الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم
وفيه هذه الأنواع:
1 -
المتواتر.
2 -
المشهور.
3 -
المستفيض.
4 -
العزيز.
5 -
التابع.
6 -
الشاهد.
أما ما يتفرع على التعدد دون التواتر من حيث قوة الحديث فقد سبق بحثه في الباب الرابع وهو الصحيح لغيره (1)، والحسن لغيره (2).
(1) رقم 38 ص 267 - 268.
(2)
رقم 39 ص 268 - 271.
1 -
المتواتر:
الحديث المتواتر: هو الذي رواه جمع كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، إلى انتهاء السند، وكان مستندهم الحسن.
فقولهم: "جمع كثير" أي من غير تقييد بعدد، إنما المقصود العدد الذي يحصل به إحالة العقل تواطؤهم أي اتفاقهم على الكذب. وكذا وقوع الكذب أو السهو منهم بالمصادفة.
ومال بعض العلماء إلى تعيين العدد، فقيل: إذا بلغوا سبعين كان متواترا، لقوله تعالى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} . وقيل أربعين. وقيل: اثني عشر. وقيل بأقل من ذلك حتى قيل بالأربعة اعتبارا بالشهادة على الزنا. لكن المختار أن ليس في شيء من ذلك مقنع، إنما العبرة بحصول العلم اليقيني بصدق الخبر.
وقولهم: "عن مثلهم إلى انتهاء اسند" خرج به ما كان آحاديا في بعض الطبقات ثم رواه عدد التواتر بعد ذلك، فإنه لا يكون متواترا. مثل حديث:"إنما الأعمال بالنيات" فإنه آحادي في مبدإ إسناده وإنما طرأ عليه التواتر في وسط الإسناد، فلا يكون متواترا.
وقولهم: "وكان مستندهم الحسن" أخرج القضايا الاعتقادية التي تستند إلى العقل، مثل وحدانية الله وأخرج القضايا العقلية الصرفة مثل كون الواحد نصف الاثنين، فإن العبرة فيها للعقل لا للأخبار.
ومن العلماء من عدالحديث المتواتر قسما من الحديث المشهور كابن الصلاح، والنووي.
ومن أمثلة المتواتر: حديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ بضع وسبعون صحابيا.
وحديث "نزل القرآن على سبعة أحرف". رواه سبع وعشرون صحابيا (1).
هذا ولا يشترط في رواة المتواتر، ما يشترط في رجال الصحيح أو الحسن من العدالة والضبط، بل العبرة بكثرتهم كثرة تجعل العقل يحكم باستحالة تواطئهم على الكذب. حتى لو أخبر أهل بلدة كفار أنهم رأوا بأعينهم حريقا كبيرا في بلدتهم أو انفجارا حصل العلم اليقيني بصدقهم.
ومن هنا قرر المحدثون أن هذا النوع لا يدخل في مصطلح الحديث، وليس من صناعة هذا العلم، لأن هذا العلم يبحث فيه عما يوصل إلى صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، والمتواتر لا يحتاج فيه إلى البحث، لأن العمدة فيه على كثرة تحصل العلم اليقيني، وهو أمر ضروري فطري يحصل لكل سامع دون حاجة إلى البحث والنظر. ولذلك فإننا نجد الترمذي يخرج حديث "من كذب علي" ويقول فيه:"حسن صحيح" ولا يذكر أنه متواتر.
أقسام المتواتر:
يقسم العلماء الحديث المتواتر إلى قسمين: متواتر لفظي، ومتواتر معنوي.
أما المتواتر اللفظي: فهو ما تواترت روايته على لفظ واحد يرويه كل الرواة، كحديث "من كذب علي
…
" المذكور.
(1) أوضح تواتره في بحث قيم موسع الشقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر في رسالة: "الأحرف السبعة في القرآن ومنزلة القراءات منها" ص 65 - 66 ومواضع أخرى.
وأما المتواتر المعنوي: فهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب أو وقوعه منهم مصادفة، فينقلوا وقائع مختلفة تشترك كلها في أمر معين، فيكون هذا الأمر متواترا. مثل رفع اليدين في الدعاء. فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم فيه نحو مائة حديث لكن هذه الأحاديث في وقائع مختلفة.
