهذا النوع، وجمعوا فيه تآليف، أشهرها ما جمعت فيه الأحاديث الثلاثية، مثل كتاب ثلاثيات المسند وكتاب ثلاثيات البخاري.
والأحاديث الثلاثية هي ما كان بين الإمام المصنف وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وسائط.
مثل: حديث الإمام أحمد قال: "ثنا سفيان قال: قلت لعمرو: سمعت جابرا يقول مر رجل في المسجد معه سهام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك بنصلها"؟ قال: نعم (1).
(1) ثلاثيات المسند: 1: 264. وانظر مزيدا من التفصيل حول الثلاثيات في كتابنا الإمام الترمذي: 16.
وروى البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار"(1).
وقد تساهل من جمع ثلاثيات المسند فأوردا فيه مثل إسناد "هُشَيم عن حُمَيد عن أنس" هكذا بهذا اللفظ، وهشيم وحميد مدلسان ولم يصرحا بالتحديث، مما يدخل على السند احتمال الانقطاع وحذف الوسائط. وفيه أحاديث كثيرة من هذا القبيل.
أما إذا كان قرب الإسناد مع ضعف بعض الرواة فلا التفات إلى هذا العلو، وقد اتخذ بعض الكذابين العلو وسيلة لترويج كذبهم، فادعى بعضهم الصحبة، مثل رتن الهندي (2). وادعى بعضهم السماع من الصحابة، مثل إبراهيم بن هدبة، ودينار بن عبد الله، وأبي الدنيا الأشج، فافتضحوا بكذبهم، ولم يجعل لهم المحدثون أي عبرة، بل لا تجوز الرواية عنهم. ومن فرح بعلو سندهم فهو عامي يعد الرواة عدا، ولا يدري فيهم نقدا! !
القسم الثاني: القرب من إمام من أئمة الحديث. وهو علو نسبي، كالعلو إلى مالك، والأوزاعي، وسفيان وشعبة. وإنما يوصف بالعلو إذا صح الإسناد إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير من الرجال.
ووجه اعتبار هذا علوا -فيما يبدو لنا- أن هؤلاء الأئمة قد انتهى إليهم علم الحديث وحفظه، فأصبح خوف الخلل في رواياتهم مأمونا، فرغبوا في العلو إليهم، لما فيه من قوة السند.
القسم الثالث: العلو بالنسبة إلى الكتب الحديثية المشتهرة، وهو
(1) مطلع ثلاثيات البخاري ص 3، وانظر البخاري: 1: 29.
(2)
المار ذكره في ص 119.
أن يعلو إسناد المحدث بالنسبة إلى روايته عن طريق الصحيحين وبقية الستة، إذ لو روى الحديث من طريق كتاب من الستة يقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها. وغالبا ما يكون العلو في هذا القسم بسبب نزول الإسناد عن طريق هذه الكتب.
قال الحافظ العراقي (1): "مثاله حديث رواه الترمذي لابن مسعود مرفوعا": "يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف
…
". رواه الترمذي عن علي بن حجر عن خلف بن خليفة، فلو رويناه من طريق الترمذي وقع بيننا وبين خلف تسعةن فإذا رويناه من جزء ابن عرفة وقع بيننا وبينه سبعة بعلو درجتين .. ".
وقد كثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا القسم، وأصبح له شهرة كبيرة عندهم، ففرعوه إلى عدة فروع، هي: الموافقة، والبدل، والمساوة، والمصافحة (2).
وأما علو الصفة: فهو هذان القسمان الباقيان، ذكرهما الحافظ أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد إلى معرفة علماء الحديث، واشتهرا بعده:
الأول: العلو بتقدم وفاة الراوي، بأن يتقدم موت الراوي في هذا السند على موت الراوي الذي في السند الآخر، وإن كانا متساويين في العدد (3).
الثاني: العلو بتقدم السماع من الشيخ، يكون أحد الرواة
(1) في شرح الألفية: 3: 101، وقارن بعلوم الحديث:234.
(2)
نكتفي بالإشارة إليها هنا، وليرجع من يرغب في التوسع إلى المصادر، مثل علوم الحديث لابن الصلاح أو غيره.
(3)
الإرشاد: ق 8 آ. وأشار إليه الحاكم في المعرفة: 11، ولم يذكره المقدسي.
سمع منه قبل غيره، (1) إلا أنه يقع التداخل كثيرا بين هذين القسمين، حتى عدهما بعض العلماء قسما واحدا. ونلاحظ أن فائدة العلو لا تظهر في هذين القسمين إلا في بعض الصور، التي تدخل في أنواع أخرى من علوم الحديث، مثل "معرفة من اختلط في آخر عمره" ونحوه من الأبحاث. لذلك لم يذكرهما بعض المحققين كالحافظ ابن حجر (2).
7 -
النازل:
الحديث النازل: ضد العالي، وهو الذي بعدت المسافة في إسناده.
وكما أن العلو قد انقسم إلى خمسة أقسام، كذلك ينقسم النزول إلى خمسة أقسام، تعرف مما سبق. وهي:
1 -
كثرة الوسائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو نزول مسافة مطلق.
2 -
كثرة الوسائط إلى إمام من أئمة الحديث. وهو نزول مسافة نسبي.
