الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدور الأول: دور النشوء
وذلك في عصر الصحابة الممتد إلى نهاية القرن الأول الهجري:
لما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم جوار ربه ولحق بالرفيق الأعلى، قام الصحابة من بعده بحمل مشعل الإسلام وسارت جحافلهم به تنقذ الإنسانية وتبلغ عنه صلى الله عليه وسلم ما علموه، وكان الصحابة على حفظ تام للقرآن الكريم، كما كانوا على إدراك ووعي للحديث النبوي، لما توفر لهم من الأسباب، والدواعي لحفظ الحديث.
عوامل حفظ الصحابة للحديث:
ومن أهم عوامل حفظهم للحديث:
1 -
صفاء أذانهم وقوة قرائحهم، وذلك أن العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب. والأمي يعتمد على ذاكرته فتنمو وتقوى لتسعفه حين الحاجة، كما أن بساطة عيشهم وبعدهم عن تعقيد الحضارة ومشاكلها جعلهم ذوي أذهان نقية، لذلك عرفوا بالحفظ النادر والذكاء العجيب، فهاهم أولاء يحفظون الأنساب منهما طالت وامتدت عبر الأجيال، ويحفظون بالسمعة الواحدة ما يلقى إليهم من القصائد الطويلة ومن خطبهم، وغير ذلك، مما سجله لهم التاريخ وحفظه لهم مفخرة لم تتوفر لأمة من الأمم.
2 -
قوة الدافع الديني، وذلك أن العرب أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا ولا فوز في الآخرة ولا سبيل للمجد والشرف ولا إلى المكانة بين الأمم إلا بهذا الإسلام، ولا سبيل للمجد والشرف ولا إلى المكانة بين الأمم إلا بهذا الإسلام، فتلقفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام ونهاية الحرص، ولا شك أن ذلك وحده كاف لقوة الحفظ كما هو مشاهد محسوس لكل فرد، إذا عظمت عنايته بمسألة وأهمه أمرها ثم عرف حلها فإنها ترسخ في حافظته فلا تنسى.
وقد ضاعف أثر هذا الدافع في نفوسهم تحريضه صلى الله عليه وسلم إياهم على حفظه حديثه وأدائه إلى الناس في أحاديث كثيرة تدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بذلك وتكرار الوصاة به، كحديث زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (1) وبذلك أصبح حفظ الحديث واجبا لكي يخرج المسلم من مسؤولية التبليغ الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3 -
مكانة الحديث في الإسلام، فإنه كما عرفت ركن أساسي، دخل في تكوين الصحابة الفكري وسلوكهم العملي والخلقي، حيث كانوا يأتسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، يتلقفون منه الكلمة فتخالط مخهم وعظمهم وكيانهم ثم يصوغونها عملا وتنفيذا. وذلك لا شك يؤدي للحفظ، ويحول دون النسيان، لأنه الوسيلة للبراءة من العهدة، وللتحقق بالاتباع.
4 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الصحابة سيخلفونه في حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، فكان يتبع الوسائل التربوية في إلقاء الحديث عليهم، ويسلك سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلا لتحمل المسؤولية، فكان من شمائله في توجيه الكلام:
أ- أنه لم يكن يسرد الحديث سردا متتابعا، بل يتأنى في إلقاء الكلام ليتمكن من الذهن.
ب- أنه لم يكن يطيل الأحاديث، بل كان كلامه قصدا. وقد
(1) أبو داود "فضل نشر العلم": 3: 322 والترمذي: 5: 33 - 34 وابن ماجه بلفظه: 1: 84. والحديث متواتر، هذا أحد ألفاظه.
أشارت إلى هذين الأمرين السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت:
"كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه" متفق عليه (1). وعنها قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه" أخرجه الترمذي (2).
جـ- أنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعيد الحديث لتعيه الصدور كما في البخاري (3) وغيره أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه".
5 -
أسلوب الحديث النبوي فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم قوة البيان التي يندر مثلها في البشر. ومن هنا نجد القرآن يسمي الحديث "حكمة"(4).
ولا شك أن البيان البليغ يأخذ بمجامع القلوب ويسري في كيان الإنسان الذهني والعاطفي، فكيف إذا كان هذا المستمع ابن بجدة البلاغة المذواق لها، المشغوف بها.
6 -
كتابة الحديث:
وهي من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها للأجيال، وقد كانت
(1) البخاري: 4: 190، ومسلم: 8: 229.
(2)
في الشمائل: 2: 8 بشرح القاري والمناوي. وأصله في البخاري: 4: 190.
(3)
في العلم: 1: 26، والشمائل: 2: 9.
(4)
الرسالة للإمام الشافعي: 78.
أحد العوامل في حفظ الحديث، على الرغم مما وقع فيها من اختلاف الروايات، وتباين الوجهات، حتى صنفت فيها التآليف في القديم والحديث (1).
أخرج البخاري (2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب".
وفي سنن أبي داود والمسند (3) عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه؟ فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ ! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بيده إلى فيه فقال:"اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق".
كذلك وردت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات وقوع الكتابة للحديث النبوي في عهده صلى الله عليه وسلم.
(1) مثل كتاب تقييد العلم للخطيب البغدادي. وكتاب السير الحثيث في تاريخ تدوين الحديث لمحمد زبير الصديقي وكتاب "تدوين الحديث" باللغة الهندية تأليف مناظر حسن كيلاني. وانظر فصل "حول تدوين الحديث" من كتاب "علوم الحديث ومصطلحه" للدكتور صبحي الصالح، ففيه تحقيق ومناقشات قيمة. وكتاب "السنة قبل التدوين" للزميل الدكتور محمد عجاد خطيب. وتاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين، 1/ 1/ 225 وما بعد، وفيه تحفظ مفيد على بعض هذه الدراسات، فانظره.