وشروط المتواتر المعنوي هي عين شروط المتواتر اللفظي، إنما يختلفان في أن المتن المنقول يتطابق لفظه في المتواتر اللفظي، ويتوافق في معنى معين تشتمل عليه المتون الكثيرة في المتواتر المعنوي. وهذا أمر متفق عليه لا إشكال فيه ولا خلاف (1).
وجود المتواتر:
والحديث المتواتر كثير الوجود، وحسبنا في ذلك أن ننظر إلى شعائر الإسلام وفرائضه كالصلاة والوضوء والصوم فقد نقل صفات ذلك عن النبي عدد التواتر من الصحابة، ونقله عن الصحابة عدد التواتر من التابعين وهكذا، وغير ذلك كثير نقلته الأمة وأجمعت عليه من الأقوال والأفعال.
(1) ومن هنا فإنا لا نوافق بعض الكاتبين الأفاضل على قوله "ومن علماء الحديث من لا يرى بأسا في أن يكون المتواتر المعنوي في أوله آحاديا ثم يشتهر بعد الطبقة الأولى، ويستفيض، فيسلكون حديث "إنما الأعمال بالنيات" في عداد ما تواتر معنى، مع أنه لم يروه إلا عمر بن الخطاب، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وإنما طرأت له الشهرة من عند يحيى".
فإن أحدا من المحدثين لم يقل بذلك وإنما نبه ابن الصلاح والنووي والسيوطي وغيرهم على هذا الحديث أنه ليس بمتواتر دفعا لتوهم تواتره بسبب كثرة رواته في الأزمنة المتأخرة فإن هذه الكثرة لم تستمر في كل الطبقات، فنبهوا على أنه ليسب بمتواتر لأنه لم يروه في كل طبقة عدد التواتر. وليس قصدهم أن أحدا من المحدثين يعتبر مثل هذا من المتواتر المعنوي كقاعدة عامة، فذلك ما لم يقله أحد، ولم يقصده أحد في علمنا.
وقد ادعى ابن الصلاح (1) ندرة الحديث المتواتر وبالغ غيره فنفى وجود المتواتر. لكن العلماء رفضوا ذلك وروده بأنه ناشئ من قلة الاطلاع على كثرة الطرق.
وأثبت الحافظ ابن حجر كثرة وجود المتواتر بطريقة واضحة ميسرة فقال (2): "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداوةل بين أهل العلم المقطوع بصحة نسبتها إلى مصنفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أفاد العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير".
ويمكن أن نوفق بأن ما قاله ابن الصلاح أراد به المتواتر اللفظي، وظاهر أنه قليل الوجود، وما قاله الحافظ ابن حجر أراد به المتواتر الذي يشمل المعنوي وهو كثير.
وأما القول بعدم وجود المتواتر فهو كما قال فيه الحافظ ناشيء من قلة الاطلاع (3).
مصادر الحديث المتواتر:
المؤلفات في الحديث المتواتر اللفظي والمعنوي كثيرة، لعل أجمعها كتاب السيوطي الذي قال فيه (4)
قد ألفت في هذا النوع كتابا لم أسبق إلى مثله، سميته: "الأزهار
(1): 242.
(2)
في شرح النخبة: 607.
(3)
وللعلامة المحدث إسحاق عزوز تقسيم جديد للمتواتر مفيد جدا يدل على كثرة المتواتر انظره في تعليقه على شرح النهبة طبع بيروت: 22 - 23 وانظر بعض أنواعه في الموافقات: 1: 36 - 37 بشرح الدكتور درا.
(4)
في تدريب الراوي: 373 - 374.
المتناثرة في الأخبار المتواترة"، مرتبا على الأبواب أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرجه وطرقه. ثم لخصته في جزء لطيف سميته "قطف الأزهار" اقتصرت فيه على عزو كل طريق لمن أخرجها من الأئمة، وأوردت فيه أحاديث كثيرة، منها: حديث الحوض من رواية نيف وخمسين صحابيا، وحديث المسح على الخفين من رواية سبعين صحابيا، وحديث رفع اليدين في الصلاة من رواية نحو خمسين، وحديث "نضر الله امرءا سمع مقالتي من رواية نحو ثلاثين
…
في أحاديث جمة أودعناها كتابنا المذكور" (1).
