المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمات ‌ ‌التقريظ: كلمة جامعة لفضيلة الأستاذ الجليل العلامة الدكتور الشيخ محمد محمد - منهج النقد في علوم الحديث

[نور الدين عتر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌التقريظ:

- ‌تصدير الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث

- ‌الفصل الأول: تمهيد في منشأ مصطلح الحديث:

- ‌الرواية والدراية في علم الحديث:

- ‌الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

- ‌مدخل

- ‌الدور الأول: دور النشوء

- ‌الدور الثاني: وهو دور التكامل

- ‌الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة

- ‌الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا

- ‌الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث

- ‌الدور السادس: عصر الركود والجمود

- ‌الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث

- ‌الباب الثاني: في علوم رواة الحديث

- ‌الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

- ‌الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي

- ‌المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية

- ‌المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة

- ‌الباب الثالث: في علوم رواية الحديث

- ‌الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي

- ‌الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله

- ‌نتيجة الباب

- ‌الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد

- ‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

- ‌الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود

- ‌نتائج الباب:

- ‌الباب الخامس: في علوم المتن

- ‌الفصل الأول: في علوم الحديث من حيث قائله

- ‌الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته

- ‌نتيجة عامة:

- ‌الباب السادس: في علوم السند

- ‌الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال

- ‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

- ‌نتائج مهمة:

- ‌الباب السابع: في العلوم المشتركة بين السند والمتن

- ‌الفصل الأول: في تفرد الحديث

- ‌الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم

- ‌الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث

- ‌نتيجة وموازنة:

- ‌الخاتمة:

- ‌مناقشات ونتائج عامة:

- ‌شبهات ومناقشات:

- ‌أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه

- ‌ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث

- ‌ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون

- ‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

- ‌ ثبت المصادر المخطوطة مع بيان أماكن وجودها مختصرا:

- ‌ ثبت المراجع المطبوعة:

- ‌للمؤلف:

الفصل: ‌ ‌المقدمات ‌ ‌التقريظ: كلمة جامعة لفضيلة الأستاذ الجليل العلامة الدكتور الشيخ محمد محمد

‌المقدمات

‌التقريظ:

كلمة جامعة لفضيلة الأستاذ الجليل العلامة الدكتور الشيخ محمد محمد أبو شهبة، أستاذ التفسير والحديث في الدراسات العليا في جامعة الأزهر سابقا، وفي كلية الشريعة بمكة المكرمة حاليا، وعميد ومؤسس كلية أصول الدين في أسيوط، وصاحب المؤلفات العلمية القيمة في الحديث، وعلومه، ورجاله، نثبت نص كلمته فيما يلي (1):

"الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

فإن كتاب: "منهج النقد في علوم الحديث" لمؤلفه العلامة الأستاذ الدكتور نور الدين عتر كتاب قيم جليل تميز على المؤلفات في هذا الفن بمزايا كثيرة تجعله في مقدمة المؤلفات الحديثة في هذا الفن الجليل.

ومن هذه المزايا:

أ- حسن التقسيم والتفصيل: فإن المؤلف الفاضل قد ابتكر في

(1) وقد اكتفينا بهذه الكلمة عن التقاريظ الكثيرة التي تلقيناها من عدد من كليات الشريعة وأصول الدين والمراكز العلمية. ومن فضيلة العلامة المحقق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي محدث الديار الهندية ورئيس مجلس الإفتاء، ومن الأستاذ الدكتور يوسف وإن إس رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة توبنجن: ومن كبار المستشرقين في أوربة.

هذا مع شكرنا الجزيل للجميع، من ذكرنا ومن لم نذكر، أجزل الله مثوبتهم، وجعلنا خيرا مما يظنون.

ص: 7

تقسيم وتنويع "علوم الحديث" أو "أصول الحديث" فصاغه صياغة جديدة، في نظرية علمية كاملة تبرز كمال هذا العلم ودقته، وتجعل الأنواع المتعلقة بكل جانب من الحديث مجتمعة في باب خاص، فجعل ما يتعلق بالمتن من أنواع علوم الحديث أو قواعد الحديث على حدة، وما يتعلق بالأسانيد على حدة، وما يجمع بين الأسانيد والمتون على حدة، بالإضافة إلى الدراسة التاريخية المبتكرة لأدوار هذا العلم، وكيف كان الحديث يحاط في كل عصر بما يكفل حفظه من الدس أو الخلط.

كل هذا مع المحافظة على جوهر هذا العلم وعرضه في حلة جديدة، فكان الكتاب بذلك وثيقة علمية هامة وفريدة في طريقتها يثبت حفظ هذه الأمة لحديث نبيها صلى الله عليه وسلم وصيانتها إياه، ويبطل ما قد يقع في بعض الأوهام من شك أو تردد.

وما أشد حاجة طلاب العلم في الجامعات الإسلامية وغيرها إلى هذه التآليف المبسطة والمقدمة في أسلوب سهل، والتي تعالج ما ثار من شبهات حول هذا الفن. وقد قام المؤلف بذلك خير قيام.

ب- الاعتناء بضرب الأمثلة لأنواع علوم الحديث، وعدم الاقتصار على الأمثلة التي ذكرها الأئمة القدامى، كما نجده في المؤلفات الأخرى، مع الاعتناء بشرح الأمثلة اعتناء جيدا. وقد سهل له هذا اطلاعه على كتب الحديث ورواياته المشهورة، وهذا أمر يلمسه من يقرأ هذا الكتاب بتمعن. وبذلك زاد في العلم زيادات أثرت هذا العلم وجعلته صالحا للتجديد.

جـ- العناية الفائقة بتخريج الأحاديث التي مثل بها لأنواع علوم الحديث، ومنهاج النقد عند المحدثين، وعزوها إلى مخرجيها الذين رووها في كتبهم، وبيان الراجح في الحكم على الأحاديث التي اختلف في بيان درجتها علماء الحديث والجرح والتعديل، فلم يكن مجرد ناقل، وإنما

ص: 8

جمع إلى ذكر أقوال العلماء الترجيح، وبذلك ظهرت شخصيته العلمية واضحة في هذا الكتاب.

د- العناية بالتعريف بالأعلام الذي ذكروا في هذا الكتاب بتواريخ وفيات العلماء: وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن يعنى بها المؤلفون في أي فن، وبذلك يضع أمام القارئ صورة صادقة للتطور العلمي، والتدرج في التأليف في هذا الفن وغيره من العلوم وزبدة تاريخ كل علم، دون ما بحث أو جهد من القراء، وقد بدا ذلك واضحا في الكتاب.

هـ- سعة الاطلاع على كتب هذا الفن التي تكون في مجموعها مكتبة مستقلة بذاتها، وإن القارئ ليلمس أن المؤلف الفاضل غاص في أعماقها من مخطوط ومطبوع، واستخرج درر فوائدها، ثم نظمها نظما بديعا في هذا الكتاب.

وومن محاسن هذا الكتاب دقة التحرير للأقوال والآراء التي كثرت فيها الخلافات، والتوفيق بين الآراء التي ظاهرها التعارض، وبيان أن الاختلاف بين العلماء في العبارات، إنما يرجع إلى الاختلاف في الأنظار والاعتبارات، وبذلك رفع عن أئمة الحديث ما عسى أن يأخذه عليهم من لم يتبحر في هذا الفن، ولم يقف على اجتهاداتهم فيه، فيرميهم بالتناقض وإنهم يخالف بعضهم بعضا، وذلك مثل ما فعل في بحث المنقطع، وبحث المرسل، وبحث الشاذ، والمنكر، وغيرها.

ز- الرد على بعض المؤلفين الذين ألفوا في هذا الفن، فلم يوافقوا الصواب، بعبارة عفة مهذبة، وبذلك سار على نهج أئمة الحديث في النقد من أمثال الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. وهذا من أحسن المناهج في النقد الموضوعي، وليس أدل على ذلك مثل ما ذكره في هامش ص 383

ص: 9

وهامش ص" (403) "(1).

ح- عناية المؤلف بالرد على بعض الآراء الاستشراقية التي لم تقم على أساس علمي سليم، وإنما هي أفكار صليبية، ظهرت واستعلنت على ألسنة هؤلاء المستشرقين الذين تجنوا على السنن والأحاديث تجنيا مذموما كي يشككوا المسلمين في الأصل الثاني من أصول التشريع، ذلك كما صنع في مواضع أثناء الكتابة، ثم في (390) وما بعدها إلى آخره (2). وقد ناقش المستشرقين مناقشة جادة منصفة، تتسم بالنقد الموضوعي.

ط- حرصه في بحوثه على بيان أن مناهج المحدثين في النقد سواء كان ذلك في النقد الداخلي: نقد المتون. أم في النقد الخارجي: نقد السند هي آصل المناهج في النقد وأدقها.

ويظهر ذلك جليا في الخاتمة تحت عنوان: مناقشات ونتائج. ص (432) وما بعدها (3). وهذه الخاتمة بما لخصه فيها من نتائج تعتبر قيمة جدا، وهكذا فلتكن البحوث الجادة الهادفة.

ي- إبرازه دقة تطبيق المسلمين لهذا المنهج النقدي الدقيق الكامل الشامل كل جوانب النقد، ودحضه مزاعم المستشرقين الذين تقوَّلوا الأقاويل الباطلة في هذا الموضوع، ودعم ذلك بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة.

وبعد هذا المطاف في هذا المؤلف القيم "منهج النقد في علوم الحديث" فإنا نؤكد الإشادة بمزاياه، وجمعه بين أصالة القديم وجدة الحديث، وحسن العرض للمعلومات الحديثية الدقيقة، وبيان تحقق إنجاز الوعد الإلهي:

(1) انظر مقابلها ص 406 و 427 من هذه الطبعة.

(2)

انظر ص 410 وما بعدها من هذه الطبعة.

(3)

انظر ص 457 وما بعدها من هذه الطبعة.

ص: 10

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

بما وفق الله المسلمين إليه من صيانة الأحاديث النبوية، وذلك كله في أسلوب سهل قريب، ونشيد به ونقرظه لما فيه من الإثراء لهذا العلم الإسلامي العظيم: علم السنن والأحاديث. فقد أفاد المؤلف هذا العلم إفادة ظاهرة واضحة، وخدمه خدمة جليلة.

وإن من يبتكر هذا النظام البديع لعلوم الحديث ويقارع المستشرقين وأضرابهم بهذه الحجج الباهرة، وبهذا البيان الساطع والفكر النير ينبغي أن يعطى حقه ويعرف فضله، وينتفع به.

ونسأل الله لنا وله التوفيق والسداد، وأن ينفع بعلمه طلاب هذا اللون من الثقافة الإسلامية الأصيلة. إنه نعم المولى ونعم النصير، ونعم المكافئ والمجازي للعلماء العاملين.

في 20/ 11/ 98 هـ

خادم القرآن والسنة

الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة

ص: 11

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تصدير الطبعة الثالثة:

الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين، والذي جاء بهذا الدين الحكيم، المحفوظ من كل تغيير وتبديل، بحفظ رب العالمين إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيلهم وتمسك بحبل السنة المتين.

أما بعد:

فهذه الطبعة الثالثة لكتابنا "منهج النقد في علوم الحديث"، نقدمها لمحبي علم السنن والآثار، بل لكل باحث ناقد، يتوجه إلى الحقيقة بعقل علمي ممحص، ولكل مثقف يريد أن يقف على أصول هذا الدين، ليستيقن بنقل هذه الأمة حديث نبيها صلى الله عليه وسلم بأمانة وثقة، وتواتر، وكيف أنها ابتكرت لتحقيق ذلك أقوم وأدق سبيل نقدي على مدى الأزمان: وتشبثت بتطبيق ذلك غاية التشبث عبر التاريخ، منذ أول عهدها بالرواية إلى يوم الناس هذا، وتحقق بذلك إنجاز الوعد الإلهي:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

ولعله من التحدث بنعمة الله تعالى أن نذكر هنا ما لقيه هذا الكتاب من القبول لدى الجهات العلمية الإسلامية والأجنبية، لما اختص به من منهج

ص: 13

جديد، صاغ علم مصطلح الحديث، في نظرية نقدية مبتكرة متكاملة، ولمناقشته آراء الذين تصدوا لنقد المحدثين، وإزالته اللبس الذي وقع فيه بعض الكاتبين.

كما أننا نعلن في هذه المناسبة عن ضرورة تزويد طلاب الجامعات في أقسام التاريخ، والدراسات الاجتماعية بدراسات عن هذا العلم، تربط بين علوم الحديث عند المسلمين وبين النقد التاريخي الأجنبي، الذي هو مدين لنا ولعلمنا هذا، كما نرى ضرورة إدخال دراسة موجزة ولو بضع صفحات عن الرواية والإسناد في الدراسة الإعدادية والثانوية.

وهذه أمانة أضعها في عنق كل قارئ وكل مسلم أن يجهد من أجلها في مكانه وميدانه، بغاية وسعه وطاقته. فإن لذلك أثره الكبير في وقاية الشباب الجامعي والمثقف من التشكك أو ضعف الثقة في تراثه العظيم.

وإنا لنرجو أن يكون لكتابنا هذا أثره في هذا الميدان، وأن يكون وافيا بجوانب العلم، ملاحظا حاجة الثقافة، وحاجة الدعوة معا.

أسأل الله تعالى أن يتقبله ويعمم النفع به، في نشر هذا اللون من الثقافة، وإحياء علم السنن والآثار، هو مولانا ونعم النصير.

كتبه: نور الدين عتر، خادم القرآن وعلومه، والحديث وعلومه.

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة الطبعة الأولى:

الحمد لله الذي أبدع كل شيء فأحسنه، وأرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فبلغه وبينه، واختار له من الأصحاب والأتباع من نهضوا بنقله وتلقينه، وحفظه وتدوينه، حتى بَلَّغَ الخلف كما تلقاه السلف، غضا طريا مدى العصور.

أما بعد:

فهذا كتاب في علوم الحديث، نرجو أن يكون لبنة متواضعة في صرح هذا العلم العظيم، الذي اختص الله تعالى به هذه الأمة، وأكرمها به من دون سائر الأمم، يبرز بجلاء وفاء قواعد هذا العلم بالغرض العظيم الذي وضع من أجله، ألا وهو الذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمييز صحيحه من منحوله، ومقبوله من مدخوله.

إنه كتاب ينقل مسائل هذا العلم من التفرق إلى التكامل، ويأخذ بالقارئ من الجزئيات إلى النظرية الكاملة المتناسقة، التي تتآلف فيها أنواع علوم الحديث كافة، لتبدو في مجموعها منطلقة بتسديد وإحكام نحو الغاية المنشودة.

إنه بهذا يواجه مناهج البحث العصرية العربية والأجنبية التي تزهو بالمنهجية وصياغة النظريات، ويبين -بما لا يدع مجالا للشك- عمق نظرة المحدثين، وشمولها جوانب البحث النقدي في الأحاديث.

ص: 15

لقد تتبع الكتاب بالسبر والاختبار كل احتمالات القوة أو الضعف التي قد تطرأ على السند أو المتن أو عليهما معا، ونظر فيما يتبع كل واحد منها من أنواع الحديث.

ثم قسم الأنواع على أبواب رئيسية يختص كل منها بركن من أركان البحث في الحديث، فتوصل بذلك إلى نتيجة هامة سيحس بها القارئ في متابعة أبحاث الكتاب، ألا وهي شمول هذه الأنواع لجميع الاحتمالات التي أشرنا إليها جزئيا وكليا، من البحث في رواة الحديث واحدا واحدا، إلى التحليل الشامل لمقومات الحديث في السند والمتن جمعيها، وبذلك يصدر الحكم على الحديث معتمدا على أصول نقدية دقيقة، لوحظ فيها المعنى مع المبنى، والمتن مع السند، مع الاستناد في ذلك إلى مقتضيات العقل والحس.

وهكذا مهد كتابنا للدارس السبيل من أجل تكوين فكرة شاملة أو نظرية منتظمة لقواعد هذا العلم العظيم، تتبع فيها الفروع أصولها، وتتضح الوجهة في كل قاعد من قواعده، وفي كل مسألة من مسائله.

وقد عنيت في أبحاثي بضبط التعاريف وتحليلها، وبيان الآراء المختلفة في الأمور الهامة ودراستها، مع نقد الضعيف منها، ونبهت على الذي أعرض له هل هو اختلاف اصطلاح، أو اختلاف اجتهاد في الحكم، فإن كثيرا من الخلافات يرجع إلى اختيار كل فريق من العلماء اصطلاحا يستعمله لمعنى يغير المعنى الذي يستعمله فيه الفريق الآخر، مثل الخلاف في "المنكر"، وقد وقع كثيرون في اللبس بسبب عدم التنبه إلى الاختلافات الاصطلاحية في هذا الفن.

وضربت الأمثلة لإيضاح التعاريف والقواعد، وأوردت بعضا منها بنصه كاملا من كتب السنة، ليكون بمثابة تدريب على النظر في الأحاديث

ص: 16

والبحث فيها، ثم ربطت كل نوع من أنواع علوم الحديث بالباب الذي أوردته فيه وبإطار العلم العام، أعني غاية العلم الأولى وهي "معرفة المقبول من المردود". وبذلك يظل الدارس على صلة بمعالم النظرية الأساسية، ويفيد في وضع كل قاعدة موضعها المناسب في مجال تطبيقها.

ومن هنا فقد اختصرت الفروع والمسائل التي لا تتصل صلة وثيقة بالغاية التي ذكرناها آنفا.

وحاصل النظرية التي بنينا عليها نظام الكتاب وترتيبه يقوم على قضية واحدة مسلمة، هي أنه لا بد لكي يكون الحديث مقبولا أن نعلم أن رواية قد أداه كما سمعه، وهذا لا يتحقق إلا إذا استوفى الراوي الشروط الكافية لذلك، فكان لا بد أولا من بحث العلوم المتعلقة بالرواة.

ثم إن أخذ الراوي عن أساتذته له أحوال وأحكام، وكذلك تبليغه العلم يعتوره أحكام أيضا، فكانت دراسة علم الرواية مكملة لما سبق ومتممة له.

ولما أن الأحاديث قد وصلت إلينا بنقل رجال السند واحدا عن الآخر حتى يبلغوا قائلها، فإن من الواجب أن ندرس شروط القبول في السند والمتن، وذلك في تعريف الصحيح والحسن ونبين كفايتها لإثبات سلامة الحديث وأدائه كما سمع، كما نبين أن اختلال شيء منها يجعل الحديث ضعيفا لما فيه من فقد المعيار الذي يثبت سلامة الحديث.

ومن ثم فإننا ننتقل على ضوء ما سبق إلى السبر والدرس لكل جوانب الحديث، ونوضح احتمالات الضعف والقوة فيها، مع بيان حكم كل منها.

ونبدأ بدراسة أحوال المتن فإنه المقصود من بحث الأسانيد، ثم يأتي بعد ذلك البحث في تسلسل الإسناد وما يعرض له من اتصال أو انقطاع،

ص: 17

ومن تعدد سند أو غير ذلك، ثم نتبعه بالأنواع المشتركة بين السند والمتن، كالشاذ والمضطرب والمعلل.

وإذا انتهى البحث الجزئي في كل جوانب الحديث جاء دور النظرة الشاملة، وهي نظرة إجمالية توضح دقة نهج المحدثين وإنهم شملوا بالدرس والبحث كل احتمالات القوة والضعف والعوامل المؤثرة فيهما سندا ومتنا، وأعطوا كل حال حكمه المناسب له، فجاء عملهم موفيا بالغرض المطلوب، وهو تمييز المقبول من المردود على غاية من الدقة المنهجية.

وهكذا قسمت أبحاث الكتاب على الأبواب الآتية:

الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث:

وفيه تعريف يبين المراد من "علوم الحديث"، وهو "مصطلح الحديث"، ثم بحث أدوار هذا العلم التاريخية، وأشهر المؤلفين والكتب المصنفة في كل دور. وفيه تحقيق هام عن حفظ الصحابة للحديث وعن كتابتهم إياه.

الباب الثاني: في علوم رواة الحديث:

ويقع في فصلين:

الفصل الأول: العلوم المعرفة بحال الراوي من القبول أو الرد.

الفصل الثاني: في علوم الرواة التي تبين شخص الراوي.

ويقع في مبحثين:

المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية.

المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة.

الباب الثالث: في علوم رواية الحديث: تحمله وأدائه وكتابه. وآداب ذلك، ومصطلحات كتاب الحديث.

ص: 18

الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد:

ويقع في فصلين:

الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول.

الفصل الثاني: في أنوا الحديث المردود.

وهو الضعيف، وينقسم أقساما كثيرة تتعرض لبيان تفرعها وفقا لضابط دقيق سوف نفيد منه في سبر أحوال المتن والسند في الأبحاث الآتية.

الباب الخامس: في علوم المتن:

وندرس فيه هذين الفصلين:

الفصل الأول: في علوم المتن من حيث قائله.

الفصل الثاني: في علوم المتن من حيث درايته.

الباب السادس: في علوم السند:

ويقع في فصلين:

الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال.

الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع.

الباب السابع: في علوم الحديث المشتركة بين السند والمتن:

ويقع في ثلاثة فصول:

الفصل الأول: في تفرد الحديث.

الفصل الثاني: في تعدد رواية الحديث مع اتفاقها.

الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث.

خاتمة الكتاب: مناقشات ونتائج عامة.

وقد عولت في أبحاثي على المصادر الأصلية، ورجعت إلى

ص: 19

المصنفات الحديثية الخاصة بكل نوع من علوم الحديث، وفق خطة علمية تاريخية تلاحظ الابتداء من الأقدم فالذي يليه، وكثير من هذه المصنفات مخطوط أو في حكم المخطوط لندرته.

ونبهت على بعض ما وقع من كبوات الكاتبين الأفاضل في هذا العصر، مع تقديري لهم ولما بذلوا من جهد أجزل الله مثوبتهم.

ونرجو أن نكون قد أعطينا البحث حقه في الاستناد إلى المراجع، كما نرجو أن نكون قد وفقنا في عرض الآراء ودراستها والإدلاء بالنتائج الصحيحة في أبحاثنا.

والله تبارك وتعالى نسأل، وإليه نتوسل أن يجعله عنده في حرز القبول، إنه أكرم مسئول، وجوده خير مأمول، وهو تقدست ذاته أرحم الراحمين، ذو الفضل العظيم.

غرة رمضان المبارك سنة 1392

8 تشرين الأول سنة 1972

وكتب: نور الدين عتر

ص: 20

‌الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث

‌الفصل الأول: تمهيد في منشأ مصطلح الحديث:

أنزل الله سبحانه كتابه الحكيم هداية مبينة تضيء للناس سبل السعادة والسلام في دنياهم وآخرتهم، وجعله معجزة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم باهرة باقية إلى يوم الدين، تنادي العالم إلى الهدى الحق. ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له، كما قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1)، وقال:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2).

(1) سورة النحل الآية: 44.

(2)

سورة النحل الآية: 64.

ص: 21

فبين القرآن لنا في هاتين الآيتين وفي آيات كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان لكتاب الله، أو بعبارة أخرى أن موقع الحديث النبوي من القرآن هو موقع المبين من المبين، وهذا البيان ليس قاصرا على مجرد التفسير، بل له أوجه عديدة تجعل العمل بالقرآن في أركان أبنيته العظيمة مفتقرا إلى السنة لا يستغني عنها (1).

أخرج الخطيب (2) أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان جالسا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: "أدنه" فدنا، فقال:"أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا تقرأ في اثنتين؟ ! أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة؟ ! ثم قال: "أي قوم خذو عنا، فإنكم والله إن لم تفعلوا لتضلن".

وقد جاءت الآيات الكثيرة جدا صريحة قاطعة في وجوب العمل بالحديث النبوي، كقوله تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (3).

وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} (4).

فقد نزلت هذه الآية في أهل بيت خطب النبي صلى الله عليه وسلم

(1) انظر تفصيل بيان السنة للقرآن في كتاب "السنة" للإمام محمد بن نصر المروزي خصوصا ص 68 - 72. وانظر تخليصها في كتاب "التفسير والمفسرون" للأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي: 1: 55 - 57.

(2)

في كتابه العظيم "الكفاية في علم الرواية" طبع الهند: 15.

(3)

سورة المائدة: 92.

(4)

الأحزاب: 36.

ص: 22

إليهم فتاتهم إلى صحابي، فلم يرتضوه، فنزلت الآية بسبب ذلك (1)، وعاتبتهم عتابا شديدا، مع أنه خاص من أمورهم خولته لهم الشريعة، لكنه لما عارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر مخالفة وعصيانا، فما بالك بوجوب طاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر الأمور.

ولقد تواترت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في وجوب الأخذ بهديه في كل شيء من الأمور، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، على منشط النفس ورضاها، أو على كراهيتها وإبائها ومخالفة هواها.

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(2).

وقال: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها"(3).

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد الأخذ بحديثه الشريف على الرغم من التيارات الفاسدة والأعراف الاجتماعية المنحرفة، ويحض على اتباع سنته لما فيها إذ ذاك من مضاعفة الأجر:

قال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت

(1) تفسير ابن كثير: 3: 490. لكن الروايات اختلفت في تعيين الأشخاص، فقيل إنها بشأن خطبة زينب بنت عمته صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة، فلم يرتضوه لأنه لأنه مولى. وقيل خطب إلى بعض الأنصار فتاتهم لرجل من أصحابه فأبوا. فاحتججنا بالمعنى المشترك بين هذه الروايات.

(2)

أبو داود في لزوم السنة بلفظه: 4: 200 - 201. والترمذي في العلم وقال: حسن صحيح: 2/ 92. وابن ماجه في السنة: 15.

(3)

مسلم: 3: 11.

ص: 23

بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا". أخرجه الترمذي وقال حديث حسن (1).

وعنه صلى الله عليه وسلم: "المتسمك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد" أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الزهد (2).

لذلك عنيت الأمة الإسلامية بالحديث النبوي، فأوعته حوافظها الفذة، وبذلت من أجله أعظم الجهد، وحاز حديث النبي صلى الله عليه وسلم من الوقاية والمحافظة ما لم يكن قط الحديث نبي من الأنبياء. فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول في الشؤون كلها العظيمة واليسيرة، بل في الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، فنقلوا تفاصيل أحواله صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه ويقظته ومنامه وقيامه وقعوده، حتى ليدرك من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئا صدر عنه صلى الله عليه وسلم إلا روته ونقلته.

وكان من حرصهم على الحديث وتلهفهم له أن يجتهدوا في التوفيق بين مطالب حياتهم اليومية وبين التفرغ للعلم:

عن عمر رضي الله عنه قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك" متفق عليه (3).

(1) الجامع: 2: 92.

(2)

الشفا بشرح القاري: 2: 21. والجامع الصغير، ورمز لحسنه كما في الفيض: 6: 261 واللفظ للبيهقي.

(3)

البخاري بلفظه في العلم "باب التناوب في العلم": 1: 25. ومسلم في الطلاق: 4: 191 - 194 والترمذي في تفسير التحريم: 2: 166.

والنسائي في في الطلاق: 6: 135 - 136

ص: 24

ولما اتسعت البلاد الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ودخل الناس في البلاد المفتوحة أفواجا في دين الله، حبا لهذا الدين ويقينا به تعطشت نفوسهم لتعلم أحكام الشريعة والتهذب بأخلاقها وآدابها، والصدع بمواعظها وأحكامها.

ولقد علم الصحابة بقيادة الخلفاء أنهم خرجوا هداة لا جباة، وساروا في الأرض معلمين مرشدين لا مستعبدين ولا ظالمين، لذلك كانت عنايتهم بالعلم ومحو الجهل والجاهلية بالغة أقصاها، فأقام الكثير من الصحابة الفاتحين في أصقاع متفرقة ينشرون العلم ويبلغون الحديث، وبعث الخلفاء إلى الناس من كبار الصحابة من يعلمهم أمور دينهم، ولقد كان إقبال الناس على ارتشاف معارف الإسلام عظيما جدا، حتى إنا لنجد الخلفاء يبذلون لهم من مواهب الرجال ما يعز عليهم، وهذا عمر يقول لأهل الكوفة حين أرسل إليهم عبد الله بن مسعود:"وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي"(1).

ونجد هذا الحرص، يسري من الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم، فقد كان التابعون لا يكتفون بما سمعوا من الصحابة في بلادهم، بل يرحلون إلى عاصمة العلم:"المدينة المنورة" يسائلون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل إن الصحابة أنفسهم كانوا يرحلون للقاء بعضهم واستماع الحديث من الراوي الأصل الذي شافهه النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر.

ومن هنا تقرر للناظر حقيقة لها أهميتها، وهي أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يرجع إليهم الفضل في بدء علم الرواية للحديث، ذلك لأن الحديث النبوي في حياة المصطفى كان علما

(1) أسد الغابة: 3: 258 - 259.

ص: 25

يسمع ويتلقف منه صلى الله عليه وسلم، فلما لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حدث عنه الصحابة بما وعته صدورهم الحافظة ورووه للناس بغاية الحرص والعناية، فصار الحديث علما يروى وينقل، ووجد بذلك علم الحديث رواية.

ثم وضع الصحابة للرواية قوانين تحقق ضبط العدل للحديث، وتكلموا في الرجال كما سنفصل، وذلك ليتميز المقبول فيعمل به، من غير المقبول. ومن هنا نشأ مصطلح الحديث.

ص: 26

‌الرواية والدراية في علم الحديث:

فلنعرف "علم الحديث"، ثم نفصل أدوار مصطلح الحديث التاريخية.

ونبدأ أولا بتعريف كلمتي "العلم" و"الحديث".

العلم لغة: هو الإدراك. والفرق بينه وبين المعرفة أن العلم يطلق لإدراك الكليات عن دليل، والمعرفة لإدراك الجزئيات.

والحديث لغة: ضد القديم، ويستعمل في اللغة أيضا حقيقة في الخبر، قال في القاموس:"الحديث: الجديد، والخبر".

وفي اصطلاح علماء الإسلام: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ".

وعلى هذا التعريف لا يدخل في التعريفِ الحديثُ الموقوفُ، وهو

ص: 26

ما أضيف أي نسب إلى الصحابي، ولا المقطوعُ، أي ما أضيف للتابعي.

وهو مذهب الكرماني والطيبي ومن وافقهما (1).

لكن الجمهور ذهبوا إلى أنهما من الحديث، وسوَّوْا في الدلالة بين الحديث والخبر أيضا، قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر في نزهة النظر:"الخبر عند علماء الفن مرادف للحديث". فلا فرق إذن عند الجمهور بين الحديث والخبر (2).

فالتعريف المختار للحديث هو: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ أو أضيف إلى الصحابي أو التابعي".

وأما السنة: فهي لغة السيرة والطريقة المعتادة حسنة كانت أو قبيحة (3).

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها .. "(4). وتطلق في العرف الإسلامي على طريقة الإسلام، ومنه قولهم: فلان على السنة، وقولهم: سنة وبدعة.

(1) انظر الكواكب الدراري للكرماني: 1: 12.

(2)

أما الأولون فقد خصوا الخبر بغير النبي للتمييز بينه وبين الحديث. ولذلك قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها الأخباري. ولمن يشتغل بالسنة النبوية المحدث.

ومن العلماء من قال: بين الحديث والخبر عموم وخصوص مطلق. فالخبر أعم من الحديث حيث يصدق على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء عن غيره. بخلاف الحديث فإنه يختص بالنبي، فكل حديث خبر وليس كل خبر حديثا. شرح النخبة ص: 3، طبع مطبعة الاستقامة بمصر.

(3)

لسان العرب: 17: 89.

(4)

أخرجه مسلم: 3: 87.

ص: 27

وتطلق عند الفقهاء على ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.

وفي اصطلاح المحدثين: تطلق السنة على ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة عند بعضهم، والأكثر أنها تشمل ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي (1).

لكننا نلاحظ نتيجة الممارسة والتتبع أن لفظ السنة أكثر ما يستعمل عند علماء أصول الفقه، ويعرفونها بأنها:"ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير"(2). فيجعلونها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون فيها "الوصف". وذلك لأنهم يبحثون فيها كمصدر للتشريع، والتشريع يثبت بالقول أو الفعل أو التقرير منه صلى الله عليه وسلم.

أما علماء الآثار فأكثر ما يستعلمون كلمة "الحديث".

وأما الأثر: فقد خصه فقهاء خراسان بالموقوف اصطلاحا. ومنهم جماعة خصوا المرفوع بالخبر.

لكن المعتمد الذي عليه المحدثون أن يسمى كل هذا أثرا، لأنه مأخوذ من أثرت الحديث أي رويته (3).

ويؤيد ذلك إطلاق الحافظ العراقي على نفسه لقب "الأثري" بمعنى المحدث حيث قال في أول ألفيته:

يقول راجي ربه المقتدر

عبد الرحيم بن الحسين الأثري

(1) شرح شرح النخبة: 16، وقارن التقريب للنووي وشرحه للسيوطي:109.

(2)

حاشية التلويح للسعد التفتازاني: 2: 2.

(3)

تدريب الراوي شرح تقريب النووي: 6 و 109.

ص: 28

وسمى الحافظ ابن حجر كتابه في المصطلح: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" وغير ذلك كثير يشهد لما قلناه.

والحاصل: أن هذه العبارات الثلاثة: "الحديث، الخبر، الأثر، تطلق عند المحدثين بمعنى واحد هو: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة خلقية أو خلقية أو أضيف إلى الصحابي أو التابعي".

أم السنة: فالمحدثون يشملون بها الصفة، لكن الأصوليين لا يجعلون الصفة داخلة في مدلول السنة.

مثال القول: حديث: "إنما الأعمال بالنيات"(1).

ومثال الفعل: قول عائشة في صيامه صلى الله عليه وسلم للتطوع: "كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم"(2).

ومثال التقرير: حديث ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يُرِدْ منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم (3). فهذا هو التقرير أو الإقرار. يعني: أن يُخْبَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بشيء أو يحدث أمامه، فلا ينكره صلى الله عليه وسلم.

(1) أخرجه البخاري في أول صحيحه، ومسلم في الإمارة: 6: 48.

(2)

البخاري: "صوم شعبان": 3: 38، ومسلم:"صيام النبي صلى الله عليه وسلم""3: 160 - 161".

(3)

البخاري بلفظه في صلاة الخوف: 2/ 15، ومسلم في المغازي: 5: 162.

ص: 29

ومثال الوصف الخلقي حديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان .... "(1).

ومثال الوصف الخِلْقِيِّ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن وجها، وأحسنه خَلْقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير"(2).

ومعنى "علم الحديث" كتعبير لغوي إدراك الحديث. لكنه استعمل عند العلماء كاصطلاح يطلقونه باطلاقين:

أحدهما: علم الحديث رواية أو علم رواية الحديث.

والثاني: علم الحديث دراية، أو علم دراية الحديث.

تعريف علم الحديث رواية:

وردت عند العلماء تعاريف كثيرة لعلم رواية الحديث من أشهرها تعريف ابن الأكفاني حيث قال: "علم الحديث الخاص بالرواية: علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها"(3).

لكن اعترض على التعريف بأنه غير جامع أي أنه لا يشمل كل المعرف، لأنه لم يذكر تقريراته وصفاته، كما أنه لم يراع مذهب القائلين بأن الحديث يشمل ما أضيف للصحابي أو التابعي.

(1) البخاري أول صحيحه ومسلم في الفضائل: 7: 73.

(2)

البخاري "صفة النبي صلى الله عليه وسلم" ك 4: 188 ومسلم في الفضائل: 7: 83.

(3)

تدريب الراوي ص 4. نقلا عن إرشاد القاصد الذي تكلم فيه ابن الأكفاني على أنواع العلوم. وانظر التعاريف الأخرى في فتح الباقي شرح ألفية العراقي للشيخ زكريا الأنصاري ج 1 ص 7. والكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني: 1: 12. والمقاصد في أصول الحديث لكمال بن محمد اللاوي ق 1 ب.

ص: 30

فالمختار أن نقول في تعريف علم الحديث رواية: "هو علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها".

ونزيد في التعريف أو الصحابي أو التابعي": إن أريد مراعاة المذهب المشار إليه الذي عليه الأكثر.

موضوعه: موضوع كل علم هو ما يدور البحث عن عوارضه في ذلك العلم. وهذا العلم موضوعه هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو التابعي، فإنه يبحث في هذا العلم عن روايتها وضبطها ودراسة أسانيدها ومعرفة حال كل حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف، كما أنهم يبحثون في هذا العلم عن معنى الحديث وما يستنبط منه من الفوائد.

فعلم الحديث يحقق بذلك غاية عظيمة جدا تقوم على "الصون عن الخلل في نقل الحديث"(1).

وذلك بالمحافظة عليه كما ورد ونقله. ثم إنه يحقق بما بذل في شروحه من الجهود معرفة هذ الحديث الذي نريده أنه مقبول فنعمل به أو مردود فلا يعمل به، ويبين لنا معناه، وما يستنبط منه من الفوائد. فهو علم عظيم القدر والشأن يدني إلينا علم فيوضات النبوة (2).

(1) حاشية الصعيدي على فتح الباقي: ق 9 أ، وحاشية الأجهوري على شرح النخبة ق 6 ب.

(2)

وقال الكرماني: إن موضوع علم الحديث: "ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث أنه رسول الله". وقلده في ذلك بعض من عاصرنا من الكاتبين في هذا الباب.

لكنا نجد في هذا التعبير رغم جزالته وروعته توسعا كبيرا. إذ شمل=

ص: 31

تعريف علم الحديث دراية:

ويطلق عليه "مصطلح الحديث" أو "علوم الحديث" أو "أصول الحديث" ويطلق عليه أيضًا "علم الحديث"، كما وقع في مصطلح ألفية العراقي (1).

وأحسن تعريف لهذا العلم هو تعريف الإمام عز الدين بن جماعة حيث قال: "علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن"(2).

فقوله: علم: معنى العلم الادراك المطابق للواقع عن دليل، وهذا جنس في التعريف يصدق على العلوم الأخرى كالفقه وأصوله والتفسير (3).

لكن قوله: "يعرف بها .. " قيد أو فصل أدخل علم المصطلح في التعريف، وأخرج ما عداه.

= علوما أخرى ليست من الحديث، فإنه يتناول القرآن لأنه صدر عنه عليه الصلاة والسلام بحكم الرسالة على سبيل التبليغ عن الله، ويشمل إثبات رسالته وهي في علم التوحيد.

وأيضا فإنه يخرج عن موضوع العلم الأحاديث الواردة في صفاته الخلقية المنيفة وتاريخ مولده ونسبه ووفاته، ونحو ذلك، مما لا يتعلق بالرسالة وهو من الحديث بالإجماع. وأيا ما كان الأمر فلا خلاف في أن السيرة، وما يلحق بها من شرح واستنباط كل ذلك من علم الحديث، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر.

(1)

حيث قال:

فهذه المقاصد المهمة

توضح من علم الحديث رسمه

وما وقع لبعض الكاتبين في عصرنا من الفرق بين المصطلح وبين علوم الحديث أو جعل أحدهما خاصا ببعض الأبحاث، فهو تساهل.

(2)

تدريب الراوي: 5.

(3)

وقوله: "علم" هذا باعتبار كونه ملكة في نفس العالم به. ويطلق "مصطلح الحديث" على العلم المدون، أي القواعد المدونة في المصنفات، فيعرف بهذا الاعتبار بأنه "القوانين التي يعرف بها

إلخ".

ص: 32

أما السند: فالمراد به عند المحدثين حكاية رجال الحديث الذين رووه واحدا عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما الإسناد فهو إضافة الحديث إلى قائله، أي نسبته إليه. وقد يطلق أحدهما على الآخر، كما أنهما قد يطلقان على رجال سند الحديث، ويعرف المراد بالقرائن.

وأحوال السند: هي ما يطرأ عليه من اتصال، أو انقطاع، أو تدليس، أو تساهل بعض رجاله في السماع، أو سوء حفظه، أو اتهامه بالفسق أو الكذب أو غير ذلك (1).

وأم المتن: فهو ما ينتهي إليه السند من الكلام (2).

وأحوال المتن، هي ما يطرأ عليه من رفع، أو وقف، أو شذوذ، أو صحة، أو غير ذلك.

وموضوع هذا العلم الذي يبحثه هو السند والمتن من حيث التوصل إلى معرفة المقبول من المردود.

وهذا قد يستشكل بأنه سبق أن ذكرناه في موضوع علم الحديث رواية، فما الفرق؟

(1) فقوله: "أحوال السند والمتن". أدق من قولهم: أحوال الراوي والمروي، وإن اختاره الحافظ ابن حجر، لأن معرفة حال السند تستلزم معرفة حال كل من رواته. لكن معرفة حال الراوي لا تستلزم معرفة حال السند من جميع الوجوه كالشذوذ والإعلال

والسند مأخوذ إما من السند وهو ما يستند إليه من حائط أو غيره، كما في المصباح المنير، أو من قولهم فلان سند أي معتمد عليه. كما في مختار الصحاح.

(2)

مأخوذ من المتن وهو ما صلب وارتفع من الأرض كما في المصباح، لأن المسند يقويه بالسند ويرفعه إلى قائله، انظر التدريب: 5 - 6.

ص: 33

الجواب أن علم الحديث دراية يوصل إلى معرفة المقبول من المردود بشكل عام أي بوضع قواعد عامة. فأما علم رواية الحديث فإنه يبحث في هذا الحديث المعين الذي تريده، فيبين بتطبيق تلك القواعد أنه مقبول أو مردود، ويضبط روايته وشرحه، فهو إذن يبحث بحثا جزئيا تطبيقيا، فالفرق بينهما كالفرق بين النحو وبين الإعراب وكالفرق بين أصول الفقه وبين الفقه.

غاية علم المصطلح:

وقد أقيم بنيان هذا العلم لغاية عظيمة جليلة هي حفظ الحديث النبوي من الخلط فيه أو الدس والافتراء عليه، وتلك الوظيفة هي غاية في الأهمية تشتمل على فوائد لها خطرها الكبير، منها:

1 -

أنه تم بذلك حفظ الدين الإسلامي من التحريف والتبديل فقد نقلت الأمة الحديث النبوي بالأسانيد، وميزت به الصحيح عن السقيم، ولولا هذا العلم لالتبس الحديث الصحيح بالضعيف والموضوع، ولاختلط كلام الرسول بكلام غيره.

2 -

أن قواعد هذا العلم تجنب العالم خطر الوعيد العظيم الذي يقع على من يتساهل في رواية الحديث وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المستفيض عنه: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"(1). وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار".

3 -

أن هذا العلم قد أجدى فائدة عظيمة في تنقية الأذهان من

(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه: 1: 7، والترمذي في العلم وصححه: 5: 36، وأخرجه ابن ماجه: 14015، عن علي بن أبي طالب وعن المغيرة بن شعبة وعن سمرة بن جندب. وانظر فيض القدير: 6: 116.

ص: 34

الخرافات. وذلك أن الإسرائيليين وغيرهم حاولوا نشر مالديهم من الأقاصيص والخرافات الكاذبة والأباطيل، وهذه الأمور داء وبيل يفت في عضد الشعوب ويمزق الأمم، إذ تجعلها أوزاعا متفرقة هائمة على وجه البسيطة لا تميز الحق من الباطل ولا تفرق بين الصواب والخطأ فيسهل مقادها ويسلس لكل ناعق يدعو إلى الهلاك والردى.