3 -
نزول الإسناد من طريق غير الكتب الستة عن الإسناد من طريقها. وهو نزول مسافة نسبي أيضا.
4 و 5 - تأخر الوفاة وكذا تأخر السماع وهما نزول صفة.
(1) الإرشاد نفس الموضع. ومسألة العلو ق 9 آ. وانظر علوم الحديث وغيره.
(2)
في شرح النخبة: 60 - 61. وانظر شرح الألفية: 3: 105، وفتح المغيث: 341.
والنزول مفضول مرغوب عنه عند المحدثين، قال ابن معين:"الإسناد النازل قرحة في الوجه". وقال ابن المديني: "النزول شؤم".
وشذ بعضهم فزعم أن النزول أفضل من العلو؛ "لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متن الحديث وتأويله، وفي الناقل وتعديله، وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابا"(1).
وهذا مذهب ضعيف، ضعيف الحجة، وما أحسن قول الحافظ العراقي (2):"هذا بمثابة من يقصد المسجد لصلاة الجماعة، فيسلك طريقا بعيدة لتكثر الخطأ، وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود! ! ".
لكن المحدثين استثنوا من تفضيل العلو ما إذا كان مع النزول ما يجبره ويجعل له مزية على الإسناد العالي، كأن يوجد في النازل زيادة يرويها ثقة، أو يكون رجال الإسناد النازل أحفظ أو أفقه. قال وكيع ابن الجراح لتلامذته:"أيهما أحب إليكم أن أحدثكم: عن سليمان الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدثكم عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود؟ ". قالوا: "نحب الأعمش، فإنه أقرب إسنادا". قال: "ويحكم! ، الأعمش شيخ ولكن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه"(3).
لذلك قال ابن المبارك: "ليس جودة الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال".
(1) كذا نقل عنهم الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 26.
(2)
في شرح الألفية: 3: 99.
(3)
الإرشاد: ق 7 آ. وانظر غيره من المراجع.
وقال الحافظ السلفي: "الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة، على مذهب المحققين من النقلة".
ومن هذا القبيل أيضا العلو بتفرد السند بالحديث مع حاجة المحدث إليه، فإنه عال بتفرده.
لكن هذا كله ليس من العلو الاصطلاحي عند المحدثين، ومن أدرجه في العلو الاصطلاحي (1) فقد تساهل ولم يحقق البحث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب (2).
8 -
المزيد في متصل الأسانيد:
هذا نوع جليل مهم، عظيم الفائدة.
وهو أن يزيد راو في الإسناد المتصل رجلا لم يذكره غيره (3).
مثاله: ما أخرجه الترمذي في العلل الكبير (4) عن جرير بن حازم عن ابن إسحاق عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة يوم الفتح.
قال الترمذي: "سألت محمدًا يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث خطأ، والصحيح عن الزهري عن الربيع بن سبرة
(1) كما فعل ابن الأثير في جامع الأصول: 59 - 62.
(2)
نبه على ذلك ابن الصلاح: 237. وكذا غيره أيضا.
(3)
اختصار علوم الحديث: 176. زدنا عليه كلمة "المتصل". لأن الزيادة في غير المتصل لا تدخل في هذا النوع.
(4)
ق 29 - ب.
عن أبيه ليس فيه عمر بن عبد العزيز، وإنما أتى الخطأ من جرير بن حازم". ولعل سبب الخطأ ما ورد أن الزهري سمع الحديث من الربيع عند عمر بن العزيزن فظنه جرير من رواية الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن الربيع. والحديث روي من عدة أوجه عند مسلم (1) وأحمد عن الزهري عن الربيع ليس فيها ذكر عمر بن عبد العزيز.
وقد صنف الخطيب في هذا النوع كتابا جيدا سماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد".
وفي رأينا أن هذا النوع يمكن أن يدخل في المدرج "مدرج السند" الآتي وفي العلل بعلة غير قادحة (2)، فليتأمل.
وجدير بالعناية هنا أن الحكم بالزيادة في هذا النوع صعب شديد، يقف على حافة النقد، وخطر الأنتقاض بأن يكون الراوي قد سمع من الشخص الزائد ثم طلب العلو فسمعه من الشيخ الأعلى مباشرة، وقد وقع ذلك في أحاديث كثيرة. لكنا نستأنس في هذه الحال بالقرائن، وبأن "الظاهر ممن وقع له مثل ذلك -كما قال ابن الصلاح- أن يذكر السماعين، فإذل لم يجيء ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة".
كذلك قد ينتقض الحكم بالزيادة في هذا النوع بالمرسل الخفي، وسنشرح ذلك فيه إن شاء الله (3).
حكم الاتصال وأنواع المتصل:
اتصال السند له شأن كبير في مصطلح الحديث، يتوقف عليه قبول الحديث كما عرفت من قبل، فإذا وجد الاتصال مع سائر شروط القبول كان الحديث مقبولا، وإلا كان مردودا، فأنواع هذا الفصل مشتركة بين أقسام الحديث الثلاثة: الصحيح، الحسن، الضعيف.
(1) مسلم في النكاح: 133. وأحمد: 3: 404.
(2)
انظر مدرج السند برقم 83 ص 440 - 442 والعلة غير القادحة: 448.
(3)
رقم 67 ص 389 - 390.