وقد استدرك على السيوطي المحدث أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" وهو مطبوع في جزء لطيف، ثم جاء بد ذلك الأستاذ الشيخ عبد العزيز الغماري فاستدرك عليه أيضا في كتابه "إتحاف ذوي الفضائل المشتهرة بما وقع من الزيادة على الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، أورد فيه جملة صالحة من الأحاديث.
2 -
المشهور:
الشهرة في اللغة: الانتشار والذيوع.
أما في اصطلاح المحدثين فنختار في المشهور تعريف الحافظ ابن حجر، وهو:
(1) انظر بحثا موسعا في الحديث المتواتر في توضيح الأفكار وتعليقات فضيلة شيخنا العلامة محمد محي الدين عبد الحميد: 2: 401 - 412.
"ماله طرق محصورة بأكثر من اثنين":
فقول: "له طرق محصورة" يخرج به المتواتر، لأن المتواتر لا يضبط بعدد معين، بل هو ما كان رواته جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم
…
وهذا أمر لا يضبط، فقد يحصل الاطمئنان من الكذب بالعشرة من الثقات، كما يحصل بالخمسين من غيرهم.
وقوله: "أكثر من اثنين" يخرج به الحديث الغريب والعزيز. والحاصل أن الحديث المشهور هو ما رواه جماعة عن جماعة، ولم يبلغ حد التواتر.
حكم الحديث المشهور:
ربما تظن أن الحديث المشهور ملازم للصحة، لما يدخل في روع الناظر إلى تعدد الرواة من توهم القوة والصحة بادي الرأي، لكن المحدثين لم يبالوا بمجرد هذا العدد إذا لم يكن معه من الصفات ما يجعل هذه الأسانيد صحيحة، أو صالحة للتقوي ببعضها والاحتجاج بها.
ومن هنا كان الحديث المشهور منقسما من حيث القبول أو الرد إلى ثلاثة أقسام: الصحيح، والحسن، والضعيف:
1 -
مثال المشهور على الاصطلاح وهو صحيح: حديث: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" روي من أوجه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
2 -
مثال المشهور وهو حسن: حديث: "لا ضرر ولا ضرار" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة، وله طرق يرتقي
(1) البخاري في أوائل الجمعة: 2: 2 و 3 و 5 ومسلم: 3: 2. وغيرهما.
بها إلى الحسن أو الصحة، وحسنه النووي في الأربعين (1).
3 -
مثال المشهور وهو ضعيف: حديث: "اطلبوا العلم ولو بالصين". روي من عدة أوجه عن أنس وأبي هريرة، ولم يخل طريق منها من مجروح جرحا شديدا، فهو مشهور ضعيف (2).
تقسيم المشهور بحسب موقع شهرته:
وينقسم الحديث المشهور تقسيما آخر إلى أقسام كثيرة، وذلك بالنظر إلى الأوساط التي يذيع فيها وينتشر، فقد يطلق المشهور على ما ذاع بين أهل الحديث وغيرهم من العلماء والعامة، وقد يطلق على ما اشتهر على ألسنة الناس، ولو روي بإسناد واحد، بل ول لم يكن له إسناد أصلا. وهذه أمثلة لبعض هذه الأقسام:
1 -
المشهور عند أهل الحديث خاصة، مثل حديث أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان". أخرجه الشيخان (3) من رواية سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس، وقد رواه عن أنس غير أبي مجلز، وعن أبي مجلز غير سليمان، وعن سليمان جماعة. وهو مشهور بين أهل الحديث، وقد يستغربه غيرهم، لا، الغالب على رواية التيمي عن أنس كونها بلا واسطة.
2 -
المشهور عند المحدثين والعلماء والعوام: مثل حديث "المسلم أخو المسلم"(4).
(1) أخرجه ابن ماجه عن عبادة منقطعا ص 784 رقم 2340 وعن ابن عباس برقم 2341، وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد الخدري: 2: 57. وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وانظر نصب الراية: 4: 384 - 386.
(2)
أخرجه البخاري في تاريخه: 2/ 2/ 358 وابن عدي في الكامل: ق 207 ب وفي موضع آخر "اللآلي المصنوعة: 1: 193". والعقيلي في الضعفاء ق 196 آ، وأخرجه الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب الحديث رقم 1 بتحقيقنا. وقد توسعنا في دراسة أسانيده في تعليقنا عليه هناك.