فالعالم الإسلامي حين يقوم بذب الكذب عن الحديث يقوم بعمل ذي صبغة إنسانية وأخلاقية، فضلا عن أداء الواجب الديني، لأنه يربي بذلك عقولا صحيحة تعقل وتفكر في الحياة بمنهج علمي وعقلي صحيح.

مصطلح الحديث خصيصة للمسلمين:

ومن قبل لم تعن الأمم السابقة في النقل والرواية بالإسناد والتحري في معرفة رجاله ودرجاتهم من العدالة والضبط

فكانت الحوادث التاريخية تروى على علاتها، والأديان والمذاهب يعول فيها على التلقي من أفواه النقلة وكتاباتهم، دون سؤال عن الإسناد فضلا عن دراسته وبحثه.

لكن الله تعالى لما جعل هذا الدين خاتمة الرسالات والأديان وتعهد بحفظه وصونه، اختص هذه الأمة بأن وفقها لحفظ كتاب ربها وصيانة حديث نبيها فإذا بها تبتكر لحفظ الحديث قواعد المصطلح على أدق منهج علمي يمكن أن يوجد للاستثبات من النصوص المروية وتمحيصها. "منذ أول عهدها بالحياة ومجابهتها لمشاكلها"(1).

قال الإمام أبو محمد بن حزم (2).

(1) انظر المدخل إلى علوم الحديث للمؤلف ص 13.

(2)

الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2: 82.

ص: 35

"نقل الثقة عن الثقة مع الاتصال حتى يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها وأبقاه عندهم غضا جديدا على قديم الدهور

".

وقال الحافظ أبو علي الجياني: "خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب"(1).

وفي العصر الحديث اعترف الباحثون الأجانب للمحدثين بدقة عملهم، وأقروا بحسن صنيعهم، واتخذ علماء التاريخ من قواعدهم أصولا يتبعونها في تقصي الحقائق التاريخية، ووجدوا فيها خير ميزان توزن به وثائق التاريخ (2).

(1) التدريب: 359.

(2)

انظر مثالا لذلك كتاب "مصطلح التاريخ" للدكتور أسد رستم حيث تجده يعتمد كلام ابن الصلاح في علوم الحديث بحروفه.

ص: 36

‌الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

‌مدخل

الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

أشرنا سابقا إلى أن فن "مصطلح الحديث""أو "علوم الحديث" تدرج عبر التاريخ، وقد استوحينا من النظرة التاريخية فكرة مبتكرة هي عقد بحث تاريخي لعلوم الحديث، يبين أدواره التي مر بها حتى عصرنا الحاضر، وقد توصلنا نتيجة البحث إلى تقسيم لهذا التدرج على أدوار لم يسبق أن درس تاريخ علوم الحديث على أساسها، وهي أدوار سبعة تتكلم عنها بإيجاز فيما يلي:

ص: 36

‌الدور الأول: دور النشوء

وذلك في عصر الصحابة الممتد إلى نهاية القرن الأول الهجري:

لما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم جوار ربه ولحق بالرفيق الأعلى، قام الصحابة من بعده بحمل مشعل الإسلام وسارت جحافلهم به تنقذ الإنسانية وتبلغ عنه صلى الله عليه وسلم ما علموه، وكان الصحابة على حفظ تام للقرآن الكريم، كما كانوا على إدراك ووعي للحديث النبوي، لما توفر لهم من الأسباب، والدواعي لحفظ الحديث.

عوامل حفظ الصحابة للحديث:

ومن أهم عوامل حفظهم للحديث:

1 -

صفاء أذانهم وقوة قرائحهم، وذلك أن العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب. والأمي يعتمد على ذاكرته فتنمو وتقوى لتسعفه حين الحاجة، كما أن بساطة عيشهم وبعدهم عن تعقيد الحضارة ومشاكلها جعلهم ذوي أذهان نقية، لذلك عرفوا بالحفظ النادر والذكاء العجيب، فهاهم أولاء يحفظون الأنساب منهما طالت وامتدت عبر الأجيال، ويحفظون بالسمعة الواحدة ما يلقى إليهم من القصائد الطويلة ومن خطبهم، وغير ذلك، مما سجله لهم التاريخ وحفظه لهم مفخرة لم تتوفر لأمة من الأمم.

2 -

قوة الدافع الديني، وذلك أن العرب أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا ولا فوز في الآخرة ولا سبيل للمجد والشرف ولا إلى المكانة بين الأمم إلا بهذا الإسلام، ولا سبيل للمجد والشرف ولا إلى المكانة بين الأمم إلا بهذا الإسلام، فتلقفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام ونهاية الحرص، ولا شك أن ذلك وحده كاف لقوة الحفظ كما هو مشاهد محسوس لكل فرد، إذا عظمت عنايته بمسألة وأهمه أمرها ثم عرف حلها فإنها ترسخ في حافظته فلا تنسى.

ص: 37

وقد ضاعف أثر هذا الدافع في نفوسهم تحريضه صلى الله عليه وسلم إياهم على حفظه حديثه وأدائه إلى الناس في أحاديث كثيرة تدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بذلك وتكرار الوصاة به، كحديث زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (1) وبذلك أصبح حفظ الحديث واجبا لكي يخرج المسلم من مسؤولية التبليغ الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

3 -

مكانة الحديث في الإسلام، فإنه كما عرفت ركن أساسي، دخل في تكوين الصحابة الفكري وسلوكهم العملي والخلقي، حيث كانوا يأتسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، يتلقفون منه الكلمة فتخالط مخهم وعظمهم وكيانهم ثم يصوغونها عملا وتنفيذا. وذلك لا شك يؤدي للحفظ، ويحول دون النسيان، لأنه الوسيلة للبراءة من العهدة، وللتحقق بالاتباع.

4 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الصحابة سيخلفونه في حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، فكان يتبع الوسائل التربوية في إلقاء الحديث عليهم، ويسلك سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلا لتحمل المسؤولية، فكان من شمائله في توجيه الكلام:

أ- أنه لم يكن يسرد الحديث سردا متتابعا، بل يتأنى في إلقاء الكلام ليتمكن من الذهن.

ب- أنه لم يكن يطيل الأحاديث، بل كان كلامه قصدا. وقد

(1) أبو داود "فضل نشر العلم": 3: 322 والترمذي: 5: 33 - 34 وابن ماجه بلفظه: 1: 84. والحديث متواتر، هذا أحد ألفاظه.

ص: 38

أشارت إلى هذين الأمرين السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت:

"كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه" متفق عليه (1). وعنها قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه" أخرجه الترمذي (2).

جـ- أنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعيد الحديث لتعيه الصدور كما في البخاري (3) وغيره أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه".

5 -

أسلوب الحديث النبوي فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم قوة البيان التي يندر مثلها في البشر. ومن هنا نجد القرآن يسمي الحديث "حكمة"(4).

ولا شك أن البيان البليغ يأخذ بمجامع القلوب ويسري في كيان الإنسان الذهني والعاطفي، فكيف إذا كان هذا المستمع ابن بجدة البلاغة المذواق لها، المشغوف بها.

6 -

كتابة الحديث:

وهي من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها للأجيال، وقد كانت

(1) البخاري: 4: 190، ومسلم: 8: 229.

(2)

في الشمائل: 2: 8 بشرح القاري والمناوي. وأصله في البخاري: 4: 190.

(3)

في العلم: 1: 26، والشمائل: 2: 9.

(4)

الرسالة للإمام الشافعي: 78.

ص: 39

أحد العوامل في حفظ الحديث، على الرغم مما وقع فيها من اختلاف الروايات، وتباين الوجهات، حتى صنفت فيها التآليف في القديم والحديث (1).

أخرج البخاري (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب".

وفي سنن أبي داود والمسند (3) عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه؟ فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ ! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بيده إلى فيه فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".

كذلك وردت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات وقوع الكتابة للحديث النبوي في عهده صلى الله عليه وسلم.

(1) مثل كتاب تقييد العلم للخطيب البغدادي. وكتاب السير الحثيث في تاريخ تدوين الحديث لمحمد زبير الصديقي وكتاب "تدوين الحديث" باللغة الهندية تأليف مناظر حسن كيلاني. وانظر فصل "حول تدوين الحديث" من كتاب "علوم الحديث ومصطلحه" للدكتور صبحي الصالح، ففيه تحقيق ومناقشات قيمة. وكتاب "السنة قبل التدوين" للزميل الدكتور محمد عجاد خطيب. وتاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين، 1/ 1/ 225 وما بعد، وفيه تحفظ مفيد على بعض هذه الدراسات، فانظره.

(2)

في كتاب العلم "باب كتابة العلم": 1: 148 بشرح فتح الباري والترمذي: 5: 40.

(3)

أبو داود في العلم: 3: 318، والمسند: 2/ 205.

ص: 40

وقد عارض ذلك ما أخرجه مسلم وأحمد (1) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه".

ووردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك من رواية جماعة من الصحابة كأبي هريرة وزيد بن ثابت (2)، مما لا يدع مجالا للتردد في صحة ثبوت ذلك عنه عليه السلام، كما أنه لا مجال للشك في إذنه صلى الله عليه وسلم في الكتابة.

وقد اختلفت آراء العلماء في إزالة هذا التعارض، وفي التوفيق بين الأحاديث: فالإمام ابن قتيبة " (276) هـ" في "تأويل مختلف الحديث"(3) يقول: "إن في هذا معنيين: أحدهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة، كأنه نهى في أول الأمر عن أن يكتب قوله، ثم رأى بعد ذلك لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد. والمعنى الآخر: أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أميين، لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له".

وأبدى الخطابي رأيا له وجاهته، قال في معالم السنن (4): "يشبه

(1) مسلم في الزهد: 8: 229، والمسند بلفظه: 3: 21.

(2)

انظر تقييد العلم: 29 - 35. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 1: 63 - 64 وغيرهما.

(3)

286 - 287، وانظر ص 290.

(4)

شرح مختصر سنن أبي داود: 5: 246، وقارن بتهذيب السنن للمنذري: 5: 247، وانظر تعليق ابن القيم. وتوجيه النظر ص 5 - 6.

ص: 41

أن يكون النهي متقدما، وآخر الأمرين للإباحة. وقد قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم بالخط منهيا عنه فلا".

ويميل الرامهرمزي إلى نسخ النهي عن الكتابة، فيقول: أحسبه أنه كان محفوظا في أول الهجرة وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن" (1).

هذه جملة آراء العلماء في بحث إشكال التعارض بين الروايات، وكلها اجتهادات يعوزها الاستناد النقلي اللهم إلا القول بالنسخ فقد استدل له من النقل، ومال إليه كثير من العلماء كالمنذري وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وذلك لأن الإذن بالكتابة متأخر عن النهي عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه

" يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها. وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة". ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله.

وهذا الرأي في التحقيق ينبغي أن لا يجعل منافيا للآراء السابقة بل إنه متمم لها حيث نأخذ من تلك الآراء علة النهي السابق، وأنه لما زالت العلة ورد الإذن بالكتابة (2).

(1) المحدث الفاصل ق 56 - ب، ص 386. وتهذيب السنن نفس المكان. انظر تصدير تقييد العلم للدكتور يوسف العش ص 9، وكتاب الحديث والمحدثون للدكتور محمد محمد أبو زهو: 122 - 125. والمنهج الحديث في علوم الحديث للدكتور محمد محمد السماحي: 36 وقد جمع النووي الأقوال في شرح مسلم: 18: 130.

(2)

لذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: 1: 149 "وهو أقربها مع أنه لا ينافيها"

ص: 42

إلا أننا نلاحظ أن القول بالنسخ لا يحل الإشكال في هذه المسألة؛ لأن النهي عن الكتابة لو نسخ نسخا عاما لما بقي الامتناع عن الكتابة في صفوف الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولأقيمت الحجة عليهم من طلبة العلم الذين كانوا على أشد الحرص على تدوين الحديث فما زال المشكل بحاجة إلى مخلص مناسب لحله.

والذي يهدي إليه النظر في هذه المسألة أن الكتابة لا ينهى عنها لذاتها، لأنها ليست من القضايا التعبدية التي لا مجال للنظر فيها ولأنها لو كانت محظورة لذاتها لما أمكن صدور الأذن بها لأحد من الناس كائنا من كان.

وعلى هذا فإنه لا بد من علة يدور عليها الإذن والمنع في آن واحد. والعلة التي تصلح لذلك في اختيارنا هي خوف الانكباب على درس غير القرآن، وترك القرآن اعتمادا على ذلك (1).

ذلك أننا تأملنا أقوال الصحابة الذين امتنعوا عن الكتابة وحظروها فإذا بنا نجدهم يصرحون بذلك: هذا أبو نضرة يقول قلنا لأبي سعيد: "لو كتبتم لنا، فإنا لا نحفظ قال: لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما نحفظ عن نبيكم"(2) فهذا أبو سعيد الخدري وهو راوي الحديث يفسر النهي عن الكتابة بأنه خشية أن يجعل الحديث موضع القرآن، وراوي الحديث أعلم بما روى كما يقرر العلماء.

وعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن،

(1) وقد وقع ذلك للأسف في هذا العصر لبعض المتصدرين في الحديث أنه ربما عرضت لبعضهم الآية من القرآن فلم يعرف أنها من كتاب الله تعالى! !

(2)

أخرجه الخطيب في تقييد العلم: 36. وابن عبد البر في جامعه: 1: 64.

ص: 43

فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال:

"إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى. وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا"(1).

وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقروه، مما يدل على استقرار أمر هذه العلة في نفوسهم. ولذلك فإن هذا المعنى نقل عن جماعة من الصحابة كابن عباس (2) وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري (3) بل نقل ذلك ابن سيرين عن الصحابة عموما فقال:

"كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها"(4). قال الخطيب في تقييد العلم (5):

"فقد ثبت أن كراهة الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره أو يشتغل عن القرآن بسواه

".

من أجل ذلك نجد أن الكتابة التي أذن بها هي التي لا تتخذ طابع التدوين العام، أي لا تتخذ مرجعا يتداول بين الصحابة ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا بكتابة الحديث كما أمر بكتابة القرآن، وإنما أذن لأفذاذ من الصحابة بذلك، ولم يكن الصحابة رضوان الله

(1) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 49، وابن عبد البر في جامع بيان العلم: 1: 64. والروايات عن عمر في ذلك كثيرة.

(2)

في تقييد العلم ص 43.

(3)

المرجع السابق: 53 - 56. وجامع بيان العلم: 1: 64 - 67.

(4)

تقييد العلم: 61.

(5)

المرجع السابق: 57.

ص: 44

عليهم يتداولون تلك الصحف من الحديث، ولم نجد في شيء من الروايات أن أحدا فعل ذلك. وإنما كانت تلك الصحف بين أيديهم بمثابة المذكرات فلما انتشر علم القرآن وكثر حفاظه وقراؤه وأمن على علمه أن لا يفي بكفاية المجتمع أو أن يلتبس به غيره لدى الناس أقبلت الأمة على تدوين الحديث تدوينا اتخذ صبغة العموم، وتداولت صحفه المكتوبة، وذلك بأمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.

المرحلة الأولى: مرحلة جمع الحديث في صحف بمن يكتب دون أن تتداول بين الناس وهذه بدأت منذ عهده صلى الله عليه وسلم وبإذنه.

المرحلة الثانية: الكتابة التي تقصد مرجعا يعتمد عليه ويتداولها الناس وهذه بدأت من القرن الثاني للهجرة. وكانت في كل من هاتين المرحلتين مجرد جمع للأحاديث في الصحف غالبا لا يراعى فيها تبويب أو ترتيب معين، ثم جاء دور التصنيف الذي اتخذت فيه الكتابة طابع التبويب والترتيب من منتصف القرن الثاني، وبلغ أوجه وذروته في القرن الثالث المعروف بعصر التدوين.

وقد تناولت الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم قسما كبيرا من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنفا كبيرا من المصنفات الحديثية. ومما ورد كتابته من الحديث:

1 -

الصحيفة الصادقة: التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص، قال عبد الله بن عمرو: حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل (1)، وكان عبد الله يعتز بها يقول: "ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة

(1) أسد الغابة: 3: 233.

ص: 45

والوهط" (1). وقد انتقلت هذه الصحيفة إلى حفيده عمرو بن شعيب. وأخرج الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو من كتابه المسند قسما كبيرا من أحاديث هذه الصحيفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

2 -

صحيفة علي بن أبي طالب: وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل -أي مقادير الديات- وعلى أحكام فكاك الأسير.

أخرج نبأها البخاري (2) وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت هل عندكم كتاب؟ قال: قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال العقل. وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.

3 -

صحيفة سعد بن عبادة الصحابي الجليل -15 هـ. أخرج الترمذي في سننه (3) عن ابن سعد به عبادة "وجدنا في كتاب سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد". لكن لم نعثر على

(1) سنن الدارمي: 1: 127. والوهط أرض وقفها أبوه عمرو في الطائف، كان عبد الله يقوم برعايتها.

(2)

في العلم باب كتابة العلم: 1: 29.

(3)

ج 3 ص 280 شرح تحفة الأحوذي، وانظر المسند: 5: 285. وقد وهم من قال: ويروي البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده، فإن لفظ البخاري بسنده عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له أن عبد الله بن أبي أوفى كتب إليه فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهذا ظاهر في أن ابن أبي أوفى كتب إلى عمر بن عبيد الله فمن أين جاء الزعم أن صحيفة سعد نسخة من صحيفة ابن أبي أوفى، ثم إن سعدا معروف بالكتابة منذ الجاهلية وهو أسبق إسلاما ووفاة، ولم يعرف عبد الله بالكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون سعد هو الكاتب عنه والأعجب منه أن بعض معاصرينا سرى عليه الوهم وأحال على صحيح البخاري بشرح السندي ص 143 ج 2. باب الصبر عند القتال -دون أن ينظر أو يتأمل لفظ رواية البخاري الذي ذكرناه .. ! ! .

ص: 46

غير هذا الحديث من هذا الكتاب. ولعل كثيرا من الأحاديث التي رويت عن سعد من هذا الكتاب (1).

4 -

كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله فيما يتعلق بتدبير شؤون الأقاليم الإسلامية وأحوالها، وفي بيان أحكام الدين، وهي كتب كثيرة تشتمل على مهمات أحكام الإسلام وعقائده، وخطوطه العريضة، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعية للزكاة، والديات والحدود والمحرمات وغير ذلك. ومن هذه الكتب:

أ- كتاب الزكاة والديات الذي كتب به أبو بكر الصديق وأخرجه البخاري في صحيحه (2) فقد روى أبو داود والترمذي (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه حتى قبض.

ب- كتاب لعمرو بن حزم عامله على اليمن وفيه أصول الإسلام، وطريق الدعوة إليه، والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات (4).

(1) هذه بعض الصحف المكتوبة في عصر النبوة، وقد ذكر بعض الباحثين صحفا لبعض الصحابة كجابر، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن أبي أوفى، لم نجد ما يدل على كتابتها في عهده صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها كتبها سامعوها عنهم، أو أنهم كتبوها بعد عصر النبوة.

(2)

في الزكاة مختصرا في أبواب متفرقة منها "باب زكاة الغنم": 2: 118، وأخرجه مطولا أبو داود 2: 96 - 97 والنسائي: 5: 13 - 14.

(3)

أبو داود نفس المكان. والترمذي: 3: 17.

(4)

أخرج بعضه مالك وغيره وأخرجه البيهقي مطولا في الدلائل. انظر تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 1: 157 - 159، وأبو عبيد في كتاب الأموال: 357 وما بعدها. والتراتيب الإدارية للكتاني: 1: 168 - 171. والمصباح المضي ق 96.

ص: 47

جـ- كتابه إلى وائل بن حجر لقومه في حضرموت فيه الأصول العامة للإسلام، وأهم المحرمات (1).

5 -

كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء. وإلى أمراء العرب يدعوهم فيها إلى الإسلام ككتابه إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس بمصر، وغير هؤلاء (2).

6 -

عقوده ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار، كصلح الحديبية، وصلح تبوك، وصحيفة المعاهدة التي أبرمت في دستور التعايش بين المسلمين في المدينة وبين من جاورهم من اليهود وغيرهم.

7 -

كتب أمر بها صلى الله عليه وسلم لأفراد من أصحابه لمناسبات ومقتضيات مختلفة، مثل كتابة خطبته لأبي شاه اليماني.

وغير ذلك مما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم مما لم نحصه هنا، أو لم نحط به علما. وهذا كاف لإثبات تواتر الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم وإثبات أن ما كتب فيه عهده صلى الله عليه وسلم تناول قسما كبيرا من حديثه، هو أهم هذه الأحاديث، وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور ذات الأهمية، وعلى أحكام دقيقة تتعلق بالأرقام تحتاج إلى ضبط دقيق، مما يجعل الكتابة عنصرًا هامًا في حفظ الصحابة للحديث ينضم إلى العوامل الأخرى ليدعمها ويؤازرها في تحقيق تحمل الصحابة للحديث النبوي تحملا حافظا أمينا كافلا بأن يؤدوه بعد ذلك كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) الطبقات: 287 و 349 و 351 والمصباح المضي ورقة 112.

(2)

جمعت هذه الكتب في رسالة اسمها إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين للحافظ محمد بن علي بن طولون الدمشقي. وعني بجمعها صاحب المصباح المضي وهو أجمع ما اطلعنا عليه في ذلك.

ص: 48

رأي بعض المستشرقين في كتابة الحديث:

هذا وعلى الرغم من توفر أسباب الحفظ المكين للحديث لدى الصحابة، فقد أطلق بعض المستشرقين لخيالهم العنان، وراحوا يقولون ما شاء لهم القول في هذه المسألة. وذلك أن كثيرا منهم وعلى رأسهم جودل زيهر قد سمحوا لأنفسهم أولا بإنكار وقوع تقييد الحديث في هذه الفترة حتى مطلع القرن الهجري الثاني بل إن بعضهم ليغلوا في ذلك حتى يزعم أن الحديث لم يدون حتى مطلع القرن الثالث، ثم بنوا على هذا زعمهم أن الحديث كان في تلك الفترة مضيعا لانقطاع كتابته بزعمهم خلال هذه الفترة الطويلة.

والحقيقة أن إنكار تقييد الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأتي ممن يتحاكم إلى الانصاف، ويسلك نهج العلم، فإن روايات كتابته قد تعددت بالأسانيد الموثوقة الكثيرة جدا في مختلف مراجع السنة، مما يبلغ بها درجة التواتر الذي يقطع من يطلع عليه من العلماء، ويتحقق وقوع الكتابة للحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

أما تقييد العلم في عصر بن عبد العزيز فليس يعني أبدا أنه لم يدون من قبلن غاية الأمر أن هذا الخليفة العادل وجد كثيرا من العلماء يحجم عنه كما أنهم لم يكونوا يتداولون الكتب ليعتمدوا عليها، فأصدر أمره بكتابة الحديث لينتقل بالعلم إلى التدوين العام، الذي يعتمد مع الحفظ على الكتابة، ويجعل الكتابة مرجعا متداولا معتمدا لا يختص بصاحبه فقط. وذلك ما ترمي إليه عبارة الحفاظ ابن حجر حين قال:(1)"إن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة".

(1) في هدي الساري مقدمة شرح البخاري ج 1 ص 4.

ص: 49

ومن فهم من كلام الحافظ غير ذلك فقد وهم ولم يحقق النظر (1).

على أننا في دفاعنا هذا لا نزعم أن كل الحديث قد كتب، ونحن بالتالي لا نرتضي مسلك بعض الكاتبين حول هذه المسألة الذي ينجو إلى الغلو والزعم بأن التدوين تناول كل الحديث في عصر النبوة. وكأنهم يصدرون في ذلك عن رد الفعل من موقف بعض المستشرقين الذي يثير الحمية لإمعانه في تجاهل الحقائق.

بل إنا لا نبالي أن نقول إن شيئا من الحديث لم يكتب لولا توافر الدلائل العلمية التي تبلغ درجة المسلمات في نطاق العلم على إثبات الكتابة لقسم كبير من الحديث في عصر النبوة.

لقد أخطأ التوفيق جماعة المستشرقين وخانهم منذ الخطوة الأولى التي خطوها في فذلكة موضوع التدوين، حيث إنهم غفلوا أو تجاهلوا عوامل الحفظ الكثيرة التي توفرت في الصحابة، وهي بلا شك عوامل كافية كل الكفاء لحفظ الحديث النبوي فتوهموا أن القدح في تدوين الحديث يوصلهم إلى غرضهم.

وهذا دأب الذين يظلمون الحقائق إنهم لا بد أن يرجعوا بالخيبة والخسران، وإن تقليب أي كتاب في تاريخ الصحابة العلمي ليملأ القلب، والسمع والبصر، بما كانوا عليه من قوة الحفظ العجيب الذي فطروا عليه بجبلتهم، فكيف وقد وجدت لديهم تلك الدوافع التي تجعل الأحاديث تنقش في قلوبهم نقشها في الحجر.

(1) وأما ما زعمه "جولد زيهر" أن الأحاديث الواردة في كتابة الحديث موضوعة فنوع من جموح الخيال، أراد به صاحبه أن يلصق بعلماء الإسلام ما اجترحه الأحبار في ديانتهم المقدسة، فاخترع هذا الزعم، وهو فرية لا تستحق النظر، فضلا عن الرد. وانظر الرد عليها إن شئت تصدير تقييد العلم للدكتور يوسف العش.

ص: 50

قوانين الرواية في عهد الصحابة:

قام الصحابة رضوان الله عليهم بالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا من أجله غاية ما في الوسع البشري، لكن لم يغفلوا في وقدة حماسهم للدعوة، عن أمر جوهري هام ألا وهو صون هذا التراث من التحريف، وقد كان لهم في عوامل الحفظ الذاتية التي اشتمل عليها هذا الدين القويم، تلك العوامل المعجزة التي جعلته شامخا أمام الأحداث، وفي وجه التيارات الجارفة لا يأتيه الباطل من بيد يديه، ولا من خلفه، كان فيها خير ملهم لهم، وموضح لائمة العلم سبيل المحافظة على تراث النبوة، فهذه توجيهات الشريعة تضع الركن الأساسي لأصول النقل ولقانون العلم النقلي الصحيح الذي يجب أن يتحقق فيه كي يكون علما يتبع، كقوله تعالى:

{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر عنه: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وكقوله تعالى في التثبت: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} .

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حمل ناقل الكذب إثم الكاذب المفتري وذلك في الحديث الصحيح المستفيض المشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".

فتفرعت من هذه التوجيهات المعجزة أصول قوانين الرواية التي تكفل حفظ الحديث وصيانته، وكان الناس آنذاك على أصل العدالة

ص: 51

لا حاجة إلى الجرح والتعديل، لأن العصر هو عصر الصحابة، وهم جميعهم عدول، فلم يكن يحتاج لأكثر من التحرز عن الوهم (1).

فابتع الصحابة من قوانين الرواية ما يحتاج إليه في عصرهم، للتثبت من صحة النقل، والتحرز من الوهم، وما زالت هذه القوانين تتفرع لتلبية المطالب المستجدة عصرا بعد عصر، حتى بلغت ذروتها.

وأهم قوانين الرواية في عهد الصحابة:

أولا: تقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تزل أقدام المكثرين بسبب الخطأ أو النسيان، فيقعوا في شبهة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون، فضلا عن قصدهم أن يتفرغ الناس لحفظ القرآن، ولا ينشغلوا عنه بشيء، فكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يشددان في ذلك. وقد سلك عموم الصحابة هذا السبيل، حتى اشتهر واستفاض عنهم مرفوعا وموقوفا:"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"(2).

ثانيا: التثبت في الرواية عند أخذها وعند أدائها. قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3): وكان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: "ما أجد لك في

(1) أما المنافقون فكانوا أحقر من أن يحملوا علما أو يؤخذ عنهم العلم، انظر أثبات هذا الموقع للمنافقين، قسم التاريخ: 62 و 517 - 522.

(2)

روي ذلك عن جماعة من الصحابة، انظر الرواية عن بعضهم في مقدمة صحيح مسلم ص 8. وقارن بالبخاري في العلم "باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم": 1: 29. وسنن ابن ماجه: 10 - 13 وانظر توجيه النظر: 14 - 16.

(3)

من تذكرة الحفاظ ص 2.

ص: 52

كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك. فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه".

وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربنا كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، فروى الجر يري -يعني سعيد بن إياس- عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن لهن فرجع، فأرسل عرم في أثرهن فقالك لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع" قال: لتأتيني على ذلك بينة أو لأفعلن بك. فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم، كلنا سمعه. فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره".

وقال في ترجمة علي رضي الله عنه (1): "كان إماما عالما متحريا في الأخذ بحيث إنه يستحلف من يحدثه بالحديث

".

ثالثا: نقد الروايات "وذلك بعرضها على نصوص وقواعد الدين، فإن وجد مخالفا لشيء منها ردوه وتركوا العمل به، هذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيما أخرج مسلم (2) عنه: يسمع حديث فاطمة

(1) ص 10.

(2)

في الطلاق: 4: 198. والقصة أخرجها أيضا البخاري "باب قصة فاطمة بنت قيس" ج 7 ص 73 وأبو داود: 2: 288، والترمذي ج 3 ص 484 والنسائي: 2: 116، وابن ماجه ص 653، والموطأ ج 2 ص 30 والمسند ج 6 ص 373 وسنن الدارقطني ج 4 ص 22 - 272 والبيهقي ج 7 ص 321 و 431 و 471 و 475. وأما زيادة "أصدقت أم كذبت" فلا أصل لها في رواية الحديث، وقد استغلها أعداء الإسلام، والعجب أن يذكرها بعض الكاتبين في "أصول الحديث" أو أصول الفقه، ثم يعزوها لمسلم أيضا، ومسلم وغيره منها براء! !

ص: 53

بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سكنى ولا نفقة، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .

وتلكم عائشة رضي الله عنها، فيما أخرجه الشيخان (1) سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". فقالت: رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال:"إن يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} زاد مسلم "إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ".

وجدير بالتنبيه أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ضبط الحديث لا لتهمة أو سوء ظن، فهذا عمر رضي الله عنه يقول:"إني لم أتهمك ولكن أحببت أن أثبت". وكذلك رد بعض الأحاديث كان اجتهادا منهم لمخالفتها ما استنبطوه من القرآن، لذلك نجد بعض الصحابة ومن بعدهم عملوا بما رده غيرهم، لأنهم باجتهادهم رأوه غير معارض للأدلة.

(1) البخاري في الجنائز: 2: 77 - 80، ومسلم: 3: 42 - 43. وذكره الزركشي في الإجابة 102 - 103 وانظر 76 - 77. والسيوطي في عين الإصابة ق 92 أ. وقد جمع هذا الإمامان في كتابيهما ما ورد من استدراك عائشة على الصحابة ومناقشاتها، فأفادا فوائد عظيمة.

ص: 54

ظهور الوضع ووسائل مكافحته:

برز قرن الفتنة التي أدت إلى مقتل الإمام الشهيد عثمان بن عفان ثم مقتل الإمام الحسين رضي الله عنهما، وظهرت الفرق المنحرفة، وراح المبتدعة يبحثون عن مستندات من النصوص يعتمدون عليها في كسب أعوان لهم، فعمدوا إلى الوضع في الحديث فاختلفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقلن فكان مبدأ ظهور الوضع في الحديث منذ ذلك الوقت.

وقد انتدب الصحابة للمحافظة على الحديث، واجتهدوا في ذلك متبعين أقصى وأحكم ما يمكن من وسائل البحث والفحص الصحيحة.

ومن ذلك أنهم:

أولا: عنوا بالبحث في إسناد الحديث وفحص أحوال الرواة بعد أن كانوا من قبل يرجحون توثيق من حدثهم.

أخرج مسلم في مقدمة صحيحه والترمذي في علل الجامع عن محمد ابن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى حديث أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".

ثانيا: حث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به دينا وورعا، وحفظا وضبطا، حتى شاعت في عرف الناس هذه القاعدة:"إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها"(1).

(1) أخرج ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: 1/ 1/ 15 عن عدد من التابعين بلفظ: "كان يقال: إنما هذه الأحاديث .. " وهذا التعبير يفيد اتفاق الصحابة.

ص: 55

وبذلك نشأ علم ميزان الرجال: "الجرح والتعديل" الذي هو عمود أصول الحديث.

فقد تكلم من الصحابة في الرجال: عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك. وكان كلاما قليلا، لقلة الضعف وندرته.

ثم تكلم من التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة " (93) هـ" وعامر الشعبي " (104) هـ" وابن سيرين " (110) هـ"(1).

ثالثا: الرحلة في طلب الحديث، لأجل سماعه من الراوي الأصل، والتثبت منه وقد وافتنا أخبار رحلاتهم بالعجيب المستغرب إذ بلغ بهم الأمر أن يرحل الرجل في الحديث الواحد مسافة شاسعة، على الرغم مما كان في مواصلاتهم من المشقات والتعب. ومن ذلك.

أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يرحل إلى عقبة بن عامر يسأله: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر على مؤمن في الدنيا ستره الله يوم القيامة". فأتى راحلته فركب ثم رجع (2).

فسن الصحابة الرحلة في طلب الحديث للتثبت منه وسلك التابعون سبيلهم فكانوا يرحلون إلى الصحابة ويسألونهم عن الأحاديث، كما روى الخطيب (3) بأسانيده عن سعيد بن المسيب قال:"إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد".

(1) توجيه النظر: 114.

(2)

المسند: 4: 153، وانظر الآثار في فتح الباري: 1: 158 - 159 وأول كتاب العلم في سنن أبي داود. وقد جمع الخطيب البغدادي أخبار الراحلين في الحديث الواحد من الصحابة ومن بعدهم في جزء لطيف سماه "الرحلة في طلب الحديث" حققناه واستدركناه عليه بقدر حجمه.

(3)

في كتابه الرحلة في طلب الحديث ص 127 - 128 بتحقيقنا.

ص: 56

وفي الصحيحين (1): جاء رجل إلى الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن أناسا عندنا يقولون: إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته؟ ! قال الشعبي حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

". ثم قال الشعبي: خذها قد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة.

واستمل شأن العلماء على ذلك فيما بعد حتى أصبحت الرحلة من ضرورات التحصيل.

رابعا: ومن طريق معرفة الوضع والضعف في الحديث عرض حديث الراوي على رواية غيره من أهل الحفظ والاتقان، فحيث لم يجدوا له موافقا على أحاديثه أو كان الأغلب على حديثه المخالفة ردوا أحاديثه أو تركوها.

وغير ذلك من الوسائل التي اتبعوها وبها ميزوا الصحيح من السقيم والسليم من المدخول. وهكذا لم ينقض القرن الأول إلا وقد وجدت أنواع من علوم الحديث منها:

1 -

الحديث المرفوع

2 -

الحديث الموقوف

3 -

الحديث المقطوع

4 -

الحديث المتصل

5 -

الحديث المرسل

6 -

الحديث المنقطع

7 -

المدلس

وغير ذلك من أنواع، وكانت كلها تنقسم إلى قسمين:

1 -

المقبول: وهو الذي سمي فيما بعد بالصحيح والحسن.

2 -

المردود: وسمي بعد ذلك الضعيف وأقسامه كثيرة.

(1) البخاري في العلم: 1: 27، ومسلم: 1: 93 وانظر كتاب الرحلة: 141.

ص: 57

‌الدور الثاني: وهو دور التكامل

اكتملت علوم الحديث في هذا الدور إذ وجدت كلها واحدا واحدا وخضعت لقواعد يتداولها العلماء وذلك من مطلع القرن الثاني إلى أو الثالث.

فقد جدت في هذا العصر أمور أهمها:

1 -

ضعف ملكة الحفظ في الناس، كما نص على ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ.

2 -

طالت الأسانيد وتشعبت بسبب بعد العهد وكثرة حملة الحديث، حيث حمل الحديث عن كل صحابي جماعات كثيرة تفرقوا في البلاد، فكثرت الأحاديث، ودخلتها القوادح الكثيرة والعلل الظاهرة والخفية.

3 -

كثرت الفرق المنحرفة عن جادة الصواب والمنهج الذي كان عليه الصحابة والتابعون بإحسان، كالمعتزلة والجبرية والخوارج وغيرهم.

فنهض أئمة الإسلام لمواجهة هذه الضرورات ووضعوا لكل طارئ ما يسد الثلمة التي حصلت ومن ذلك:

1 -

التدوين الرسمي، فقد أحس عمر بن عبد العزيز بالحاجة الملحة لحفظ كنوز السنة فكتب إلى الأمصار أن يكتبوا ما عندهم من الحديث ويدونوه حتى لا يضيع بعد ذلك.

أخرج البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء"(1).

(1) البخاري: 1: 27.

ص: 58

فكتب الزهري، وأبو بكر بن عبد الرحمن وغيرهما ما في آفاقهم من الحديث، ولم يلبث التدوين المبوب أن انتشر، فجمعت الأحاديث في الجوامع والمصنفات، كجامع معمر بن راشد "154"، وجامع سفيان الثوري "161"، وجامع سفيان بن عيينة "198"، وكمصنف عبد الرزاق "211"، ومصنف حماد بن سلمة "167"، ووضع الإمام مالك كتابه "الموطأ" وهو بأقوال الصحابة والتابعين. وقلده كثير من الناس حتى بلغت الموطآت الأربعين وعني مالك بانتقاء أحاديث الموطأ، حتى قال الإمام الشافعي:"أصح كتاب بعد كتاب الله كتاب مالك".

وقد أخرجوا في هذه التآليف الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع لأنهم قصدوا جمع الحديث للمحافظة عليه لذلك توسعوا فذكروا في المسألة كل ما ورد فنقوله بأسانيدهم إلى قائله.

2 -

توسع العلماء في الجرح والتعديل، وفي نقد الرجال لكثرة شيوع الضعف من جهة ضعف الحفظ ومن جهة انتشار الأهواء والبدع. فتفرغ جماعة من الأئمة لنقد الرجال واشتهروا به كشعبة بن الحجاج "160"، وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي "198" وغيرهم.

3 -

توقفوا في قبول الحديث ممن لم يعرف به. أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي الزناد قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال: "ليس من أهله".

4 -

تتبعوا الأحاديث لكشف خباياها ووضعوا لكل صورة جديدة قاعدة تعرفها وتبين حكمها فتكاملت أنواع الحديث ووجدت كلها واتخذت اصطلاحاتها الخاصة.

ووجدت العناية بسبر الروايات وتتبعها لكشف علل الحديث،

ص: 59

وشهد القرن نشاطا زائدا في الرحلة من أجل هذا الغرض، واعتبرت الرحلة من ضرورات التحصيل لطالب الحديث، فلا تعلم محدثا له شأنه علا قد رحل في البلاد، وأجدى العلماء من رحلاتهم هذه فوائد كثيرة، حيث اطلعوا على ما نشره الصحابة في شتى الآفاق، ووازنوا بين الأسانيد والمتون، مما تفرع عنه كثير من الفوائد. واحتل الرحالون في سبيل العلم مكانة مرموقة في المجتمع العلمي، حتى صار لقب "الرحال" والرحالة، والجوال وإليه كانت الرحلة

شعرا على كبار المحدثين وحتى طوف كثير منهم بالشرق والغرب أكثر من مرة، وتناقل الناس أخبار رحلاتهم، وما صادفهم من المشاق والعجائب (1) بالإكبار والإجلال.

وكان الإمام الزهري أول من عني في هذا القرن بجمع الضوابط وإلقائها إلى الناس، وأمر أتباعه بجمعها، حتى عده البعض واضع علوم الحديث (2).

لكن تلك العلوم والضوابط التي وجدت حتى عصرهم كانت محفوظة في صدور الرجال لم يدون شيء منها في كتاب -فيما نعلم فضلا عن أن يجمعها يضبط قواعدها مصنف خاص- اللهم إلا ما وجدنا للشافعي من فصول وأبحاث متفرقة لها أهميتها في هذا الفن. فقد تكلم في الرسالة عن الحديث الذي يحتج به، وشرط فيه شروط الصحيح، وتكلم في شرط حفظ الراوي والرواية بالمعنى والمدلس وقبول حديثه (3)، كما أنه ذكر في الأم الحديث الحسن (4). وتكلم في الحديث المرسل وناقش الاحتجاج به بقوة، وبحث في غير ذلك من علوم الحديث.

فكان ما كتبه الشافعي أول ما بلغنا من علوم الحديث مدونا في كتاب.

(1) انظر على سبيل المثال ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه في مقدمة الجرج والتعديل: 364 - 366.

(2)

الشيخ إبراهيم البيجوري في شرحه على الشمائل: 6، وانظر مقدمة تحفة الأحوذي: 2 - 3.

(3)

انظر الرسالة: 370 - 372 و 379 - 383.

(4)

الأم: 8: 538.

ص: 60

‌الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة

وذلك من القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن الرابع.

والقرن الثالث وهو عصر التدوين عصر السنة الذهبي دونت فيه السنة وعلومها تدوينا كاملا. في مطلع هذه الدور ارتأى العلماء إفراد حديث الرسول بالتصنيف، فابتكروا لذلك "المسانيد" جمعوا فيها الحديث النبوي مرتبا بحسب أسماء الصحابة، فالأحاديث عن أبي بكر مثلا تجمع كلها في مكان واحد تحت عنوان مسند أبي بكر وكذا أحاديث عمر وهكذا.

ثم جاء البخاري فرأى إفراد الحديث الصحيح وأن يرتب على الأبواب لتسهيل الوصول إليه وتسهيل الفقه فيه، فوضع كتابه الجامع الصحيح. وجاء بقية السنة وهم -عدا النسائي- من تلامذته فوضعوا كتبهم على الأبواب، وراعوا حسن الاختيار، وإن كان أصحاب السنن لم يشترطوا الصحة، وهكذا كان لمدرسة البخاري الفضل العظيم على السنة بما صنفت في رواية الحديث وفي علوم الحديث ثم تبع الشيخين في اشتراط الصحة ابن خزيمة "311 هـ". ثم ابن حبان "354 هـ".

وفي هذا العصر أصبح كل نوع من أنواع الحديث علما خاصا مثل علم الحديث الصحيح، وعلم المرسل، وعلم الأسماء والكنى، وهكذا، فأفرد العلماء كل نوع منها بتأليف خاص.

كتب يحيى بن معين "234 هـ" في تاريخ الرجال، ومحمد بن سعد "230" في الطبقات، الذي فاق كتب الطبقات وأحمد بن

ص: 61

حنبل " (241) هـ""العلل ومعرفة الرجال" .. والناسخ والمنسوخ، ونبغ في التأليف والكتابة الإمام العلم علي بن عبد الله المديني " (234) هـ" شيخ البخاري، فقد ألف في فنون كثيرا جدا، حتى بلغت مؤلفاته المائتين (1). وكان له السبق في تصنيف كثير منها، حتى قيل: إنه ما من فن من فنون الحديث إلا ألف فيه كتابا.

وأصبح التصنيف أمر متبعا لا ينفك عنه إمام في الحديث، والأئمة أصحاب الكتب السنة كلهم لهم تآليف كثيرة في علوم الحديث، وكذلك فعل غيرهم وكانت تآليفهم تحمل اسم العلم الذي دونت فيه. حتى شمل التدوين كل نوع من أنواع علوم الحديث وجعل في كتاب مفرد (2)، وصار يقال لهذه العلوم المتفرقة "علوم الحديث" كما يقال للفقه والأصول والتفسير والتوحيد: علوم الإسلام.

واستوفى العلماء المتون والأسانيد دراسة وبحثا، واشتهرت الاصطلاحات الحديثية لكل نوع من أنواع الحديث واستقرت بين العلماء، كما يلاحظ ذلك من كتاب الترمذي وغيره.