(3)
البخاري في الوتر: 2: 26 والمغازي: 5: 105. ومسلم: 2: 136.
(4)
البخاري في المظالم: : 3: 128، ومسلم في البر والصلة: 8: 18.
3 -
المشهور عند الفقهاء: مثل حديث "لا ضرر ولا ضرار " السابق ذكره. وحديث "المسلمون على شروطهم"(1) وحديث "نهى عن بيع الغرر"(2).
4 -
المشهور عند الأصوليين: مثل حديث: إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (3).
5 -
المشهور عند علماء العربية: مثل حديث "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" وليس له إسناد (4). وحديث "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش". ومعناه حق لكن ليس لهذا اللفظ إسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم (5).
6 -
المشهور بين الأدباء: مثل حديث: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" ونحن لا نشك في ذلك، لكن إسناده ضعيف (6).
7 -
المشهور بين العامة: مثل حديث "السفر قطعة من العذاب"(7).
وحديث: "من غشنا فليس منا"(8).
(1) الترمذي في الأحكام: 3: 634، والحاكم: 4: 101. وقد انتقد على الترمذي تحسين هذا الحديث أو تصحيحه، فأزلنا الإشكال عنه في كتابنا الإمام الترمذي: 269 و 271 و 272.
(2)
أخرجه مسلم: 5: 3 وأصحاب السنن بلفظ "نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر".
(3)
البخاري في الاعتصام: 9: 108، ومسلم في الأقضية: 5: 131.
(4)
المقاصد الحسنة: 449 وكشف الخفاء: 2: 323.
(5)
المقاصد الحسنة: 95 وكشف الخفاء: 1: 200 - 201.
(6)
أخرجه ابن السمعاني في أدب الاملاء بلفظ "أن الله ادبني .. " والمراد به تثقيف اللسان على الفصاحة وبلاغة الكلم. انظر المقاصد: 29 وشرح المناوي على الجامع الصغير: 1: 225.
(7)
البخاري آخر العمرة: 3: 8 ومسلم في الإمارة: 6: 55.
(8)
مسلم في الإيمان: 1/ 69.
وحديث: "الحرب خدعة"(1). وهي صحيحة.
ومثل حديث: "المؤمن مرآة أخيه". أخرجه أبو داود بلفظ "المؤمن مرآة المؤمن" وحسنه العراقي (2).
ومثل: "كما تدين تدان" ضعيف (3).
"المجالس بالأمانة"(4) ضعفه العلماء.
"من لم يخف الله خف منه" ليس بحديث، وإن كان معناه صحيحا (5).
وغير ذلك كثير من الأحاديث التي تدور على ألسنة الناس.
ولا ريب أن هذه الأحاديث التي تدور على ألسنة الناس.
ولا ريب أن هذه الأحاديث لها تأثير قوي في سلوك الأمة، لذلك عني العلماء ببيان حالها، وألفوا في ذلك تصانيف كثيرة. من أهمها.
1 -
"المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة" للإمام السخاوي.
2 -
"كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني (6).
(1) البخاري في الجهاد: 4: 64، ومسلم: 5: 143.
(2)
أبو داود في الأدب "النصحية": 4: 280 وانظر فيض القدير: 6: 252.
(3)
أخرجه البيهقي في الزهد وفي الأسماء والصفات وأبو نعيم وغيرهما انظر المقاصد الحسنة: 325 - 326 وكشف الخفاء: 2: 126.
(4)
أخرجه أبو داود والديلمي وغيرهما فيض القدير: 6: 262.
(5)
المقاصد: 427 وكشف الخفاء: 2: 276 - 277.
(6)
وقد سبق التعريف بهذين الكتابين: 204 - 205.
شبهة حول الحديث المشهور:
هذا الذي أوضحناه من أقسام المشهور ومراتبها من القبول أو الرد يبين لنا بجلاء بطلان ما ادعاه بعض المستشرقين من تعويل العلماء على انتشار الحديث بين العامة في قبوله.
يقول بورشيه فيما لخصه عن جولدتسيهر:
"
…
كانت جماعة المؤمنين المتدينة التقية تقبل بسهولة متناهية في التصديق كل ما كان يقدم لها في شكل حديث على أنه قول للنبي حقيقة، أما التخوفات التي أثيرت حول صحة أجزاء كثيرة من تلك المجموعات المنقولة والمتراكمة فإنها قد هدئت بشكل سهل تماما. ويبدو أن علماء الدين أنفسهم قد مددوا استعمال نظرية الإجماع منذ وقت مبكر جدا لتستعمل في تصحيح استعمال نظرية الإجماع منذ وقت مبكرا جدا لتستعمل في تصحيح وتوثيق الأحاديث، ويبدو أنهم قد اعترفوا! بأن إجماع الأمة هو الحكم الأعلى لمعرفة صحة الأحاديث".
ثم يضيف إلى ذلك قوله: "ولكن المحدثين المتذممين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بهذه الطريقة السهلة للحكم على صحة أحاديث متراكمة على شكل مجموعة عظيمة إلى هذا الحد، ففي مقابلة الخطر الذي كان يتهدد الجماعة الإسلامية السنية والذي كان يتمثل بوجود عدد لا يحصى من الأحاديث المغرضة والمتحيزة طالبوا بوضع شروط أخرى غير تصديق الجماعة لقبول وثاقة الأحاديث وصحتها" انتهى (1).
وهذا الكلام قد فيه صاحبه بمقدمة خاطئة توطئه للنتيجة التي يقصدها فخرج عن الجادة إلى منعطفات تائهة، نذكر منها:
(1) من الفصول المترجمة التي ترجمها لنا الزميل الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ من كتاب، "دراسات في السنة الإسلامية" تأليف ليون بورشيه، الذي استخلص زبدته من كتاب دراسات محمدية لجولد تسيهر.
1 -
أنه فسر الاجماع باتفاق عامة الناس كما ينبئ عنه قوله "كانت جماعة المؤمنين"، وقوله في عجز كلمته:"تصديق الجماعة لقبول وثاقة الأحاديث".
وهذا التفسير للإجماع مجاف للمقررات البدهية في العلوم الإسلامية، لا يخفى على طالب علم أو شخص له إلمام بالثقافة الإسلامية، فإنه ليس يخفى أن الاجماع الذي يحتج به عند المسلمين إنما هو اجماع الأئمة المجتهدين على اتسخرجا حكم من دليل شرعي، وأنه ليس لأهل الاجماع الحق في تجاوز دلائل الشريعة.
2 -
أن العلماء لم يعولوا أبدا على قبول العوام أي حديث من الأحاديث، بل كانوا كلهم أولهم وآخرهم حتى يومنا هذا ينظرون بعين الحذر إلى الروايات التي تنتشر بين العوام وهذه مقدمة مسلم لصحيحه صريحة في أنه قد دفعه إلى تأليف صحيحه ما وجده ذاع بين العوام من الأحاديث الضعيفة والتالفة.
3 -
أن المحدثين قد خصوا بالدراسة ما اشتهر من الحديث بين العوام في نوع خاص هو المشهور حيث درسوا الأحاديث المشهورة بين العامة وبينوا أنها ليست على مستوى واحد، ثم أحصوها في مصنفات بينوا فيها درجة كل حديث من الصحة أو الضعف، بل الكذب والاختلاق.
4 -
لو فرضنا أن قصد الطاعنين من قولهم "نظرية الإجماع" إجماع العلماء الأخصائيين بالنقد من جهابذة المحدثين، فهل يمكن أن يعتبر هذا الأسلوب في التمحيص العلمي "أسلوبا سهلا" منتقدا كما زعم، أم أن هذا هو قمة البحث المحقق! . وها نحن نجد العالم يحتج بما يحققه المختص في فنه ويتلقاه عنه بالقبول، فكيف بما اتفق عليه أئمة الاختصاص وكبار علمائه.
3 -
المستفيض:
المستفيض مأخوذ في اللغة من فاض الماء إذا سال وانتشر.
وأما في الاصطلاح فاختلف فيه، وأكثر ما يستعمل عند الأصوليين.
وهو الحديث المشهور عن جماعة من العلماء، وقيل بأن ثمة فرقا بينهما، وأصحاب هذا الرأي اختلفوا في التفرقة بينهما: فمنهم من قال: المشهور أعم من المستفيض، لأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه وأثنائه سواء، والمشهور ليس كذلك. ومنهم من عكس فجعل المستفيض أعم من المشهور.