لكن لم يوجد في هذا الدور أبحاث تضم قواعد هذه العلوم وتذكر ضوابط تلك الاصطلاحات، اعتمادا منهم على حفظهم لها وإحاطتهم بها، سوى تأليف صغير هو كتاب "العلل الصغير" للإمام الترمذي " (279) هـ" فإنه وإن جعله مؤلفه خاتمة لكتاب الجامع فقد أفرده بالتحديث وحمله عنه العلماء جزءا مستقلا، لما اشتمل عليه من الفوائد (3).

(1) الرسالة المستطرفة: 95.

(2)

انظر الرسالة المستطرفة تجد فيها أشهر ما صنف في كل فن حديثي.

(3)

ويشابه عمل الترمذي هذا مقدمة مسلم صحيحه، ورسالة أبي داود إلى أهل مكة، لكنا لم نعدهما تأليفا في فن "علوم الحديث" لقصورهما الشديد عن الشمول الذي في كتاب الترمذي.

ص: 62

وهو كتاب جامع لمهمات من المسائل في الجرح والتعديل ومراتب الرواة وآداب التحمل والأداء، والرواية بالمعنى والحديث المرسل. وتعريف الحديث الحسن، وتعريف الحديث الغريب وشرح هذا التعريف (1).

(1) انظر تفصيل ذلك وتحقيقه في كتابنا الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: 50 - 53. وتصديرنا لشرح علل الترمذي: 17 - 25.

ص: 63

‌الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا

ويمتد من منتصف القرن الرابع إلى أوائل القرن السابع:

أكب العلماء في هذه الفترة على تصانيف السابقين التي كانت تجربة أولى في التدوين فجمعوا ما تفرق في مؤلفات الفن الواحد، واستدركوا ما فات السابقين، معتمدين في كل ذلك على نقل المعلومات عن العلماء بالسند إليهم كما فعل سابقوهم، ثم التعليق عليها والاستنباط منها.

فوجدت كتب في علوم الحديث لا تزال مراجع لا يغني عنها غيرها، ومن أهمها:

1 -

"المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ألفه القاضي أبو محمد الرامهرمزي الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد المتوفى سنة 360.

وهو أكبر كتاب وضع في علوم الحديث حتى ذلك العصر، استوفى فيه مؤلفه البحث في آداب الراوي والمحدث وطرق التحمل والأداء واجتهاد المحدثين في حمل العلم وما يتعلق بهذا الفن من الأمور. فهو في الحقيقة من كتب علوم الحديث بمعناه الإضافي لا باعتبار كونه اسما ولقبا للعلم الخاص المعروف.

2 -

"الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي أبي بكر أحمد بن علي المتوفى سنة 463 هـ استوفى فيه البحث في قوانين الرواية

ص: 63

وإبان فيه عن أصولها وقواعدها الكلية، ومذاهب العلماء فيما اختلفت آراؤهم فيه، ولا يزال حتى يومنا أعظم كتاب في هذا الباب.

3 -

"الإلماع في أصول الرواية والسماع"، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المتوفى سنة 544 هـ وهو كتاب مفيد جدا.

فهذه المراجع وسواها مما صنف في ذلك العصر في كل نوع من أنواع علوم الحديث أصبحت المراجع الأصلية في هذه الفنون، بنى عليها اللاحقون بأن حذفوا أسانيدها وتلافوا أوهاما يسيرة فيها، أو استدركوا زيادات أضافوها إليها.

وفي هذا الدور وضعت التآليف الجامعة لأنواع الحديث ونما التدوين في فن "علوم الحديث". ومن أهم ما صنف فيه إذ ذاك:

1 -

"معرفة علوم الحديث" للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ بحث فيه اثنين وخمسين نوعا من علوم الحديث. وقد طبع في مصر سنة 1937.

2 -

"المستخرج" لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة 430 هـ زاد فيه على الحاكم أشياء فاتته، لذلك سماه مستخرجا. ومع ذلك فقد تركا أشياء للمتعقب.

3 -

"ما لا يسع المحدث جهله" للميانجي أبي حفص عمر بن عبد المجيد المتوفى سنة 580 هـ وهو رسالة مختصرة.

وكان من أبرز الأعلام الذين شيدوا بنيان علوم الحديث في هذا الدور واعتمد عليهم من جاء بعدهم: الحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي.

أما الحاكم فقد شق الطريق لمن بعده، بوضع كتابه المذكور: قال ابن خلدون: "ومن فحول علمائه -يعني علوم الحديث- وأئمتهم

ص: 64

أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة، وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه" (1).

وقال الشيخ طاهر الجزائري "فيه فوائد مهمة رائعة ينبغي لمطالعي هذا الفن الوقوف عليها"(2).

وأم الخطيب فإنه قد صنف في كل فن من فنون الحديث كتابا مفردا جامعا مستوفيا، حتى أضحت كتبه ملاذ الأئمة في فنون الحديث، كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة:"كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه"(3).

وكان طابع الجمع في هذه التآليف بارزا ظاهرا، فقد عمد المصنفون إلى نقل أقوال أئمة الفن في كل مسألة بأسانيدهم، ووضعوا لكل مجموعة منه عنوانا يدل على مضمونها معتمدين على القارئ في فهمها وإدراك مراميها، سوى شيء يسير من الإيضاح أو المناقشة، إلا أن الحاكم قصد ضبط القواعد، لكن فاته كما ذكر العلماء: أمران: استيعاب أنواع الحديث، وتهذيب العبارات وضبطها حتى يتضح المراد من التعريف (4).

(1) مقدمة ابن خلدون: 371.

(2)

توجيه النظر: 163.

(3)

انظر إحصاء تصانيفه في كتاب "الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها، للدكتور يوسف العش 120 - 137 وعددها /140/.

(4)

انظر بعد هذا العرض ما قاله الدكتور يوسف العش في كتابه "الخطيب البغدادي" ص 167 - 170 في وضع قواعد الحديث والتدوين فيها متأملا ناقدا.

ص: 65

‌الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث

"

وذلك من القرن السابع إلى القرن العاشر، وفيه بلغ التصنيف لهذا العلم كماله التام فوضعت مؤلفات استوفت أنواع هذا العلم، وجمع إلى ذلك تهذيب العبارات وتحرير المسائل بدقة. وكان أصحاب تلك الصانيف من الأئمة الكبار الذين أحاطوا بالحديث حفظا، واضطلعوا من فنونه وأحوال أسانيده ومتونه دراية وعلما، على غرار الأئمة السابقين الكبار.

وكان رائد هذا التحول العظيم في تدوين هذا الفن الإمام المحدث الحافظ الفقيه الأصولي أبو عمرو عثمان بن الصلاح المتوفى سنة " (643) "(1)، في كتابه المشهور "علوم الحديث"، فقد جمع فيه ما تفرق في الكتب السابقة، واستوفى أنواع علوم الحديث، ثم امتاز:

1 -

بالاستنباط الدقيق لمذاهب العلماء وقواعدهم من أقوالهم المأثورة عنهم.

2 -

أنه ضبط التعاريف التي سبق بها وحررها، وأوضح تعاريف لم يصرح بها من قبله.

3 -

أنه عقب على أقوال العلماء بتحقيقاته واجتهاداته.

وهكذا جاء كتابه متكاملا في فن التصنيف، وكان فتحا في تدوين هذا العلم، وابتداء عهد جديد له، نال من العلماء حظوة، وطارت شهرته في الآفاق، وعم الثناء عليه، حتى صار صاحبه يعرف به فيقال:"صاحب كاب علوم الحديث".

وقد أصبح الكتاب إماما يحتذى ومرجعا يقتدى به، فعول عليه كل من جاء بعده، فمنهم من اختصره ومنهم من نظمه شعرا، ومنهم من شرحه وعلق عليه. لكن المصنفين في هذا الدور كانوا كما قدمنا أئمة

(1) انظر ترجمته مفصلة في "المدخل إلى علوم الحديث": 21 - 27.

ص: 66

أجلة فلم يقلدوه في القواعد العلمية، بل اجتهدوا رأيهم وكثيرا ما ناقشوه أو خالفوه فيما قرره.

ومن أهم المؤلفات في هذا الدور بعد علوم الحديث:

1 -

"الإرشاد" للإمام يحيى بن شرف النووي سنة (676) هـ لخص فيه كتاب ابن الصلاح ثم لخصه في كتاب "التقريب والتيسير لأحاديث البشير النذير".

2 -

"التبصرة والتذكرة" منظومة في ألف بيت للإمام الحافظ عبد الرحيم بن الحسين المتوفى سنة (806) هـ ضمنها كتاب ابن الصلاح وتعقبه، وزاد عليه مسائل نافعة، ثم شرحها شرحا قيما (1).

3 -

شرح للحافظ العراقي أيضا وضعه على كتاب ابن الصلاح: "التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح" ويسمى أيضا "النكت". علق عليه فضيلة أستاذنا الشيخ محمد راغب الطباخ تعليقات نافعة (2).

4 -

شرح الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852) هـ "الإفصاح على نكت ابن الصلاح" وهو مخطوط في الهند.

5 -

"فتح المغيث شرح ألفية العراقي في علم الحديث"، للحافظ

(1) وقد وهم بعض الكاتبين فسمى هذا الشرح "التبصرة والتذكرة"، ودرج على ذلك في كل عزوه إليه، مع أن نفس المنظومة أشارت في مطلعها إلى تسميتها بـ "التبصرة والتذكرة"، ونص على تسميتها هذه أيضا الحافظ السخاوي في مطلع شرحه لها

! ! .

(2)

وإلى شيخنا رحمه الله يرجع الفضل في إخراج علوم الحديث مع شرح العراقي محققا تحقيقا دقيقا لأول مرة وذلك في مطبعته العلمية أجزل الله مثوبته.

ص: 67

شمس الدين محمد السخاوي المتوفى سنة (902) هـ. امتاز بتحقيق وتتبع للمسائل في كتب السنة وعلوم الحديث، طبع في الهند في مجلد ضخم.

6 -

"تدريب الراوي شرح تقريب النواوي" للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة (911) هـ. ويغلب عليه طابع الجمع وإن كان لا يخلو من مناقشات مفيدة.

7 -

"نخبة الفكر" وشرحه "نزهة النظر" كلاهما للحافظ ابن حجر.

وغير ذلك من التآليف التي جاءت بع ابن الصلاح، يصعب حصرها في هذا المقام وقد بني كثير منها على كتابه، قال الحافظ ابن حجر (1):"فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر".

لكن يلاحظ المتأمل أن الأنواع لم ترتب في كتاب ابن الصلاح على نظام مطرد، فتراه يبحث في نوع يتعلق بالسند مثلا ثم ينتقل إلى نوع يتعلق بالمتن أو بهما معا، والسر في ذلك كما ذكر البقاعي: أن ابن الصلاح أملى كتابه إملاءا فلم يقع مرتبا وصار إذا ظهر له أن غير ما وقع له أحسن ترتيبا يراعي ما كتب من النسخ (2).

لكن العلماء تابعوه على هذا الترتيب لأن الكتاب أصحب قدوة في هذا الفن. اللهم إلا كتاب نخبة الفكر وشرحه للحافظ ابن حجر فإنه على وجازته يمتاز بغزارة فائدته واستقلال شخصية مؤلفه فيه ويمتاز بأن

(1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 3. وانظر تفصيل مزايا كتاب ابن الصلاح في المدخل إلى علوم الحديث ص 9 و 28 - 32.

(2)

كشف الظنون 1162، وانظر نقلا آخر في المدخل إلى علوم الحديث ص 28 و 31.

ص: 68

الحافظ قد وضعه على ترتيب جديد وهو أسلوب السبر والتقسيم في ترتيب كثير من أنواع الحديث.

فجاء كتابنا هذا متمما لما قصده من هذه الدقة فنظم كل أنواع الحديث في ظل نظرية نقدية دقيقة شاملة كشفنا النقاب عنها ودرسنا أنواع الحديث على ضوئها.

ص: 69

‌الدور السادس: عصر الركود والجمود

وقد امتد ذلك من القرن العاشر إلى مطلع القرن الهجري الحالي.

في هذا الدور توقف الاجتهاد في مسائل العلم والابتكار في التصنيف. وكثرت المختصرات في علوم الحديث شعرا ونثرا، وشغل الكاتبون بمناقشات لفظية لعبارات المؤلفين دون الدخول في عمق الموضوع تحقيقا أو اجتهادا.

ومن المؤلفات في هذا الدور:

1 -

"المنظومة البيقونية"، لعمر بن محمد بن فتوح البيقوني الدمشقي المتوفى سنة "1080 هـ" في ست وثلاثين بيتا وتمتاز عن غيرها من المنظومات المختصرة بعذوبة النظم وسهولة العبارة حتى إنها لتصلح مذكرة للطالب في هذا العلم. وضعت لها شروح كثيرة.

2 -

"توضيح الأفكار" للصنعاني محمد بن إسماعيل الأمير المتوفى "1182 هـ". وهو كتاب حافل مفيد.

3 -

شرح نزهة النظر شرح النخبة للشيخ علي بن سلطان الهروي القارئ المتوفى سنة "1014 هـ" ويعرف كتابه هذا باسم شرح الشرح.

وهذا الكتاب الأخير لم يخل من فوائد في أبحاثه لغزارة علم مؤلفه رحمه الله.

ص: 69

لكن الله تعالى أقام نهضة للحديث في ديار الهند خلال هذه الفترة كانت على مستوى عال في البحث والعلم. وذلك على يد العلامة الإمام المحدث شاه ولي الله الدهلوي المتوفى سنة (1176) هـ ثم على يد أولاده وأحفاده ومن تخرج على طريقته ومدرسته، فهؤلاء الكرام قد رجحوا علم السنة على غيرها من العلوم، وجاء تحديثهم حيث يرتضيه أهل الرواية ويبتغيه أصحاب الدراية (1).

وهذه هي الكتب الحديثية والشروح الكبيرة تردنا من تلك الديار شاهد صدق على ما نهضوا به في هذا العلم، وما أسدوا من خدمات جليلة.

إلا أنا نسجل أخيرا أنه مهما يكن من الأمر الذي كان عليه التأليف في هذا الدور فإن العلماء لم يتوقفوا أبدا عن البحث في الأسانيد وتمييز الأحاديث المقبولة من المردودة، وهذه شروحهم لكتب السنة، وتآليفهم كثيرة غزيرة تقوم بالواجب المطلوب، ألا وهو تمييز الحديث الصحيح والحسن عن غيرهما ونفي الكذب والواهي عن الحديث. مع الجهد المشكور في شرح الحديث النبوي.

(1) مقدمة تحفة الأحوذي: 26. وارجع إليه لمزيد التفصيل في ذلك.

ص: 70

‌الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث

من مطلع القرن الهجري الحالي إلى وقتنا هذا، وفيه تنبهت الأمة للأخطار المحدقة نتيجة اتصال العالم الإسلامي بالشرق والغرب، ثم نتيجة الصدام العسكري العنيف والاستعمار الفكري الذي يفوق في خبثه وخطره كل الأخطار، فقد ظهرت دسائس وشبهات حول السنة أثارها المستشرقون وتلقفها ضعفاء النفوس من عبيد الأجنبي، فصاروا يدندون

ص: 70

يها ويلهجون، مما اتقضى تأليف أبحاث حولها والرد على أغاليطهم وافتراءاتهم، كما اقتضى الحال تجديد طريقة التأليف في علوم الحديث. فوفى العلماء بهذه المطالب وأخرجت المطابع الكثير من المؤلفات المبتكرة النافعة نذكر منها:

1 -

"قواعد التحديث" للشيخ جمال الدين القاسمي، قال فيه:"إني جمعت هذا المختصر المبارك إن شاء الله لمن صنفت لهم التصانيف وعنيت بهدايتهم العلماء، وهم من جمع خمسة أوصاف معظمها الأخلاص والفهم والانصاف" ورتب فيه أنواع الحديث على ثلاثة أقسام 1 - الصحيح والحسن، 2 - الضعيف، 3 - المشترك بينهما. وكان في ذلك قدوة للكاتبين في هذا الفن من المعاصرين.

2 -

"مفتاح السنة" أو تاريخ فنون الحديث. لعبد العزيز الخولي، وهو أول محاولة في دراسة تاريخ الحديث وتاريخ فنونه.

3 -

"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، للدكتور مصطفى السباعي، وهو كتاب جليل القدر تحدث عن المستشرقين ومواقفهم العدائية للسنة والإسلام وعنادهم في ذلك مهما أقيمت عليهم الحجج، ثم بحث في رد مزاعم المنكرين لحجية الحديث سواء كانوا من العصر القديم أو الحديث. وقد أفدنا منه، وزدنا عليه مناقشات كثيرة لم يتعرض لهان لأنها ليست من موضوع كتابه، رحمه الله.

4 -

"الحديث والمحدثون" ألفه الشيخ الدكتور محمد محمد أبو زهو، بحث فيه جهود العلماء لخدمة الحديث، وعني بدراسة الأعصر الأولى عصر الصحابة والتابعين إلى عصر التدوين وناقش الشبهات والمزاعم الباطلة.

5 -

"المنهج الحديث في علوم الحديث" لأستاذنا العلامة الجامع

ص: 71

لأنواع العلوم فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ محمد محمد السماحي، قصد فيه إلى إعداد موسوعة جامعة في علوم الحديث، يتناول فيها المشاكل الحالية التي ذكرناها فيعالجها ويناقشها، ثم يبحث قواعد علوم الحديث بحثا جامعا موسعا. والكتاب يقع في أقسام عديدة هي:

1 -

قسم تاريخ الحديث ويتألف من ثلاثة أجزاء.

2 -

قسم مصطلح الحديث.

3 -

قسم الرواية.

4 -

قسم الرواة.

وهكذا توالت سلسلة الجهود العلمية متواترة متضافرة لحمل الحديث النبوي وتبليغه علما وعملا، فنا ودراسة وشرحا، منذ عهده صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر، يستطيع أي إنسان في أي وقت أن يجد السبيل إلى معرفة الحديث الصحيح وتمييزه عن غير الصحيح، حتى وصل إلينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غضا طريا، صافيا نقيا، وإنه احقا لمكرمة عظيمة أكرم الله بها هذه الأمة، بل هي معجزة تحقق صدق التنزيل:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

ص: 72

‌الباب الثاني: في علوم رواة الحديث

هذه المعارف التي تبحث في راوي الحديث لها بالغ الأهمية في معرفة درجة الحديث من الصحة أو الحسن أو الضعف، وموقعه من القبول أو الرد، لذلك اتخذ البحث عن الرجال وسيلة هامة جدا، في علم مصطلح الحديث، وتعددت علوم الرواة وكثرت لتتناول كل ما يتصل بالراوي من الأمور، إذ ربما يشابه آخر في اسمه، أو كنيته، أو يعرف بكنيته فيحتاج إلى الكشف عن اسمه، أو يحتاج إلى إزالة النقاب عن نسبه وقبيلته كي يتبين هوية شخصه، أو غير ذلك.

وقد تتبعنا هذه الأنواع كلها بالنظرة الفاحصة، وسبرناها من حيث الغرض الذي تؤديه، فوجدناها تنقسم إلى قسمين، نبحث كل واحد منهما في فصل مستقل.

ص: 73

الفصل الأول: في علوم الرواة المعرفة بحال الراوي. وهي علوم تبحث في الراوي من حيث قبول خبره أو رده.

الفصل الثاني: في علوم الرواة المبينة لشخص الراوي. وهي تبحث في معلومات وأمور توصل إلى البحث عن حال الراوي، وذلك بأن تكشف النقاب عما يحدد شخصه ويميزه تماما.

ص: 74

‌الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

ويشتمل على تمهيد في تعريف الرواة وألقابهم العلمية، ثم على الأبحاث الآتية:

1 -

صفة من تقبل روايته ومن ترد.

2 -

الجرح والتعديل.

3 -

الصحابة.

4 -

الثقات والضعفاء.

5 -

من اختلط في آخر عمره من الثقات.

6 -

الوحدان.

7 -

المدلسون.

تعريف الرواة وألقابهم العلمية:

الراوي هو من تلقى الحديث وأداه بصيغة من صيغ الأداء (1).

وقد صنف العلماء رواة الحديث كلهم (2) بحسب كثرة مروياتهم

(1) المنهج الحديث قسم الرواة ص 5.

(2)

من رحل منهم ومن لم يرحل. قارن علوم الحديث ومصطلحه: 75.

ص: 75

وعنايتهم بالحديث وفنونه إلى درجات علمية، خصوا كل واحدة منها بلقب يميزها، وهي:

1 -

المسند: وهو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية.

2 -

المحدث: وهو كما عرفه ابن سيد الناس: "من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه"(1).

أي صار يقصد للإفادة في الحديث ورواته حتى اشتهر بذلك، وعرف خطه لكثرة ما يكتب من الأجوبة على أسئلة الناس.

وقال ابن الجزري: "المحدث: من تحمل الحديث رواية واعتنى به دراية"(2).

3 -

الحافظ: أرفع من المحدث وهو كما يؤخذ من كلامهم: من توسع في الحديث وفنونه بحيث يكون ما يعرفه من الأحاديث وعللها أكثر مما لا يعرفه (3). وقال ابن الجزري: "الحافظ: من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج لديه".

وقد تفاوتت عبارات العلماء في تعريف الحافظ حتى بلغوا أحيانا ما عده بعض الباحثين تغاليا في الحفاظ، كقول الزهري:"لا يولد الحافظ إلا كل أربعين سنة"، وقولهم في الإمام أحمد بن حنبل "كان يحفظ ألف ألف حديث".

(1) انظر ترتيب الراوي ص 11. وقسم الرواة ص 197.

(2)

شرح الشرح: 3.

(3)

كما يفيده كلام ابن سيد الناس والمزي انظر التدريب ص 10، 11.

ص: 76

وهذا صدر عنهم باعتبار المرتبة العليا في الحفظ. كما أنهم صرحوا يتفاوت العرف وأثر اختلاف الزمان في ذلك.

وقد وضع للأئمة من كبار الحفاظ ألقاب تشعر بتفوقهم، هي التالية:

4 -

الحجة: وهو فيما يبدو لنا يطلق على الحافظ من حيث الاتقان، فإذا كان الحافظ عظيم الاتقان والتدقيق فيما يحفظ من الأسانيد والمتون لقب بالحجة .. وعرفه المتأخرون بأنه من يحفظ ثلاثمائة ألف حديث مع معرفة أسانيدها ومتونها

ويدخل في الأحاديث التي يذكرون عددها في حفظ العلماء بعشرات الألوف أو مئات الألوف يدخل فيها تعدد الأسانيد للحديث الواحد، واختلاف الروايات، فإن تغيير الحديث بكلمة في السند أو المتن يعتبر بها حديثا جديدا، وكن اجتهد المحدثون ورحلوا من أجل كلمة في حديث.

5 -

الحاكم: وهو من أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير.

6 -

أمير المؤمنين في الحديث: وهو أرفع المراتب وأعلها، وهو من فاق حفظا وإتقانا وتعمقا في علم الأحاديث وعللها كل من سبقه من المراتب بحيث يكون لاتقانه مرجعا للحكام والحفاظ وغيرهم.

ومن أمراء المؤمنين في الحديث: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم. ومن المتأخرين الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وغيرهم رحمه الله ورضي عنهم (1).

(1) ذكرهم شيخنا العلامة محمد السماحي في قسم الرواة: 199 - 200، وقد رجعنا إليه في هذه التعريفات، وصنف الذهبي تذكرة الحفاظ جمع فيها من لقب بالحافظ بالمعنى الذي يشمل الحافظ والحجة فما فوق

ص: 77

وهذه المراتب العلمية إنما يلحظ فيها الحفظ لا اقتناء الكتب حتى إن من كانت عنده الكتب ولا يحفظ ما فيها لا يعتبر عندهم محدثا.

ولكن بعض الناس في هذه العصر هان عندهم العلم، ولم يفقهوا منه إلا تقليب الأوراق عن طريق الفهارس، حتى راح بعضهم يستخف بحفظ القرآن أو الحديث، ويقول:"يزيد الكتاب نسخة"! ! . وهذا يدل على مبلغ ما عندهم من معرفة الفضل لذوي الفضل.

1 -

صفة من تقبل روايته ومن ترد:

هذا النوع من علوم الحديث له أهمية بالغة، إذ أنه يبحث في شروط الراوي الذي يقبل حديثه ويحتج به.

وقد اختلفت عبارات العلماء في تعداد صفات القبول، فمن مقل ومن مكثر، وجمع أبو عمرو بن الصلاح تلك الخصال، فقال (1):

"أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يروي. وتفصيله: أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل،

(1) في علوم الحديث: 94. وهذه الخصال سبق إلى سردها بتفصيل، أوسع الإمام الشافعي في الرسالة، في أثناء تعريفه للحديث الصحيح: 370 - 371.

ص: 78

حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابة إن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني".

وبالتأمل في هذه الصفات وغيرها مما ذكره العلماء نجد أنها لدى النظر ترجع كلها إلى أمرين ذكرهما ابن الصلاح هما: العدالة والضبط.

فلنشرح كلها من العدالة والضبط فيما يلي:

أولا: العدالة

وهي ملكة تحمل صاحبها على التقوى، واجتناب الأدناس وما يخل بالمروءة عند الناس.

ويشترط فيها الأمور الآتية:

أ- الإسلام: لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، وغير المسلم ليس من أهل الرضى قطعا.

ب- البلوغ: لأنه مناط تحمل المسؤلية، والتزام الواجبات وترك المحظورات.

ج- العقل: لأنه لا بد منه لحصول الصدق وضبط الكلام.

د- التقوى: وهي اجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر.

أما الكبائر فركوبها فسق قطعا، وكذا الاصرار على الصغائر، لأن الاصرار يجعلها كبيرة -والعياذ بالله- كما قالوا:"لا صغيرة مع الإصرار".

ودليل اشتراط التقوى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقوله عز من قائل:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . وهذه

ص: 79

الآيات وإن كانت في الأموال ونحوها فإن الرواية للحديث دين، فهي أجدر من المال في أن يشترط لها هذا الشرط.

هـ- الاتصاف بالمروءة وترك ما يخل بها، وهو كل ما يحط من قدر الإنسان في العرف، الاجتماعي الصحيح، مثل التبول في الطريق، وكثرة السخرية والاستخفاف، لأن من فعل ذلك كان قليل المبالاة، لا نأمن أن يستهتر في نقل الحديث النبوي.

هذه الخصال إذا توفرت في الراوي عرفت عدالته وكان صادقا، لأنها إذا اجتمعت حملت صاحبها على الصدق وصرفته عن الكذب لما توفر فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الادراك التام لتصرفاته وتحمل المسؤولية.

ثانيا: الضبط

هذه الصفة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه، ومراد المحدثين بالضبط أن يكون الراوي:"متيقظا غير منفعل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني".

ويعرف كون الراوي ضابطا بمقياس قرره العلماء واختبروا به ضبط الرواة، وهو كما لخصه ابن الصلاح:"أن نعتبر -أي نوازن- رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والاتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لروايتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه".

فإذا اجتمع في الراوي هذان الركنان: العدالة والضبط، فهو حجة يلزم العمل بحديثه، ويطلق عليه "ثقة". وذلك لأنه قد تحقق

ص: 80

فيه الاتصاف بالصدق، وتحلى بقوة الحفظ التي تمكنه من استحضار الحديث وتسعفه لأدائه كما سمع، فتحقق أنه أدى الحديث كما سمعه، فصار حجة، وإذا اختل فيه شيء من خصال الثقة، كان مردود الحديث بحسب الاختلال الذي لحقه.

ونذكر لك فيما يلي أهم الفروع لذلك (1):

فروع اختلال العدالة:

1 -

لا يقبل حديث الراوي الكافر، بل يجب أن يكون وقت روايته للحديث مسلما، فإن الكفر أعظم موجبات العداء للدين وأهله، فكيف تقبل رواية الكافر مهما كان عليه من الصدق؟ ! . وها نحن نتتبع أخبار المحدثين السابقين واللاحقين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين، فمحال أن نجد محدثا أو عالما تلقى الحديث أو علم الإسلام عن غير المسلمين.

2 و 3 - لا تقبل رواية الصبي والمجنون، لأنهما لا مسؤولية عليهما، فقد يتعمد الصبي الكذب بهذا الاعتبار، أو يتساهل، والمجنون أولى لأنه فاقد شريطة الضبط من الأصل.

4 -

لا يقبل خبر الفاسق بارتكاب المعاصي والخروج عن طاعة الله تعالى، وإن لم يظهر عليه الكذب، وكذلك من كان فسقه بسبب كذبه في حديث الناس وإن توقى الكذب في الحديث النبوي، لأنه لا يؤمن أن يقع فيه حيث إنه مستهتر بمقام ربه، قد هتك الستر بينه وبينه والعياذ بالله، ولأن النصوص قد نهت عن قبول خبره بمجرد

(1) توسعنا في صفات الرواة والفروع التي تترتب على اختلالها في بحث خاص في الجرح والتعديل يسر الله إخراجه.

ص: 81

الفسق. إلا إذا أقلع عن ذنبه وتاب توبة نصوحا تبدل ما كان من حاله، إلى حال التقى فإنه يقبل خبره وتعود عدالته؛ لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .

أما من لم يقع في الكبيرة، ولا عرف بالاصرار والاستهتار في الصغائر، فإنه يقبل حديثه، ويغتفر له ما قد يبدو من من الهفوات، ويوهب نقصه لفضله.

5 -

ترفض رواية التائب من الكذب في الحديث:

لكن العلماء استثنوا خبر التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل خبره، وفي هذا يقول ابن الصلاح (1):

"التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تقبل روايته أبدا وإن حسنت توبته على ما ذكر عن غير واحد من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري

".

والسبب في عدم قبوله الزجر والتغليظ، والمبالغة في الاحتياط للحديث، كما أن الشريعة غلظت حرمة أعراض الناس فردت شهادة القاذف ولو تاب بعد ذلك على ما ذهب إليه كثير من العلماء.

واستدل السيوطي (2) على ذلك باستدلال بديع يدل على تحقيقه

(1) في علوم الحديث: 104.

(2)

في تدريب الراوي: 221.

ص: 82

وفقهه فقال: "ذكروا في باب اللعان أن الزاني إذا تاب وحسنت توبته، لا يعود محصنا ولا يحد قاذفه بعد ذلك لبقاء ثلمة عرضه، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا

".

6 -

خبر المبتدع:

المبتدع هو من فسق لمخالفته عقيدة السنة، وتنقسم البدعة إلى قسمين: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، أما المبتدع الذي يرمى ببدعة مكفرة فترد روايته قولا واحدا، خلافا لمن شذ في ذلك. لكن ينبغي التثبت مما يرمى به، وألا تسرع بتكفيره، خلافا لما درج عليه كثير من المبتدعة في الأعصر الخالية وفي زماننا هذا حديث تهوكو في رمي المسلمين بالكفر والشرك لمجرد الأوهام (1).

وأما المبتدع الذي لم يبلغ في بدعته حد الخروج عن الملة وخلع ربقة الإسلام فقد قال فيه ابن الصلاح:

"اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته، فمنهم من رد روايته مطلقا لأنه فاسق ببدعته .. ، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن.

وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته. وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء. وقال أبو حاتم بن حبان البستي من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافا.

وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولالها. والأول بعيد مباعد للشائع

(1) قارن بتدريب الراوي: 216. ولقط الدرر حاشية نزهة النظر: 89 - 90.

ص: 83

عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول (1) ".

واشترط الإمام الجوزجاني شرطا آخر لقبول رواية المبتدع غير الداعية هو أن لا يكون الحديث الذي رواه مؤيدا لبدعته، فقال:"ومنهم زائغ عن الحق -أي عن السنة- صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكرا إذا لم يقو به بدعته".

وأيد الحافظ ابن حجر هذا الرأي فقال:

"ما قاله -اي الجوجاني- مته، لأن العلة التي رد لها حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولم يكن داية"(2) اهـ.

وإجماع الأئمة على تلقي الصحيحين بالقبول، وفيهما أحاديث المبتدعة غير الدعاة خير شاهد لتقوية هذا المذهب.

وأما ما وقع في الصحيحين من الرواية لبعض المبتدعة الدعاة، فلا يخل بهذه القاعدة، ولا يطعن في الكتابين (3) لأنه قليل نادر جدا كما حقق الحافظ ابن حجر (4)، وقد توفر فيهم من الصدق: ما لو أن أحدهم أن يخر من السماء أهون عليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك استثني هؤلاء الرواة القلائل. وواضح أن هذا أمر لا يستطيع تقديره غير أولئك الأئمة المعاصرين للرواة أو قريبي العهد بهم كما أن النادر لا حكم له (5).

(1) علوم الحديث: 103 - 104.

(2)

شرح النخبة نسخة لقط الدرر: 91.

(3)

انظر إيراد ذلك في تدريب الراوي: 217 - 218.

(4)

انظره مفصلا في هدي الساري: 2: 1780179.

(5)

قارن رأينا هذا بما ارتآه أحمد شاكر في الباعث الحثيث ص 100 - 101.

ص: 84

7 -

خبر من أخذ على الحديث أجرًا: مضت سنة الصحابة والتابعين أن يرووا الحديث للناس احتسابا يبتغون الأجر عند الله، حتى شاع قولهم:"علم مجانا كما علمت مجانا"(1). ثم جاء بعض الرواة وخالفوا هذا العرف وصاروا يتقاضون من طلابهم أجرا لإسماعهم الحديث.

وقد أثار هذا التصرف اسيتاء علماء الحديث ونقاده، واستنكروه، وحذروا من السماع من هؤلاء المتاجرين بالرواية، لما في صنيعهم هذا من خرم المروءة، ولما يخشى أن يجر أحدهم الحرص على الأجر إلى الوقوع في شبهة الكذب أو صريح الكذب لكي يرغب فيه

! !

لك بعض حفاظ الحديث الثقات ألجأتهم ظروف معيشتهم الضيقة لأخذ الأجرة، حيث كانوا محط رحال الطلاب، حتى لقد منعهم اشتغالهم بالعلم ونشره عن الكسب لعيالهم، فاغتفر لهم النقاد ذلك لما علم من صدقهم وأمانتهم، مثل أبي نعيم الفضل بن دكين، وعبد العزيز المكي وهما من شيوخ البخاري، قال أبو نعيم:"يلومونني على الأجر وفي بيتي ثلاثة عشر، وما في بيتي رغيف"(2).

وفيما عدا تلك القلة التي تقاضت الأجر على الحديث جرى سائر المحدثين على رفض الأجرة وضربوا لذلك أمثلة عالية جدا.

قال جعفر بن يحيى البرمكي: "ما رأينا في القراء مثل عيسى بن يونس عرضت عليه مائة ألف فقال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا

".

وأهدى أصحاب الحديث للأوزاعي شيئا، فلما اجتمعوا قال لهم:

(1) الكفاية ص 153 و 154.

(2)

تهذيب التهذيب: 8: 275.

ص: 85

أنتم بالخيار، إن شئتم قبلته ولم أحدثكم أو رددته وحدثتكم، فاختاروا الرد، وحدثهم، ومرض أبو الفتح الكروخي راوي جامع الترمذي، فأرسل إليه بعض من كان يحضر مجلسه مقدارًا من الذهب، فما قبله لمجرد اشتباهه أن صاحبه أرسله لأجل أنه كان يسمع منه الحديث، وقال:"بعد السبعين واقتراب الأجل آخذ على حديث رسول الله شيئا! ! "، ورده مع الاحتياج إليه (1).

فروع اختلال الضبط:

1 -

لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث، ومعنى التلقين أن يعرض عليه الحديث الذي ليس من مروياته، ويقا له: إنه من روايتك، فيقبله ولا يميزه، وذلك لأنه مغفل فاقد لشرط التيقظ، فلا يقبيل حديثه.

2 -

لا تقبل رواية من كثرت الشواذ أين المخالفات، والمناكير أي التفرد الذي لا يحتمل منه. جاء عن شعبة أنه قال:"لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ"، وعلة هذا أنه يدلى على عدم حفظه.

3 -

لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته، إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح، لأن كثرة السهو تدل على سوء الحف أو التغفيل، فلا يكون الراوي ضابطا.

4 -

ورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم أن من غلط في حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأصر على روايته

(1) فتح المغيث بتصرف يسير: 149 - 153.

ص: 86

لذلك الحديث سقطت رواياته ولم يكتب عنه، وفي هذا نظر، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك.

5 -

لا تقبل رواية من يتساهل في نسخته التي يروي منها إن كان يروي الحديث من كتاب، كمن يحدث من أصل غير صحيح أي من كتاب أو مكتوب غير مقابل على الأصول المسموعة المتلقاة عن المصنفين بالسند الصحيح (1).

تساهل المتأخرين في شروط الراوي:

راعى المحدثون هذه الشروط بكل أمانة ودقة، وتناولوا في كلامهم عن الرجال أحوالهم كلها للتثبت من سلامة حديث الراوي واستيثاقا منه، حتى جاء عصر التدوين فدونت الأحاديث في المصنفات والمسانيد، والجوامع والمعاجم والأجزاء، ونقلت هذ المؤلفات عن أصحابها بالأسانيد الصحيحة كما ينقل الحديث الواحد، حتى كثتر النسخ لكل كتاب، وشاعت في الأقطر شيوع التواتر. فأصبحت العمدة عندئذ على هذه النسخ المنقولة بالسند إلى مؤلفيها، وقامت مقام الرواة، فتساهل العلماء في بعض شروط الراوي، واكتفوا بما يحصل المقصود، وهو أهليته بكونه عدلا، وحسن رعايته وضبطه للكتاب.

وقد أبان الإمام ابن الصلاح أمر ذلك وأوضحه فقال (2):

"اعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم أو كان عليه من تقدم.

(1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح: 1050106 وقد فصلنا كلامه وعللناه.

(2)

المرجع السابق: 108 - 109.

ص: 87

ووجه ذلك ما قدمناه أول كتابنا هذا (1)، من كون المقصود آل آخرا إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في اأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها.

فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بها الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما، بالغا، عاقلا، غير متظاهر بالفسق والسخف. وفي ضبطه بوجود سماه مثبتا بخر غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه

ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث، ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم

لضمان صاحب الشريعة حفظها.

قال البيهقي، فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية برواية غيره، والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا، وتبقى هذه الكرامة التي خصصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم".

تقسيم الرواة من حيث معرفة صفتهم:

ينقسم رواة الحديث من حيث معرفة صفتهم وعدم معرفتها إلى قسمين:

القسم الأول علوم الحديث انظر ص (13).

(1) أي كتابه علوم الحديث انظر ص 13.

ص: 88

أما مجروح. فيعمل بما علم فيهم من الجرح والتعديل حسب المراتب التي سنرشحها.

القسم الثاني: من لم يعرف وصفه: وهو المحهول.

وهذا يقسم بحسب نوع الجهالة إلى ثلاثة أقسام: وذلك أن الجهالة إما أن تكون في عين الراوي وهو مجهول العين، أو في صفته الظاهرة والباطنة معا وهو مجهول الحال، أو في صفته الباطنة مع العلم بحاله الظاهر أنه على العدالة ويسمى "المستور". فانقسم المجهول بذلك إلى ثلاثة أقسام درج عليها المحدثون في منصفات علوم الحخديث ثم جاء الحافظ ابن حجر، فذهب تقسيمه قسمين تكلم عليهما في النخبة وشرحه. فقال:"فإن سمي الراوي وانفرد راو وحد بالرواية عنه فهو مجهول الحال وهو المستور".

وهذا التقسيم هو الذي نختاره. ونتكلم على قسمي المجهول فيما يلي:

مجهول العين:

قال الخطيب 1 في تعريفه: "المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتنهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، وممن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد" ا. هـ.

وحاصله أن مجهول العين هو من لم يرو عنه إلا راو واحد. ومن أمثلته عمرو ذو مر، وجبار الطائي لم يرو عنهم غير أبي إساق السبيعي.

ص: 89

"ولا تزال جهالة العين عن الراوي إلا أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه".

وإنما يصبح من طبقة "مجهول الحال" وهو من لم تعرف عدالته الظاهرة ولا الباطنة أو "المستور" وهو من عرفت عدالته الظاهرة أي لم يوقف منه على مفسق، لكن لم تثبت عدالته الباطنة، وهي التي ينص عليها علماء الجرح والتعديل ولو واحد منهم (1).

وحكم هذا على الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يقبل حديثه، وقيل يقبلمطلقا وهو قول مردود لا يلتفت إليه، وقيل غير ذلك مما لا نظيل بذكره.

نعم يقبل حديث مجهول العين على الأصح، بأحد أمرين ذكرهما الحافظ:

الأول: أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح.

الثاني: وكذا أي الأصح إذا زكاه من يتفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك. أي إذا كان هذا المتفرد من أئمة الجرح والتعديل ثم زكى من انفرد بالرواية عنه قبل حديثه (2).

مجهول الحال وهو المستور:

وهذا قال الحافظ في حكمه: "قد قبل روايته جماعة بغير قيد" أي بغير اعتبار لعصر دون عصر وردها الجمهور. وذلك لأنه يجوز أن يكون غير عدل، فلا تقبل روايته، حتى يتبين حاله.

(1) تنقيح الأنظار وشرحه توضيع الأفكار: 2: 192. وانظر مع هذا المرجع للتوسع في التقسيم الثلاثي وأحكامه فتح المغيث: 135 - 145، وانظر ما يأتي في نوع الوحدان لزاما رقم عام 6 ص 136 - 137.

(2)

شرح النهبة مع شرحه للقاري: 153 - 154.

ص: 90

والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال أي احتمال العدالة وضدها، لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله (1).

وما اختاره الحافظ من التوقف في خبر المستور حتى يتبين حاله، لا يختلف كثرا عما ذكرناه عن الجمهور من عدم قبول روايته، غاية الأمر أنه أراد ألا يعتبر ذلك جرحا له وطعنا فيه، وذلك ما تقضي به العدالة في الحكم، والتحري فيه (2).

وسبب اختيارنا هذا التقسيم الثنائي أنه أقرب للعمل به، فإن التقسيم الثلاثي السابق إنما يمكن لمن شاهد الرواة، فإنه هو الذي يمكن أن يشاهد العدالة الظاهرة والباطنة معا بالبحث والفحص أو يشاهد الظاهرة فقط، فيكون الراوي عنده مستورا. وأما بالنسبة إلينا فليس أمامنا إلا المصنفات في الرجال، وهذه يصعب العثور فيها على التمييز بين مجهول الحال والمستور، فكان هذان القسمان بالنسبة إلينا سواء.

(1) شرح شرح النخبة: 155.

(2)

وهذا لا يخالف ما نقله السخاوي عن الحافظ: أنه تثبت به الكراهة وينزل النهي المروي بهذا الطريق عن التحريم، لأن ذلك من قبيل فضائل الأعمال وهم يتساهلون فيها كما سيأتي في أحكام الحديث الضعيف.

كما نشير هنا إلى أن المستور هو غير من عرف بالعناية بالعلم، الآتي في 103 - 104. فتنبه.

ص: 91

2 -

الجرح والتعديل:

الجرح عند المحدثين: هو الطعن في راوي الحديث بما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه (1).

والتعديل: عكسه، وهو تزكية الراوي والحكم عليه بأنه عدل أو ضابط (2).

وعلم الجرح والتعديل ميزان رجال الرواية، يثقل بكفته الراوي فيقبل، أو تخف موازينه فيرفض، وبه نعرف الراوي الذي يقبل حديثه ونميزه عمن لا يقبل حديثه.