وقيل: إنه ما تلقته الأمة بالقبول، من غير اعتبار عدد، فهو والمتواتر بمعنى واحد على هذا القول: وإليه مال الحافظ ابن حجر، حيق قال في شرح النخبة (1):"وليس من مباحث هذا الفن".
4 -
العزيز:
مأخذ هذا الاصطلاح في اللغة من قولهم: عز يعز، إذا قوي. كقوله تعالى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أو من "عز، يعز" إذا صار قليلا نادرا.
(1): 7.
وفي اصطلاح المحدثين قال ابن الصلاح: روينا عن الحافظ أبي عبد الله بن منده أنه قال: الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريبا. فإذا روى عنهم رجلان وثلاثة واشتركوا في حديث يسمى عزيزا، فإذا روى الجماعة عنهم حديثا سمي مشهورا".
فلم يفصله ابن الصلاح تبعا لابن منده عن المشهور فصلا تاما، حيث جعلهما مشتركين فيما رواه الثلاثة! . وعلى ذلك سار النووي وغيره، وبه تشعر عبارة البيقونية:
عزيز مروي اثنين أو ثلاثة
…
مشهور مروي فوق ما ثلاثة (1)
واختيار الحافظ ابن حجر وغيره في العزيز أنه ما رواه اثنان، وفصلوه عن المشهور فصلا تاما فخصوا المشهور بما رواه ثلاثة فأكثر.
ومناسبة التسمية للعزيز ظاهرة، لعزته أن قوته بمجيئه من طريق أخرى، أو لقلة وجوده. حتى قد نازع ابن حبان في وجود هذا النوع.
قال الحافظ ابن حجر (2):
"وادعى ابن حبان .. أن رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلا. قلت: إن أراد أن رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلا فيمكن أن يسلم، وأما صورة العزيز التي حررناها فموجودة، بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين".
وما قاله الحافظ قوي، لأن الحديث إذا رواه في بعض الطبقات راويان فقط، ثم رواه أكثر من ذلك لم يخرج عن كونه عزيزا، لأن الأقل يقضي على الأكثر.
(1) وقارن بشرح المنظومة البيقونية: 90 و 92.
(2)
في شرح النخبة: 8.
مثال العزيز: حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
رواه الشيخان (1) من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة .. ، وقد رواه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن علية وعبد الوارث، ورواه عن كل جماعة.
والحكم في العزيز كالمشهور يتبع حال السند والمتن فإذا تحققت فيهما شروط الصحة ولو من طريق واحد كان صحيحا، وقد يكون حسنا أو ضعيفا، وليس يشترط في الحديث الصحيح أن يكون عزيزا، بل قد يكون غريبا كما عرفت (2).
5، 6 - التابع والشاهد:
ويعبر العلماء عنهما في كتب المصطلح بصيغة الجمع: "المتابعات والشواهد".
(1) البخاري في الإيمان: ج 1 ص 8، ومسلم: 1: 49، واللفظ روياه عن أنس.
(2)
في بحث حكم الغريب والفرد ص 401 - 402 من هذا الكتاب.
وقد نسب بعض العلماء إلى الحاكم أنه يشترط في الحديث الصحيح أن يكون عزيزا، أي لا يرويه أقل من اثنين، وسرى ذلك إلى بعض الكاتبين العصريين. والصواب أن الحاكم لا يشترط ذلك، وقد حققناه مذهبه وفهم كلامه في كتابنا الإمام الترمذي: 60 - 61 فانظره لزاما.
أما المتابعة، فهي أن يوافق راوي الحديث على ما رواه من قبل راو آخر فيرويه عن شيخه أو عمن فوقه.
وتنقسم المتابعة إلى قسمين: تامة، وقاصرة.
فالمتابعة التامة: هي التي تحصل للراوي نفسه بأن يروي حديثه راو آخر عن شيخه. والمتابعة القاصرة "أي الناقصة" هي التي تحصل لشيخ الراوي بأن يروي الراوي الآخر الحديث عن شيخ شيخه، وكذا التي تحصل لمن فوق شيخ الراوي.
ولا اقتصار في المتابعة بقسميها على ورود الحديث بنفس اللفظ، بل لو جاءت بالمعنى لكفى، لكنها تختص بكونها من رواية ذلك الصحابي.
وأما المشاهد فهو حديث مروي عن صحابي آخر يشابه الحديث الذي يظن تفرده، سواء شابهه في اللفظ والمعنى. أو في المعنى فقط.
وهذا مثال يجمع المتابعة التامة، والقاصرة، والشاهد (1).
فالمتابعة التامة: ما رواه الشافعي (2) عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
هذا الحديث بهذا اللفظ ظن قوم أن الشافعي تفرد به عن مالك، فعدوه في غرائبه، لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسناد بلفظ "فإن غم عليكم فاقدروا له".
(1) عن شرح النخبة: 22 - 23، وقد خرجنا أسانيده من مصادرها.
(2)
في الأم أول الصيام: 2: 94.
لكن وجدنا للشافعي متابعا عند البخاري في صحيحه فقد قال فيه (1):
"حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
وهذه متابعة تامة للإمام الشافعي، فقد روى عبد الله بن مسلمة الحديث عن مالك شيخ الشافعي بالسند والمتن.
ومثال المتابعة القاصرة: ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث عاصم بن محمد عن أبيه محمد بن زيد عن جده عبد الله بن عمر، "فأكملوا ثلاثين".
ورواه مسلم (2) في صحيحه، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر
…
الحديث بلفظ "فاقدورا ثلاثين". فهذه متابعة قاصرة لأن الموافقة للشافعي وقعت في رواية الحديث عمن فوق شيخه، وهو هنا الصحابي.
ومثال الشاهد: ما رواه النسائي (3): أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس قال: "عجبت ممن يتقدم الشهر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين".
(1) في الصوم: 3: 27.
(2)
"3: 122".
(3)
"2: 109".
وكذا ما رواه البخاري (1): حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
فهذا يوافقان حديث الشافعي، لكنهما من حديث صحابي آخر، فكل منهما شاهد لحديث الشافعي رحمه الله.
ومن هذا يتضح الفرق بين التابع والشاهد، وهو أن التابع يختص بالرواية عن نفس الصحابي، والشاهد بالرواية عن غيره. وهذا عند الجمهور.
وفرق قوم بين التابع والشاهد فخصوا التابع بالموافقة على رواية لفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان من رواية ذلك الصحابي أو غيره. وخصوا الشاهد بالموافقة في المعنى كذلك.
قال الحافظ ابن حجر: "وقد تطلق المتابعة على الشاهد، وبالعكس، والأمر فيه سهل"(2).
وهذا لأن المقصود بكل منهما هو التقوية، وهو "حاصل بكل منهما سواء سمي متابعة أو شاهدا".
ولما كان المقصود بالمتابعات والشواهد التقوية، فإن المحدثين يتساهلون، فيقبلون فيها رواية من يقارب الثقة، وينزلون إلى الضعيف، وهذا هو السبب في أن البخاري ومسلما يخرجان أحاديث بعض الضعفاء.
(1): 3: 27.
(2)
انظر شرح النخبة وشرحه للقاري: 93.
في المتابعات والشواهد. وذلك لأن الاعتماد ليس على التابع والشاهد، إنما هو على الأصل الصحيح الذي أريد إردافه بالمتابعة أو الشاهد.
لكن المحدثين لم يفرطوا في هذا التساهل بل تحرزوا فلم يعتدوا بكل أحد من الضعفاء في المتابعات والشواهد بل اشترطوا فيه ألا يكو قد اشتد ضعفه، وفقا لما سبق في مراتب الجرح والتعديل من بيان المراتب التي يعتبر بها والتي لا يعتبر بها (1).
مثال ذلك ما روى الترمذي (2): "حدثنا أبو كريب حدثنا سويد بن عمرو الكلبي عن حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد ين سيرين عن أبي هريرة أراه رفعه قال: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه .. " إلى آخره.
والحديث يرويه أيضا الحسن بن دينار عن ابن سيرين، مما قد يوهم أنه خرج بذلك عن الغرابة، وتقوى، لكن الحسن بن دينار شديد الضعف. قال الذهبي (3):"تركوه". لذلك لم يخرجه الترمذي عن حد الغرابة والضعف لأنه لا يصلح للمتابعة.
(1) 1 في ص 112 - 113.
(2)
في البر والصلة: 4: 360. وانظر ما سبق في حديث طلب العلم: 410.
(3)
في المغني رقم 1399، وانظر التدريب:154.