ومن هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، وبذلوا فيه أقصى جهد، وانعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه للحاجة الملجئة إليه (3).

قال بعض الصوفيين لعبد الله بن المبارك: أتغتاب؟

قال: "اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل".

وقال أبو تراب النخشبي الزاهد لأحمد بن حنبل: "يا شيخ لا تغتب العلماء! ".

(1) قسم الرواة: 82. بزيادة قولنا: "أو يخل".

(2)

المرجع السابق: 55.

(3)

انظر إحياء علوم الدين "آفات اللسان": 3: 148 - 150، ورياض الصالحين "باب ما يباح من الغيبة": 374 - 375"، وانظر الرفع والتكميل للكنوي مع التعليق عليه: 9 - 11. والتدريب: 520.

ص: 92

فقال له أحمد: "ويحك! هذا نصيحة، ليس هذا الغيبة"(1).

وقال أبو بكر بن خلاد ليحيى بن سعيد: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله؟ ! ".

فقال: لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "لم لمْ تذبّ الكذب عن حديثي؟ ! "(2).

ولولا ما بذله الأئمة النقاد في هذا الشأن من الجهود في البحث عن عدالة الرواة واختبار حفظهم وتيقظهم حتى رحلوا في سبيل ذلك، وتكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين والضعفاء المخلطين، لاشتبه أمر الإسلام، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجالون (3).

شروط الجارح والمعدل:

يجب أن تتوفر في الجارح والمعدل الخصال التي تجعل حكمه منصفا كاشفا عن حال الراوي، وهي:

1 -

يشترط في الجارح والمعدل: العلم والتقوى، والورع والصدق، لأنه إن لم يكن بهذه المثابة فكيف يصير حاكمًا على غيره بالجرح والتعديل، وهو ما زال مفتقرا لإثبات عدالته! !

(1) الكفاية: 45. والتدريب: 520.

(2)

الكفاية: 44. والتدريب الموضع السابق.

(3)

انظر التوسع في مشروعية الجرح والتعديل ومناقشة من اعترض على المحدثين في كتاب "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين": 235 - 237.

ص: 93

قال الحافظ (1): "وينبغي ألا يقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ أي مستحضر ذي يقظة تحمله على التحري والضبط فيما يصدر عنه".

2 -

أن يكون عالما بأسباب الجرح والتعديل.

قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة "وتقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف لئلا يزكي بمجرد ما يظهر له ابتداء من غير ممارسة واختبار".

3 -

أن يكون عالما بتصاريف كلام العرب، لا يضع اللفظ لغير معناه، ولا يجرح بنقله لفظا هو غير جارح.

خصال لا تشترط في الجارح والمعدل:

1 و 2 - لا يشترط كون الجارح أو المعدل ذكرا أو حرا، بل المعتمد أنه تقبل تزكية كل عدل وجره ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا (2).

3 -

قيل لا يقبل الجرح ولا التعديل إلا بقول رجلين كما في الشهادة. لكن الأكثرين على الاكتفاء في جرح الراوي وتعديله بالواحد، إذا استوفى شروط الجارح والمعدل، كما نقهل الآمدي وابن الحاجب وغيرهما (3). وهذا كما قال ابن الصلاح (4):"هو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره أنه يثبت بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادة".

(1) في شرح النخبة 237، وانظر الرفع والتكميل:16018.

(2)

كذا صرح به العراقي في شرح ألفيته ج 2: ص 5. وانظر الرفع والتكميل: 53.

(3)

الأحكام في أصول الإحكام للآمدي: 1: 185 والمختصر في أصول الفقه لابن الحاجب: 2: 64. وشرح مسلم الثبوت: 2: 150.

(4)

علوم الحديث: 98 - 99.

ص: 94

آداب الجارح والمعدل:

وثمة آداب ينبغي على الجارح والمعدل مراعاتها، من أهمها:

1 -

الاعتدال في التزكية، فلا يرفع الراوي عن مرتبته، ولا ينزل عنها. كما يقع لكثير من الناس في عصرنا.

2 -

لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، لأن الجرح شرع للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.

3 -

لا يجوز الاقتصار على نقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما من النقاد، لأن في ذلك إجحافا بحق الراوي وقد عاب المحدثون من يفعل ذلك.

4 -

لا يجوز جرح من لا يحتاج إلى جرحه لأن الجرح شرع للضرورة، فما لم توجد إليه لا يجوز الخوض فيه، وقد شدد العلماء النكير على من فعل ذلك، ونبهوا على خطئه، ولكن هذا لم يجد نفعا -ويا للأسف- مع بعض الغلاة من المنتسبين إلى العلم في هذا العصر، فقد ظنوا أن مجابهة مخالفيهم بالطعن والقذف دليل على وفرة العلم وقوة الفهم، حتى صار "من عاداتهم الخبيثة: أنهم كلما ناظروا أحدا من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، وبحثوا عن أعماله العرضية، وخلطوا ألف كذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل ساجد، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقب مقابلهم بالتعدي والظلم بجعل المناظرة مشاتمة، والمباحثة مخاصمة" (1).

وحسبنا في الحكم على هذا المسلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(2).

(1) عن الرفع والتكميل انظر آداب الجرح فيه ص: 47 - 51.

(2)

مسلم في البر: 8: 11.

ص: 95

بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء"(1).

شروط قبول الجرح والتعديل:

الشرط الأول: أن يصدر الجرح والتعديل ممن استوفى شروط الجارح والمعدل

قال اللكنوي رحمه الله في الرفع والتكميل (2).

"يجب عليك ألا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل، بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه، فإن الأمر ذو خطر وتهويل. ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كا. فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه، وله صور كثيرة لا تخفى على مهرة كتب الشريعة، فمنها:

أن يكون الجارح في نفسه مجروحا، فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه وكذا تعديله ما لم يوافقه فيه غيره.

قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب -بعد ما نقل عن الأزدي قوله فيه: "غير مرضي"- قلت: "لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي"(3).

ومنها: أن يكون الجارح من المتعنتين المشددين، فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل له تشدد في هذا الباب يجرحون الراوي بأدنى جرح، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر، وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه

(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، وقال حسن غريب: 4: 350. وفي المعنى أحاديث كثيرة.

(2)

في الإيقاظ: 19 ص 115 - 125 باختصار يسير.

(3)

تهذيب التهذيب: 1: 36.

ص: 96

غيره ممن ينصف ويعتبر، فمنهم أبو حاتم، والنسائي، وابن معين، وابن القطان، ويحيى القطان، وابن حبان، وغيرهم فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه، فليثبت العاقل في الرواة الذين تفردوا بجرحهم وليتفكر فيه".

قال الذهبي (1) في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي عارم شيخ البخاري بعد أن ذكر توثيقه نقلا عن الدارقطني: قلت: القائل الذهبي: "فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان الحشاف المتهور في عارم، فقال: "اختلط في آخر عمره وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعرف هذا من هذا ترك الكل ولا يحتج بشيء منها؟ ! " قلت:"ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثا منكرا فأين ما زعم" انتهى كلام الذهبي.

الشرط الثاني: لا يقبل الجرح إلا مفسرا أي مبين السبب، أما التعديل فلا يشترط تفسيره

هذا الذي عليه جمهور العلماء، واقتصر على إيراده ابن الصلاح دون الأقوال الأخرى.

قال ابن الصلاح (2):

"التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا، وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه وذلك شاق جدًّا.

(1) في الميزان ج 4 ص 8.

(2)

في علوم الحديث: 96.

ص: 97

وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسرا مبين السبب، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه، لينظر فيه أهو جرح أو لا. وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله".

وذكر الخطيب الحافظ (1) أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل البخاري ومسلم وغيرهما.

وعقد الخطيب بابا في "بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر مالا يصلح جارحا"(2)، منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه! ! . ومنها عن مسلم بن غبراهيم أنه سئل عن حديص لصالح المري فقال: ما تصنع بصالح! ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد! ؟ .

استشكال الجرح المجمل في كتب الرجال:

وقد أورد ابن الصلاح ههنا استشكالا لا بد أن يورده كل مسلم بالحديث، وهو أن كتب الجرح والتعديل التي صنفها الأئمة، "قل ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف .. وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر".

وهذا الإشكال قد أجاب عنه الإمام أبو عمرو بن الصلاح جوابا

(1) في الكفاية: 108.

(2)

في الكفاية: 110 وهذا الشرط اشترطه ابن الصلاح للعمل بالجرح مطلقا، واشترطه الحافظ ابن حجر لتقديم الجرح إذا عارضه التعديل. انظر حاشية لقط الدرر:137.

ص: 98

حسنا ارتضاه العلماء، فقال (1): وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف.

ثم من انزاحت عن الريبة ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن" (2).

فاحفظ هذه الفائدة الهامة في باب الجرح المبهم. ولا تبادر تقليدا لمن لا يعرف الحديث وأصوله إلى تضعيف الحديث وتوهينه بمجرد الأقوال المبهمة، والجروح غير المفسرة.

الشرط الثالث: يقبل الجرح المجمل غير المفسر

في حق من خلا من التعديل على ما اختاره الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (3) حيث قال: "فإن خلا المجروح عن التعديل، قبل الجرح فيه مجملا غير مبين السبب، إذا صدر عن عارف على المختار، لأنه إذا لم يكن فيه تعديل كأنه في حيز المجهول، وإعمال قول المجروح أولى من إهماله".

(1) علوم الحديث: 98. وانظر شرح الألفية: 2: 11 - 14 وغيرهما.

(2)

ومن المحققين من اختار جوابا آخر فقال: "الحق أنه إنْ كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه، وإلا فلا". وهو جواب إمام والخطيب البغدادي، انظر شرح الألفية ج 2 ص 15. والكفاية: 107 - 108. لكنا نرجح جواب ابن الصلاح لما وجدنا أن كثيرا من الأئمة العلماء بهذا الشأن ورد عنهم الجرح ثم استفسروا ففسروه بما لا يصلح جرحا.

(3)

وقد عرفت ما قاله ابن الصلاح فيما سبق: انظر ما سبق في المستور: 89 و 90 - 91.

ص: 99

الشرط الرابع: أن يسلم الجرح من الموانع التي تمنع قبوله

فإذا وجد مانع من قبول الجرح أو التعديل لم يقبل.

تعارض الجرح والتعديل:

إذا تعارض الجرح والتعديل في راوٍ واحد بأن ورد فيه الجرح والتعديل، ففيه أقوال ذكرها العلماء.

الصحيح الذي نقله الخطيب البغدادي عن جمهور العلماء وصححه ابن الصلاح وغيرهما عن المحدثين وجماعة من الأصوليين أن الجرح مقدم على التعديل ولو أن المعدلون أكثر، "لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل".

لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها في تقديم الجرح، فقد وجدناهم يقدمون التعديل على الجرح في مواطن كثيرة، ويمكننا أن نقول إن القاعدة مقيدة بالشروط الآتية:

1 -

أن يكون الجرح مفسرًا، مستوفيًا لسائر الشروط، لما مر معك سابقًا.

2 -

أن لا يكون الجارح متعصبًا على المجروح أو متعنتًا في جرحه. فلم يقبل كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري لما بينهما من الجفاء (1).

3 -

أن لا يبين المعدل أن الجرح مدفوع عن الراوي، ويثبت ذلك بدليل الصحيح، مثل ثابت بن عجلان الأنصاري: قال العقيلي: "لا يتابع على حديثه". وتعقب ذلك أبو الحسن بن القطان بأن ذلك

(1) علوم الحديث: 99.

ص: 100

لا يضره إلا إذا كثرت منه رواية المناكير ومخالفة الثقات وأقر ذلك الحافظ ابن حجر فقال: "وهو كما قال"(1).

وهذا يدل على أن اختلاف ملحظ النقاد يؤدي إلى اختلافهم في الجرح والتعديل، لذلك قال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال:"لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". أي لأن الثقة إذا ضعف يكون ذلك بالنظر لسبب غير قادح، والضعيف إذا وثق يكون توثيقه من الأخذ بمجرد الظاهر (2).

فاعرف هذه القيود التي ذكرناها لقاعدة تقديم الجرح، فقد زل كثير من الباحثين لغفلتهم عن التقييد والتفصيل، توهمًا منهم أن الجرح مطلقًا أي جرح كان، مقدم على التعديل مطلقًا أي تعديل كان من أي معدل كان في شأن أي راوٍ كان، فوقعوا بسبب ذلك في الخطأ (3).

بم يثبت تعديل الراوي وجرحه:

يثبت تعديل الراوي وجرحه بعدة وسائل، تتحدث عن أهمها فيما يلي:

1 -

أن ينص اثنان من أهل العلم على عدالته. وذلك باتفاق الجماهير من العلماء، قياس على التزكية في الشهادة حيث يشترط فيها اثنان.

(1) هدي الساري: 2: 120.

(2)

انظر شرح النخبة وقارنه بحاشية لقط الدرر: 136.

(3)

انظر تفصيلها في الرفع والتكميل في مواضع متفرقة، وانظر تلخيصها في تعليقنا على علوم الحديث:99.

ص: 101

2 -

أن يستفيض بين أهل الرواية أن فلانا ثقة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة استغنى بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصًا. مثل: مالك. وشعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر.

قال الخطيب في الكفاية (1): "فهؤلاء وأمثالهم لا يسأل عن عدالتهم، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين، وخفي أمره على الطالبين".

والدليل على ذلك أن العلم بظهور المستور من أمرهم واشتهار عدالتهم بالاستفاضة والشهرة أقوى في النفوس من تعديل واحد أو اثنين.

وقد سئل الإمام أحمد عن إسحاق بن راهويه، فقال:"مثل إسحاق يسأل عنه؟ ! . إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين".

وسئل ابن معين عن أبي عبيد القاسم بن سلام فقال: "مثلي يسأل عنه؟ ! هو يسأل عن الناس".

وحكم الجرح فيما ذكرنا كالتعديل أيضًا.

3 -

التعديل بواحد: اختار الخطيب البغدادي وابن الصلاح وكثير من المحققين أن يثبت التعديل بواحد (2).

واستدلوا على ذلك: بأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلا

(1) باب المحدث المشهور بالعدالة: 86.

(2)

الكفاية: 96. وعلوم الحديث: 98 - 99. والتقريب وشرحه التدريب: 204. وفتح المغيث للسخاوي: 123.

ص: 102

يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات، فإنها لا تقبل من شاهد واحد. واستدلوا أيضا بأن التزكية بمنزلة الحكم من المعدل بأن الراوي عدل، والحكم لا يحتاج فيه لاثنين.

وخالف بعض العلماء فقال: لا يثبت التعديل إلا باثنين، قياسا على الجرح والتعديل في الشهادات. وقد عرفت الفرق بينهما من قبل فلا يصح هذا القياس.

4 -

تعديل من عرف بالعناية بحمل العلم: قال ابن عبد البر: "كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة، حتى يتبين جرحه في حاله، أو في كثرة غلطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (1).

وقد انتقده ابن الصلاح فقال: "وفيما قاله اتساع غير مرضي"، وكأن ابن الصلاح لحظ في ذلك إلى الشبه بالمستور.

لكن صوب هذا القول المحققون من أهل الحديث كالجزري، والمزي، والذهبي، والسخاوي، وصوروه بما لا يشابه مجهول الحال، قال الذهبي:

"ولا يدخل في ذلك المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم، فكل من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث وأنه معروف بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تليينا

(1) الحديث أخرجه ابن عبد البر وقال: أسانيده مضطربة. ورواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء

وقد طال كلام العلماء عليه، وحسنه بعضهم لتعدد طرقه وشواهده انظر التدريب: 199 - 200 وفتح المغيث: 125 - 126.

ص: 103

ولا اتفق لهم على علم بأن أحدا وثقه، فهذا الذي عناه الحافظ وأنه يكون مقبول الحديث، إلى أن يلوح فيه جرح" (1).

ويؤيد ذلك قول أبي عمران: الشهرة والمعرفة بين أهل العلم تدل على عدالته، فإنهم لو علموا فيه جرحا لبينوه وما سكتوا عنه، فكان ذلك دليلا على عدالته.

وسائل مردودة للجرح والتعديل:

1 -

التعديل على الإبهام، كأن يقول حدثني الثقة، أو من لا أتهم، من غير أن يسميه، لم يكتف به على الصحيح حتى يسميه، لأنه وإن كان ثقة عنده فربما لو سماه كان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددا في القلب.

وكذا لو قال: كل شيوخي ثقات لم يعمل بتزكيته حتى يسمي الرواة.

لكن استثنوا من ذلك الإمام المجتهد، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، إذا قال ذلك كفى في حق من يقلده في المذهب (2).

2 -

ذهب ابن حبان إلى أن الراوي إذا خلا من أن يكون مجروحا أو فوقه في السند مجروح أو دونه مجروح ولم يرو منكرا، فإنه يقبل حديثه، لذلك فإنه يوثق الراوي المجهول إذا روى عن ثقة وكان الراوي عنه ثقة، ولم يرو منكرا.

ولا يخفى أنه لا يلزم مما ذكره أن يكون الراوي ثقة فما أكثر

(1) فتح المغيث: 126.

(2)

الكفاية: 373 و 72. وانظر ضوابط تعيين المبهم في قول مالك والشافعي: "حدثني الثقة" في تعجيل المنفعة لابن حجر: 547 - 548.

ص: 104

الضعفاء الذين يروون عن الثقات، وما أكثر الثقات الذين يروون عن الضعفاء. لذلك وصف ابن حبان بالتساهل في تصحيح الأحاديث وفي تعديل الرواة (1)، في هذه النقطة وهي تعديل المجهولين، وإن كان متعنتا في الجرح من جهة أخرى لأدنى سبب يلوح له.

3 -

إذا روى العدل عن راو، وسماه، لم يكن تعديلا عند الأكثرين من أهل الحديث، وهو الصحيح لأن هؤلاء رووا عن الثقات وعن غيرهم.

4 -

عمل العالم وفتياه على وفق حديث يرويه ليس حكما بصحته. كذلك مخالفته للحديث ليست قدحا في صحته ولا في رواته، لأن عمله على وفق الحديث قد يكون احتياطا، أو لدليل آخر وافق الخبر. وكذلك عمله على خلافه قد يكون لمانع من معارض قوي أو تأويل. وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر حديث:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، ولم يعمل بظاهره، ولم يكن ذلك قدحا في نافع راويه (2). وفي الموطأ سبعون حديثا ترك مالك رضي الله عنه العمل به، منها أحاديث في الصحيحين.

ألفاظ الجرح والتعديل ومراتبها:

اصطلح علماء هذا الفن على استعمال ألفاظ يعبرون بها عن وصف حال الراوي من حيث القبول أو الرد، ويدلون بها على المرتبة التي ينبغي أن يوضع فيها من مراتب الجرح أو التعديل، ولا ريب أن معرفة

(1) انظر مذهب ابن حبان في كتابه مختصر تاريخ الثقات: 3260327.

(2)

الموطأ: 2: 79، وانظر المنتقى: 5: 55 - 56.

ص: 105

هذه الألفاظ في غاية الأهمية لطالب الحديث، والباحث فيه، لأنها الأداة التعبيرية التي تعرفنا صفة الراوي.

وقد كتب العلماء كثيرا عن هذه المراتب واجتهدوا في تقسيمها وبيان منازلها. وكان أول ما وصلنا من ذلك تصنيف سيد النقاد الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي "المتوفى (327) هـ" في كتابه العظيم "الجرح والتعديل"(1)، فقد صنف مراتب التعديل أربع مراتب، ومراتب التجريح أربعا.

مراتب التعديل عند الرازي:

قال ابن أبي حاتم: "وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:

1 -

فإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن أو ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه.

2 -

وإذا قيل له: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية.

3 -

وإذا قيل: "شيخ"، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية.

4 -

وإذا قالوا: "صالح الحديث" فإنه يكتب حديثه للاعتبار.

مراتب الجرح عند الرازي:

1 -

وإذا أجابوا في الرجل بـ"لين الحديث" فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا.

(1): 1/ 1/ 37.

ص: 106

2 -

وإذا قالوا: "ليس بقوي" فهو بمنزلة الأولى في كتبة حديثه إلا أنه دونه.

3 -

وإذا قالوا: "ضعيف الحديث"، فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به.

4 -

وإذا قالوا: "متروك الحديث"، أو "ذاهب الحديث"، أو "كذاب" فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه. وهو المنزلة الرابعة.

وقد تابع الرازي على هذا التقسيم ابن الصلاح والنووي وغيرهما (1) فوافقوه موافقة تامة. وجاء غيرهما فوافقوا على التقسيم وأحكامه من حيث الاجمال وزادوا عليه بعض التفاصيل، أشهرهم الذهبي، والعراقي، وابن حجر، والسخاوي.

قال الذهبي في ديباجة ميزان الاعتدال:

1 -

فأعلى الرواة المقبولين: ثبت حجة، وثبت حافظ، أو ثقة متقن، وثقة ثقة.

2 -

ثم ثقة.

3 -

ثم صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس.

4 -

ثم محله الصدق، وجيد الحديث، وصالح الحديث، وشيخ وسط، وشيخ حسن الحديث، وصدوق إن شاء الله، وصويلح، ونحو ذلك.

فقد زاد رتبة أعلى من الأولى عند ابن أبي حاتم، وجعل الثالثة والرابعة مرتبة واحدة.

(1) علوم الحديث ص 110113، والتقريب 228 - 235.

ص: 107

أما في الجرح فقال:

1 -

وأردأ عبارات الجرح: دجال، كذاب، وضاع، يضع الحديث.

2 -

ثم: متهم بالكذب، ومتفق على تركه.

3 -

ثم متروك، وليس بثقة، وسكتوا عنه ....

4 -

ثم واه بمرة، وليس بشيء، وضعيف جدا، وضعفوه

5 -

ثم يضعف، وفيه ضعف، وقد ضعف، وليس بالقوي، سيئ الحفظ

إلخ.

وجاء العراقي فتابع الذهبي في تقسيمه وأدخل عليه تفصيلا وإيضاحا كلمة: المرتبة الأولى -المرتبة الثانية، بدلا من كلمة ثم. وتوسع في ذكر ألفاظ كل مرتبة، وأبان حكم المراتب وأوضحه.

فالأولى والثانية من مراتب التعديل، إذا قيل للواحد شيء من ألفاظهما فهو ممن يحتج بحديثه والثالثة يكتب حديثه وينظر فيه، والرابعة بمنزلة التي قبلها يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دونها.

وقال في المراتب الثلاث الأولى من مراتب الجرح:

"وكل من قيل فيه ذلك من هذه المراتب الثلاث لا يحتج به ولا يستشهد به ولا يعتبر به"، وفي المرتبتين الرابعة والخامسة:"يخرج حديثه للاعتبار".

ثم جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني فزاد في نخبته مرتبة في التعديل أعلى من المرتبة التي زادها الذهبي والعراقي وهي ما عبر فيها بأفعل التفضيل، كأوثق الناس، فصارت مراتب التعديل خمسا وزاد عليها في كتابيه "تهذيب التهذيب"، و"تقريب التهذيب" رتبة أخرى

ص: 108

اعتبرها أعلى أيضا وهي رتبة الصحابة، فصارت مراتب التعديل ستا. وصنيع الحافظ ابن حجر في إفراد رتبة الصحبة معقول، فإن توثيقهم إنما علم بالنصوص من الكتاب والسنة، وهي أعلى دلالة وأسمى شرفا ممن ثبتت عدالته بتعديل بشر.

وأما مراتب الجرح فزاد عليها الحافظ رتبة المبالغة كأكذب الناس، وتابعه عليها السخاوي فصارت مراتب الجرح ستا أيضا.

التقسيم المختار لمراتب الجرح والتعديل:

ونحن نختار هذا التقسيم للمراتب فنفصلها بعد هذا التمهيد ونسوق لك مع كل رتبة ما ينطبق عليها من ألفاظ الجرح أو التعديل، بدءا من أعلى مراتب التعديل إلى أسوأ مراتب التجريح.

مراتب التعديل:

"المرتبة الأولى": وهي أعلاها شرفا، مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

"المرتبة الثانية": وهي أعلى المراتب في دلالة العلماء على التزكية، وهي ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة، أو عبر بأفعل التفضيل، كقولهم، أوثق الناس، وأثبت الناس، وأضبط الناس، وإليه المنتهى في التثبت. ويلحق به: لا أعرف له نظيرا في الدنيا، وقولهم: لا أحد أثبت منه، أو من مثل فلان، أو فلان لا يسأل عنه.

"المرتبة الثالثة": إذا كرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت، أو ثقة متقن، أو مع إعادة اللفظ الأول، كقولهم: ثقة ثقة، ونحوها، وأكثر ما وجدوا

ص: 109

قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة ثقة ثقة

، إلى أن قال تسع مرات، ومن هذه المرتبة قول ابن سعد في شعبة:"ثقة مأمون ثبت حجة، صاحب حديث".

"المرتبة الرابعة": ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق، كثقة. أو ثبت أو متقن، أو كأنه مصحف، أو حجة، أو إمام، أو عدل ضابط. والحجة أقوى من الثقة.

"المرتبة الخامسة": ليس به بأس، أو لا بأس به، أو صدق، أو مأمون، أو خيار الخلق. أو ما أعلم به بأسا، أو محله الصدق.

"المرتبة السادسة": ما أشعر بالقرب من التجريح، وهي أدنى المراتب، كقولهم: ليس ببعيد من الصواب، أو شيخ، أو يروى حديثه، أو يعتبر به، أو شيخ وسط، أو روي عنه. أو صالح الحديث، أو يكتب حديثه، أو مقارب الحديث، أو ما أقرب حديثه، أو صويلح، أو صدوق إن شاء الله، أو أرجو أن لا بأس به، أو جيد الحديث، أو حسن الحديث. أو وسط، أو مقبول، أو صدوق تغير بأخرة، أو صدوق سيء الحفظ، أو صدوق له أوهام، أو صدوق مبتدع، أو صدوق يهم.

"ثم إن الحكم في أهل هذه المراتب: الاحتجاج بالأربعة الأولى منها. وأما التي بعدها فإنه لا يحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة الضبط، بل يكتب حديثهم ويختبر، وأم السادسة فالحكم في أهلها دون أهل التي قبلها، وفي بعضهم من يكتب حديثه للاعتبار دون اختبار ضبطهم لوضوح أمرهم". كذا قال الحافظ السخاوي (1)، وهو ينطبق على تقسيمنا هذا أيضا، لما عرفت أثناء

(1) فتح المغيث: 159.

ص: 110

الشرح. وهو موافق لما قاله ابن أبي حاتم وأقره ابن الصلاح في أحكام التقسيم لمراتب التعديل.

وهذا اتفاق منهم على أن كلمة "صدوق" لا يحتج بمن قيلت فيه إلا بعد الاختبار والنظر، ليعلم هل يضبط الحديث أو لا (1).

وذلك يرد ما زعمه بعض الناس من أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته، دون أن يقيده بأن ينظر فيه.

مراتب الجرح:

"المرتبة الأولى": وهي أسهل مراتب الجرح، قولهم: فيه مقال، أو أدنى مقال، أوضعف، أو ينكر مرة ويعرف أخرى، أو ليس بذاك، أو ليس بالقوي، أو ليس بالمتين، أو ليس بحجة، أو ليس بعمدة، أو ليس بمأمون (2)، أو ليس بالمرضي، أو ليس يحمدونه، أو ليس بالحافظ، أو غيره أوثق منه، أو فيه شيء، أو فيه جهالة، أو لا أدري ما هو، أو فيه ضعف، أو لين الحديث، أو سيئ الحفظ، أو ضعف، أو للضعف ما هو. أو فيه لين "عند غير الدارقطني، فإنه قال: إذا قلت: لين لا يكون ساقطا متروك الاعتبار ولكن مجروحا بشيء لا يسقط لا يسقط به عن العدالة".

(1) قال ابن الصلاح وقرره الأئمة بعده: "هذا كما قال -يعني كما قال الرازي في الصدوق: يكتب حديثه وينظر فيه- لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر حتى يعرف ضبطه".

وقد استوفينا بحث مسألة الصدوق وأزحنا عنها غبار التقول في كتابنا "ماذا عن المرأة" بتحقيق دقيق، فارجع إليه لزاما ص 93 - 94 و 186 - 196 الطبعة الثالثة.

(2)

كذا في فتح المغيث ص 161 وهو مشكل، لأن ظاهرها فيه طعن بعدالة الراوي.

ص: 111

ومنه قولهم: تكلموا فيه، أو سكتوا عنه، أو مطعون فيه. أو فيه نظر، عند غير البخاري، فإنه يقول ذلك فيمن تركوا حديثه.

"المرتبة الثانية": وهو أسوأ من سابقتها، وهي: فلان لا يحتج به، أو ضعفوه، أو مضطرب الحديث، أو له ما ينكر، أو حديثه منكر، أو له مناكير، أو ضعيف، أو منكر، عند غير البخاري، أما البخاري فقد قال:"كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه".

وحكم من ذكر في هاتين المرتبتين -كما بين السخاوي-: يعتبر بحديثه، أي يخرج حديثه للاعتبار- وهو البحث عن روايات تقويه ليصير بها حجة- لاشعار هذه الصيغ بصلاحية المتصف بها لذلك، وعدم منافاتها لها.

"المرتبة الثالثة": أسوأ من سابقتيها. كقولهم: فلان رد حديثه، أو مردود الحديث، أو ضعيف جدا، أو ليس بثقة، أو واه بمرة، أو طرحوه، أو مطروح الحديث، أو مطروح، أو ارم به، أو لا يكتب حديثه، أو لا تحل كتابة حديثه، أو لا تحل الرواية عنه، أو ليس بشيء، أو لا يساوي شيئا، أو لا يستشهد بحديثه، أو لا شيء خلافا لابن معين.

"المرتبة الرابعة": كقولهم: فلان يسرق الحديث، وفلان متهم بالكذب أو الوضع، أو ساقط، أو متروك، أو ذاهب الحديث، أو تركوه، أو لا يعتبر به، أو بحديثه، أو ليس بالثقة، أو غير ثقة، وكذا قولهم: مجمع على تركه، ومود أي هالك، وهو على يدي عدل.

"المرتبة الخامسة": كدجال، والكذاب، والوضاع، وكذا: يضع، ويكذب، ووضع حديثا.

"المرتبة السادسة": ما يدل على المبالغة كأكذب الناس، أو إليه

ص: 112

المنتهى في الكذب، أو هو ركن الكذب، أو منبعه، أو معدنه. ونحو ذلك.

وحكم هذه المراتب الأربع الأخيرة قال فيه السخاوي: "إنه لا يحتج بواحد من أهلها ولا يستشهد به، ولا يعتبر به".

إيضاح لبعض هذه الألفاظ:

ونوضح فيما يلي ما يحتاج إلى الشرح من هذه الألفاظ، ونبين ما وجد فيه اصطلاح خاص لبعض العلماء، لم يوافق فيه المصطلح العام الذي ذكرنا مراتبه:

1 -

قولهم: "لا بأس به"، أو "ليس به بأس" قال ابن معين: إذا قلت: "ليس به بأس فثقة". ومثله عند دحيم الحافظ أيضا. أما عند غيرهما فإنه من المرتبة التي دون ثقة وهي الخامسة (1).

2 -

قولهم: "إلى الصدق ما هو" يعني أنه قريب من الصدق ما هو ببعيد (2).

3 -

قولهم: "مقارب الحديث" بفتح الراء وكسرها من صيغ التعديل على الصحيح. والمعنى على الفتح أن حديث غيره يقارب حديثه، والمعنى على كسر الراء أن حديثه يقارب حديث غيره، أي أن حديثه ليس بشاذ ولا منكر (3) وهو من المرتبة السادسة، ومثله في الرتبة:"ما أقرب حديثه".

4 -

قولهم: "تعرف وتنكر"، أو "يعرف وينكر"

(1) الرفع والتكميل: 100 - 101.

(2)

فتح المغيث: 158. وانظر للتوسع في هذا القول توضيح الأفكار: 2: 265. والتعليق على تدريب الراوي لشيخنا الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه الله: 236. وكتابه المختصر: 69.

(3)

انظر فتح المغيث: 158 و 163.

ص: 113

على الوجهين، والمعنى: أنه يأتي مرة بالأحاديث المعروفة ومرة بالأحاديث المنكرة، فأحاديثه تحتاج إلى عرض وموازنة بأحاديث الثقات المعروفين.

وقد وجدنا المحدثين أكثر استعمالا للصيغة الأولى، ولعل ذلك لأنها وردت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم (1).

5 -

قولهم: "منكر الحديث"، و"يروي المناكير"، وقولهم:"حديث منكر".

بين هاتين العبارتين فرق ينبغي التنبه له، فإن معنى العبارة الأولى كثرة تفرده.

وقولهم: "حديث منكر". اصطلح المتأخرون على أن المنكر هو الحديث الذي رواه ضعيف مخالفا للثقة.

لكن المتقدمين كثيرا ما يطلقون النكارة على مجرد التفرد، ولو كان الراوي ثقة، وذلك كثير في كلام الإمام أحمد بن حنبل، ودحيم، وغيرهما (2).

ومن هذا تعلم خطأ من ضعف يزيد بن خصيفة راوية حديث أن الصحابة كانوا في عهد عمر يصلون التراويح عشرين ركعة، حيث ضعفه شيئا لأن الإمام أحمد قال فيه في رواية عنه:"منكر الحديث"، وقد عرفت أن هذا القول من الإمام أحمد لا يقتضي تضعيف الحديث، بل هو حكم منه بأنه يتفرد بأحاديث وليس يضر الثقة أن يتفرد بأحاديث، إنما يضره المخالفة، والمقصود هنا هو التفرد، بدليل أن أحمد رضي الله عنه وثقه أيضا، وكذلك اعتمد توثيقه جماهير العلماء.

(1) وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" أخرجه البخاري في علامات النبوة 4: 199 ومسلم في الإمارة "الأمر بلزوم الجماعة": 6: 20.

(2)

ارجع في هذا إلى علوم الحديث: 71 - 72، وتعليقنا الذي أوضحنا فيه ذلك. وانظر الرفع والتكميل:97.

ص: 114

6 -

قولهم: "يسرق الحديث"، سرقة الحديث معناها أن يكون محدث ينفرد بحديث، فيجيء السارق ويدعي أنه سمعه أيضا من شيخ ذاك المحدث، أو يكون الحديث عرف براوٍ فيضيفه السارق لراوٍ غيره ممن شاركه في طبقته (1).

7 -

قولهم: "هل على يدي عدل". كان الحافظ العراقي يقول إنه من ألفاظ التوثيق، وينطق به "على يدي عدل" بكسر الدال الأولى وبرفع اللام وتنوينها، لكن حقق الحافظ ابن حجر أنها من ألفاظ التجريح الشديد كناية عن الهالك، لأنه مأخوذ من المصل السائر:"وضع على يدي عدل" وعدل هو رجل من شرط تبع، فكان تبع إذا أراد قتل رجل دفعه إليه (2).

وثمة اصطلاحات أخرى تحتاج للتنبيه أضربنا عنها كي لا نخرج عما يناسب الاختصار الذي نقصده.

مصادر الجرح والتعديل:

والمصنفات في الجرح والتعديل عديدة كثيرة، معظمها في دراسة أحوال الرواة تفصيلا مما سنذكره في معرفة الثقات والضعفاء.

وصنفوا أيضا في قواعد الجرح والتعديل تآليف نافعة من أهمها:

1 -

مقدمة كتاب الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي.

2 -

الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي " (1304) هـ". وهو كتاب نفيس جدا في غاية الفائدة طبع في حلب ثم في بيروت في جزء واحد متوسط.

(1) فتح المغيث: 160.

(2)

المرجع السابق: 163.

ص: 115

3 -

الصحابة رضي الله عنهم:

الصحابة رضوان الله عليهم هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحمل أعبائها، ومن ثم لم يقع خلاف "بين العلماء أن الوقوف على معرفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أوكد علم الخاصة، وأرفع علم الخبر، وبه ساد أهل السير"(1).

وأصل الصحبة في اللغة يطلق على مجرد الصحبة، دون اشتراط استمرارها طويلا، وعلى ذلك درج المحدثون.

قال الحافظ ابن حجر:

"الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم -مؤمنا به، ومات على الإسلام".

فقوله: "من لقي" يدخل في الصحابة من طالت مجالسته أو قصرت ومن غزا أو لم يغز. وقوله: "مؤمنا به" خرج به من لقيه كافرا ثم أسلم بعد ذلك ولم يجتمع به صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام (2).

مثل رسول هرقل.

(1) الاستيعاب في أسماء الأصحاب: 1: 8.

(2)

الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر ج 1 ص 10. وانظر علوم الحديث: 263، وهذا التعريف مأخوذ من كلام البخاري في صحيحه أول فضائل الصحابة ج 5 ص 2.

ص: 116

أما الأصوليون: فيراعي كثير منهم دلالة العرف في معنى الصحبة. فيطلقون اسم الصحابي على "من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ منه".

وهو مروي عن سعيد بن المسيب فقد كان يقول: "الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين"(1).

لكن انتقد العلماء هذا القول بأنه يؤدي إلى إخراج أقوام وقع الاتفاق على اعتبارهم من الصحابة، قال ابن الصلاح (2):

"لكن في عبارته ضيق يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي، ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة".

وقد اختار أصحاب الحديث هذا التوسع نظرا إلى شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم بركته التي تحصل للمؤمن إذا لقيه، فأعطوا كل من رآه صلى الله عليه وسلم مؤمنا به حكم الصحبة.

ومعرفة الصحابة لها فوائد مهمة في الدين والعلم. منها:

1 -

أنهم هداة البشرية بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم أمثلة تطبيق الدين، سيرتهم تملأ القلوب يقينا، وتحث الهمم على الجهاد والعمل، وتلهب الحماس في النفوس.

2 -

معرفة الحديث المرسل وتمييزه عن المنقطع والموصول، فإذا لم نعرف الناقل للحديث أهو صحابي أو ليس بصحابي لا يمكن لنا ذلك.

(1) الكفاية: 50. وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف.

(2)

علوم الحديث: 264.

ص: 117

وقد ذكر العلماء ضوابط يعرف بها الصحابي، نحررها لك فيما يلي:

1 -

التواتر، بأن ينقل إثبات صحبته عن عدد كثير جدا من الصحابة، كالخلفاء الراشدين الأربعة، وكبار الصحابة المعروفين لدى الخاصة والعامة.

2 -

الشهرة والاستفاضة القاصرة عن رتبة التواتر، كضمام بن ثعلبة، وعكاشة بن محصن.

3 -

أن يروي عن واحد من الصحابة أن فلانا له صحبة، مثل حممة الدوسي: شهد له أبو موسى الأشعري فقال: "إنا والله ما سمعنا فيما سمعنا من نبيكم صلى الله عليه وسلم وما بلغ علمنا إلا أن حممة شهيد"(1).

4 -

أن يروي عن أحد التابعين أن فلانا له صحبة (2).

5 -

أن يقول هو عن نفسه إنه صحابي، وذلك بشرطين: أن يكون ثابت العدالة وأن يكون في المدة الممكنة، وهي مائة سنة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. لقوله في آخر عمره لأصحابه:"أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد" رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.

ورواه مسلم من حديث جابر ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: "أقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ".

(1) انظر تدريب الراوي: 399. والإصابة: 1: 354. والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 69.

(2)

هذا زاده الحافظ ابن حجر، وقال فيه وفي سابقه أنهما:"بناء على قبول التزكية من واحد، وهو الراجح".

ص: 118

وقد كان آخر الصحابة موتا سنة مائة وعشر سنين وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه (1).

ولهذا التحديد النبوي المعجز لم يصدق الأئمة أحدا ادعى الصحبة بعد المدة المذكورة. وقد ادعاها جماعة فكذبوا، آخرهم رتن الهندي ادعى الصحبة بعد الستمائة، فياله من كذاب (2).

طبقات الصحابة:

فصل الحاكم النيسابوري (3) طبقات الصحابة بحسب النظر الدقيق إلى سبقهم في الإسلام وشهود المشاهد الفاضلة، فجعلهم اثنتي عشرة طبقة، فقال:

"أولهم: قوم أسلموا بمكة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. والطبقة الثانية من الصحابة: أصحاب دار الندوة، وذلك أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وأظهر إسلامه حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة فبايعه جماعة من أهل مكة.

والطبقة الثالثة من الصحابة: المهاجرة إلى الحبشة.

والطبقة الرابعة من الصحابة: الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، يقال: فلان عقبي.

والطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار.

والطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد.

(1) تدريب الراوي: 412.

(2)

اعتمدنا في بحث ثبوت الصحبة على كتاب الإصابة: 1: 14 - 15 وانظر الكفاية: 52. وغيره.

(3)

في كتابه معرفة علوم الحديث: 22 - 24.

ص: 119

والطبقة السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".

والطبقة الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية.

والطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضٍيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . وكانت بيعة الرضوان بالحديبية لما صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، وصالح كفار قريش على أن يعتمر من العام المقبل.

والطبقة العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح، منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، وغيرهم، وفيهم كثرة.

والطبقة الحادية عشرة: هم الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش.

ثم الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة" اهـ.

واشتهر تقسيم الصحابة تقسيما إجماليا إلى ثلاث طبقات:

طبقة كبار الصحابة، كالعشرة المبشرين بالجنة، ومن في طبقتهم ممن تقدم إسلامهم، وطبقة أوساط الصحابة، وطبقة صغار الصحابة الذين تأخر إسلامهم أو كانوا صغارا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويقدر عدد الصحابة كلهم بما يزيد على مائة ألف، وقدرهم أو زرعة الرازي مائة ألف وأربعة عشر ألفا (1).

(1) تدريب الراوي: 405 - 406.

ص: 120

عدالة الصحابة:

وقد اختص الله الصحابة رضي الله عنهم بخصيصة ليست لطبقة من الناس غير طبقتهم، وهي أنهم لا يسأل عن عدالة أحد منهم، فهم جميعهم عدول ثبتت عدالتهم بأقوى ما تثبت به عدالة أحد، فقد ثبتت بالكتاب، والسنة، وبالإجماع، والمعقول.

أما القرآن: فقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .

وهذا ينطبق على الصحابة كلهم، لأنهم المخاطبون مباشرة بهذا النص.

وكذا قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} .

وغير ذلك كثير من الآيات في فضل الصحابة والشهادة بعدالتهم.

وأما السنة: ففي نصوصها الشاهدة بذلك كثرة غزيرة، منها:

حديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".

وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم"(2).

(1) البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ج 6 ص 8. ومسلم: 7: 188.

(2)

الإصابة: 1: 21.

ص: 121

ومما ورد في إثبات عدالة مجهول الصحابة: حديث ابن عباس الصحيح قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال:"أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ " قال: "نعم" قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا". أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وله شاهد من حديث أنس، وحديث ربعي بن حراش، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد معرفة إسلامه.

وفي الصحيحين من حديث عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له؟ فقال: كيف؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما! ! (1)

فهذه النصوص وغيرها كثير تثبت العدالة لكل صحابي، من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن طالت صحبته، ومن ظفر بمجرد اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وأما الإجماع: فيقول أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب (2)"قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول".

وقال الخطيب في الكفاية (3): "هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء".

ونقل الإجماع محمد بن الوزير اليماني عن أهل السنة وعن الزيدية والمعتزلة أيضا وكذا الصنعاني (4).

(1) انظر تنقيح الأنظار: 2: 467 - 469.

(2)

ج 1 ص 8.

(3)

: 49.

(4)

توضيح الأفكار: 2: 469.

ص: 122

وقال ابن الصلاح (1): "ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة".

وأما دلالة العقل: فقد قررها وأحسن فيها الخطيب البغدادي فقال (2):

"على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين.

هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء".

وبهذا ثبتت عدالة الصحابة بالأدلة القطعية النقلية والعقلية، مما لا يدع للشك أو التردد مجالا في ثبوت هذه الخصوصية الفاضلة لأحد منهم رضي الله عنهم.

لذلك شدد العلماء النكير على من يقدح في هؤلاء الكرام، لما أنه شأن المارقين، والحائدين عن سواء الطريق، ورحم اله إمام الحديث أبا زرعة الرازي حيث قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما

(1) علوم الحديث: 265.

(2)

الكفاية: نفس الصفحة.

ص: 123

يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (1).

من مناقب الصحابة:

1 -

اختلفت الروايات وأقوال العلماء في أول الصحابة إسلاما اختلافا، واختار ابن الصلاح في ذلك اختيارا حسنا راعى فيه الاحتياط، وأخذ به العلماء من بعده.

قال ابن الصلاح: "الأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال".

2 -

أفضل الصحابة بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام: أبو بكر عبد الله بن عثمان "أبي قحافة" التيمي، وسمي بالصديق لمبادرته إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الناس كلهم، ثم بعده عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب.

ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية.

3 -

اشتهر بعض الصحابة بالعلم، وانتشر علمهم في الآفاق:

أ- قال أحمد بن حنبل: "ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثروا الرواية عنه وعمروا: أبو هريرة، وابن عمر،

(1) وقد استوفينا دراسة الشبهات الواردة على مسألة عدالة الصحابة دراسة منهجية في كتابنا أصول الجرح والتعديل واستقصينا أسباب القدح فيهم، وبينا بطلانه من جميع الوجوه. وانظر إن شئت أيضا كتاب السنة للدكتور مصطفى السباعي: 305 - 353 وكتاب الأضواء الكاشفة، والمنهج الحديث قسم التاريخ.

ص: 124

وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس". وأبو هريرة أكثرهم حديثا وحمل عنه الثقات.

ب- العبادلة: "عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، هؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو هذا فعلهم.

وأكثر الصحابة في الفتوى ابن عباس.

أما ابن مسعود ونحوه من كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة، فقد تقدم موتهم، لكن هؤلاء تأخر متوهم، واحتاج الناس إلى علمهم، لقلة الصحابة إذا ذاك، فكثرت الرواية عنهم وكثر نقل الفقه عنهم. جـ- رؤساء الصحابة في العلم: قال مسروق: "وجدت علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ستة: عمر وعلي، وأبي، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود. ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين: علي، وعبد الله".

واستقصى أبو محمد بن حزم الظاهري فقهاء الصحابة استقصاء له أهميته وفائدته البالغة، في رسالة خاصة بالمجتهدين (1)، بلغ عددهم فيها مائة واثنين وستين:

فالمكثرون هم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم. قال: ويمكن أن يجمع من فقه كل واحد منهم سفر ضخم.

(1) في آخر كتاب جوامع السيرة 319 - 323. وانظر قسم الرواة: 27 - 28، وتصدير معجم فقه ابن حزم لفضيلة الأستاذ محمد المنتصر الكتاني: 41 - 42.

ص: 125

والمتوسطون من فقهاء الصحابة عشرون، منهم أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الله بن الزبير

ويمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا.

والمقلون في الفتيا هم الباقون: مثل جرير بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن أبي أوفى، وسمرة بن جندب، هؤلاء وغيرهم مقلون في الفتيا جدا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك.

4 -

آخرهم على الإطلاق موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة، توفي كما سبق سنة عشر ومائة (1).

وأما آخرهم وفاة بالنسبة للبلاد فقد قالوا:

آخر من مات بمكة أبو الطفيل، وآخر من مات بالمدينة محمود بن الربيع " (99) "، وبالبصرة أنس " (93) "، وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى " (86) "، وبالشام عبد الله بن بسر " (96) " بحمص، وبمصر عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي " (86) ". رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وجعلنا من محبيهم وتابعيهم بإحسان (2).

المصنفات في تراجم الصحابة:

يقول أبو عمر يوسف بن عبد البر (3): "وما أظن أهل دين من

(1) وقال ابن الصلاح مات سنة مائة من الهجرة والتحقيق ما ذكرناه.

(2)

باختصار عن التدريب: 412 - 414، وقارن علوم الحديث: 265 - 271 واختصار علوم الحديث 183 - 190 وفي بعض ما ذكرنا من الوفيات خلاف لم نطول بذكره

(3)

الاستيعاب: 1: 8 - 9.

ص: 126

الأديان إلا وعلماؤهم معتنون بمعرفة أصحاب أنبيائهم لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته" اهـ.

ولا ريب أن المسلمين كانوا أعظم الأمم عناية بمعرفة أصحاب نبيهم، وها هي ذي المؤلفات في الصحابة تتجاوز العشرات من الكتب، نعرفك بأهمها، وهي أربعة مؤلفات قيمة أخرجتها المطابع:

1 -

"الاستيعاب في أسماء الأصحاب" للإمام الحافظ المحدث الفقيه أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري المتوفى سنة (463) هـ عن مائة سنة كاملة.

قصد فيه إلى جمع ما تفرق في كتب الصحابة المدونة من قبله ذكر منها في مقدمته خمسة عشر مرجعا، وأشار إلى مراجع أخرى كثيرة لم يذكرها (1)، واقتصر في جمعه "ذلك على النكت التي هي البغية من المعرفة بهم". فلذلك سمى كتابه "الاستيعاب" ورتبه على حروف المعجم.

لكن انتقد عليه أنه فاته جمع من الصحابة كثير، فإن غاية ما جمعه يبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة.

وأنه كما قال ابن الصلاح شأنه بذكر ما شجر بين الصحابة، وحكاياته فيه عن الأخباريين لا المحدثين. والمحدثون لا يرتاحون إلى هؤلاء الأخباريين، لأن الغالب عليهم الإكثار والتخليط فيما يروونه.

2 -

كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، للإمام المحدث الحافظ عز الدين علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير المتوفى سنة (630) هـ.

جمع في كتابه هذا بين الكتب التي هي غاية ما انتهى إليه الجمع في الصحابة حتى عهده، فاجتمع له من الصحابة /7500/. وعني

(1) الاستيعاب: 1: 9 - 10.

ص: 127

بترتيبه على الأحرف ترتيبا أدق من كتاب الاستيعاب (1)، فجاء كتابا عظيما حافلا. قال الحافظ:(2)"إلا أنه تبع من قبله، فخلط من ليس صحابيا بهم، وأغفل كثيرا من التنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم".

3 -

كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" للإمام الحافظ البحر الحجة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852) هـ.

جمع في كتابه ما كتبه السابقون، وأعاد النظر في مراجع الصحابة الأولى من كتب السنة وتاريخ الرواة والسير والمغازي، فاستخرج منها أسماء صحابة فاتت غيره.

وقد رتب الكتاب على أحرف الهجاء وقسم كل حرف أربعة أقسام، عني فيها بتمييز من ثبت لقاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يثبت، ونبه فيه على ما ذكر في الكتب السابقة على سبيل الوهم والغلط، وهذا زبدة ما يمخضه من هذا الفن اللبيب الماهر، وقد وقع فيه التنبيه على عجائب يستغرب وقوع مثلها (3).

4 -

كتاب "حياة الصحابة" للعلامة الداعية المحدث الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي -الهندي المتوفى سنة (1383) تغمده الله برحمته.

وهو كتاب بديع جدا في هذا الفن، تناول فيه سيرة الصحابة رضي الله عنهم من حيث كونهم أمثلة عليا في تطبيق هذا الدين، ومن حيث كونهم قدوة تحتذى في العلم والعمل والتقى والورع، فجمع فيه أخبارهم مرتبة على الأبواب لا الأسماء. مثل:"باب تحمل الشدائد في الله"، "باب الهجرة"، "باب الجهاد" وهكذا

والكتاب بهذا عدة هامة، وسلاح ماض للداعية لا يستغنى عنه

(1) انظر تقدمة أسد الغابة 305.

(2)

الإصابة: ج 1 ص 4.

(3)

ج 1 ص 6 - 9.

ص: 128

4 -

الثقات والضعفاء:

هذا النوع من علوم الحديث ثمرة من ثمار النوعين الأول والثاني، فإنه ينتج من الأبحاث التي قام بها العلماء لمعرفة صفة كل راو من رواة الحديث، ثم ما رأوه مناسبا له من مراتب الجرح والتعديل.

من هنا نبه العلماء على أهمية هذا النوع، وأنه كما قال ابن الصلاح:

"من أجل نوع وأفخمه، فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه".

وقد لقي هذا العلم عناية أئمة الحديث في القديم والحديث، فصنفوا فيه التآليف الكثيرة، تكلموا فيها على الرواة مما شاهدوه من أحوالهم أو ما نقلوه من الكلام في صفاتهم عن أئمة العلم.

وتنقسم التصانيف ثلاثة أقسام: ما أفرد في الثقات، وما أفرد في الضعفاء، وما جمع فيه من الثقات والضعفاء.

أما المؤلفات في الثقات: فأشهرها:

1 -

"كتاب الثقات" للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي "المتوفى (354) "، ذكر فيه من هو ثقة بما يشمل اصطلاحه الخاص الذي سبق أن أشرنا إليه (1).

(1) في صفحة 104 - 105.

ص: 129

2 -

"الثقات" للإمام أحمد بن عبد الله العجلي "المتوفى (261) " في مجلد متوسط الحجم، لكنه غير مرتب، فرتبه الإمام السبكي وسماه "ترتيب الثقات".

3 -

"كتاب تذكرة الحفاظ" للإمام الحافظ شمس الدين محمد الذهبي "المتوفى سنة (748) هـ"، ترجم فيه لكل من بلغ مرتبة توصف بالحافظ، وقال في مقدمته:

"هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي، ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف".

وأما المؤلفات في الضعفاء:

فكثيرة جدا مثل كتب الضعفاء للبخاري، والنسائي، والعقيلي، وابن حبان، والجوزجاني، والأزدي، وغيرهم، ممن كانوا المرجع والعمدة في هذا الفن، ومن أهم هذه المؤلفات:

1 -

"الكامل في الضعفاء"، للحافظ الإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي "المتوفى (365) " جمع فيه ما سبقه من التآليف، وأضاف إليها أشياء لم يسبق إليها، وأورد فيه كل من تكلم فيه، ولو لم يكن الكلام مؤثرا، لكنه على كل حال جمود وتشديد.

2 -

"ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، للإمام الذهبي، اعتمد فيه على كتاب الكامل، فسار على منهجه في إيراد كل من تكلم فيه (1).

(1) فينبغي أن تتنبه إلى أن ذكر الراوي في كتاب "الكامل"، أو "الميزان" لا يستلزم أن يكون ضعيفا. وقد أوهم بعض الناس غير هذا حيث قال في يزيد بن خصيفة:"ذكره الذهبي في الميزان، ومعلوم أنه يذكر فيه من تكلم فيه"، فأوهم بهذا أن كل المذكورين في الميزان ضعفاء، مع أن الذهبي نبه في مقدمة الكتاب وفي خاتمته، ثم في مواطن كثيرة من الكتاب على ما ذكرناه. فالقول بعد ذلك أنه يذكر فيه من تكلم فيه هذا القول على إطلاقه تعمية وتلبيس لا يليقان بالبحث المنصف.

ص: 130

لكنه تعقب ابن عدي، وشنع عليه في مواطن كثيرة لأنه أورد في كامله من الثقات الحفاظ ما لا يناسب الكتاب.

3 -

"المغني في الضعفاء"، للإمام الذهبي أيضا، جمع فيه من تكلم فيهم من الرواة على سبيل الاختصار الشديد، فاجتزأ في الكلام على كل راو بجملة يسيرة، لخص فيها أبحاثا طويلة، ويسر على القارئ البحث، مع تفرده بفوائد ليست في غيره.

وقد حققنا هذا الكتاب على نسخ خطية منها نسخة قيمة مقروءة على المؤلف، وعليها خطه، وعلقنا عليه بما يهدي إليه البحث من خلاف رأي الذهبي، أو باستكمال فائدة ضرورية.

كذلك عنينا بالراوة المتكلم فيهم من رجال الصحيحين أو أحدهما، فأوضحنا في التعليق دفع الطعن عن البخاري ومسلم في الرواية لهم في الصحيح، مع التعليل الفني الحديثي.

4 -

"لسان الميزان" للحافظ ابن حجر العسقلاني أورد فيه من رجال كتاب الميزان من لم يذكرهم في كتابيه تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب. وهو يذكر كلام الذهبي في الميزان أولا، ثم يتكلم بما عنده تأييدا للذهبي، أو نقدا له، أو استدراكا عليه.

وأما الكتب التي تجمع الثقات والضعفاء:

فهي كتب كثيرة وفي غاية من الأهمية، منها:

1 -

"الجرح والتعديل"، للإمام سيد النقاد عبد الرحمن بن الإمام أبي حاتم الرازي "327"، وهو كتاب جليل في هذا الشأن اعتمد فيه مصنفه على أئمة العلم، ولا سيما الإمام الكبير والده، رحمهما الله.

2 -

"الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني المقدسي

ص: 131

"600" اقتصر فيه على رجال الكتب الستة فقط. وكان السابق لهذا الاقتصار، فحذا العلماء من بعده حذوه، واستدركوا عليه أشياء في كتابه.

3 -

"تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، للإمام الحافظ الحجة أبي الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي "المتوفى 742"، رحمه الله، هذب كتاب الكمال السابق، واستدرك عليه ما فاته واستوفى البحث فيه في كل راو، فجاء كتابا حافلا لم يصنف مثله.

4 -

"تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر، لخص فيه تهذيب الكمال، وأضاف إليه فوائد زادها على الكتاب الأصل فبلغ ثلث حجمه، وطبع في اثني عشر مجلدا.

5 -

"تقريب التهذيب" للحافظ ابن حجر أيضا، لخص فيه تهذيب التهذيب، وأتى فيه بنتائج البحث في كل راو بكلمة واحدة، واستعمل الرموز المصطلحة للكتب التي تروي له، فرمز للبخاري: خ، ولمسلم: م، ولأبي داود: د، وللترمذي: ت، وللنسائي: س، ولابن ماجه: ق، وللستة: ع، ولأصحاب السنن، أي ما عدا البخاري ومسلما: عه.

مثل: "خ م د ت ق أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، أبو جعفر السرخسي ثقة حافظ، من الحادية عشرة. مات سنة ثلاث وخمسين".

فالرموز تعني أن هذا الراوي روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه القزويني. وقوله:"الدارمي": نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها. والسرخسي: نسبة إلى البلد التي عاش فيها. وقوله: من الحادية عشرة، أي ممن مات بعد المائتين. فتكون وفاته سنة مائتين وثلاث وخمسين.

والكتاب بهذه المثابة في غاية الأهمية لطالب الحديث.

ص: 132

5 -

من اختلط في آخر عمره من الثقات:

معنى الاختلاط فساد العقل، وعدم انتظام الأقوال والأفعال.

وفائدة دراسة الرواة المختلطين تمييز المقبول من حديثهم من غير المقبول (1)، لذلك نبهوا على أن "هذا فن عزيز مهم

".

وقد ألف فيه الإمام الحافظ العلائي خليل بن كيكلدي "المتوفى (761) " ثم أفرده بالتصنيف الإمام الحافظ إبراهيم بن محمد سبط ابن العجمي الحلبي المتوفى سنة (841) هـ وسماه "الاغتباط بمن رمي بالاختلاط"(2).

والحكم في حديث من رمي بالاختلاط من الثقات قرر فيه المحدثون: التفصيل: فما سمع منهم قبل الاختلاط يقبل ويحتج به.

أما ما سمع بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده فإنه يرد ولا يقبل (3).

ويتميز ذلك بالراوي عنه.

(1) فتح المغيث: 485.

(2)

انظر شرح الألفية للعراقي: 4: 153. وتعليق شيخنا العلامة محمد راغب الطباخ على نكت العراقي وكتاب الاغتباط قد طبعه شيخنا رحمه الله وجزاه عنا وعن العلم خير الجزاء وقد رجعنا إليه في دراسة هذا النوع، ويقع في 27 صحيفة.

(3)

علوم الحديث: 352، والاغتباط:3.

ص: 133

ومن القرائن التي تتميز بها الرواية قبل الاختلاط أن يكون الحديث من رواية الكبار من أصحاب الراوي المختلط أي الذين علم أنهم سمعوا منه في وقت مبكر وإن لم ينص على تاريخ سماعهم. فقد وجدناهم يصرحون بصحة رواية هؤلاء، مثل عطاء بن السائب، قال الخطيب في الكفاية (1):"قد اختلط في آخره عمره، فاحتج أهل العلم برواية الأكابر عنه مثل سفيان الثوري وشعبة لأن سماعهم منه كان في الصحة، وتركوا الاحتجاج برواية من سمع منهم أخيرا".

ومثل سعيد بن أبي سعيد المقبري: قيل أنه اختلط قبل وفاته بأربع سنين فأخرج له البخاري من حديث مالك وإسماعيل بن أبي أمية وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهم من الكبار كما في هدي الساري.

قال العلامة التهانوي (2)"قلت فرواية الكبار من أصحاب المختلط محمولة على الصحة".

وقد وقع في الصحيحين أحاديث يروى عمن اختلط من الثقات، مما قد يستشكل، فقال ابن الصلاح (3):

"واعلم أن من كان من هذا القبيل محتجا به في الصحيحين أو أحدهما فإنا نعرف على الجملة أن ذلك مما تميز وكان مأخوذا عنه قبل الاختلاط".

وهذا جواب سديد أيده العلماء وقرروه في مصنفاتهم (4) يشهد له إجماع العلماء على تلقي أحاديث الكتابين بالقبول.

(1): 137.

(2)

في إنهاء السكن: 98.

(3)

: 357.

(4)

انظر شرح الألفية: 4: 161 ـ والاغتباط نفس المكان، وفتح المغيث: 486، والتدريب: 528، وغيرهما.

ص: 134

وقد عني النقاد في أبحاث هؤلاء الرواة ببيان تاريخ اختلاطهم، ومن سمع منهم قبل الاختلاط، ومن سمع بعده ومن لم يتبين وقت سماعه.

وينقسم هؤلاء الرواة بحسب سبب اختلاطهم أقساما كثيرة:

منهم من اختلط لخرفه أو هرمه أو مرضه أو مصاب نزل به، مثل سعيد بن أبي عروبة، الثقة الحافظ، ابتدأ اختلاطه سنة اثنتين وأربعين، واستحكم به سنة خمس وأربعين ومائة واستمر حتى وفاته سنة خمس وخمسين ومائة. وعامة الرواة سمعوا منه قبل اختلاطه، وممن عرف أنه سمع منه بعد اختلاطه وكيع بن الجراح، والمعافى بن عمران الموصلي.

ومنهم من اختلط لذهاب بصره، كعبد الرزاق بن هام الصنعاني الإمام صاحب المصنف، قال أحمد:"من سمع منه بعدما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فغنه كان يلقن فيتلقن".

والضابط لم سمع منه قبل الاختلاط أن يكون سماعه قبل المائتين.

فممن سمع منه قبل الاختلاط الأئمة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ووكيع ويحيى بن معين.

وممن سمع منه بعد ذلك: إبراهيم بن منصور الرمادي، وإسحاق ابن إبراهيم الدبري (1).

هذا وقد تنكب جادة الصواب بعض من نصب نفسه للحديث إذ ضعف حديث عبد الرزاق الذي في مصنفه في صلاة التراويح بأن عبد الرزاق قد اختلط، ليسلم له دعواه عدم مشروعية أدائها عشرين

(1) علوم الحديث: 355، وفتح المغيث: 490 والمغني في الضعفاء رقم 3687.

ص: 135

ركعة، فقد عرفت أن كتبه صحيحة، وإن التخليط أضر بما سمع منه مما كان يحدث به من حفظه. لكن الرجل ضحى بهذا الجامع العظيم من جوامع الحديث النبوي في سبيل فكرته التي يصر عليها.

ومن أقسام المخلطين أيضا من اختلط لذهاب كتبه، فحدث من حفظه فخلط في حديثه. مثل عبد الله بن لهيعة المصري القاضي: احترقت كتبه فراح يحدث من حفظه، فوقع في حديثه التخليط، ولم يتميز من حديثه ما كان قبل الاختلاط إلا النادر، قال في التقريب:"صدوق، اختلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما. وله في مسلم بعض شيء مقرون".

6 -

الوحدان:

وهم الرواة الذين لم يرو عنهم إلا راو واحد فقط.

وفائدة هذا العلم معرفة المجهول إذا لم يكن صحابيا.

ومن أمثلته من الصحابة: وهب بن خنبش، والمسيب بن حزن والد سعيد، وعمرو بن تغلب.

ولصعوبة الحكم بالتفرد انتقد العلماء كثيرا مما قيل فيه: لم يرو عنه إلا واحد.

ص: 136

وادعى الحاكم في كتابه "المدخل إلى كتاب الإكليل"(1) أن الشيخين لم يخرجا من رواية هذا النوع شيئا، لكن انتقده بعض العلماء بجماعة من الرواة أخرج لهم الشيخان ليس لهم إلا راو واحد (2).

وذكر الذهبي (3) عشرة من الصحابة أخرج لهم البخاري ليس لهم سوى راو واحد فقط.

والجواب عن هذا بالنسبة للصحابة أنه ليس بضائر في حقهم، لأنهم عدول كما عرفت. وقد ثبت استثناء الحاكم إياهم (4).

وأما بالنسبة لغير الصحابة فالجواب أن "الشرط الذي ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم، فإنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد قط"(5).

(1) ق 188 من المجموعة الحديثية المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الأحمدية بحلب.

(2)

انظر شروط الأئمة الخمسة للحازمي: 33. وشروط الأئمة الستة للمقدسي: 15.

(3)

في سير أعلام النبلاء: ج 8 ق 253 - 254.

(4)

فتح المغيث: 18. وانظر: 418 - 419 وانظر ما سبق في بحث المجهول: 89 - 91.

(5)

هدي الساري ج 1: ص 6. وانظر كتابنا الإمام الترمذي: 61.

ص: 137

7 -

المدلسون:

المدلس: هو من يحدث عمن سمع منه ما لم يسمع منه بصيغة توهم أنه سمعه منه. كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان.

والتدليس على أقسام تأتي في الحديث المدلس، مع بيان حكمها إن شاء الله.

وتتفاوت أحوال المدلسين تفاوتا كبيرا، فمنهم من احتمله الأئمة لثقته وندرة تدليسه، بحيث يرى المحدث أن هذا من صحيح حديثه، ليس مما دلسه. ومنهم من احتملوه لكونه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل سفيان بن عيينة الإمام الكبير، وقد أخرج له الشيخان (1). ومنهم ثقات كثر تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين، مثل بقية بن الوليد الحمصي، فلا يحتج بحديث هذا الصنف إلا إذا صرح بالسماع (2). ومنهم ضعفاء لا يحتج بهم ولو صرحوا بالسماع، وازدادوا بالتدليس ضعفا مثل عطية العوفي. وقد فصل مراتبهم الحافظ العلائي (3) بأحسن بيان، واستمد منه الحافظ ابن حجر.

(1) جامع التحصيل ق 38 آ، وتعريف أهل التقديس: 2 و 9. والتبيين: 9.

(2)

جامع التحصيل ق 38 ب و 40 آوتعريف أهل التقديس: 2 و 17، والتبيين:6. والمغني: 944.

(3)

في كتاب جامع التحصيل لأحكام المراسيل ق 40 آوانظر ديباجة التعريف.

ص: 138

وقد عني المحدثون بهذا الفن، فأفرد كثير من الأئمة أسماء المدلسين بالتصنيف مثل:

1 -

"التبيين في أسماء المدلسين"، للبرهان الحلبي الحافظ.

2 -

"تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" لابن حجر، وهو أجمعها وأوسعها إحصاءً، وقد بلغ مجموع ما احتواه /152/ مائة واثنين وخمسين مدلسا فقط. ومن هنا فإنا لا نستطيع أن نوافق الباحث الفاضل الدكتور صبحي الصالح على قوله (1):"ما أقل من سلم من التدليس" فهذا قول مبالغ جدا في تضخيم أمر التدليس، وغلو لا ستنده الحقيقة العلمية. وهذا أوسع إحصاء للمدلسين يبلغ مائة واثنين وخمسين مدلسا من بين آلاف الرواة، مما يدل على أن الأولى أن نقول:"ما أكثر من سلم من التدليس".

نتائج الفصل:

ونسجل في ختام الفصل هذه النتائج الهامة في منهج النقد الحديثي:

1 -

إن المقياس الذي يعرف به الراوي المقبول من المردود مقياس موضوعي شامل، حيث لم يكتف فيه المحدثون بمجرد استقامة السلوك الديني، بل لاحظوا العوامل الداخلية، فنظروا إلى ما يخشى أن يدفع الراوي من انحياز فكري "بدعة" أو اجتماعي إلى عدم التحري في

(1) في كتابه علوم الحديث ومصطلحه: 175 - 176، وسنستوفي مناقشة ما أثير من المزاعم في هذا الصدد في كتابنا "أصول الجرح والتعديل" إن شاء الله تعالى. وانظر لزاما ما يأتي في الحديث المدلس برقم 66.

ص: 139

النقل، ودرسوا حالة النفسية من حيث الاعتدال والتحرز، أو الاستهتار والتساهل على ضوء ما أسمعوه "بالمروءة"، وراعوا أهليته العلمية والذهنية للأداء الصحيح في شروط الضبط. فجاء مقياسهم هذا موضوعيا لا يتحيز ولا يحيف، شاملا كافة العوامل الدينية والنفسية والاجتماعية التي تدفع إلى الصدق وتنزه الراوي عن الكذب وتجعله قمينا بأداء الحديث كما هو، وبذا أصبح ميزانا يعرف حقيقة الرواة بكل دقة وإنصاف وعدالة.

2 -

إن المحدثين طبقوا هذا المقياس تطبيقا دقيقا تجلى في مراتب الجرح والتعديل وعبارتها التي تحدد منزلة الراوي من القبول أو الرد تحديدا دقيقا يبين ما يحتج به من التعديل، وما يكتب حديثه وينظر فيه، وما يعتبر به من مراتب الضعف، ثم ما يترك ولا يلتفت إليه. يبينون بذلك واقع الراوي بيانا علميا صادقا.

3 -

إن ثمار هذا التطبيق أودعت في تصانيف متنوعة كثيرة، بين العلماء فيها حال كل راو من القبول أوالرد، وما فيه من اختلاف اجتهاد العلماء وتقديرهم. ويجد الباحث في تلك المصادر من المعارف الدقيقة ما يعد بحق آية البحث النقدي في الرواة وفين التاريخ، تجعل الناقد بصيرا بالحقائق الدقيقة في هذا الركن الهام من أصول البحث النقدي.

ص: 140

‌الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي

وهي مجموعة من المعارف تحدد شخص الراوي وتبرز هويته، كي يتميز عن غيره فيبحث بعد ذلك عن حالهن ويحكم عليه جراحا أو تعديلا كما قرر الحكماء فقالوا:"الحكم على الشيء فرع عن تصوره".

والحاجة إلى تحديد شخص الراوي وتمييزه إما أن تكون من الناحية الزمنية أو من ناحية الاسم وما يتصل به من الكنية أو النسب أو غيرهما، فنقسم هذه المعارف إلى قسمين، ندرسهما في مبحثين:

المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية.

المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة.

ص: 141

‌المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية

ويشمل هذا المبحث الأنواع الآتية من علوم الحديث:

1 -

تواريخ الرواة

2 طبقات الرواة

3 -

التابعون

4 -

أتباع التابعين

5 -

الأخوة والأخوات

6 -

المدبج ورواية الأقران

7 -

الأكابر الرواة عن الأصاغر

8 -

السابق واللاحق

9 -

رواية الآباء عن الأبناء

10 -

رواية الأبناء عن الآباء

1 -

تواريخ الرواة:

التاريخ عند المحدثين هو (1): "التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال في المواليد والوفيات ويلتحق به من الحوادث والوقائع التي ينشأ عنها معان حسنة من تعديل وتجريح ونحو ذلك".

(1) كما قال السخاوي في فتح المغيث: 459.

ص: 142

وهذا النوع كالأصل بالنسبة للأبحاث التاريخية في رواة الحديث، لأنها مبنية على ما يثبته التاريخ من المواقيت في حياة الراوي.

وقد احتل التاريخ عند أهل الحديث مكانة هامة جدا لمعرفة اتصال الأسانيد وانقطاعها، وفي الكشف عن أحوال الرواة وفضح الكذابين.

قال سفيان الثوري: "لما استعمل الرواة الكذب استعلمنا لهم التاريخ".

وقال حفص بن غياث: "إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين". يعني احسبوا سنه وسن من كتب عنه.

قال عفير بن معدان الكلاعي: "قدم علينا عمر بن موسى حفص، فاجتمعا إليه في المسجد، فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر قلت له: من شيخنا هذا الصالح؟ سمه لنا نعرفه. قال فقال: خالد بن معدان. قلت له: في أي سنة لقيته؟ قال لقيته سنة ثمان ومائة. قلت فأين لقيته؟ قال لقيته في غزاة أرمينية، قال: فقلت: اتق الله يا شيخ ولا تكذب! مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين! "(1).

وقال الحاكم: لما قدم علينا محمد بن حاتم الكشي وحدث عن عبد بن حميد سألته عن مولده، فذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين. فقلت لأصحابنا: سمع هذا الشيخ من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.! !

وزعم أبو خالدج السقاء في سنة تسع ومائتين أنه سمع أنس بن مالك ورأى عبد الله بن عمرز فقال أبو نعيم "ابن كم يزعم أنه؟ قالوا:

(1) أسنده في الكفاية: 119، ورواه أيضا عن إسماعيل بن عياش الحمصي.

ص: 143

"ابن خمس وعشرين ومائة سنة" فقال أبو نعيم: "على زعمه مات ابن عمر قبل أن يولد بخمس سنين"(1).

ولذلك أوجب العلماء على طالب الحديث تقديم الاهتمام بالتاريخ، ومعرفة وفيات الشيوخ لأنه من أهم علوم الحديث. ولا سيما ما يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه وأئمة علماء الدين فلا يجوز أن يغفل عنها مسلم فضلا عن طالب العلم، فإن من ارتبط بفكرة تعلق قلبه بداعيتها ورجالها الذين جاهدوا في سبيلها والمسلم أحق بذلك (2).

ومن أعظم المؤلفات في تاريخ الرواة:

1 -

"التاريخ الكبير"، للإمام البخاري. تكلم فيه بإيجاز عن الراوي، وذكر شيوخه وتلامذته، وتعرض أحيانا للجرح والتعديل، وسكت في الأكثر عن بيان ذلك. طبع في ثمانية أجزاء.

2 -

"التاريخ"، لابن أبي خيثمة، كتاب كبير، قال فيه ابن الصلاح:"وما أغزر فوائده".

3 -

مشاهير علماء الأمصار"، لأبي حاتم محمد بن حبان البستي، تكلم فيه عن كل راو بإيجاز شديد في سطرين أو ثلاثة، وذكر تاريخ وفاته. والكتاب مطبوع في جزأين.

(1) المغني رقم 7429.

(2)

وقد ذكر الإمام ابن الصلاح ومن تبعه أسماء أعلام من الصحابة وأهل الحديث ووفياتهم، بمناسبة الكلام على تواريخ الرواة اقتصروا فيه على ذكر الأسماء والوفيات فقط. وقد أوردنا لكل منهم ترجمة مفصلة في كتابنا هذا في الأدوار التاريخية لعلم الحديث، ثم في مصادر الحديث الصحيح والحسن بما يكمل ثقافة القارئ في هذا الجانب العلمي الحيوي.

وانظر كذلك فصل "تراجم أعيان الحفاظ" في شرح علل الترمذي لابن رجب 162 - 233 وفصل "معرفة مراتب أعيان الثقات الذين تدور عليهم غالب الأحاديث الصحيحة" في شرح العلل أيضا: 472 - 552، فإنهما على غاية الأهمية جديران بالحفظ عن ظهر قلب.

ص: 144

2 -

طبقات الرواة:

الطبقة في اللغة: القوم المتشابهون في صفة من الصفات.

وفي اصطلاح المحدثين: القوم المتعاصرون إذا تشابهوا في السن وفي الإسناد "أي الأخذ عن المشايخ" فهي بمعنى كلمة "جيل" مع ملاحظة الاشتراك في الأساتذة.

وربما اكتفوا بالاشتراك في التلقي. وهو غالبا ملازم للاشتراك في السن (1).

والباحث الناظر في هذا الفن يحتاج إلى معرفة المواليد والوفيات. ومن أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم (2).

ويختلف اعتبار الراوي من أي طبقة هو باختلاف الجهة والأمر الذي نصنفه على أساسه، وعند هذا فرب شخصين يكونان من طبقة واحدة لتشابههما بالنسبة إلى جهة، ومن طبقتين بالنسبة إلى جهة أخرى لا يتشابهان فيها.

فأنس بن مالك الأنصاري وغيره من أصاغر الصحابة دون أبي بكر ونحوه من أكابر الصحابة بطبقات، إذا نظرنا إلى تفاوتهم في السبق إلى

(1) فتح المغيث: 495.

(2)

علوم الحديث: 358.

ص: 145

الإسلام. لكنه يعد معهم من طبقة واحدة هي عموم الصحابة إذا نظرنا إلى اشتراكهم في أصل صفة الصحبة، وعلى هذا فالصحابة بأسرهم طبقة أولى، والتابعون طبقة ثانية، وأتباع التابعين طبقة ثالثة، وأتباع أتباع التابعين طبقة رابعة، وأتباع أتباع أتباع التابعين طبقة خامسة.

وهذه الطبقات الخمس هي طبقات الرواة حتى نهاية القرن الثالث، وهو نهاية عصر الرواية.

وقد قسمها الحافظ ابن حجر بحسب تقارب رجالها في الإسناد، أو تشابههم في الشيوخ والمعاصرة إلى اثنتي عشرة طبقة، ثم بين الزمن التقريبي لأفراد كل طبقة، في كتابه تقريب التهذيب (1).

ومعرفة الطبقات لها أهمية كبيرة، إذ يتوصل بها إلى التمييز بين الرواة المتشابهين، والأمن من التداهل بينهم كالمتفقين في الاسم، والكنية، كما يتوصل به إلى الاطلاع على تبيين التدليس، والوقوف على المراد من العنعنة "أي قول الراوي: عن فلان" أهي على سبيل الاتصال، أم الانقطاع.

ولأهمية هذا الفن عني به المحدثون وصنفوا فيه الكتب الكثيرة. طبع منها كتابان:

أ- "الطبقات الكبرى" للإمام الحافظ محمد بن سعد.

وهو كتاب حفيل غزير الفوائد فاق سائر كتب الطبقات شهرة، ومؤلفه حافظ ثقة، غير أنه كثر الرواية فيه عن الضعفاء، منهم محمد بن عمر الواقدي شيخه، ويذكره باسمه واسم أبيه:"محمد بن عمر"،

(1): 1: 5 - 6.

ص: 146

دون أن ينسبه. ومنهم شيخه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فقد أكثر عنهما في كتابه.

ب- "الطبقات" للإمام خليفة بن خياط.

وهو كتاب نافع مفيد مختصر جدا، يقع في جزأين، طبع بدمشق.

3 -

التابعون:

المختار في تعريف التابعي عندنا ما قاله الحاكم (1) وهو: "من شافه (2) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي مع كونه مؤمنا.

ولهذا العلم فائدة عظيمة فإنه إذا "غفل الإنسان عن هذا العلم لم يفرق بين الصحابة والتابعين، ثم لم يفرق أيا بين التابعين وأتباع التابعين".

(1) في معرفة علوم الحديث: 42.

(2)

وعبر عنه العراقي في الألفية وشرحها: 4: 52 ن بقوله: "من لقي واحدا من الصحابة فأكثر"، فلم يشترط المشافهة، أي الأخذ عن الصحابي، واخترنا تعريف الحاكم لأنه أوفى بأغراض المحدثين التي منها اتصال السند، فإن من لم يأخذ عن الصحابي لا يكون سنده إلى الصحابي متصلا إلا بالواسطة. أما الصحبة فكتفوا فيها باللقاء لعظمة شرفها وبركة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان سند من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه مرسلا من قبيل مراسيل كبار التابعين. انظر مطلع الإصابة، وفتح المغيث:368.

ص: 147

وجعل الحاكم التابعين خمس عشرة طبقة، ذكر منها ثلاث طبقات فقط، في مقدمتها: الذين لحقوا العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، مثل قيس بن أبي حازم، سمع العشرة وروى عنهم، وليس في التابعين أحد روى عن العشرة سواه.

وآخر طبقات التابعين من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة، ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة

وهؤلاء آخر الصحابة موتا رضي الله عنهم.

ومن هذه الطبقة الإمام أبو حنيفة على الأصح، لأنه لقي من الصحابة عبد الله بن أنيس، وعبد الله بن جزء الزبيدي، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعائشة بنت عجرد، وروى عنهم.

ويمكن تقسيم التابعين إلى ثلاث طبقات شاعت في كتب العلم، وهي: طبقة كبار التابعين، وهم الذين رووا عن كبار الصحابة، وهؤلاء يقع حديثهم موقع حديث متأخري الصحابة، اكثر ما يوجد عند تابعي. وطبقة متوسطي التابعين، وهم الذين أدركوا هؤلاء الأئمة وأمثالهم ورووا عن الصحابة وعن التابعين. وطبقة صغار التابعين وهم الذين حدثوا عن صغار الصحابة الذين تأخرت وفاتهم فأدركهم في حال صغر سنهم وكبر سن الصحابة الذين كانوا صغارا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وأول التابعين موتا أبو زيد معمر بن يزيد، قتل سنة ثلاثين وآخرهم موتا خلف بن خليفة، مات سنة ثمانين ومائة.

ومن التابعين: المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية في حياة

(1) مسألة العلو والنزول لابن طاهر المقدسي: ق 7 آ.

ص: 148

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا، ولا صحبة لهم. وعدهم بعض العلماء من الصحابة.

ذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم سويد بن غفلة " (80) هـ"، وعمرو بن ميمون الأودي " (74) " وأبوعثمان النهدي عبد الرحمن بن مل وهو من المعمرين توفي سنة " (95) "، جمع منهم البرهان الحلبي في تأليف خاص (1) فزاد على خمسين ومائة، وعني الحافظ ابن حجر يإيرادهم في كتابه الاصابة.

فضل التابعين:

وقد خلف التابعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حمل العلم، وقاموا بالدعوة من بعدهم، فكان لهم الفضل من بعدهم وقد ورد الثناء عليهم في القرآن: قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .

وذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".

واختلفوا في أفضل التابعين من الرجال ففضل أهل كل مصر إمامهم من التابعين. واختار كثير من العلماء سعيد بن المسيب.

وقيل: أويس القرني. قال العراقي (3) إنه "الصحيح بل الصواب

لما روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال

(1) هو تذكرة الطالب المعلم بمن يقول إنه مخضرم انظر ص 2 - 6 للتوسع في تعريف المخضرم.

(2)

في الفضائل: 7: 185.

(3)

في شرح الألفية: 4: 55.

ص: 149

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس

".

وسيدات النساء من التابعين: حفصة بنت سيرين "بعد (100) "، وعمرة بنت عبد الرحمن "قبل (100) "، وأم الدرداء الصغرى " (81) ".

وهذه الطبقة لها الفضل في نشر العلم في الأمصار ففي مكة رويت الفتيا في الفقه والحديث عن عطاء بن أبي رباح " (114) " وطاوس بن كيسان " (106) ". وفي المدينة عن جماعة من أكابر التابعين هم "الفقهاء السبعة" من أهل المدينة، وهم: سعيد بن المسيب " (90) "، والقاسم بن محمد " (106) "، وعروة بن الزبير " (94) "، وخارجة بن زيد " (100) "، وأبو سلمة بن عبد الرحمن " (94) "، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة " (94) "، وسليمان بن يسار "بعد المائة". فهؤلاء هم الذين أطلق عليهم:"الفقهاء السبعة" عند الأكثر من علماء الحجاز.

وفي الكوفة حمل الناس العلم عن علقمة بن قيس النخعي "توفي بعد سنة (60) "، ومسروق بن الأجدع الهمداني " (62) ". وفي البصرة عن الحسن البصري " (110) " ومحمد بن سيرين " (110) "، وفي الشام عن أبي إدريس الخولاني " (80) " وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي "بعد (80) "، وبمصر عن يزيد بن أبي حبيب " (128) " وبكير بن عبد الله الأشج " (120) "(1).

أخطاء في هذه الطبقة:

وقعت في طبقة التابعين أخطاء نذكر نبذا منها تنبيها لطالب العلم:

(1) المختصر في علم رجال الأثر لأستاذنا الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف: 41.

ص: 150

آ- قال الحاكم (1): "طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحمد منهم من الصحابة، منهم إبراهيم بن سويد النخعي، وبكير بن أبي السميط، وثابت بن عجلان".

ب- وقال أيضا: "طبقة عدادهم عند الناس في اتباع التابعين وقد لقوا الصحابة. منهم: أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، لقي أنس بن مالك وأبا أمامة بن سهل. وهشام بن عروة وقد أدخل على عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله".

جـ- قال ابن الصلاح: "قوم عدوا من التابعين وهم من الصحابة، ومن أعجب ذلك عد الحاكم أبي عبد الله: النعمان وسويدا ابني مقرن المزني من التابعين، (2) وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة (3) ".

4 -

أتباع التابعين:

ويمكن استخراج تعريفهم مما سبق فيقال:

"تابع التابعي هو من شافه التابعي مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم"(4).

(1) في المعرفة: 45، وذكر أسماء أخرى خطأه فيها العراقي في النكت: 284 - 285.

(2)

في نوع الأخوة والأخوات: 154. وانظر علوم الحديث: 276.

(3)

انظر ترجمتيهما في الاستيعاب: 2: 112 و 3: 516. وأسد الغابة: 2: 381 و: 5: 30، والإصابة: 2: 99، و: 3: 535.

(4)

هذا النوع ذكره الحاكم في المعرفة: ص 46 - 48، لكنه لم يعرفه،

ص: 151

قال الحاكم في أهمية هذا النوع وضرب الأمثلة له:

"فإن غلط من لا يعرفهم يعظم أن يعدهم من الطبقة الرابعة، أو لا يميز فيجعل بعضهم من التابعين

وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم

فهذه صفة اتباع التابعين إذ جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خير الناس بعد الصحابة والتابعين المنتخبين، وهم الطبقة الثالثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم جماعة من أئمة المسلمين، وفقهاء الأمصار، مثل مالك بن أنس الأصبحي، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري وشعبة بن الحجاج العتكي، وابن جريج.

ثم فيهم أيضا جماعة من تلامذة هؤلاء الذين ذكرناهم، مثل: يحيى بن سعيد القطان وقد أدرك أصحاب أنس، وعبد الله بن لمبارك، وقد أدرك جماعة من التابعين، ومحمد بن الحسن الشيباني ممن روى الموطأ عن مالك، وقد أدرك جماعة من التابعين".

ومن مصادر معرفة رجال التابعين وتابعيهم الكتب المصنفة على الطبقات، مثل: طبقات ابن سعد، وطبقات خليفة بن خياط، والثقات للذهبي، وتذكرة الحفاظ للذهبي أيضا.

ص: 152

5 -

الإخوة والأخوات:

وهو علم عزيز من معارف أهل الحديث المفردة بالتصنيف.

ومن فائدته فيما نرى أنه قد يشتهر أحد الأخوة بالرواية فلا يظن الباحث إذا وجد الرواية عن بعض إخوته أنها وهم.

فمن أمثلة الأخوين من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعتبة بن مسعود، هما أخوان. زيد بن ثابت ويزيد بن ثابت، أخوان.

ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة، وأخوه أرقمن كلاهما من أصحاب ابن مسعود.

ثلاثة إخوة: علي، وعقيل، وجعفر، بنو أبي طالب، إخوة ثلاثة من الصحابة ومن أهل البيت (1). سهل وعباد وعثمان بنو حنيف إخوة ثلاثة من الصحابة، عمرو بن شعيب، وعمر، وشعيبن بنو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو إخوة ثلاثة من التابعين.

وأكثر ما ذكروا من الأخوة تسعة، على ما أفاد السيوطي.

وقد صنف في هذا النوع جماعة من الحفاظ، منهم: علي بن المديني، ومسلم وأبو داود والنسائي، وغيرهم.

(1) تسمية الأخوة الذين روي عنهم لأبي السجستاني ق 216 آ.

ص: 153

6 -

المدبح ورواية الأقران بعضهم عن بعض:

الأقران هم الرواة المتقاربون في السن والإسناد، واكتفى بعضهم بالتقارب في الإسناد فقط.

وقد ذكروا قسمين لرواية القرين عن القرين:

الأول: المدبج، وهو أن يروي القرينان كل واحد منهما عن الآخر، مثل: أبي هريرة وعائشة، روى كل منهما عن الآخر، والزهري وعمر بن عبد العزيز، ومالك والأوزاعي.

القسم الثاني: غير المدبج، وهو أن يروي أحد القرينين عن الآخر ولا يروي الآخر عنه، مثاله رواية سليمان التيمي عن مسعر، وهما قرينان، ولا نعلم لمسعر رواية عن التيمي.

ومن فائدة هذا النوع ألا يتوهم الناظر أن ذكر أحد المتقارنين وقع في السند خطأ، وألا يفهم أن "عن" خطأ، وأن صوابها واو العطف التي تدل على أنهما اشتركا في رواية الحديث عن الراوي الذي ذكر في الإسناد قبلهما.

وقد صنف الدارقطني في المدبج كتابا، وهو أول من سماه به، وصنف الحافظ أبو الشيخ في رواية الأقران.

ص: 154

7 -

الأكابر الرواة عن الأصاغر:

قد يروي الكبير القدر أو السن، أو الكبير فيهما معا عمن دونه، كما قيل:"لا ينبل الرجل حتى يأخذ عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه".

ومن الفائدة فيه ألا يتوهم انقلاب السند، أو يتوهم أن الراوي دون المروي عنه، نظرا إلى ان الأغلب كون المروي عنه أكبر من الراوي، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم"(1).

وقد ذكروا مما يندرد تحت هذا النوع رواية الصحابي عن التابعي، كرواية العبادلة وغيرهم من الصحابة عن كعب الأحبار بعض ما كان يحدث به من أخبار السابقين.

وهذا قد استند إليه بعض الملاحدة فزعم -تبعا للمستشرقين- أن الصحابة سمعوا من كعب الأحبار أشياء ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دعوى فاجرة، قامت على تحريف كلام العلماء، فإن العلماء لم يقولوا أبدا إن الصحابة نسبوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وقع ذلك من الصحابة، وإنما نبهوا إلى هذا النزول في السند دفعا للتوهم.

(1) أخرجه أبو داود في الأدب: 4: 261، وأعله بالانقطاع، وتساهل الحاكم فحكم بصحة الحديث، في المعرفة، وتابعه على ذلك ابن الصلاح وابن كثير، ونبه الحافظ العراقي على ضعف الحديث في نكته: 425 طبع حلب

ص: 155

ومن ذلك قولهم في عبد الله عمرو "أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يرويها للناس عن النبي". ونسب الطاعن ذلك إلى فتح الباري 1: (166).

وهذا خيانة وخداع، حيث دس الطاعن في كلام الحافظ كلمة ليست فيه، وهي "عن النبي" فزادها كذبا، ونسبها للحافظ ابن حجر بهتانا

! ! (1).

ومن رواية الأكابر عن الأصاغر نوع طريف هو رواية صحابي عن تابعي عن صحابي، وإن كان نادرا (2) مثل حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبد الرحمن بن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل". رواه مسلم في صحيحه (3).

ومنه أيضا رواية التابعي عن تابع التباعي، كرواية الزهري ويحيى ابن سعيد الأنصاري عن مالك.

ومن مقاصد الأئمة في الرواية عمن دونهم التنويه بذكرهم، ولفت الناس للأخذ عنهم (4).

(1) انظر في الموضوع دراسة قيمة لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد السماحي في قسم التاريخ: 2209 - 257.

(2)

وقد جمع الحافظ العراقي من هذا نحو عشرين حديثا في شحر الألفية. وانظر توضيح الأفكار والتعليق عليه لفضيلة أستأذنا الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد: 2: 474.

(3)

ج 1: ص 208. وقارن بالباحث الحثيث: 196.

(4)

فتح المغيث: 405.

ص: 156

8 -

السابق واللاحق:

وهو أن يشترك في الرواية عن الراوي راويان: أحدهما متقدم الوفاة، والآخر متأخر في الوفاة، بينهما أمد بعيد.

ومن فوائد ذلك تقرير حلاوة الإسناد في القلوب، ورفع توهم الخطأ في الإسناد.

وهذا إنما يقع عند رواية الأكابر عن الأصاغر ثم بعد زمن يسمع من المروي عنه الصغير راو متأخر.

ومن أمثلته أن الزهري روى عن تلميذه الإمام مالك بن أنس، وقد توفي الزهري سنة 124. وممن روى عن مالك أحمد بن إسماعيل السهمي، وهو من أهل الصدق، مات سنة 259. فبين وفاتي الزهري والسهمي خمس وثلاثون ومائة سنة "135".

وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا اسماه "السابق واللاحق".

ص: 157

9 -

رواية الآباء عن الأبناء:

وفائدة هذا النوع أمن الخطأ الذي ينشأ عن توهم الابن أبا، أو توهم انقلاب السند.

ومن أمثلته في الصحابة أن العباس بن عبد المطلب روى عن ابنه الفضل بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بالمزدلفة"(1).

وفي التابعين رواية وائل عن ابنه بكر بن وائل ثمانية أحاديث، منها وائل عن بكر عن الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر"(2).

ومن بعدهم رواية أبي عمر حفص بن عمر الدوري المقرئ عن ابنه أبي جعفر محمد بن حفص ستة عشر حديثا، أو نحو ذلك. وهذا أكثر ما روينا لأب عن ابنه.

وقد صنف الخطيب البغدادي في هذا النوع كتابا قيما، نقل م نه المؤلفون أمثلة كثيرة.

(1) الحديث رواه هكذا الخطيب في كتابه "رواية الآباء عن الأبناء" وأصله في الصحيحين وغيرهما.

(2)

أبو داود في الأطعمة" استحباب الوليمة عند النكاح": 3: 34. وقارن بالترمذي في النكاح: 3: 403. وابن ماجه: 615.

ص: 158

10 -

رواية الأبناء عن الآباء:

رواية الأبناء عن الآباء قسمان:

أولهما: رواية الابن عن أبيه فقط، وذلك كثير جدا.

ومن الأمثلة المشهورة لذلك رواية أبي العشراء عن أبيه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة

(1).

أبو العشراء لم يأت في الأسانيد إلا مكنيا، ووالده لم يسم في شيء من طرق الحديث، والأشهر أن أبا العشراء هو أسامة بن مالك ابن قهطم، بكسر القاف.

الثاني: رواية الابن عن أبيه عن جده، وهي كثيرة أيضا، لكن دون كثرة الأول. ورواية الرجل عن أبيه عن جده مما يفخر به بحق، ويغبط عليه الراوي، يقول أبو القاسم منصور بن محمد العلوي:"الإسناد بعضه عوال وبعضه معال، وقول الرجل: حدثني أبي عن جدي من المعالي". أي المكارم التي يعتز بها.

وهذا أربعة أسانيد مشتهرة من هذا القسم (2):

(1) أخرجه الترمذي في الذبائح: 4: 75. والذكاة: الذبح الشرعي.

(2)

ذكرها النووي في "المبهمات في علم الحديث". ق 35 ب-36 من المخطوط بحلب: والعراقي في المستفاد: ق 98 واستوفى هذا القسم القطب القسطلاني في المبهمات: ق 3 ب -11.

ص: 159

1 -

عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جدهز يروى بهذا السند نسخة كبيرة حسنة الحديث، أكثرها فقهيات جياد في المسند للإمام أحمد بن حنبل وفي السنن الأربعة.

وهذه السلسلة قد اشتجر فيها الخلاف بين المحدثين، وطعن فيها بعضهم بعدم الاتصال.

والمختار الذي جرى عليه أكثر المحدثين هو الاحتجاج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح السند إليه، قال البخاري:

"رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم! ! "(1).

2 -

بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده. روي بهذا السند نسخة كبيرة حسنة في مسند الإمام أحمد، وبعض حديثه في السنن الأربعة، وروى له البخاري معلقا لأنه ليس على شرطه.

3 -

طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي عن أبيه عن جده، وطلحة ثقة فاضل، وجده عمرو بن كعب يقال فيه: كعب بن عمرون وهو صحابي عند الجمهور، لكن أباه مصرفا مجهول، روى له أبو داود.

4 -

كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عبد الله عن جده عمرو. روى له الترمذي خمسة أحاديث حكم لها بالحسن

(1) انظر تفصيل البحث فيه في الميزان، والتهذيب، وكتابنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة: 117 - 118.

ص: 160

لتعضدها بالرواية من طرق أخرى، لكن كثيرا ضعفه الأكثرون، ومنهم من تركه ورماه، ومشاه الباقون (1).

ورواية الأبناء عن آبائهم مما يحتاج لمعرفته، فإن المشاهد في الكثير من الأحيان أن لا يذكر اسم الأب أو الجد في السند، ويخشى أن يخفى على الناظر فيه.

وفي بعضها ما يحتاج إلى التبيه على حقيقته:

كما في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فإن الضمير في جده يرجع إلى أبيه شعيب، أي أن السلسلة هكذا عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده أي جد شعيب وهو عبد الله بن عمرو، وقد قيل إن شعيبا لم يسمع من جده، لكن التحقيق أنه سمع منه، وإن هذا السند حجة.

وكرواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، فإنه لم يسمع أباه (2).

وقد صنف العلماء في هذا النوع لتحقيق مثل هذا الغرض كتبا كثيرة، كابن أبي خيثمة، وأبي نصر الوائلي السجزي، ثم الحافظ العلائين وكتابه أجمع مصنف في ذلك. نقل عنه العلماء أشياء كثيرة.

(1) طعن بعض المحدثين على الترمذي لتحسينه أحاديث كثير بن عبد الله. وقد أزلنا الشبهة في كتابنا الإمام الترمذي في فصل المكانة العلمية لعلم الترمذي في صناعة الحديث.

(2)

نبه على ذلك الترمذي في "زكاة البقر": 3: 21. وانظر أطروحتنا: 108.

وقد عني الحافظ أبو موسى المديني في كتابه "اللطائف من علوم الحفاظ الأعارف" بالأسانيد المنقطع من رواية الأبناء عن الآباء، واستقصى هذا النوع فصل خاص فجمع نحوا من مائة إسناد، معظمها لم يذكر في كتب المراسيل. والكتاب مخطوط في الظاهرية، انظر ورقة 78 إلى آخره.

ص: 161

‌المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة

ويشمل هذا المبحث الأنواع الآتية من علوم الحديث:

1 -

المبهمات

2 -

معرفة من ذكر بأسماء متعددة

3 -

الأسماء والكنى

4 -

الألقاب

5 -

المنسوبون إلى غير آبائهم

6 -

النسب التي على خلاف ظاهرها

7 -

المالي من الرواة والعلماء

8 -

أوطان الرواة وبلدانهم

9 -

الأسماء المفردة والكنى

10 -

المتفق والمفترق

11 -

المؤتلف والمختلف

12 -

المتشابه "يتركب من النوعين قبله"

وسنتكلم عنها بإيجاز واحدا فواحدا.

ص: 162

1 -

المبهمات:

أي معرفة اسم من أغفل ذكر اسمه في الحديث من الرجال والنساء.

ويعرف ذلك بوروده مسمى في بعض الروايات، وبتنصيص أهل السير على كثير منهم، وبغير ذلك، وكثير منهم لم يوقف على أسمائهم. وقد قسمه ابن الصلاح أقساما بحسب نوع الإبهام، ذكر منها:

1 -

ما قيل فيه "رجل" أو"امرأة"، وهو من أبهمها.

2 -

ما أبهم بأن قيل "ابن أو ابنة فلان" أو"ابن الفلاني".

3 -

عم فلان أو عمته.

4 -

زوج فلانة، أو زوجة فلان (1).

5 -

وأرى أن نقسم الإبهام بحسب موضعه إلى قسمين:

1 -

الإبهام في السند.

2 -

الإبهام في المتن.

(1) لا خلاف بين المحدثين في تسمية هذه الأقسام بالمبهم، وكتبهم في المبهمات ناطقة بذلك، فليحرر قول بعض الكاتبين: "أن الحافظ ابن حجر يفرق بين المجهول عينا وبين المبهم من حيث الاصطلاح

أما غير ابن حجر فقد اعتبر مجهول العين المبهم لم يسم، ومن سمي وانفرد راو واحد بالرواية عنه". ففي النفس منه شيء.

ص: 163

قال ابن كثير: "وأهم ما فيه ما رفع إبهاما في إسناد، كما إذا ورد في سند: عن فلان بن فلان، أو عن أبيه، أو عن عمه، أو أمه، فوردت تسمية هذا المبهم من طريق أخرى، فإذا هو ثقة أو ضعيف أو ممن ينظر في أمره، فهذا أنفع ما في هذا".

ومن فوائد رفع الإبهام في المتن (1): تعيين من نسبت إليه فضيلة أو ضدها، أو أن يكون الحديث واردا بسببه وقد عارضه حديث آخر، فيعرف التاريخ إن عرف زمن إسلامه، فيتبين الناسخ من المنسوخ.

وهذه أمثلة حيوية لهذا النوع:

روى أبو داود (2) قال: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن ربعي بن حراش عن امرأته عن أخت لحذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء، أما لكن في الفضة ما تحلين به، أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به". أخت حذيفة بن اليمان اسمها فاطمة، وقيل خولة. وامرأة ربعي لم تعرفز مما يضعف الحديث (3).

وأخرج الخطيب البغدادي في كتاب الرحلة بسنده: عن معن بن عيسى حدثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد قال: سمعت ابن الديلمي يقول: بلغني حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص فركبت إليه إلى الطائف أسأله عنه

".

(1) انظرها مفصلة في كتاب المستفاد، ق 1 - 2 آ. والتدريب: 500 نقلا عنه.

(2)

في كتاب الخاتم "الذهب للنساء" وأخرجه النسائي أيضا.

(3)

المستفاد: ق 38 آ. وانظر تحقيق البحث في هذا الحديث وأحاديث تحلي النساء بالذهب في كتاب "ماذا عن المرأة؟ " للمؤلف: 89 - 100 و 186 - 200.

ص: 164

ابن الديلمي هذا هو عبد الله بن فيروز، وهو ثقة (1).

ونسوق إليك هذا المثال استقصيناه من مراجع هذا الفن الخاصة.

وهو حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت

" الرجل: عقبة بن عامر الجهني (2) ". أخرج الشيخان (3) عن عقبة قال: نذرت أختى أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لتمش ولتركب".

وأخت عقبة من المبهم أيضا، فقال العراقي وقطب الدين القسطلاني (4):"هي أم حبان بنت عامر". وهذا وهم منه، تعقبه الحافظ أبو ذر الحلبي (5) ثم قال: "إنما هي أم حبال

".

وللعلماء مصنفات كثيرة في هذا النوع، كالحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، والخطيب البغدادي، وأحسن ما صنف في هذا النوع كتاب "المستفاد من مبهمات المتن والإسناد" للحافظ ولي الدين أحمد العراقي " (826) ".

(1) الرحلة: 136 - 137. وتسمية عبد الله بن الديلمي وردت في المسند من طريق آخر برقم 6644 والمستدرك: 1: 30 - 31، وقال صحيح، وقال الذهبي: "صحيح على شرطهما ولا علة له". وانظر التعليق على المستند: 10: 167 - 171.

(2)

المبهمات للنووي ق 21 آ.

(3)

البخاري آخر الحج: 3: 20. ومسلم في النذر: 5: 79.

(4)

المستفاد: ق 38 ب. والمبهمات ق 15.

(5)

في توضيح مبهمات الجامع الصحيح ق 49 آ، لكن قال ابن حجر في الفتح: 4: 75: "لم يعرف اسم أخت عقبة بن عامر الجهني". وانظر مدي الساري: 2: 25.

ص: 165

2 -

من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة:

هذا فن عويص، والحاجة إليه حاقة. ومن فوائده: الأمن من جعل الواحد اثنين، والتحرز من توثيق الضعيف وتضعيف الثقة، وفيه إظهار تدليس المدلسين، فإن أكثر ذلك إنما نشأ من تدليسهم، يغربون به على الناس. فيذكرون الرجل باسم ليس هو مشهورا به، أو يكنونه ليبهموه على من لا يعرف.

مثاله (1): محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير، هو أبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق بن يسار حديث تميم الداري وعدي بن بدَّاء في قصتها التي نزل فيها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية في الوصية في السفر (2). وهو حماد بن السائب الذي روى عنه أبو أسامة حديث "ذكاة كل مسك دباغه"(3). وقد وهم فيه حمزة بن محمد ووثقه، حيث لم يعرف أنه الكلبي المتروك. وهو أبو سعيد الذي يروي عنه عطية العوفي

(1) بإيجاز عن موضع أوهام الجمع والتفريق: 2: 354 - 359.

(2)

أخرجه الترمذي في تفسير سورة المائدة: 2: 131 وأصل الحديث من غير طريق محمد بن السائب عند البخاري آخر الوصايا ج 4 ص 12 وأبي داود في الأقضية: 3: 307.

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك "كتاب الأطعمة" وقال: صحيح، ووافقه الذهبي: 4: 124. فلعل الحكم بالصحة لأصل المتن. أما هذا السند فليس بصحيح.

ص: 166

التفسير يدلس به، موهما أنه أبو سعيد الخدري. وهو أبو هشام الذي روى عنه القاسم بن الوليد الهمداني.

وقد صنف في هذا النوع الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي كتابا نافعا سماه "إيضاح الإشكال". وصنف فيه الخطيب البغدادي كتابا كبيرا قيما سماه "موضح أوهام الجمع والتفريق". تناول فيه بالتفصيل كل راو من هذا النوع، وما وقع فيه من الأوهام بسبب ذلك.

3 -

الأسماء والكنى:

المراد بهذا بيان أسماء ذوي الكنى، وكنى المعروفين بالأسماء.

وفائدته تسهيل معرفة اسم الراوي المشهور بكنيته، ليكشف عن حاله، والاحتراز عن ذكر الراوي مرة باسمه ومرة بكنيته فيظنهما من لم يتنبه لذلك رجلين، أو ربما ذكر بهما معا فيتوهم رجلين سقط بينهما حرف "عن" أو غيره.

ومن أمثلة الوهم في ذلك: ما روي عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن أبي الوليد عن جابر مرفوعا: "من صلى خلف الإمام، فإن قراءته له قراءة". وهذا وهم، عبد الله بن شداد هو أبو الوليد (1).

(1) شرح الألفية: 4: 79، والتدريب ص 45 وفيه تصحيف.

ص: 167

وعكس ذلك وقع للنسائي حيث قال: عن أبي أسامة حماد بن السائب، والصواب عن أبي أسامة عن حماد (1).

وهذا فن مطلوب لم يزل أهل العلم بالحديث يعنون به، ويتحفظونه ويتطارحونه فيما بينهم، ويتنقصون من جهله.

وقد ابتكر ابن الصلاح فيه تقسيما حسنا بلغ فيه العشرة، نكتفي منها بهذه الخمسة:

القسم الأول: من ليس له اسم سوى الكنية، مثاله: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي (2) عده بعضهم من فقهاء المدينة السبعة. وأبو بلال الأشعري الراوي عن شريك وغيره، روي عنه أنه قال: ليس لي اسم، اسمي وكنيتي واحد.

ومن أمثلته: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، فكأن لكنيته كنية، وهذا طريف عجيب.

القسم الثاني: من لا يعرف بغير كنيته. ولم يعرف اسمه، كما أنه لم يعرف هل كنيته هي اسمه أم له اسم غيرها: مثاله من الصحابة: أو أناس، وأبو مويهبة. ومن غير الصحابة: أبو الأبيض الراوي عن أنس بن مالك، أو حرب بن أبي الأسود الدبلي، أو حريز الموقفي، روى عنه ابن وهب.

القسم الثالث: من له كنيتان أو أكثر: كابن جريج كان يكنى

(1) موضح الأوهام: 2: 358 وانظر المرجعين السابقين.

(2)

لكن قال الذهبي في المقتنى: ق 12 آ "يكنى أبا عبد الرحمن". وقال مسلم في الكنى والأسماء ق: 47 ب: "يقال اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن". فلم يجزم به.

ص: 168

بأبي خالد وبأبي الوليد. وكان عبد الله العمري يكنى بأبي القاسم فتركها واكتنى بأبي عبد الرحمن.

القسم الرابع: من عرفت كنيته واختلف في اسمه: مثاله من الصحابة: أبو هريرة رضي الله عنه اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا جدا، وذكر ابن عبد البر (1) أن فيه ن حو عشرين قولا في اسمه واسم أبيه، واختار ابن إسحاق أنه عبد الرحمن بن صخر، وصحح ذلك أبو أحمد الحاكم. وجزم به الذهبي في المقتنى (2).

ومن غير الصحابة: أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، أكثرهم على أن اسمه عامر، وعن ابن معين أن اسمه الحارث.

القسم الخامس: من اشتهر بالامس دون الكنية: فممن يكنى بأبي محمد من هذا القسم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: طلحة بن عبيد الله التيمي، عبد الرحمن بن عوف الزهري، الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثابت بن قيس بن الشماس، عبد الله بن زيد صاحب الأذان، كعب بن عجزة، عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن عمرو بن العاص، .... الخ.

وهذا القسم جعله ابن الصلاح نوعا منفردا، لكنا أدرجناه في هذا النوع لأن ابن الصلاح نفسه قال: "يصلح لأن يجعل قسما من أقسام ذاك

". ويشهد لنا في ذلك أن الدولابي في كتابه "الكنى والأسماء" قد تعرض لبيان كنى المعروفين بالأسماء من الصحابة رضي الله عنهم (3).

"وقد جمع الحفاظ كتبا كثيرة، ومن أجلها وأطولها كتاب

(1) الاستيعاب والإصابة: 4: 200.

(2)

ق 76 - ب.

(3)

: 1: 63 - 94.

ص: 169

النسائي، ثم جاء بعده أبو أحمد الحاكم -محمد بن محمد " (378) "- فزاد وأفاد، وحرر وأجاد، -قال الذهبي- فرتبته واختصرته وزدته وسهلته" (1).

ومن الكتب القيمة في هذا الفن كتاب "الكنى والأسماء"، لأبي بشر الدولابي محمد بن أحمد " (310) "، وهو كتاب نفيس في مجلد.

4 -

ألقاب المحدثين:

اللقب هو ما يطلق على الإنسان مما يشعر بمدح أو ذم.

وهو نوع هام، فإن في الرواة جماعة لا يعرفون إلا بألقابهم، ومن لا يعرفهم يوشك أن يظنها أسامي، وأن يجعل من ذكر اسمه في موضع وبلقبه في موضع آخر شخصين، كما اتفق لكثير ممن ألف. ومنهم ابن المديني، فرقوا بين عبد الله بن أبي صالح وبين عباد بن أبي صالح. وإنما عباد لقب لعبد الله، لأ أخل له، باتفاق الأئمة (2).

قال الحاكم (3): "وفي الصحابة جماعة يعرفون بألقاب يطول

(1) اللفظ للذهبي في ديباجة المقتنى في الكنى، بتصرف يسير.

(2)

تدريب الراوي: 458.

(3)

في المعرفة: 211.

ص: 170

ذكرهم، فمنهم ذو اليدين، وذو الشمالين، وذو الغرة، وذو الأصابع، وغيرهم. وهذه كلها ألقاب، ثم بعد الصحابة في التابعين وأتباعهم من أئمة المسلمين جماعة ذوو ألقاب يعرفون بها".

ونسوق لك فيما يلي أمثلة لطيفة من ألقاب المحدثين:

1، 2 - قال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري:"رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضال، إنما ضل في طريق مكة، وعبد الله بن محمد الضعيف، إنما كان ضعيفا في جسمه لا في حديثه".

3 -

غندر: لقب محمد بن جعفر البصري أبي بكر، وسببه أنه أكثر على ابن جريج من الشغب، فقال له: اسكت يا غندر. والغندر هو المشغب عند الحجازيين. ثم كان بعده جماعة لقبوا بذلك.

4 -

بندار: لقب محمد بن بشار البصري شيخ البخاري ومسلم، وروى عنه الناس، لقب بهذا لأنه كان بندار الحديث أي مكثرا منه.

5 -

مطين: لقب أبي جعفر الحضرمي، قال: كنت ألعب مع الصبيان وقد تطينت، إذ مر بنا أبو نعيم الفضل بن دكين، فقال:"يا مطين، يا مطين، قد آن أن تحضر المجلس لسماع الحديث". فلما حملت إليه بعد ذلك بأيام فإذا هو قد مات.

وتنقسم الألقاب إلى ما يجوز إطلاقه، وهو مالا يكرهه الملقب. وإلى ما لا يجوز، وهو ما يكرهه الملقب.

وإذا ذكر المحدثون لقبا مكروها إلى صاحبه، فإنما يذكرونه على سبيل التعريف للشخص والتمييز عن غيره، لا على وجه الذم واللمز والتنابز (1) كالأعمش، والأعرج.

(1) اختصار علوم الحديث: 220.

ص: 171

وقد صنف في الألقاب غير واحد، منهم: أبو الفضل بن الفلكي الحافظ. وأفضل تأليف هو تأليف شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر العسقلاني (1).

5 -

المنسوبون إلى غير آبائهم:

معرفة الأب الذي ينتسب إليه الراوي ضرورية لتمييزه عن غيره، إلا أن بعض الرواة قد ينسب إلى غير أبيه، فالحاجة لمعرفة هؤلاء حاقة، وتسمية آبائهم هامة جدا لدفع توهم التعدد عند نسبتهم إلى آبائهم.

وهذا النوع بالنسبة لمن ينسب إليهم الرواة على ضروب:

الأول: من نسب إلى أمه: كمعاذ ومعوِّذ ابني عفراء، وهما اللذان أثبتا أبا جهل يوم بدر، أبوهم الحارث بن رفاعة الأنصاري، ومثل: ابن أم مكتوم الأعمى المؤذن، وكان يؤم الناس أحيانا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيبته، قيل: اسمه عبد الله بن زائدة، وقيل: عمرو بن قيس.

ومن التابعين فمن بعدهم: محمد ابن الحنفية واسمها خولة، وأبوه علي بن أبي طالب. إسماعيل ابن علية الحافظ، هي أمه وأبوه إبراهيم، وكان يكره النسبة إلى أمه.

(1) التدريب: 458 - 459.

ص: 172

الثاني: من نسب إلى جدته، مثل بشير ابن الخصاصية، أبوه معبد، والخصاصية أم جده الثالث، وابن تيمية، هي أم أحد أجداده الأبعدين.

الثالث: من نسب إلى جده، كأبي عبيدة ابن الجراح أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو عامر بن عبد الله بن الجراح. ومن غير الصحابة: ابن جريج الإمام الحافظ المحدث، هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. وأحمد ابن حنبل الإمام المبجل، هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني.

الرابع: من نسب إلى رجل غير أبيه هو منه بسبب، كالمقداد ابن الأسود الصحابي، هو المقداد بن عمرو الكندي، كان في حجر الأسود بن عبد يغوث الزهري زوج أمه، فتبناه فنسب إليه.

6 -

النسب التي على خلاف ظاهرها:

معرفة أنساب الرواة هامة ومفيدة لتمييز الراوي عن غيره، ومن لم يتنبه لهذا وقع في الخطأ، مثل ما وقع لابن حزم حيث ضعف حديث:"لا يمس القرآن إلا طاهر" لأن في سنده سليمان بن داود، وهو متفق على تركه. وهو وهم فإن المتفق على ترك حديثه سليمان بن

ص: 173

داود اليماني، وهذا الحديث من رواية سليمان بن داود الخولاني وهو ثقة (1).

لكن الراوي قد ينسب إلى غير قبيلته أو غير بلدته أو صنعته.

ولا يكون هذا النسب مرادا حقيقة، بل نسب إليه لسبب عارض كنزوله في ذلك المكان، أو تلك القبيلة ونحو ذلك مما ينبغي التنبه له، حتى لا يقع الباحث في الوهم.

ومن أمثلة ذلك:

سليمان بن طرخان التيمي، لم يكن من تيم، وإنما نزل فيهم فنسب إليهم، وقد كان من موالي بني مرة.

أبو خالد الدالاني، دالان بطن من همدان، نزل فيهم أيضا، وإنما كان من موالي بني أسد.

مقسم مولى ابن عباس، هو مولى عبد الله بن الحارث، لزم ابن عباس، فقيل له: مولى ابن عباس.

خالد الحذاء، لم يكن حذاء، ووصف بذلك لجلوسه في الحذائين.

وقد صنف العلماء في الأنساب كتبا جمة، أكثرها نفعا كتاب "الأنساب" للسمعاني، لخصه ابن الأثير في كتاب قيم سماه "اللباب في الأنساب".

(1) سبل السلام: 1: 70 وانظر نيل الأوطار: 7: 20. وفي الحديث بحث من غير هذا الجانب، استوفيناه في دراسات تطبيقية ص 99 - 102 وانظر التلخيص الحبير ص 336 - 337 ونصب الراية ج 1 ص 196 - 199.

ص: 174

7 -

الموالي من الرواة والعلماء:

الأصل في نسبة الراوي إلى قبيلة أن يكون منهم صليبة، كقولهم: قرشي أي من أولاد قريش، وإذا نسبوا إليها من ينتمي إليها بالولاء أضافوا كلمة مولى، فقالوا: مولى قريش، أو القرشي مولاهم.

والولاء أقسام (1) منها: ولاء العتاقة، وولاء الإسلام، وولاء الموالاة أي الحلف. إلا أن المولى ربما نسب إلى القبيلة دون التنبيه الذي ذكرناه، فيعتقد المرء أنه منهم صليبة، لذلك عني العلماء بمعرفة الموالي حتى لا يختلط من ينسب إلى القبيلة بالولاء مع من ينسب إليها من صلبها، وليتميز عن سميه المنسوب إليها صليبة.

ومن الأمثلة على ذلك:

أبو البختري الطائي: سعيد بن فيروز التابعي، هو مولى طيء لأن سيده كان من طيء فأعتقه.

عبد الرحمن بن هرمز الأعرج الهاشمي، هو مولى بني هاشم بالعتاقة.

الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، مولى الجعفيين لإسلام جده الأعلى على يد بعض الجعفيين.

(1) استوفاها فضيلة شيخنا الجليل محمد السماحي في قسم الرواة: 207 - 209.

ص: 175

الإمام مالك بن أنس الأصبحي التيمي، هو أصبحي صليبة، وتيمي بولاء الحلف، لأن جده مالك بن أبي عامر كان حليفا لبني تيم.

والبحث في الموالي يقدم إلينا صورة مشرقة عن أثر الإسلام في إنهاض الشعوب ومحو الفروق بين الطبقات، إذ رفع من شأنهم مع أن أعراف سائر الأمم تعتبر أمثالهم طبقة دنيا لا يسمح لها أن تطمع بمساواة ساداتها، فضلا عن أن تطمح إلى المعالي والسيادة.

لكن ديننا الإسلامي جعل سيادة الفرد وكرامته ما يتحلى به من الفضائل والخير، كما قرر القرآن:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .

وهذه قصة قصيرة يرويها لنا الزهري تفصح عما بلغه هؤلاء في ظل الإسلام:

قال الزهري: "قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة.

قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ ، قلت: من الموالي. قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية! ! . قال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا.

قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قال: قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: إنه لينبغي.

قال: فمن يسود أهل مصر؟ قال: قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.

ص: 176

قال: من يسود أهل الشام؟ قال: قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي قال: قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل.

قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قال: قلت: ميمون بن مهران. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.

قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.

قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.

قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها! ! .

قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد ومن ضيعه سقط.

8 -

أوطان الرواة وبلدانهم:

وهو ما يعتني به كثير من علماء الحديث، يفتقرون إليه في كثير من تصرفاتهم.

ص: 177

وقد كانت العرب إنما تنتسب إلى قبائلها، فلما جاء الإسلام وغلب عليهم سكنى القرى والمدائن حدث فيما بينهم الانتساب إلى الأوطان، كما كانت العجم تنتسب.

والمقرر في العرف في هذا أن من كان من قرية فله الانتساب إليها بعينها، وإلى مدينتها إن شاء أو إقليمها. ومن كان من بلدة ثم انتقل منها إلى غيرها فله الانتساب إلى أيهما شاء. والأحسن أن يذكرهما، فيقول مثلا الشامي ثم العراقي.

وهذا العلم تترتب عليه فوائد مهمة، منها: معرفة شيخ الراوي، فربما اشتبه بغيره فإذا عرفنا بلده تعين بَلَدِيُّه غالبا. وهذا مهم جليل، فضلا عن تعيين شخص الراوي أيضا وتمييزه عمن يشابهه في الاسم. وقد يتعين به المهمل، ويظهر الراوي المدلس، ويعلم تلاقي الرواة (1). وقد يتبين به ما وقع من ضعف في حديث الراوي، مثل معمر بن راشد الإمام: قال يعقوب بن شيبة: "سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب لأن كتبه لم تكن معه"(2).

9 -

الأسماء المفردة والكنى والألقاب:

كثيرا ما نجد الاسم يطلق على أكثر من شخص، مثل: علي، وسعد، وكذلك الكنية واللقب.

(1) قسم الرواة: 210 - 212.

(2)

شرح العلل: 602، ونحوه عن أبي حاتم في المغني:6365.

ص: 178

أما هذا النوع فقد خص المحدثون به الأسماء والكنى والألقاب التي لا يوجد في الرواة من يحملها إلا واحد فقط، وهو نوع مليح عزيز. لكن الحاكم فيه على خطر من الخطأ والانتقاض، فإنه حصر في باب واسع شدسد الانتشار.

وهذا أمثلة لهذا النوع:

صُدَيّ بن عجلان هو أبو أمامة الصحابي، شَكَل بن حميد صحابي، شَمْغُون بن زيد أبو ريحانة صحابي، سَفينة لقب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أوسط بن عمرو البجلي، أبو السليل البصرين أو العشراء الدارمي تابعيون.

ومن المسائل الطريفة: رجل لا يوجد مثل أسماء آبائه فمن هو؟

هذا هو: "مسدد بن مسرهد بن مسربل".

وفائدة حصر هذه الأسماء أنه بمجرد ذكرها نعرف الراوي المقصود، لعدم من يشاركه في اسمه أو كنيته أو لقبه، وضبط ما تدعو إليه الحاجة مخافة التصحيف والتحريف.

ومن أشهر المصنفات فيه كتاب "الأسماء المفردة" للإمام أحمد بن هارون البرديجي.

ص: 179

10 -

المتفق والمفترق من الأسماء والأنساب ونحوها:

وهو ما يتفق لفظا وخطًّا، أي أن يكون الاسم الواحد قد أطلق على أكثر من راو، فهم متفقون في اسمهم مفترقون في شخصهم، وهو فن مهم جدا، لا غنى عن معرفته للأمن من اللبس، فربما يظن الأشخاص شخصا واحدا، وربما يكون أحد المتفقين ثقة والآخر ضعيفا، فيضعف ما هو صحيح، أو يصحح ما هو ضعيف.

وقد ذكر له أبو عمرو بن الصلاح أقساما، نذكر منها:

القسم الأول: من اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم. مثاله: أنس بن مالك، عشرة. روى منهم الحديث خمسة: الأول خادم النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني كعبي قُشَيري روى حديثا واحدا، والثالث والد الإمام مالك، والرابع حمصي، والخامس كوفي.

القسم الثاني: من اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم:

مثاله: أحمد بن جعفر بن حمدان، أربعة: القطيعي راوية المسند والبصري، والدينوري، والطرسوسي.

القسم الثالث: ما اتفق في الكنية والنسبة معا:

مثاله: أبو عمران الجوني، اثنان: أحدهما عبد الملك بن حبيب التابعي، الثاني اسمه موسى بن سهل، بصري، سكن بغداد.

ص: 180

القسم الرابع: المشترك المتفق في النسبة خاصة:

ومن أمثلته: "الآملي"و"الآملي". الأول إلى آمل طبرستان، والثاني إلى آمل جيحون. قال أبو سعد السمعاني:"أكثر أهل العلم من أهل طبرستان من آمل". وأكثر من ينسب إليها يعرف بالطبري. وشهر بالنسبة إلى آمل جيحون عبد الله بن حماد الآملي شيخ البخاري (1).

"السروي" و"السروي" الأول منسوب إلى بلدة "سارية" من طبرستان، منهم محمد بن صالح السروي الطبري، ومحمد بن حفص السروي. الثاني: منسوب إلى مدينة بأردبيل يقال لها "سرو"، منها نصر السروي الأردبيلي (2).

ثم إن ما يوجد من المتفق والمفترق غير مقرون ببيان فالمراد به قد يدرك بالنظر في رواياته فكثيرا ما يأتي في بعضها، وقد يدرك بالنظر في حال الراوي والمروي عنه.

وقد زلق بسبب الاتفاق بين الرواة في الاسم أو غير واحد من الأكابر، ولم يزل الاشتراك من أسباب الغلط في كل علم.

وللخطيب فيه كتاب "المتفق والمفترق" وهو كتاب نفيس.

وصنف الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المتوفى سنة (507) هجرية كتابا في القسم الأخير فقط سماه "الأنساب المتفقة"، نبه فيه على فوائد مهمة. وصنف أبو الحسن محمد بن حيوية في قسم من هذا النوع سماه "من وافقت كنيته كنية زوجته من الصحابة" مثل أم أيوب الأنصارية زوج أبي أيوب، أم معقل الأسدية زوج أبي معقل (3).

(1) الأنساب المتفقة ص 4. واللباب: 1: 16.

(2)

الأنساب المتفقة: 72.

(3)

ق 124 آو 129 من الكتاب المذكور.

ص: 181

11 -

المؤتلف والمختلف من الأسماء والأنساب وما يلتحق بها:

وهو ما تتفق في الخط صورته، وتختلف في النطق والتلفظ صيغته.

وهو منتشر لا ضابط في أكثره يعول عليه، وإنما يضبط بالحفظ تفصيلا.

والضبط في الأسماء التي أمكن ضبطها من هذا النوع على قسمين نذكرهما مع الإيضاح بالمثال:

القسم الأول: الضبط على العموم أي ضبط الاسم بالنسبة لكافة الرواة الذين يسمون به من غير اختصاص بكتاب معين.

من ذلك: "حزام" بالزاي والحاء المكسورة في قريش، "حرام" بالراء وفتح الحاء في الأنصار (1).

أبو عبيدة: كله بضم العين. قال الدارقطني: لا نعلم أحدا يكنى أبا عبيدة بالفتح.

الأذرعي: بالذال المعجمة، إسحاق بن إبراهيم الأذرعي، والأدرعي بالدال المهملة جماعة ينسبون إلى الأدرع وهو أبو جعفر محمد بن عبيد الله من أشراف آل البيت قتل أسدا أدرع فسمي به (2).

(1) المراد بذلك ضبط ما في قريش والأنصار فقط وهذا لا يمنع وجود الاسمين في غير المكيين والمدنيين كما نبه في شرح الألفية: 4: 89. وانظر هذه المادة في المشتبه للذهبي: 24.

(2)

الإكمال: 1: 137 - 138.

ص: 182

عيسى بي أبي عيسى الحناط، بالحاء المهملة والنون، نسبة إلى بيع الحنطة. والخباط بالمعجمة مع الموحدة نسبة إلى بيع الخبط الذي تأكله الإبل، والخياط بالخاء المعجمة مع الياء نسبة إلى الخياطة، كلها جائزة في هذا الرجل، لأنه باشر هذه الحرف الثلاث، وأولها أشهر (1).

القسم الثاني: الضبط على الخصوص أي ضبط ما كان من هذا النوع في كتاب معين أو كتابين، كضبط ما في الصحيحين مع ذلك، أو فيهما مع الموطأ، أو في أحد هذه الثلاثة. وقد خص ضبط ألفاظها وشرحها، وضبط رواتها القاضي عياض بكتاب سماه "مشارق الأنوار على صحاح الآثار".

ومن أمثلة ما جاء فيه قوله: "فيها- أي الكتب الثلاثة المذكورة- بريد بن عبد الله بن أبي بردة: بضم الباء وفتح الراء بعدها ياء التصغير لا غير، ومحمد بن عرعرة بن البرند هذا بكسر الباء والراء وبعدها نون ساكنة، وعلي بن هاشم بن البريد هذا بفتح الباء وكسر الراء بعدها ياء باثنتين تحتها ساكنة. وما عدا هؤلاء الثلاثة فيها "يزيد" بياء باثنتين تحتها، بعدها زاي"(2).

"حصين: كله بالضم والصاد المهملة، إلا أبا حصين عثمان بن عاصم فبالفتح، وأبا ساسان حضين بن المنذر فبالضم والضاد المعجمة، وحضير والد أسيد بن حضير أحد النقباء ليلة العقبة"(3).

وغير ذلك من أمثلة القسمين كثير توسع فيها ابن الصلاح وذكر جملة مهمة لو رحل فيها طالب العلم لما كان كثيرا".

(1) علوم الحديث وغيره. وانظر المشتبه: 252 والمغني رقم 4821.

(2)

مشارق الأنوار: 1: 100.

(3)

مشارق الأنوار: 1: 222.

ص: 183

وفائدة هذا النوع منع وقوع الوهم في اسم الراوي، أو خلطه بغيره، ومن لم يعرفه كثر عثاره ولم يعدم مخجلا.

وقد صنفت في هذا الفن كتب كثيرة جدا (1). نذكر منها هذه الكتب المطبوعة الهامة:

1 -

"الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب"، لابن ماكولا علي بن هبة الله المتوفى سنة (475) هـ ويبلغ بتمامه ثمانية أجزاء، قال في مطلعه (2):"آثرت أن أعمل في هذا الفن كتابا جامعا لما في كتبهم وما شذ عنها، وأسقط ما لا يقع الإشكال فيه مما ذكروه، وأذكر ما وهم فيه أحدهم على الصحة".

2 -

المشتبه" للإمام الذهبي جمع فيه كتاب ابن ماكولا والكتب التي استدركت عليه وغيرها وقال (3): "العمدة في مختصري هذا على ضبط القلم .. فأتقن يا أخي نسختك، واعتمد على الشكل والنقط، وإلا لم تصنع شيئا".

3 -

"تبصير المنتبه بتحرير المشتبه"، للحافظ ابن حجر، وهو أحسن الكتب حيث إنه مضبوط ضبطا مبينا بالكتابة، كما أنه استدرك ما فات الذهبي رحمهما الله.

(1) ذكر منها العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني ستة وعشرين كتابا في تقدمته لكتاب الإكمال وعرف بها.

(2)

ج 1 ص 2.

(3)

ج 1 ص 2.

ص: 184

12 -

المتشابه:

هذا النوع يتركب من النوعين السابقين، وهو: أن يتفق اسم شخصين أو كنيتهما التي عرفا بها، ويوجد في نسبهما أو نسبتهما الاختلاف والائتلاف الذي عرفناه، أو على العكس من هذا، بأن يختلف ويأتلف اسماؤهما، ويتفق نسبتهما أو نسبهما اسما أو كنية.

ويلتحق بالمؤتلف، والمختلف فيه ما يتقارب ويشتبه، وإن كان مختلفا في بعض حروفه في صورة الخط.

فمن أمثلة الأول: موسى بن علي بفتح العين، يطلق على جماعة، وموسى بن علي -بضم العين وفتح اللام- ابن رباح اللخمي، عرف بضم العين في اسم أبيه.

ومنه: محمد بن عبد الله المخرمي. ومحمد بن عبد الله المخرمي. ومنه: أبو عمرو الشيباني، وأبو عمرو السيباني.

ومما يتقارب ويشتبه مع الاختلاف في الصورة: ثور بن يزيد الكلاعي، وثور بن يزيد الديلي.

ومن أمثلة القسم الثاني: الذي هو العكس: عمرو بن زرارة، وعمر بن زرارة. حين الأسدي، وحنان الأسدي.

وقد صنف فيه الخطيب كتابا سماه "تلخيص المتشابه في الرسم" هو من أحسن كتبه.

ص: 185

13 -

المشتبه المقلوب:

ونوضحه لك بأنه: أن يكون اسم أحد الراويين مثل اسم أبي الآخر خطًا ولفظًا واسم الآخر مثل اسم أبي الأول، فينقلب على بعض المحدثين.

مثاله: يزيد بن الأسود، والأسود بن يزيد، وكذلك الوليد بن مسلم ومسلم بن الوليد. وقد انقلب هذا الثاني على البخاري في تاريخه إذ ذكره فيه فقال:"الوليد بن مسلم" ونبه على هذا الوهم الإمام ابن أبي حاتم الرازي (1). وللخطيب في هذا النوع كتاب سماه "رفع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب"(2).

نتيجة الفصل:

من هذه الدراسة لأنواع الحديث المبينة لشخص الراوي نخلص إلى نتيجة جوهرية، هي شمول أبحاثه كل ما يتوصل به إلى معرفة شخص الراوي وتحديده من جميع النواحي الزمانية، والمكانية، والأسمية.

(1) انظر هذا في تاريخ البخاري: 4/ 2/ 153، والتنبيه عليه في كتاب "خطأ البخاري في تاريخه": 130 وفي "الجرح والتعديل": 4/ 1/ 1971.

(2)

وهذا النوع يذكر في أقسام الحديث المقلوب سندا، فنكتفي بالتنبيه عليه هنا عن إعادته هناك.

ص: 186

ففي الناحية الزمنية درس المحدثون موقع الراوي من الأجيال السابقة واللاحقة، ومن جيله الذي عاش فيه، "المدبج ورواية الأقران".

وتعمقوا حتى عرفوا موقعه في الرواية من أسرته في فنون الأخوة، والآباء، والأبناء.

وفي الناحية المكانية عنوا بأوطان الرواة، وتنقلاتهم، وتبينوا ما قد يطرأ منها على الراوي مما يؤثر في حديثه.

وفي أسماء الرواة شملوا كل ما يتصل بها حيث عنوا بإزالة الإبهام وتعيين أسماء الرواة وآبائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وضبطوا ذلك بغاية الدقة، وبينوا ما هو ظاهره من الأنساب وما ليس على ظاهره.

ثم قاموا بجهود عظيمة في مقابلة أسماء الرواة وكناهم وألقابهم وأنسابهم لتمييز ما يتشابه منها عن بعضه ودرسوها من جميع أوجه التشابه: من التماثل كتابة ونطقا "المتفق والمفترق"، أو كتابة لا نطقا "المؤتلف والمختلف"، أو ما يقع فيه الأمران طردا أو عكسا "المتشابه"، ثم "المتشابه المقلوب".

وهكذا أتوا على كل أوجه البحث، وتوصلوا إلى نتائج هامة فيما يقبل من حديث الراوي وما يرفض وما يتصل من سنده وما ينقطع، وميزوا كل راو عما سواه تمييزا بالغا دقيقا ليوضع تحت منظار الجرح والتعديل، وينزل في موضعه المناسب.

ص: 187

‌الباب الثالث: في علوم رواية الحديث

معنى الرواية عند المحدثين: حمل الحيث ونقله وإسناده إلى من عزي إليه بصيغة من صيغ الأداء (1).

وقواعد هذا الباب تبحث في المنهج العلمي للرواية في أخذ الراوي للحديث الذي سماه العلماء "التحمل". ثم في تبليغه الذي أطلقوا عليه: "الأداء". وما ينبغي أن يكون عليه حال التحمل والأداء من الأدب، والإخلاص، والتحري، والاتقان، وذلك يتصل بعلوم الرواة بسبب قوي.

كما أن لهذه العلوم أهمية بالغة في أصول الحديث، لأنها تلقي لنا الضوء على المنهجية الدقيقة التي اتبعها علماء الإسلام في تلقي الحديث وتبليغه، والروح الإيمانية العظيمة التي دفعتهم لبذل أقصى الجهود لحفظ الحديث ونشره، بغاية الأمانة والحيطة التي يريدها العلم.

1 -

معنى "حمله ونقله" أي تلقيه ثم تبليغه، فمن لم يبلغ شيئا لا يكون راويا، وقولنا:"وإسناده إلى من عزي إليه". أني نسبته إلى قائله، فلو تحدث بالحديث ولم ينسبه إلى قائله لم يكن ذلك رواية. المنهج الحديث: قسم الرواية: (29).

(1) معنى "حملة ونقله" أي تلقيه ثم تبليغه، فمن لم يبلغ شيئا لا يكون راويا، وقولنا "وإسناه إلى من عزي إليه". أي نسبته إلى قائله، فلو تحدث بالحديث ولم ينسبه إلى قائله لم يكن ذلك رواية. المنهج الحديث: قسم الرواية: 29.

ص: 188

ويشتمل الباب على خمسة أنواع من علوم الحديث هي:

1 -

آداب طالب الحديث.

2 -

آداب المحدث.

3 -

كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه.

4 -

صفة رواية الحديث وشرط أدائه.

5 -

كتابة الحديث وكيفية ضبطة.

وفي الباب فروع كثيرة عديدة، سنسلك في عرضها طريق الاختصار والاقتصار على ما يتعلق بالمقصود.

1 -

آداب طالب الحديث:

وهي آداب كل طالب علم تبين له كيف ينهج في تحصيل العلم لكن عين بها المحدثون وخصوا بها طالب الحديث لأهمية شأن علمه وإليك تلخيصها فيما يلي:

1 -

الإخلاص لله تعالى:

وهو أول ما يجب عليه، فليجعل اشتغاله بالتحصيل خالصا لابتغاء مرضاة الله تعالى ولما أعده من جزيل الأجر. ففي الحديث المتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قال:"نضر الله امرًأ سمع مقالتي فبلغها"(1)

(1) انظر ما سبق 38، وتدريب الراوي: 374، وكشف الخفاء: 2: 319.

ص: 189

وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: "ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لم أراد الله به".

وليحذر طالب العلم، وطالب الحديث خاصة من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية، وقد صح في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: "

ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى كب في النار". أخرجه مسلم (1).

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة". يعني ريحها. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (2).

وقال حماد بن سلمة -وكان من الأبدال رضي الله عنه: "من طلب الحديث لغير الله مكر به".

قال ابن الصلاح: "ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد بن حمدان وكانا عبدين صالحين: فقال له: "بأي نية أكتب الحديث؟ "

(1) في الإمارة: 6: 47.

(2)

أبو داود بلفظه في العلم عن أبي هريرة: 3: 323، والترمذي بنحوه عن ابن عمر: وحسنه: 5: 33 وابن ماجه بمثل أبي داود رقم 252. وانظر تهذيب السنن: 5: 255.

ص: 190

فقال: "ألستم تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ " قال: "نعم" قال: "فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين".

وليسأل الله تعالى التيسير والتأييد، والتوفيق، والتسديد، وليأخذ بالأخلاق الزكية، والآداب المرضية، كما قال أبو عاصم النبيل:"من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين، فيجب أن يكون خير الناس".

2 -

الجد في الأخذ عن العلماء:

فإنه يجب على طالب الحديث أن يشمر عن ساق جده واجتهاده في التلقي عن المشهورين بالعلم والدين والورع، ولو كانوا في غير معهده العلمي، وقد كان طلبة العلم يرحلون من أجل ذلك على الرغم من وعورة الطرق وصعوبة المركب، حتى قالوا في طلب الحديث الذي لا يرحل:"لا تأنس منه رشدا".

3 -

العمل بالعلم:

وقد ضرب القرآن لمن لم يعمل بعلمه أسوأ المثل، وجعله عبرة إلى الأبد في قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} .

وقال وكيع بن الجراح شيخ الإمام الشافعي: "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به".

4 -

احترام الأساتذة وتوقيرهم:

يجب على الطالب أن يوقر شيوخه وأساتذته، ومن يتلقى عنه فذلك من إجلال الحديث والعلم، وأن يحفظ أستاذه شاهدا وغائبا، ولا يطلبن عثرته، وليكن ذلك كله لله.

ص: 191

ولا يكن ممن يمنعه الخجل أو يحجبه الكبر عن طلب العلم والسؤال، فقد قال مجاهد رضي الله عنه:"لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر". حتى لو كانت الفائدة عند من هو دونه، فقد قال وكيع بن الجراح:"لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله، وعمن هو دونه".

5 -

بذل الفائدة لزملائه الطلاب:

وذلك من أول فائدة طلب الحديث والعلم، ومن كتم عن إخواته شيئا من الفوائد لينفرد بها عنهم كان جديرا بأن لا ينتفع به كما ذكر العلماء.

وقال مالك رضي الله عنه "من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا".

6 -

اتباع منهج علمي متدرج في طلب الحديث:

وهذا أمر في غاية الأهمية كثيرا ما ساء لنا عنه طلبة العلم، وقد لخصنا للراغب في ذلك أصول هذا المنهج مما يتعلق بدراسة المراجع:

فأهم كتب الحديث رواية: ما صنف في عصر التدوين، وهي المراجع الأصلية لرواية الحديث، وعلى رأسها الموطأ للإمام مالك، فإنه أيسر لاختصاره، وقصر أسانيده، وحسن انتقاء أحاديثه، والصحيحان، ثم يعتني بسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ضبطا لمشكلها وفهما لخفي معانيها.

ومن المسانيد بعد ذلك: المسند للإمام أحمد بن حنبل، ومسند أبي يعلى الموصلي، فقد قيل:"المسانيد كالأنهار ومسد أبي يعلى كالبحر".

ثم يعتني بالكتب الجامعة التي تجمع أحاديث عدة كتب، وبمراجع التخريج التي صنفت لتخريج أحاديث كتاب معين.

ص: 192

وسنفصل الكلام عليها، وعلى أنواع المصنفات في الحديث النبوي، في النوع التالي إن شاء الله تعالى.

وليعتن بالشروح الحديثية، وأهمها "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر، و"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للإمام النووي.

وكتاب "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير، فإنه يعتني بالإيضاح التام لمفردات الأحاديث، ولغة النبوة، حتى كأنه شرح مختصر لكل الحديث النبوي.

وأهم ما يحرص عليه طالب العلم أنه كلما مر به حديث لا يعرفه بحث عنه ودرسه، وكذا إذا مر به اسم أو كلمة مشكلة أو مسألة في العلم بحث عنها ودرسها، وأودع ذلك سويداء قلبه، فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في سهولة ويسر.

7 -

العناية بمصطلح الحديث:

فإنه لا غنى بطالب الحديث عنه مهما أكثر من حفظ الحديث ورواياته، لأنه يستفيد منه بدونه، لأن فن علوم الحديث يفصح عن أصول الحديث، وفروعه، ويشرح مصطلحات أهله ومقاصدهم ومهماتهم، ينقص المحدث بالجهل به نقصانا فاحشا، ويتعطل بحرمانه منه استكمال الفائدة من تراث السنة العظيم.

ص: 193

2 -

آداب المحدث:

وهي آداب يحتاج إليها كل من يتصدر مجالس العلم، أو يتصدى للتدريس، نبه عليها المحدثون وحضوا عليها من يتصدى للتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلمن نلخصها فيما يلي:

1 -

الإخلاص وتصحيح النية:

والإخلاص روح الأعمال، ولبها، أمر به جميع الأنبياء، وبعثوا بالدعوة إليه، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} . وعالم الحديث ينبغي أن يكون أبعد الناس عن الرياء وحب الدنيا، ليفوز بنفحات النبوة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 -

التحلي بالفضائل:

فإن علوم الشريعة علوم شريفة تناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وتقتضي استقامة الأمر والسلوك. وعلم الحديث من أولى هذه العلوم بذلك، فجدير بالمحثد أن يفوق غيره في ذلك كما كان سلفه من علماء الحديث. ليكون جديرا بالنسب، كما قال القائل:

أهل الحديث هم آل النبي وإن

لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

3 -

مراعاة الأهلية للتحديث:

معنى مراعاة الأهلية أن لا يجلس للتحديث إلا إذا كان أهلا لذلك، سواء كان في سن مبكرة أو متأخرة.

ص: 194

وقد أنشد بعض البغداديين:

إن الحداثة لا تقصر

بالفتى المرزوق ذهنا

لكن تذكي قلبه

فيفوق أكبر منه سنا

وضابط ذلك ما قاله ابن الصلاح: "إنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لروايته ونشره في أي سن كان"(1).

فإذا ما توفر فيه ذلك فليحرص على إفادة علم الحديث ونشره ما وسعه ذلك.

4 -

التقاعد متى خاف الغلط:

وهذا موضوع طريف جدا، يدل على انتظام الأمور في ظل الحضارة الإسلامية، إذ سبق العلماء إلى تحديد ما تسميه قوانين الموظفين "سن التقاعد".

وبالنظر لما امتن الله به المحدثين من طول العمر فقد جعلوا سن التقاعد هو الثمانين لأن الغالب على من بلغ هذا السن اختلال الجسم والذكر، وضعف الحال، وتغير الفهم. وإلا فإنه ينبغي للعالم الإمساك عن التحديث وعن عقد دروس العلم متى خالف التخليط ولو كان دون هذه السن (2).

5 -

توقير من هو أولى منه:

وهذا من أخلاق العلماء الكملة، إذ يحذرون التقدم على من هو أولى منهم لكبر السن، أو فضل في العلم.

(1) علوم الحديث 213. وقد حدد الرامهرمزي في المحدث الفاصل ق 43 آالأهلية بسن الخمسين وناقشه في ذلك القاضي عياض نقاشا قيما في الإلماع: 200 - 204 فانظرها.

(2)

انظر المحدث الفاصل: 354. والالماع: 204 - 209.

ص: 195

"وكان إبراهيم النخعي والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء" كما ينبغي للعالم إذا التمس منه ما يعلمه عند غيره أعلى منه أو أرجع أن يعلم الطالب به، ويرشده إليه، فإن الدين النصحية.

6 -

توقير الحديث والتأهب لمجلس التحديث:

فإن الحديث كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يكون في نفس المحدث استشعار توقيره، وذلك بأن يتأهب للمجلس من حيث الثياب والطهارة، وينبغي أن يعني بأسلوب الألقاء فإنه أمر ضروري، ومن الواجب أن يراجع المحدث أو المدرس المادة العلمية، ويعد في نفسه طريقة أداء كل قسم، وينوع الأسلوب، فتارة يخبرهم، وتارة يلقي عليهم المسألة سؤالا، وهكذا ليشوقهم ويشركهم في المجلس.

وينبغي له مع أهل مجلسه العلمي ما قال حبيب بن أبي ثابت "إن من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعا".

وليعمد للوسائل والأساليب المفهمة الموضحة التي تساعد على رسوخ الكلام في الذهن، على نحو ما سبق أن ذكرناه (1) م سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحديث أصحابه الكرام رضي الله عنهم.

7 -

الاشتغال بالتصنيف والانتاج العلمي:

لمن توفرت فيه الأهلية لذلك، فإنه يفتح له من مغاليق العلم، ويوسع أمامه من مجاله ما لم يكن بحسبانه، كما أن كل عصر له شأن خاص يحتاج إلى تجديد في الأسلوب وفي الموضوعات والأفكار، بحسب ما يتطلبه حال الناس من الناحية الفكرية والأخلاقية والعلمية

وقد حجر واسعا من قال: "ما ترك الأول للآخر". ومن تأمل ومارس قال: كم ترك الأول للآخر! .

(1): 38 - 39.

ص: 196

وينبغي لم يتصدى للتصنيف:

أن يخلط في عمله فائدة جديدة، إما باشتغال مصنفه على ابتكار فكرة أو نظرية جديدة، توصل إليها باجتهاده، أو حسن ترتيب وتنسيق. أو حل لمشكل وإيضاح لغامض، أو تجديد أسلوب يقدم به المادة العلمية في ثوب يناسب عصره. كذلك ينبغي له أن لا يتعرض للتصنيف فيما لا يحسن من الفنون، اغترارا بعدم اكتشاف الناس لأمره، أو طلبا للسمعة بكثرة المؤلفات وتنوعها، ومن فعل ذلك تقع له السقطات، وتكثر منه الهنات.

وحسن التصنيف أمنية عظيمة، وموهبة إلهية، نرجو الله أن يتفضل بها علينا، ويجعل عملنا في ذلك خالصا لوجهه الكريم، مقبولا عنده، نافعا لعباده.

ص: 197

‌الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي

وقد نوع المحدثون التصانيف، وتفننوا فيها، مما يجعل تصانيفهم بتنوعها هذا ملبية للمطالب التي يتطلع إليها العلماء والباحثون في المراجع. وأهم أنواع التصنيف الأنواع الآتية (1):

أولا: الكتب المصنفة على الأبواب

ووقع في كتب المتقدمين إطلاق "الأصناف" عليها.

وطريقة هذا التصنيف: أن تجمع الأحاديث ذات الموضوع الواحد

(1) درسنا أنواع المصنفات الحديثية بتوسع في كتابنا "تصدير معجم المصنفات في الدراسات الحديثية". وهو بحث مبتكر يدرس الأدوار التاريخية لعلم الحديث حسب التقسيم الذي توصلنا إليه. وأشهر الأعلام في علم الحديث -في كل دور- ومؤلفاتهم، وقد حاز البحث على الجائزة الثانية لمسابقة الدراسات الحديثية التي قامت بها المنظمة العربية للثقافة والعلوم والآداب- جامعة الدول العربية.

ص: 197

إلى بعضها البعض، تحت عنوان عام يجمعها، مثل "كتاب الصلاة"، "كتاب الزكاة"، "كتاب البيوع" .. ثم توزع الأحاديث على الأبواب، يضم كل باب حديثا أو أحاديث في مسألة جزئية، ويوضع لهذا الباب عنوان يدل على الموضوع، مثل "باب مفتاح الصلاة الطهور"، ويسمي المحدثون العنوان "ترجمة".

وفائدة هذا النوع من الكتب سهولة الرجوع إليه، حيث إنه أول ما يتبادر لطالب العلم، والباحث عن الحديث أن يرجع إليه.

وذلك لأنه إن كان يريد الاطلاع على أحاديث في مسألة معينة، فإن موضوع هذه الأحاديث يحتم عليه الرجوع للأبواب.

وإن كان يريد البحث عن حديث رآه ليخرجه مصادر السنة فموضوع الحديث يحدد له الباب الذي يبحث فيه عن الحديث المطلوب.

لكن الإفادة والمنفعة من هذه الكتب المبوبة تحتاج إلى ذوق علمي، يهدي الطالب إلى تحديد موضوع الحديث، وإلى خبرة بأسلوب الأئمة في ترجمة أبواب كتبهم، فإنهم ربما يخرجون الحديث في غير الباب المتوقع، يقصدون من ذلك بيان دلالة الحديث على مسألة أخرى.

وهذا كثير في صحيح الإمام البخاري، حتى عد من خصائص كتابه، واشتهر قولهم:"فقه البخاري في تراجمه".

وللتصنيف على الأبواب طرق متعددة نذكر منها ما يلي:

أ- الجوامع:

الجامع في اصطلاح المحدثين: هو كتاب الحديث المرتب على الأبواب الذي يوجد فيه أحاديث في جميع موضوعات الدين وأبوابه، وعددها ثمانية أبواب رئيسية هي:

ص: 198

العقائد، الأحكام، السير، الآداب، التفسير، الفتن، أشراط الساعة، المناقب (1).

وكتب الجوامع كثيرة، أشهرها هذه الثلاثة:

1 -

الجامع الصحيح للإمام البخاري.

2 -

الجامع الصحيح للإمام مسلم، وقد درسناهما في مصادر الحديث الصحيح، فانظر دراستهما هناك (2).

3 -

الجامع للإمام الترمذي، المشتهر بـ "سنن الترمذي"، سمي سننا لاعتنائه بأحاديث الأحكام.

ب- السنن:

كتب السنن هي الكتب التي تجمع أحاديث الأحكام المرفوعة مرتبة على أبواب الفقه (3).

وأشهر كتب السنن:

سنن أبي داود، وسنن الترمذي -وهو جامع الترمذي كما ذكرنا -وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه.

وقد درسناها تفصيلا في مصادر الحديث الحسن، فانظرها هناك لزاما (4).

ويطلق على هذه السنن: السنن الأربعة.

وإذا قالوا: الثلاثة فمرادهم هذه ما عدا ابن ماجه.

(1) بتصرف عن كتاب العرف الشذي شرح جامع الترمذي لمحمد أنور شاه: 5 وانظر مقدمة تحفة الأحوذي: 24.

(2)

رقم عام 36 ص 252 - 258.

(3)

الرسالة المستطرفة: 25 والعرف الشذي: 5.

(4)

رقم عام 37 ص 274 - 278.

ص: 199

وإذا قالوا الخمسة: فمرادهم السنن الأربعة ومسند أحمد.

وإذا قالوا الستة: فمرادهم الصحيحان والسنن الأربعة.

ويرمزون لها في كتب التخريج وكتب الرجال بهذه الرموز:

خ: للبخاري، م: للإمام مسلم، د: لأبي داود، ت: للترمذي، س: للنسائي، هـ: لابن ماجه، ع: للستة، عه للسنن الأربعة.

جـ- المصنفات:

وهي كتب مرتبة على الأبواب لكنها تشتمل على الحديث الموقوف والحديث المقطوع، بالإضافة إلى الحديث المرفوع.

ومن أشهر المصنفات: مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني "211" ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة "235".

د- المستدركات:

وأشهرها المستدرك للحاكم النيسابوري.

هـ- المستخرجات:

وأشهرها الكتب المخرجة على الصحيحين أو أحدهما.

وقد زدنا هذين النوعين دراسة في مصادر الحديث الصحيح.

ثانيا- الكتب المرتبة على أسماء الصحابة:

وهي كتب تجمع الأحاديث التي يرويها كل صحابي في موضع خاص يحمل اسم راويها الصحابي.

وهذه الطريقة مفيدة لمعرفة عدد مرويات الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعتها، وتسهيل اختبارها، فضلا عن كونها إحدى الطرق المفيدة في استخراج الحديث، بمعرفة الصحابي الذي يرويه، وما يتبع ذلك من سهولة درسه.

ص: 200

أ- المسانيد:

والمسند هو الكتاب الذي تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة رضي الله عنهم، بحيث يوافق حروف الهجاء، أو يوافق السوابق الإسلامية، أو شرافة النسب.

والمسانيد كثيرة جدا أشهرها وأعلاها المسند للإمام أحمد بن حنبل، ثم مسند أبي يعلى الموصلي، وسنأتي على درسهما في مصادر الحديث الحسن.

ب- الأطراف:

الأطراف جمع طرف، وطرف الحديث: الجزء الدال على الحديث، أو العبارة الدالة عليه، مثل حديث الأعمال بالنيات، وحديث الخازن الأمين، وحديث سؤال جبريل.

وكتب الأطراف: كتب يقتصر مؤلفوها على ذكر طرف الحديث الدال عليه، ثم ذكر أسانيده في المراجع التي ترويه بإسنادها، وبعضهم يذكر الإسناد كاملا، وبعضهم يقتصر على جزء من الإسناد.

لكنها لا تذكر متن الحديث كاملا، كما أنها لا تلتزم أن يكون الطرف المذكور من نص الحديث حرفيا.

ولهذه الطريقة من الفوائد سوى ما ذكرناه:

1 -

تسهيل معرفة أسانيد الحديث، لاجتماعها في موضع واحد.

2 -

معرفة من أخرج الحديث من أصحاب المصادر الأصول، والباب الذي أخرجوه فيه، فهي نوع من الفهارس متعدد الفوائد.

ص: 201

ومن أشهر كتب الأطراف هذان الكتابان:

1 -

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ الإمام أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي المتوفى سنة 742 هـ.

جمع فيه أطراف الكتب الستة، وبعض ملحقاتها، وهذه الملحقات هي:

1 -

مقدمة صحيح مسلم، 2 - المراسيل لأبي داود السجستاني، 3 - العلل الصغير للترمذي، 4 - الشمائل للترمذي، 5 - عمل اليوم والليلة للنسائي.

ورمز لكل من هذه الكتب، وكل كتاب من الكتب السنتة برمز خاص، أوضحه في مقدمة كتابه. تقارب الرموز السابقة مع زيادة رموز الملحقات.

والكتاب يرتب تراجم أسماء الصحابة بحسب ترتيب الألف ياء، لذلك وقع في أوله مسند: أبيض بن حمال. ويطبع الكتاب الآن في الهند، وقد نجز قسم كبير منه وليت القائمين على إخراجه علقوا عليه بالعزو إلى أرقام صفحات الحديث في المراجع، إذا لسهل الانتفاع بالكتاب جدا، وأصبح فهرسا فريدا للمصادر ولتم تحقيق الكتاب على الشكل الأكمل.

2 -

ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث: تصنيف الشيخ عبد الغني النابلسي "المتوفى سنة 1143 هـ".

جمع فيه أطراف الكتب السنة والموطأ، على طريقة ترتيب تحفة الأشراف وكأنه مختصر منه، لكنه امتاز بالتفنن في التصنيف حيث لاحظ التنوع في تراجم أسماء الصحابة، فقسم الكتاب بحسب ذلك إلى سبعة.

ص: 202

أبواب. والكتاب مطبوع في أربعة أجزاء، ونلاحظ على إخراجه الطباعي ما لاحظناه على تحفة الأشراف.

ثالثا: المعاجم

المعجم في اصطلاح المحدثين: كتاب تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ، والغالب عليها اتباع الترتيب على حروف الهجاء، فيبدأ المؤلف المعجم بالأحاديث التي يرويها عن شيخه أبان، ثم إبراهيم، وهكذا.

وأشهر مصنفات هذا النوع: المعاجم الثلاثة للمحدث الحافظ الكبير أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني "المتوفى سنة 360 هـ": وهي:

المعجم الصغير والمعجم الأوسط، وكلاهما مرتب على أسماء شيوخه.

والمعجم الكبير: وهو على مسانيد الصحابة، مرتبة على حروف المعجم.

والمعجم الكبير هذا مرجع حافل، هو أكبر المعاجم، حتى صار لشهرته إذا أطلق قولهم "المعجم"، أو أخرجه الطبراني كان المراد هو المعجم الكبير.

رابعا: الكتب المرتبة على أوائل الأحاديث

وهي كتب مرتبة على حروف المعجم، بحسب أول كلمة من الحديث، تبدأ بالهمزة، ثم بالباء، وهكذا ....

وهذه الطريقة سهلة جدا للمراجعة، لكن لا بد لها من معرفة الكلمة الأولى من الحديث بلفظها، معرفة أكيدة، وإلا ذهب الجهد في البحث عن الحديث هنا دون جدوى.

ص: 203

وهذه المصنفات لها طريقتان:

أ- كتب "مجامع": تجمع أحاديث كتب حديثية متعددة مما نذكره في النوع التالي.

ب- كتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة: أي الأحاديث التي تتداولها ألسنة العامة، وهي نوع من الحديث المشهور الآتي (1)، عني العلماء بجمعها في كتب خاصة لبيان حالها، ونذكر من أشهر هذه الكتب وأهمها كتابين:

1 -

"المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة": للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "المتوفى سنة (902) هـ".

وهو كتاب جامع لكثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، مما ليس في غيره وتبلغ عدة أحاديثه /1356/ حديثا. عني فيه مؤلفه بفن الصناعة الحديثية فأتى فيه بفوائد ليست في غيره، مع الدقة والإتقان، فشفى وكفى في بيان حال الأحاديث، ومن مصطلحاته في هذا الكتاب قوله في الحديث "لا أصل له" أي ليس له سند، وليس في كتاب من كتب الحديث، وقوله "لا أعرفه" فيما عرض له التوقف خشية أن يكون له أصل، لم يقف عليه. وهاتان العبارتان من المحدث الحافظ من علامات الوضع.

2 -

"كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس" للعلامة المحدث: إسماعيل بن محمد العجلوني " (1162) هـ".

جمع فيه أحاديث كتاب السخاوي مع تخليص كلامه، وزاد أحاديث كثيرة جدا حتى نيف عدد أحاديثه على /3250/ حديثا، كما

(1) برقم عام 72 ص 411 - 412.

ص: 204

زاد فوائد في الصناعة الحديثية على غاية الأهمية، وبهذا أصبح أكبر كتاب في هذ الفن، وأكثره جمعا للأحاديث المشتهرة على الألسنة.

ويلحق بهذا النوع من المصنفات: ما وضعه العصريون من مفاتيح لكتب حديثية، أو فهارس ألحقوها بكتاب من هذه الكتب على ترتيب حروف المعجم.

ومن هذه المفاتيح: مفتاح الصحيحين للتوقادي. ومن الفهارس: فهارس صحيح مسلم، وفهارس سنن ابن ماجه، التي وضعها محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله وأجزل مثوبته.

خامسا: المصنفات الجامعة "المجامع":

وهي كتب تجمع أحاديث عدة كتب من مصادر الحديث، وهي مرتبة على طريقتين:

الطريقة الأولى: التصنيف على الأبواب، وأهم مراجعها:

1 -

"جامع الأصول من أحاديث الرسول": لابن الأثير المبارك ابن محمد الجزري "606 هـ". جمع فيه أحاديث الصحيحين، والموطأ، والسنن الثلاثة، وجردها من الأسانيد، وأردفها بكلام موجز على غريب الألفاظ، لكنه أغفل بيان درجة أحاديث السنن، حتى أنه لم يذكر كلام الترمذي على أحاديثه، فأعوز القارئ البحث عن هذا الجانب، وقد ذيلت طبعة الكتاب بتخريج مفصل للأحاديث يعزو كل حديث إلى الكتب مع بيان الباب والجزء والصحيفة، فسهل بعض فائدته بذلك.

2 -

"كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال" للشيخ المحدث علي بن حسم المتقي الهندي "975 هـ" وهو أجمع كتب هذا الفن، جمع أحاديث كتب كثيرة، بلغت/ 93/ كتابا في إحصائنا، فجاء كتابا حافلا لا مثيل له في الجمع، إلا أنه أغفل بيان حال الأحاديث، كما

ص: 205

لحظنا عليه إعوازا في التحريج حتى إنه ربما عزى الحديث لمرجع من المراجع البعيدة عن التناول وعن الاعتماد، وهو موجود في الصحاح، بل في أصحها.

الطريقة الثانية: ترتيب الأحاديث على أول كلمة فيها حسب ترتيب حروف المعجم، وأهم المراجع فيها:

1 -

"الجامع الكبير" أو"جامع الجوامع" للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي "911 هـ" وهو أصل كتاب كنز العمال الذي عرفناك به.

2 -

"الجامع الصغير لأحاديث البشير النذير" للإمام السيوطي أيضا، اقتضبه من الجامع الكبير، وحذف منه التكرار وزاد فيه أحاديث فبلغ عدد أحاديثه "10031" عشرة آلاف وواحدا وثلاثين حديثا، وقد نال الحظوة عند العلماء وكثرت حوله الشروح.

ولكن بعض الرموز هنا تخالف الرموز في الجامع الكبير فالرمز "ق" في الجامع الصغير لم اتفق عليه الشيخان، وفي الجامع الكبير لما أخرجه البيهقي، فلتنتبه، وليكن أول اهتمام طالب الحديث دراسة مقدمة كل مصنف حديثي لمعرفة رموز الكتاب وطريقته وأهدافه.

سادسا: مصنفات الزوائد:

وهي مصنفات تجمع الأحاديث الزائدة في بعض الحديث على أحاديث كتب أخرى، دون الأحاديث المشتركة بين المجموعتين.

وقد أكثر العلماء من تصنيف الزوائد، ونذكر منها هذين الكتابين الجليلين:

1 -

"مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي "807 هـ" جمع فيه ما زاد على الكتب السنة من ستة

ص: 206

مراجع مهمة، وهي: مسند أحمد، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومسند البزار، والمعاجم الثلاثة للطبراني.

وعني ببيان حال الأحاديث صحة وضعفا، واتصالا وانقطاعا وأفاد غاية الفائدة غير أن طبعته تحتاج إلى تحقيق وضبطا أكثر مما هي عليه بكثير.

2 -

"المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية": للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، الإمام العلم " (852) هـ".

جمع فيه الزوائد على الكتب الستة من ثمانية مسانيد: "وهي لأبي داود الطيالسي، والحميدي، وابن أبي عمر، ومسدد، وأحمد بن منيع، وأبي بكر بن أبي شيبةن وعبد بن حميد والحارث بن أبي أسامة. وأضاف زيادات من مسند أبي يعلى، ومسند إسحاق بن راهويه، ليست في مجمع الزوائد (1).

وقد طبع بتحقيق متقن للمحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي فسح الله في مدته، لكنه اعتمد على نسخة مجردة من الأسانيد، وسيعيده المحقق على نسخة مسندة، ولا يخفى ما فيها من الأهمية والفائدة.

سابعا: كتب التخريج

وهي كتب تؤلف لتخريج أحاديث كتاب معين، ونعرف بأهمها فيما يلي:

1 -

"نصب الراية لأحاديث الهداية": تأليف الإمام الحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي " (762) هـ"، خرج فيه أحاديث كتاب الهداية في الفقه الحنفي لمؤلفه علي بن أبي بكر المرغيناني، من كبار فقهاء الحنفية المتوفى سنة " (593) هـ".

(1) كما أفصح في تقديم الكتاب: 4.

ص: 207

وهو كتاب حافل بإيراد الروايات غزير في فوائده الحديثية، يتكلم على كل حديث من كتاب الهداية، ثم يتبعه بما يؤيده من الروايات والأحاديث الأخرى، ثم يعقد بحثا للأحاديث التي يستدل بها مخالفو الحنفية، ويتكلم على الجميع بغاية الإحاطة والإفادة، والانصاف والموضوعية، مما يدل على تبحر الزيلعي في علم الحديث وعمق نظره، حتى كان من بعده عالة عليه مقتديا به.

2 -

"المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" تأليف الحافظ الكبير الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي "806 هـ" شيخ الحافظ ابن حجر ومخجره، وواحد زمانه في علم الحديث.

خرج كتابه هذا أحاديث كتاب هام شائع بين المسلمين هو كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وذلك بأن يذكر طرف الحديث من أحاديث الإحياء ثم يبين من أخرجه، وصحابيه الذي رواه، ويتكلم عليه تصحيحا أو تحسينا أو تضعيفا.

وهو مطبوع مع كتاب الإحياء، وهذا الكتاب هو مختصر من تخريج كبير واسع صنفه على أحاديث الإحياء، لم يعثر عليه، وقد ضمن الزبيدي في شرحه للإحياء هذا التخريج الكبير.

3 -

"التخليص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير" للحافظ ابن حجر.

خرج فيه أحاديث الشرح الكبير للرافعي الذي شرح به كتاب الوجير في الفقه الشافعي للإمام الغزالي، ولخص في تخريجه هذا كتبا عدة صنفت قبله في تخريج أحاديث الشرح الكبيرن وأفاد كذلك من نصب الراية للزيلعي، فجاء كتابه حافلا جامعا لما تفرق في غيره من

ص: 208

الفوائد، وطريقته فيه أن يورد طرفا من الحديث الوارد في الشرح الكبير ثم يخرجه من المصادر ويذكر طرقه ورواياته ويتكلم عليه تفصيلا جرحا وتعديلا، وصحة وضعفا، ثم يذكر ما ورد من أحاديث في معنى الحديث باستيفاء، وهكذا حتى صار مرجعا في أحاديث الأحكام لا يستغنى عنه.

ثامنا: الأجزاءك

الجزء: في اصطلاح المحدثين: هو تأليف يجمع الأحاديث المروية عن رجل واحد سواء كان ذلك الرجل من طبقة الصحابة أو من بعدهم: كجزء حديث أبي بكر -وجزء حديث مالك ..

كما أنه يطلق الجزء على التأليف الذي يدرس أسانيد الحديث الواحد ويتكلم عليه مثل: "اختيار الأولى في حديث اختصام الملأ الأعلى" للحافظ ابن رجب.

كما أن الأجزاء الحديثية قد توضع في بعض الموضوعات الجزئية مثل جزء القراءة خلف الإمام للبخاري. والرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي.

وقد يجمع في الجزء أحاديث انتخبها المؤلف لما وقع لها في نفسهن كالعشاريات، والعشرينات، والأربعينات، والخمسينات، والثمانيات.

ويتفاوت حجم الأجزاء من بضع أوراق إلى العشرات، والغالب أن تكون صغيرة، وتمتاز بأنها تبرز علم الأئمة، لما أن إفراد الموضوع الجزئي بالبحث يتطلب استقصاءا وعمقا.

تاسعا: المشيخات

وهي كتب يجمع فيها المحدثون أسماء شيوخهم، وما تلقوه عليهم

ص: 209

من الكتب أو الأحاديث مع إسنادهم إلى مؤلفي الكتب التي تلقوها. ولهم فيها مسالك عديدة في ترتيبها، ومنها ما يسمى فهرسا أو ثبتا، ومن أشهرها برنامج الرعيني المسمى "الإيراد لنبذة المستفاد من الرواية والإسناد"، و"فهرست الإمام أبي بكر محمد بن خير"، وكلاهما نفيس، مطبوع.

عاشرا: العلل

وهي الكتب التي يجمع فيها الأحاديث المعلةن مع بيان عللها، والتصنيف على العلل يأتي في الذروة من أعمال المحدثين، لما يحتاج إليه من الجهد الحثيث والصبر الطويل في تتبع الأسانيد، وإمعان النظر، وتكراره فيها لاستنباط خفي أمرها الذي يستره الطلاء الظاهري الموهم للصحة (1).

هذا وقد عني العلماء بآداب الطالب والمحدث فتكلموا عنها في الكتب التي صنفوها في رواية الحديث، وأفردها الخطيب البغدادي بتأليف جيد سماه "الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع".

3 -

كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه:

أهلية التحمل:

اختلفت عبارات العلماء في أهلية التحمل، ونستطيع أن نخلص ما قالوه بمعيار جامع ترجع إليه كل أقوالهم فنقول:

(1) اكتفينا بهذه النبذة لملاءمة موضوع الكتاب، مع أن الإفادة الحقيقية الكاملة من هذه المراجع لا بد لها من المطالعة فيها مع التمعن والتفهم، لا يغني عن ذلك تطويل في البحث النظري.

ص: 210

ركن أهلية التحمل عند الجمهور هو التمييز الذي يعقل به الناقل بما يسمعه ويضبطه.

وقد ضبط ذلك كثير من المحدثين في حده الأدنى بالسن وهو خمس سنين، ونسبه القاضي عياض (1) إلى أهل الحديث.

قال ابن الصلاح: "التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعدا: "سمع"، ولمن لم يبلغ خمسا: "حضر" أو"أحضر".

وهذا يفهمك معنى ما تجده على الكتب الخطية في تسجيل سماعاتها على العلماء وبيان أسماء السامعين، فيقولون: سمع هذا الكتاب فلان وفلان وحضر فلان.

إلا أن التحقيق في هذا والتدقيق هو ما ذكرناه أولا من أن المعيار هو التمييز، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الصحيح المعول عليه.

أما التقييد بخمس سنين فلا ينافيه، قال القاضي عياض (2):"ولعلهم إنما رأوا هذا السن أقل ما يحصل به الضبط وعقل ما يسمع وحفظه. وإلا فمرجوع ذلك العادة، ورب بليد الطبع غبي الفطرة لا يضبط شيئا فوق هذا السن، ونبيل الجبلة ذكي القريحة، يعقل دون هذا السن".

ويتفرع على هذا صحة سماع الكافر والفاسق بحيث يقبل منه بعد الإسلام والتوبة النصوح ما كان قد تحمله حال الكفر أو الفسق،

(1) في الإلماع: 62.

(2)

الإلماع: 64.

ص: 211

وهذه كتب السنة والسيرة فيها كثير من سماعات الصحابة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهداتهم لأحواله قبل أني يسلموا.

أما الكمال والدرجة العليا للسماع فمداره على التأهل للضبط الفقهي والانتفاع بالعلم، وذلك يحتاج لسن كبير يشغله بتحصيل القرآن ومبادئ العلوم.

قال أبو عبد الله الزبيري: "يستحب كتب الحديث في العشرين، لأنها مجتمع العقل، وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض"(1). وقال سفيان الثوري وغيره: "كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة"(2).

وهذا لا يمنع أن يبكر بالسماع للكتب، وأخذ الإسناد بها منذ الصغر بظهور التمييز وبزوغه، كما نبه على ذلك أئمة العلمن قال الخطيب:"ولهذا بكروا بالأطفال في السماع من الشيوخ الذين علا إسنادهم"(3).

وقد ذكروا من الروايات حول صنيع الأمة في هذا الأمر ما يدل دلالة عظيمة على عنايتهم بتحصيل العلم وتنافسهم فيه ذلك التنافس والتسابق الذي يثير المواهب ويكون العبقريات في البراعم الرطبة؛ الأطفال.

هذا الخطيب البغدادي يروي في كفايته (4) عن أحمد بن حنبل قال في سفيان بن عيينة: "أخرجه أبوه مكة وهو صغير فسمع من الناس عمرو بن دينار وابن أبي نجيح في الفقه، ليس تضمه إلى أحد

(1) الكفاية نقلا عن الرامهرمزي ص: 55، وانظر الإلماع:65.

(2)

الكفاية: 54.

(3)

المرجع السابق: 63 - 64. وانظر علوم الحديث: 115.

(4)

: 60.

ص: 212

إلا وجدته مقدما" اهـ. وكان في أذن سفيان آنئذ قرط من ذهب لصغره.

وهذا الأعمش يقال له: هؤلاء الغلمان حولك؟ ! فقال: "اسكت، هؤلاء يحفظون عليك أمر دينك"(1).

ويقول القاضي عبد الله بن محمد الأصبهاني: "حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملت إلى أبي بكر المقري لأسمع ولي أربع سنين، فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا فيما قرئ فإنه صغير. فقال لي ابن المقري: اقبرأ سورة الكافرون فقرأتها، فقال: "اقرأ سورة التكوير" فقرأتها. فقال لي غيره: "اقرأ سورة المرسلات" فقرأتها ولم أغلط فيها. فقال ابن المقري: "سمعوا له والعهدة علي" (2).

وهذا من أطرف ما يسمع في حفظ الصغير ونبوغه في كل الأمم، وإنه لدليل قاطع يثبت ما كانت عليه تلك المجتمعات الإسلامية من التنافس في تحصيل العلم سيما علوم الشريعة وعلى رأسها القرآن والحديث. حتى إن ذلك ليعتبر عندهم من الضرورة بالمنزلة التي تفوق كل شيء.

وهكذا على قبس من علوم الشريعة، وعلي هدي من نبراسها انطلقوا في شتى ميادين العلم، فسبقوا أمم الأرض، وكانوا رواد الحضارة: فابن رشد الحفيد إمام في الفلسفة والعلوم وفي الفقه والاجتهاد، وابن النفيس علامة مخترع في البصريات، وفقيه شافعي معتبر، ذكره السبكي في طبقات الشافعية، وهكذا غيرهم كثير، تحدثنا أخبارهم بالنبأ اليقين عن النهضة العلمية الشاملة في ظل الحضارة الإسلامية.

(1) الكفايةك 63.

(2)

الكفاية: 64 - 65.

ص: 213

‌الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله

حصر العلماء طرق الأخذ للحديث وتلقيه عن الرواة بثماني طرق، توسعوا في دراستها وبيان أحكامها، نخلص لك أصولها فيما يلي:

1 -

السماع:

وهو الوسيلة التي تلقى الحديث بواسطتها رعيل المحدثين الأوائل عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم رووه بها للناس أيضا. فلا غرو أن يعتبر أعلى مراتب التلقي للحديث، و"أرفع درجات أنواع الرواية عند الأكثرين"(1) من المحدثين وغيرهم.

والعمدة في هذا القسم على سماع لفظ الشيخ. وذلك قد يكون بمجرد سرده للحديث، وقد يكون إملاء، سواء كان من حفظه أو بالقراءة من كتابه. فكل ذلك سماع عند المحدثين.

2 -

العرض:

سلك المحدثون هذا الطريق بعد أن انتشر التدوين، وأصبحت كتابة الحديث أمرا شائعا. ومعنى العرض عندهم:

القراءة على الشيخ من حفظ القارئ، أو من كتاب بين يديه. وهو طريق صحيحة في تلقي الحديث، والرواية به سائغة بالإجماع.

لكن اختلفوا هل هو مثل السماع في المرتبة أو دونه أو فوقه.

ويمكن أن نوفق فنقول برجحان العرض فيما إذا كان الطالب ممن يستطيع إدراك الخطأ فيما يقرأ والشيخ حافظ غاية الحفظ، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فالسماع أرجح.

(1) الإلماع: 69. ونحوه قاله ابن الصلاح: 122، وغيره.

ص: 214

وقد وجدنا -بعد تقريرنا لذلك- الحافظ ابن عبد البر (1) أخرج عن مالك أنه سئل: "أفيعرض عليك الرجل أحب إليك أو تحدثه؟ " قال: "بل يعرض إذا كان يثبت في قراءته، فربما غلط الذي يحدث أو ينسى".

وهذا يفيد أنه إذا لم يبلغ هذه المرتبة لا يفضل على السماع.

3 -

الإجازة:

والإجازة هي إذان المحدث للطالب أن يروي عنه حديثا أو كتابا أو كتبا من غير أن يسمع ذلك منه أو يقرأه عليه، كأن يقول له: أجزتك أو أجزت لك أن تروي عني صحيح البخاري، أو كتاب الإيمان من صحيح مسلم. فيروي عنه بموجب ذلك من غير أن يسمعه منه أو يقرأه عليه.

وقد أجاز الرواية بها جمهور العلماء، من أهل الحديث وغيرهم (2). وقد وجد المصنفون في هذا الفن غموضا في الاستدلال لجواز الإجازة (3)، لكنا نوضحه لك فنقول:

إن العلماء اعتمدوا على الإجازة بعدما دون الحديث وكتب في الصحف وجمع في التصانيف، ونقلت تلك التصانيف والصحف عن أصحابها بالسند الموثوق الذي ينتهي بقراءة النسخة على المؤلف أو مقابلتها بنسخته، فأصبح من العسير على العالم كلما أتاه طالب من طلاب الحديث أن يقرأ الكتاب، فلجئوا إلى الإجازة.

فالإجازة فيها إخبار على سبيل الإجمال بهذا الكتاب أو الكتب

(1) في جامع بيان العلم وفضله: 2: 178. وفي النسخة "إن تحدثه". وهو تصحيف مطبعي. وانظر تفصيل كلمة مالك هذه الإلماع: 74. وانظر للتوسع المحدث الفاصل: 420 والكفاية: 274 وما بعد.

(2)

انظر الإلماع: 89 واختصار علوم الحديث: 119.

(3)

علوم الحديث: 135 - 136.

ص: 215

أنه من روايته. فتنزل منزلة إخباره بكل الكتاب نظرا لوجود النسخ، فإن دولة الوراقين قد قامت بنشر الكتب بمثل ما تفعله المطابع الآن. ولهذا لا يجوز لمن حمل بالإجازة أن يروي بها إلا بعد أن يصحح نسخته على نسخة المؤلف، أو على نسخة صحيحة مقابلة على نسخة المؤلف، أو نحو ذلك مما نسخ وصحح على النسخ المقابلة المصححة.

وقد ذكروا للإجازة أنواعا كثيرة، اعتنى القاضي عياض بها في الإلماع، وتقصاها بما لم يسبق إليه، وذكر لها ستة أنواع، ثم جاء ابن الصلاح ولخص كلامه وزاد عليها نوعا وادا فبلغت سبعة أنواع (1)، وأعلاها: أن يجيز الشيخ لشخص معين كتابا معينا أو كتبا معينة حال كونهما عالمين بهذا الكتاب. وهذا النوع يتحقق فيه معنى الأخبار الذي شرحناه كاملا قويا عاليا. لذلك قال العلماء:

"إنما تستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز: والمجاز له من أهل العلم، لأنه توسع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها"(2).

(1) نوجزها فيما يلي:

آ- أن يجيز الشيخ لشخص معين أو أشخاص بأعيانهم كتابا يسميه أو كتبا يسميها لهم وهي جائزة عند الجمهور.

ب- الإجازة من معين في غير معين مثل أن يقول: "أجزت لك أن تروى عني ما أرويه، وهي مما يجوزه الجمهور.

جـ- الإجازة العامة كان يقول، أجزت للمسلمين أو للموجودين.

د- الإجازة للمجهول أو بالمجهول، وهي فاسدة.

هـ- الإجازة للمعدوم كالإجازة للحمل في بطن أمه وهي غير صحيحة أيضا.

وإجازة ما لم يسمعه المجيز كأن يقول: أجزت لك أن تروي عني ما ساسمعه والصحيح بطلانها، كما نص القاضي عياض وابن الصلاح وغيرهما.

ز- إجازة المجاز مثل أن يقول: أجزت لك إجازاتي، وهي جائزة. انتهى ملخصا بإيجاز شديد من علوم الحديث: 134 - 144. وانظر التفصيل الوافي في كتاب الإلماع: 87 - 170.

(2)

علوم الحديث: 145، وهذا أقره المصنفون كافة.

ص: 216

وقد قوّى ذلك ابن عبد البر فقال في جامع بيان العلم وفضله (1): "تلخيص هذا الباب أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة حاذق بها، يعرف كيف يتناولها، ويكون في شيء معين معروف لا يشكل إسناده فهذا هو الصحيح من القول في ذلك".

4 -

المناولة:

ومعنى المناولة عند المحدثين أن يعطي الشيخ للتلميذ كتابا أو صحيفة ليرويه عنه.

والأصل فيها ما علقه البخاري في كتاب العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتابا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم" وصله البيهقي والطبراني بسند حسن، واحتج به البخاري (2) على صحة المناولة .... " وهو فقه صحيح" كما قال السهيلي (3).

والمنأولة ثلاثة أنواع:

النوع الأول: المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة. وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق. مثل: أن يدفع الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخة منه، وقد صححها، أو أحاديث من أحاديثه وقد انتهبا وكتبها بخطه، أو كتبت عنه فعرفها، فيقول للطالب: هذه روايتي فاروها عني ويدفعها إليه، أو يقول له خذها فانسخها، وقابل بها، ثم اصرفها إلي، وقد أجزت لك أن تحدث بها عني، أو أروها عني. أو يأتيه الطالب بنسخة صحيحة من رواية الشيخ أو بجزء منه

(1): 2: 180.

(2)

التدريب: 268 وانظر البخاري: 1: 19. والإلماع: 81.

(3)

في الروض الآنف 2: 59. وانظر إرشاد الساري: 1: 217.

ص: 217

حديثه فيقف عليه الشيخ ويعرفه ويحقق صحته ويجيزه له. فهذا كله عند مالك وجماعة من العلماء بمنزلة السماع (1). وقال عياض: "وهي رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين .... وهو قول كافة أهل النقل والأداء والتحقيق من أهل النظر".

النوع الثاني: المناولة المقرونة بالإجازة من غير تمكين من النسخة: وهذا لا يمتاز في ظاهره عن الإجازة، لكن المشايخ من أهل الحديث يرون له مزية على الإجازة (2).

ووجه هذه المزية فيما نرى أن في المناولة تأكيدا لمعنى الأخبار الذي اشتملت عليه الإجازة وتقوية لأمره.

النوع الثالث: المناولة المجردة عن الإجازة.

وصورة هذا النوع: أن يناوله الكتاب ويقتصر على قوله: "هذا من حديثي أو من سماعاتي". ولا يقول له أروه عني أو أجزت لك روياته عني، أو نحو ذلك.

وهذه مناولة مختلة لا تجوز الرواية بها عند كثير من المحدثين. وذهب البعض إلى جواز الرواية بها لما سيأتي في قسم الأعلام إن شاء الله (3).

5 -

المكاتبة:

وهي أن يكتب المحدث إلى الطالب شيئا من حديثه ويبعثه إليه، وهي على نوعين:

النوع الأول: المكاتبة المقرونة بالإجازة.

(1) الإلماع: 79.

(2)

الإلماع: 83.

(3)

في الصفحة التالية.

ص: 218

وهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة.

النوع الثاني: المكاتبة المجردة من الإجازة.

والصحيح المشهور بين أهل الحديث هو تجويز الرواية بها، فإنها لا تقل عن الإجازة في إفادة العلم، "وقد استمر عمل السلف فمن بعدهم من المشايخ بالحديث بقولهم: كتب إلي فلان قال: أخبرنا فلان، وأجمعوا على مقتضى هذا التحديث، وعدوه في المسند بغير خلاف يعرف في ذلك. وهو موجود في الأسانيد كثير (1) ".

6 -

الإعلام:

وهو إعلام الراوي للطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه من فلان. من غير أن يأذن له في روايته عنه. أي من غير أن يقول: اروه عني، أو أذنت لك في روايته". أو نحو ذلك.

وقد ذهب بعض أئمة الأصول، واختاره ابن الصلاح إلى أنه لا تجوز الرواية بذلك (2). لأنه يجوز أن يكون فيه خلل يمنع من روايته عنه.

وذهب كثير من المحدثين والفقهاء والأصوليين إلى جواز الرواية لما تحمله بالإعلام من غير إجازة، ورجحه الرامهرمزي، وقال عياض فيه "صحيح لا يقتضي النظر سواه، لأنه منعه أن لا يحدث بما حدثه لا لعلة ولا ريبة في الحديث لا يؤثر؛ لإنه قد حدثه فهو شيء لا يرجع فيه (3) ".

ووجه هذا: أن التحمل قد صح بالإجازة لما فيها من إخبار على

(1) الإلماع: 86. وانظر الكفاية: 345.

(2)

علوم الحديث: 156. والإلماع. 110.

(3)

الإلماع: 110. وانظر الكفاية: 348. والتدريب: 279 - 280.

ص: 219

سبيل الإجمال. والإعلام فيه نفس المعنى، بل هو أقوى، حيث أشار إلى الكتاب بعينه وقال: هذا سماعي من فلان.

7 -

الوصية:

الوصية وسيلة ضعيفة من طرق التحمل، وهي: أن يوصي المحدث لشخص أن تدفع له كتبه عند موته أو سفره.

وقد رخص بعض العلماء من السلف للموصى له أن يرويه عن الموصي بموجب تلك الوصية، لأن في دفعها له نوعا من الإذن وشبها من العرض والمناولة، وهو قريب من الإعلام (1).

لكن خالف في ذلك ابن الصلاح، وباعد جدا بين الوصية وبين الإعلام، وأنكر ذلك على من قاله، وقال (2):"هذا بعيد، وهو إما زلة عالم أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها".

وهو -فيما نرى- قول سديد قوي، فإن الوصية إنما تفيد تمليك النسخةن فهي كالبيع، وذلك أمر آخر غير الأخبار بمضمونها.

8 -

الوجادة:

الوجادة (3) هي: أن يجد لمرء حديثا أو كتابا بخط شخص بإسناده. فله أن يروي عنهعلى سبيل الحكاية فيقول: "وجدت فلان حدثنا فلان .... ". وله أن يقول: قال فلان" إذا لم يكن فيه تدليس يوهم اللقي.

أما روايته بـ"حدثنا" أو "أخبرنا" أو نحو ذلك مما يدل على اتصال

(1) الإلماع: 115. وانظر فتح المغيث: 232.

(2)

علوم الحديث: 157.

(3)

الوجادة مصدر لـ"وجد يجد" مولد غير مسموع من العرب.

ص: 220

السند فلا يجوز إطلاقا، ولا يعلم عن أحد يقتدى به من أهل العلم فعل ذلك، ولا يمن يعده معد المسند، أي المتصل الإسناد.

ثم اختلف أئمة الحديث والفقه والأصول بما وجد من الحديث بالخط المحقق لإمام، أو أصل من أصول ثقة مع اتفاقهم على منع النقل والرواية بحدثنا أو أخبرنا أو نحوهما:

فمعظم المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم لا يرون العمل به. وحكي عن الشافعي جواز العمل به، وقالت به طائفة من نظار أصحابه ومن أرباب التحقيق (1). وهذا هو الراجح الذي يدل عليه الدليل، لأننا مكلفون شرعا أن نعمل بما يثبت لدينا صحته، وإذا ثبتت صحة الكتاب الذي وجدناه وجب العمل به، لا سيما وقد أصبتحت الضرورة تحتم ذلك، و"في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لا نسد باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها".

وفي هذه المسألة طرافة يجب التنبه إليها، وهي الفرق بين صحة الرواية وبين وجوب العمل، فلا تصح الرواية بالوجادة للكتاب أي لا يصح أن يقول: أخبرني فلان، أو حدثني أو غير ذلك لعدم وجود طريقة التحمل التي تسمح بذلك، لكن يجب العمل بمضمونه عند حصول الثقة بنسبة الكتاب إلى صاحبه، لأن ذلك هو الذي يوجب العمل

وقد قال بمثل ذلك من منع الرواية بالإعلام.

ومن هنا فإننا نستطيع القول بأن الدكتور الفاضل صبحي الصالح قد تسامح حيث قال (2): "بل لقد أمسى المتأخرون لا يجدون حاجة

(1) الإلماع: 117. وفتح المغيث: 235. وتوضيح الأفكار: 2: 348 وغيرها.

(2)

في كتاب علوم الحديث ومصطلحه: 87.

ص: 221

للرحلة ولا لتحمل مشاقها مذ أصبح حقا لهم ولغيرهم أن يرووا كل ما يجدون من الكتب والمخطوطات سواء ألقوا أصحابها أم لم يلقوهم"، فهذا القول بإطلاقه لم يحرر حكم الإجادة، لأن الرواية بها كما علمت لا تعتبر صحيحة متصلة السند إلى أصحابها. لكن يجب العمل بمضمونها إذا حصلت الثقة به، وذلك بملاحظة توفر الشروط المقررة في تحقيق المخطوطات.

4 -

صفة رواية الحديث وشرط أدائه:

أداء الحديث: هو تبليغه وإلقاؤه للطالب بصورة من صور الأداء.

وصور الأداء فرع مطابق لصور التحمل التي سبق درسها، فيحق لمن تحمل الحديث بأي قسم من أقسام التحمل أن يؤديه بأي قسم منها أيضا، ولا يشترط أن يكو أداؤه على نفس القسم من أقسام التحمل الذي تلقى به الحديث.

وقد تعرض العلماء في معرفة هذا النوع إلى فروع كثيرة، ترجع إلى أصل أساسي هو ركن أداء الحديث. نحدده لك فنقول:

ركن أداء الحديث:

هو روايته وتبليغه بصورة من صور الأداء، بصيغة تدل على كيفية تحمله.

وهو إما أن يكون من حفظ الراوي أو من كتابه، وقد احتاط المحدثون جدا في الأداء بهما. ولم يجوزوا للراوي أن يحدث إلا بما تحقق أنه الصواب، "فمتى كان بخلاف هذا أو دخله ريب أو شك لم

ص: 222

يجز له الحديث بذلك، إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدث بما لم يحقق أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يكونوا مغيرا، فيدخل في وعيد من حدث عنه بالكذب، وصار حديثه في الظن، والظن أكذب الحديث" (1).

"وقد شدد قوم في الرواية -كما قال ابن الصلاح (2) - فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرطوا: ومن مذاهب التشديد مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه وتذكره، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما".

"والصواب ما عليه الجمهور، وهو التوسط بين الأفراط والتفريط، فإذا قام الراوي في الأخذ والتحمل بالشرط الذي تقدم شرحه، وقابل كتابه، وضبط سماعه على الوجه الذي سبق ذكره جازت له الرواية منه وإن أعاره وغاب عنه إذا كان الغالب من أمره سلامته من التبديل والتغيير، لا سيما إذا كان ممن لا يخفى عليه في الغالب -لو غير شيء منه وبدل- تغييره وتبديله".

ونسوق لك أهم ما ذكروا من المسائل في هذا الباب:

أولا- العبارة عن النقل بوجوه التحمل:

استعمال لفظ من ألفاظ الأداء ينبغي أن يكون على مطابقة اللفظ للصفة التي تحمل بها الراوي حديثه الذي يرويه، وقد ذكروا للك طريقة من طرق التحمل صيغا خاصة بها في الأداء تعبر عنها وتنبئ بها، نوضحها لك فيما يلي:

(1) الإلماع: 135.

(2)

علوم الحديث: 185.

ص: 223

1 -

العبارة عن التحمل بالسماع:

يسوغ فيه كل ألفاظ الأداء مثل حدثنا، وأخبرنا، وخبرنا، وأنبأنا، وعن، وقال، وحكى، وإن فلانا قال، فإنها تطلق على إفادة السماع من المحدث، كما صرح بذلك القاضي عياض (1) وغيره.

وقد درج على هذا الاطلاق أكثر رواة الحديث المتقدمين. ثم وجد النقاد بعد انتشار التدوين والتلقي بالإجازة ونحوها وجدوا فيه توسعا يؤدي إلى اشتباه السماع بغيره، لذلك رجحوا الأداء بلفظ يدل على السماع في استعمال المحدثين. وأرفع الألفاظ: سمعت، ثم حدثنا، وحدثني، كما ذكر الخطيب في الكفاية (2).

2 -

العبارة عن التمل بالعرض:

أسلم العبارات في ذلك أن يقول: "قران على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع"، ثم أن يقول "حثدنا فلان قراءة عليه"، ونحو ذلك.

أما إطلاق حدثنا وأخبرنا في هذا فقد ذهب إلى جواز استعمالهما في العرض الإمام البخاري والزهري ومعظم الحجازيين، والكوفيين. وذهب الشافعي والإمام مسلم وأهل المشرق إلى التمييز بينهما والمنع من إطلاق "حدثنا" واختيار "أخبرنا".

وكل من "حدثنا" و"أخبرنا" من حيث لسان العرب بمعنى واحد، إنما أصطلح المحدثون على التمييز بينهما في الاستعمال، ثم صار التفريق بينهما هو الشائع الغالب على أهل الحديث.

(1) الإلماع: 135.

(2)

284. وانظر علوم الحديث: 119 - 121.

ص: 224

3، 4 - العبارة عن التحمل بالإجازة أو المناولة:

اصطلح المتأخرون على إطلاق "أنبأنا" في الإجازة، وكان هذا اللفظ عند المتقدمين بمنزلة "أخبرنا"، فإن قال:"أنبأنا إجازة أو مناولة" فهو أحسن، ومما عبر به كثير من الرواة المتقدمين والمتأخرين قولهم: أخبرنا فلان إذنا. أو فيما أذن لي فيه، أو فيما أطلق لي الحديث به عنه، أو فيما أجاز فيه، وهي عبارات حسنة تفصل الإجازة والمناولة عن السماع والعرض.

وكان الأوزاعي يخصص الإجازة بقوله: "خبرنا" بالتشديد (1).

5 -

العبارة عن التحمل بالمكاتبة:

جوز الليث بن سعد وغير واحد من علماء المحدثين إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" في الرواية بالمكاتبة، والأولى قول من يقول فيهاك "كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان"، أو "أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة".

6، 7 - العبارة عن الإعلام أو الوصية:

وذلك على القول بتسويغ الرواية والأداء لمن تحمل بهما، وهو على هذا القول جار مجرى الإجازة، فنرى أن يراعى فيه ما ذكرنا في الإجازة. أما على القول بفساد الرواية بهما. فإنهما يلحقان بالوجادة في صيغ الأداء.

8 -

العبارة عن الوجادة:

يجوز لمن تحمل بالوجادة أن يرويه على سبيل الحكاية فيقول: "وجدت بخط فلان: حدثنا فلان".

(1) الإلماع: 128 - 132، وعلوم الحديث: 150 - 152 واختصاره: 124.

ص: 225

ويقع هذا في مسند الإمام أحمد، يقول ابنه عبد الله "وجدت بخط أبي حدثنا فلان". وله أن يقول:"قال فلان"، وكذا:"ذكر فلان"، و"بلغني عن فلان".

أهمية اصطلاحات الأداء:

هذه اصطلاحات المحدثين في العبارة عن وجوه التحمل لخصنا القول فيها وحررناه.

ونود أن ننبه إلى أن قضية هذه الاصطلاحات، ليست مجرد ألفاظ تشرح، وقد مضى زمانها كما يتوهم، حتى إن بعض الناس قد يغفلها ويتركها في زواية الاهمال، بل إن لهذه الاصطلاحات صلة قوية بالهدف الأساسي لهذا العلم أي معرفة المقبول والمردود، ومن أوجه ذلك.

1 -

أنها تعرفنا الطريقة التي حمل بها الراوي حديثه الذي نبحثه، فنعلم هل هي صحيحة، أو فاسدة، وإذا كانت فقد اختل أحد شروط القبول في الحديث.

2 -

أن الراوي إذا تحمل الحديث بطريقة دنيا من طرق التحمل ثم استعمل فيه عبارة أعلى كأن يستعمل فيها تحمله بالإجازة: حدثنا أو أخبرنا كان مدلسا، وربما أتهمه بعض العلماء بالكذب بسبب ذلك.

مثالهك أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي: اتهم في أحاديثه الكثيرة عن محمد بن نصر المروزي، وإنما هو تدليس، حصل على إجازة منه وصار يستعمل صيغة حدثنا ونحوها، وهذا تدليس.

وكذا إسحاق بن راشد الجزري كان يطلق حدثنا في الوجادة، فسلكوه في عداد المدلسين (1).

(1) تعريف أهل التقديس: 4. وانظر الإلماع: 119.

ص: 226

ثانيا: الرواية بالمعنى

وهي من أهم مسائل علوم الرواية الحديث، لما وقع فيها من الخلاف والالتباس، وما أثير حولها من الشبهات:

لا خلاف بين العلماء في أن الجاهل والمبتدئ ومن لم يمهر في العلم، ولا تقدم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل، وفهم المعاني يجب عليه ألا يروي ولا يحكي حديثا إلا على اللفظ الذي سمعه، وأنه حرام عليه التعبير بغير لفظه المسموع، إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة وتصرف على غير حقيقة في أصول الشريعة، وتقول على الله ورسوله.

ثم اختلف السلف وأرباب الحديث والفقه والأصول في تسويغ الرواية بالمعنى لأهل العلم بمعاني الألفاظ ومواقع الخطاب:

فشدد كثير من السلف وأهل التحري من المحدثين والفقهاء فمنعوا الرواية بالمعنى، ولم يجيزوا لأحد الأتيان بالحديث إلى على لفظه نفسه.

وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة إلى جواز الرواية بالمعنى من مشتغل بالعلم ناقد لوجوه تصرف الألفاظ إذا انضم لاتصافه بذلك أمران: أن لا يكون الحديث متعبدا بلفظه، ولا يكون من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم (1).

وهذا هو الصحيح المعتمد، لأن الحديث إذا كان بهذه المثابة كانت

(1) انظر في هذا الموضوع الإلماع: 174 - 178 وكشف الأسرار: 7740779 وشروح التوضيح: 2: 13، وفواتح الرحموت: 2: 167، وشرح التحرير لابن أمير حاج: 2: 285 - 288. وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 2: 70 - 71 وشروح جمع الجوامع: 2: 106 - 107.

ص: 227

العمدة فيه على المعنى لا اللفظ، فإذا رواه العالم على المعنى فقد أدى المطلوب المقصود منه.

يدل على ذلك اتفاق الأمة على أنه يجوز للعالم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية (1).

وأيضا فإن ذلك كما هو ظاهر "هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين، كثيرا ما كانوا ينقلون معنى واحدا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ".

تنبيهان:

1 -

ثمة أمر هام يجدر التنبه إليه، والتيقظ له، وهو أن هذا الخلاف في الرواية بالمعنى إنما كان في عصور الرواية قبل تدوين الحديث، أما بعد تدوين الحديث في المصنفات والكتب فقد زال الخلاف ووجب اتباع اللفظ، لزوال الحاجة إلى قبول الرواية على المعنى، "وقد استقر القول في العصور الأخيرة على منع الرواية بالمعنى عملا. وإن أخذ بعض العلماء بالجواز نظرا"(2).

فلا يسوغ لأحد الآن رواية الحديث بالمعنى، إلى على سبيل التذكير بمعانيه في المجالس للوعظ ونحوه، فأما إيراده على سبيل الاحتجاج أو الرواية في المؤلفات فلا يجوز إلا باللفظ.

وقد غفل عن هذا بعض من تصدر للحديث من العصريين حيث عزا

(1) انظر للتوسع الكفاية: 198 - 203. والمراجع الأصولية السابقة وتوجيه النظر للعلامة الشيخ طاهر الجزائري: 298 - 312 فقد استوفى الأقوال وأدلتها وناقش الموضوع مناقشة جيدة. وراجع قواعد التحديث للقاسمي: 222 - 225.

(2)

انظر التنبيه على ذلك في علوم الحديث: 191 وشرح الألفية: 2: 5 والباعث الحثيث: 143 وغيرها.

ص: 228

أحاديث كثيرة إلى مصادرها بغير لفظها، زاعما أنها "ليست قرآنا نتعبد بلفظه

! ".

2 -

ينبغي لمن يروي حديثا بالمعنى أن يراعي جانب الاحتياط وذلك بأن يتبعه بعبارة: "أو كما قال" أو"نحو هذا" وما أشبه ذلك من الألفاظ، فعل ذلك ابن مسعود، وأنس وأبو الدرداء، وغيرهم رضي الله عنهم (1).

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه حدث حديثا فقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثم أرعد وأرعدت ثيابه فقال: "أو شبيه ذا أو نحو ذا".

وعن أبي الدرداء أنه كان إذا حدث الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فرغ منه قال: "اللهم إن لا هكذا فكشكله".

وكان أنس إذا فرغ من الحديث قال: "أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).

شبهة حول الرواية بالمعنى:

هذا ما جرى عليه كثير من الرواة من الأخذ برخصة الرواية بالمعنى والعمل بموجبها لئلا يتعطل العمل بجملة كثيرة من الأحاديث، تعلم صحة مضمونها، ويؤدي اشتراط نقلها باللفظ إلى عسر يصعب على الرواة تخطيه أوالتغلب عليه.

ثم جاء بعض المستغربين يضرب على وتر أساتذة المستشرقين بالمزاعم والأوهام يثيرونها حول الحديث من وراء الرواية بالمعنى زاعمين أنه

(1) علوم الحديث المكان السابق.

(2)

انظر الروايات عن الصحابة وغيرهم في كتاب الكفاية: 205 - 206.

ص: 229

"إذا جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه فذلك يقتضي سقوط الكلام الأول، لأن التعبير بالمعنى لا ينفك عن تفاوت، فإن توالت المتفاوتات كان التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة".

وهذا الطعن يعتمد أصحابه على إثارة الوساوس في النفوس، بطريق المغالطة والتغافل العنيد عن الشروط التي أحاطها العلماء حول صحة الحديث والرواية بالمعنى، وهي شروط تجعل الناظر في تصرف المحدثين يطمئن إلى أن النقل بالمعنى لم يفوت جوهرالحديث، وإنما وضع مفردات موضع مفردات أخرى في نفس المعنى.

ونوجز لك بيان ذلك من وجهين (1).

1 -

إن الرواية بالمعنى لم تجز إلا لعالم باللغة، لا يحيل المعاني عن وجهها، وهذا بالنسبة للصحابة متوفر، فهم أرباب الفصاحة وأبناء بجدة اللغة في ما أوتوا من قوة الحفظ، وما توفر من أسبابه التي ذكرنا منها طرفا، ثم من جاء بعدهم يعرض على الاختبار، ولم يقبل العلماء إلا من توفر فيه هذا الشرط.

2 -

هب أن الراوي بالمعنى قد أخطأ الفهم وروى الحديث على الخطأ. أفيذهب الخطأ على العلماء؟ ! . هذا مالا يمكن! ! فإنهم يشترطون في الحديث الصحيح والحسن انتفاء الشذوذ والعلة منه، أي أن حديث الثقة لا يقبل حتى يعرض على روايات الثقات، ويتبين أنه موافق لها، سالم من القوادح الخفية.

وبذلك يجتنب ما قد يطرأ على الحديث نتيجة تناقله بين رجال السند، ولا يبقى لتوهم إخلال الراوي بالحديث أي صنع.

(1) وسنفصل بحث الرواية بالمعنى مع المناقشة حول هذه الشبهة في كتال الجرح والتعديل إن شاء الله.

ص: 230

ثالثا- اختصار الحديث:

وذلك بأن يروي المحدث بعض الحديث ويحذف البعض الآخر، بشرط أن لا يكون متعلقا به. منع منه بعض العلماء ممن منع الرواية بالمعنى، لكن جمهور المحدثين قديما وحديثا ذهبوا إلى جواز ذلك، وهذا هو الصحيح، بشرط أن يكون ما "تركه متميزا عما نقله غير متعلق به بحيث لا يختل البيان، لا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه،

لأن الذي نقله والذي تركه -والحال هذه- بمنزلة خبرين منفصلين، في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر" (1).

وقد درج على ذلك واشتهر به الإمام البخاري، فإنه يروي الحديث الواحد في مواضع كثيرة بحسب ما يستبط من الحديث من الفوائد والأحكام، ويروي في كل مناسبة الجملة التي تلائمها من متن الحديث، ويذكره بتمامه في بعض المواضع ليعلمه القارئ كله.

رابعا -مراعاة القواعد العربية:

قرر العلماء واتفقوا على أنه ينبغي لطالب الحديث أن يكون عارفا بالعربية. فعن الأصمعي أنه قال: "إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه".

وقال حماد بن سلمة رضي الله عنه: "مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها".

فالعجب بعد هذا من أناس لا يعلم أحدهم من العربية والنحو إلا

(1) علوم الحديث: 193. وقارن بكتابنا الإمام الترمذي: 102.

ص: 231

الاسم، بل إنه لا يقيم الكلام المضبوط بالشكل على الصواب، ثم يتسورون أصعب المراقين فيدعي أحدهم الاجتهاد في الحديث والاجتهاد في الفقه ويقابل كل مخالف لأهوائه بالشتم والسباب. ينصر بذلك السنة والدين، في زعمه الفاسد وخياله الغريب.

خامسا -مراعاة المحذوف في الخط:

وذلك كما ذكر ابن الصلاح وسائر العلماء: أنه "جرت العادة بحذف "قال" و"أن" ونحوهما فيما بين رجال الإسناد خطًا، ولا بد من ذكره في حالة القراءة لفظا، مثل: حدثنا أبو داود ثنا الحسن بن علي عن شبابة قال

". تقرأ هكذا: "حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي عن شبابة أنه قال

".

5 -

كتاب الحديث وصفة ضبطه:

هذا البحث يبرز العناية التي تفرد بها المحدثون في كتابة الحديث، حتى أصبحوا قدوة الطوائف الأخرى من العلماء، لكن الناظر في مراجع هذا الفن قد يتوهم بادي الرأي أن هذا البحث مجرد وصف تاريخي لكتابة الحديث لا علاقة له بموضوع علم الحديث، وهو النظر في سند الحديث ومتنه من حيث القبول أو الرد.

وهذا وهم خاطئ لا يلبث أن يتبدد إذا ما عرفنا أن الكتابة غدت منذ انتشار التدوين عنصرا هاما وركنا مكينا اعتمد عليه العلماء في حفظ

ص: 232

الحديث وضبطه، بعد أن طالت الأسانيد وتشعبت وكثرت فنون العلم، حتى عز على الذاكرة أحتواؤها دون مساعدة الكتاب، وقام الكتاب بدور كبير في الرواية يشبه دور الراوي كما أسلفنا (1).

وقد استن المحدثون للكتابة آدابا تحقق الضبط الكامل لما يكتب على الصحف، ووضعوا تبعا لذلك مصطلحات ساروا عليها، أصبح من الواجب على الكاتب بمقتضى ذلك أن يسير على خطة دقيقة في الكتابة لكي يكون كتابه مقبولا معتبرا.

كذلك يجب على طالب الحديث أن يعرف مصطلحاتهم في الكتابة ليكون أخذه سليما، فلا يأخذ من النسخ السقيمة، فيكون كمن حمل عن المخططين، ولا يخطئ في فهم مصطحاتهم فلا يستطيع الانتفاع بما خلفوه لنا من التراث الذي لا زال كثير منه مخطوطا لم يطبع. وكثير مما طبع منه لم يستوف شرط التحقيق العلمي الكامل! !

آداب كتاب الحديث:

وأهمها هذه الأمور التي تتوقف عليها صحة النسخة والانتفاع بها:

1 -

يجب على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلا ونقطا يؤمن معهما الالتباس، وكثيرا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيقظه، وذلك وخيم العاقبة، فإن الإنسان معرض للنسيان، وأول ناس أول الناس.

وينبغي أن يكون اعتناء الكاتب بضبط الملتبس من الأسماء أكثر من عنايته بضبط غيره من الأمور المتبسة، فإن الأسماء لا تدرك بالمعنى، ولا يستدل عليها بسياق الكلام.

(1) في بحث الإجازة: 215 - 216.

ص: 233

2 -

استحبوا في الألفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها، يعني أن تضبط في متن الكتاب ثم يكتبها الكاتب مقابل ذلك في الحاشية ويضبطها، وكثيرا ما وجدناهم يكتبون بإزائها كلمة "بيان" لئلا تظن إلحاقا.

3 -

ينبغي على طالب وطالب الحديث خاصة. أن يحافظ على كتبة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما، وكان بخيلا محروما.

ثم ليتجتب في إثباتها أمرين:

أحدهما: أن يرمز إليها بحرف مثل "ص" أو "صلعم" أو غير ذلك.

والثاني: أن يقتصر على كتابة الصلاة دون السلام دون السلام أو العكس.

4 -

على الطالب مقابلة كتابه بالأصل الذي أسمعهم الشيخ منه، أو بنسخة الشيخ الذي يرويه عنه، وإن كان إجازة، ولا يحل للمسلم التقي الرواية ما لم يقابل بأصل شيخه، أو نسخة تحقق ووثق بمقابلتها بالأصل.

عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم. قال: عرضت كتابك؟ قال: لا. قال: لم يكتب؟

وعن الأخفش قال: "إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا".

اصطلاحات كتاب الحديث:

ونكتفي بإيراد أهمها مما يتوقف عليه حسن الانتفاع بالكتب الحديثية المخطوطة وسلامة الأخذ منها:

ص: 234

1 -

ضبط الحروف المهملة: ضبط كثير من العلماء الحروف المهملة بعلامة تدل على عدم إعجامها أي عدم نقطها، واختلفت اصطلاحاتهم في ذلك مما يوجب التيقظ، والحذر من الوقوع في الخطأ. فمنهم من يقلب النقط، أي يجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشابهها من المهملات. فينقط نقطة تحت الراء، والصاد، والطاء، والعين، ونحوها من المهملات هكذا: ر، ص، ط، ء .....

ومن أهل هذا المذهب من ذكر ان النقط التي تحت السين المهملة تكون مبسوطة صفا، هكذا يبين، والتي فوق الشين المعجمة تكون كالأثافي، أي هكذا.

ومن الناس من يجعل علامة الاهمال فوق الحروف المهملة كعلامة الظفر مضجعة على قفاها هكذا س، ر ....

ومنهم من يجعل تحت الحرف المهمل رسما مصغرا لنفس الحرف مفردا، كالحاء، والدال، والطاء، والصاد وسائر الحروف الملتبسة.

2 -

الدائرة التي تفصل بين كل حديثين، أو بين كل فقرتين، هي علامة وضعوها للفصل والتمييز بين أحد الحديثين عن الآخر. واستحب الخطيب البغدادي أن تكون الدارات غفلا. فإذا قابل النسخة فكل حديث يفرغ من مقابلته ينقط في الدائرة التي تليه نقطة، أو يخط في وسطها خطًا.

3 -

التخريج: أي إثبات شيء ساقط من الكتاب في حواشيه، وصورته أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوق، ثم يحنيه بين السطرين إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق هكذا، أو

ويبدأ في الحاشية بكتبة الكلام الساقط مقابلا للخط المنحني، ثم يكتب في آخره كلمة "صح".

ص: 235

4 -

الحواشي: ما يكتب في الطرر والحواشي من تنبيه أوتفسير أو اختلاف ضبط، فلا يخرج له خط لئلا يشتبه باللحق، ويظن ظان أنه من نفس الأصل، لكن ربما جعل على الوضع المقصود بالحاشية علامة كالضبة أو التصحيح. وهذا اختيار القاضي عياض في الإلماع (1).

واختار ابن الصلاح أن يخرج لها خط يشبه الخط المنحني الذي يوضع للحق، لكن يفترق عنه بأن خط التخريج للحق يقع بين الكلمتين اللتين سقط بينهما الساقط، وخط التخريج للحاشية يقع على نفس الكلمة التي من أجلها كتبت الحاشية.

ووجدت كثيرا من العلماء يجعلون للتعليق في الحاشية علامة على هيئة الحاء التي في أول الكلمة متصلا بخط عليه نقط كالشين هكذا حشـ. وهذه الاصطلاحات ينبغي التنبه لها لئلا يشتبه ما يكتب في الحاشية من التعليقات باللحق الذي هو من أصل الكتاب.

5 -

التصحيح: هو كتابة "صح" على الكلام، أو عنده، وذلك إذا كان الكلام صحيحا رواية ومعنى غير أنه عرضة للشك أو الخلاف، فيكتب عليه "صح" ليعرف أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه.

6 -

التضبيب: ويسمى أيضا التمريض، ويجعل على الكلام الذي صح وروده كذلك من جهة النقل غير أنه فاسد لفظا أو معنى، أو ضعيف، أو ناقص، مثل أن يكون غير جائز من حيث العربية أو يكون شاذا وما أشبه ذلك. فيمد على مثل هذا الكلام خط أوله مثل الصاد، ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا وصورته هكذا صـ.

(1)164.

ص: 236

وينبغي التنبه إلى أن بعض النسخ استعمل فيها علامة التصحيح مختصرة على الحرف الأول، وقد يشتبه بالضبة، فلا بد في ذلك من التيقظ، "والفطنة" من خير ما أوتيه الإنسان".

7 -

الضرب: وهو خط يمد على الكلام الغلط الذي يراد نفيه وإلغاؤه من الكتاب.

وقد اختلفت اصطلاحتهم في كيفية الإلغاء بهذا الخط:

فالإمام الرامهرمزي يقول (1): "أجود الضرب أن لا يلمس المضروب عليه، بل يخط من فوقه خطا جيدا بينا يدل على إبطاله، ويقرأ من تحته ما خط عليه".

ويقول القاضي عياض في اصطلاحات المحدثين في ذلك (2): "

أكثرهم على ما تقدم من مد الخط عليه، لكن يكون هذا الخط مختلطا بالكلمات المضروب عليها، وهوالذي يسمى الضرب، والشق، ومنهم من لا يخلطه، ويثبته فوقه، لكنه يعطف طرف الخط على أول المبطل، وآخره ليميزه من غيره.

ومنهم من يستقبح هذا ويراه تسويدا وتطليسا في الكتاب، بل يحوق على الكلام المضروب عليه بنصف دائرة، وكذلك في آخره، وإن كثر فربما فعل ذلك في أول كل سطر وآخره من المضروب عليه للبيان، وربما اكتفى بالتحويق على أول الكلام وآخره.

وربما يكتب عليه "لا" في أوله، و"إلى" في آخره. ومثل هذا يصلح فيما يصح في بعض الروايات وسقط من بعض حديث أو من كلام، وقد يكتفى بمثل هذا بعلامة من ثبتت له فقط، أو بإثبات "لا"

(1) في المحدث الفاصل: 606 وانظر مهمات في كتاب الحديث: 605 - 609.

(2)

في الإلماع: 171 بعد أن نقل كلام المحدث الفاصل السابق.

ص: 237

و"إلى" فقط. وأماما هو خطأ محض فالتحويق التام عليه أو حكه أولى". انتهى.

ومن المحدثين من اكتفى بوضع دائرة صغيرة في أول الكلام الزائد ودائرة صغيرة في آخره، وسماها صفرا، لاشعارها بخلو ما بينهما من الصحة.

8 -

الرمز للألفاظ المكررة في الإسناد: غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في قولهم: "حدثنا" و"أخبرنا" شعاع ذلك وظهر جدا، أما حدثنا فيكتب شطرها الأخير وهو "ثنا" وربما اقتصر على الضمير منها "نا" وأما أخبرنا فيكتب الضمير مع الألف هكذا "أنا" ومنهم من يرمز إليها هكذا "أنبا".

وإذا كان للحديث إسنادان أو أثر فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته "ح" وهي حاء مفردة مهملة، للإشارة إلى التحويل من سند إلى آخر، ومنهم من كتب بدلا عنها "صح". والمختار لقارئ الحديث إذا صادف هذه الحاء أن يقرأها كما هي "حا"، ثم يمر إلى الكلام بعدها.

مصادر علوم الرواية:

وقد عني علماء المحدثين بتفاصيل أصول الرواية في التحمل والأداء وكتابة الحديث ع ناية كبيرة جدا، وخصوها بالتآليف الكبيرة التي تتناول شؤونها التفصيلية وفروعها الجزئية الدقيقة، أهمها:

1 -

"المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ألفه القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهزي "360".

2 -

"الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي "463".

3 -

"الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع" للقاضي عياض بن موسى اليحصبي "554".

ص: 238