(2)
في كتاب العلم "باب كتابة العلم": 1: 148 بشرح فتح الباري والترمذي: 5: 40.
(3)
أبو داود في العلم: 3: 318، والمسند: 2/ 205.
وقد عارض ذلك ما أخرجه مسلم وأحمد (1) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه".
ووردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك من رواية جماعة من الصحابة كأبي هريرة وزيد بن ثابت (2)، مما لا يدع مجالا للتردد في صحة ثبوت ذلك عنه عليه السلام، كما أنه لا مجال للشك في إذنه صلى الله عليه وسلم في الكتابة.
وقد اختلفت آراء العلماء في إزالة هذا التعارض، وفي التوفيق بين الأحاديث: فالإمام ابن قتيبة " (276) هـ" في "تأويل مختلف الحديث"(3) يقول: "إن في هذا معنيين: أحدهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة، كأنه نهى في أول الأمر عن أن يكتب قوله، ثم رأى بعد ذلك لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد. والمعنى الآخر: أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أميين، لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له".
وأبدى الخطابي رأيا له وجاهته، قال في معالم السنن (4): "يشبه
(1) مسلم في الزهد: 8: 229، والمسند بلفظه: 3: 21.
(2)
انظر تقييد العلم: 29 - 35. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 1: 63 - 64 وغيرهما.
(3)
286 - 287، وانظر ص 290.
(4)
شرح مختصر سنن أبي داود: 5: 246، وقارن بتهذيب السنن للمنذري: 5: 247، وانظر تعليق ابن القيم. وتوجيه النظر ص 5 - 6.
أن يكون النهي متقدما، وآخر الأمرين للإباحة. وقد قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم بالخط منهيا عنه فلا".
ويميل الرامهرمزي إلى نسخ النهي عن الكتابة، فيقول: أحسبه أنه كان محفوظا في أول الهجرة وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن" (1).
هذه جملة آراء العلماء في بحث إشكال التعارض بين الروايات، وكلها اجتهادات يعوزها الاستناد النقلي اللهم إلا القول بالنسخ فقد استدل له من النقل، ومال إليه كثير من العلماء كالمنذري وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وذلك لأن الإذن بالكتابة متأخر عن النهي عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه
…
" يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها. وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة". ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله.
وهذا الرأي في التحقيق ينبغي أن لا يجعل منافيا للآراء السابقة بل إنه متمم لها حيث نأخذ من تلك الآراء علة النهي السابق، وأنه لما زالت العلة ورد الإذن بالكتابة (2).
(1) المحدث الفاصل ق 56 - ب، ص 386. وتهذيب السنن نفس المكان. انظر تصدير تقييد العلم للدكتور يوسف العش ص 9، وكتاب الحديث والمحدثون للدكتور محمد محمد أبو زهو: 122 - 125. والمنهج الحديث في علوم الحديث للدكتور محمد محمد السماحي: 36 وقد جمع النووي الأقوال في شرح مسلم: 18: 130.
(2)
لذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: 1: 149 "وهو أقربها مع أنه لا ينافيها"
إلا أننا نلاحظ أن القول بالنسخ لا يحل الإشكال في هذه المسألة؛ لأن النهي عن الكتابة لو نسخ نسخا عاما لما بقي الامتناع عن الكتابة في صفوف الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولأقيمت الحجة عليهم من طلبة العلم الذين كانوا على أشد الحرص على تدوين الحديث فما زال المشكل بحاجة إلى مخلص مناسب لحله.
والذي يهدي إليه النظر في هذه المسألة أن الكتابة لا ينهى عنها لذاتها، لأنها ليست من القضايا التعبدية التي لا مجال للنظر فيها ولأنها لو كانت محظورة لذاتها لما أمكن صدور الأذن بها لأحد من الناس كائنا من كان.
وعلى هذا فإنه لا بد من علة يدور عليها الإذن والمنع في آن واحد. والعلة التي تصلح لذلك في اختيارنا هي خوف الانكباب على درس غير القرآن، وترك القرآن اعتمادا على ذلك (1).
ذلك أننا تأملنا أقوال الصحابة الذين امتنعوا عن الكتابة وحظروها فإذا بنا نجدهم يصرحون بذلك: هذا أبو نضرة يقول قلنا لأبي سعيد: "لو كتبتم لنا، فإنا لا نحفظ قال: لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما نحفظ عن نبيكم"(2) فهذا أبو سعيد الخدري وهو راوي الحديث يفسر النهي عن الكتابة بأنه خشية أن يجعل الحديث موضع القرآن، وراوي الحديث أعلم بما روى كما يقرر العلماء.
وعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن،
(1) وقد وقع ذلك للأسف في هذا العصر لبعض المتصدرين في الحديث أنه ربما عرضت لبعضهم الآية من القرآن فلم يعرف أنها من كتاب الله تعالى! !
(2)
أخرجه الخطيب في تقييد العلم: 36. وابن عبد البر في جامعه: 1: 64.
فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال:
"إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى. وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا"(1).
وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقروه، مما يدل على استقرار أمر هذه العلة في نفوسهم. ولذلك فإن هذا المعنى نقل عن جماعة من الصحابة كابن عباس (2) وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري (3) بل نقل ذلك ابن سيرين عن الصحابة عموما فقال:
"كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها"(4). قال الخطيب في تقييد العلم (5):
"فقد ثبت أن كراهة الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره أو يشتغل عن القرآن بسواه
…
".
من أجل ذلك نجد أن الكتابة التي أذن بها هي التي لا تتخذ طابع التدوين العام، أي لا تتخذ مرجعا يتداول بين الصحابة ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا بكتابة الحديث كما أمر بكتابة القرآن، وإنما أذن لأفذاذ من الصحابة بذلك، ولم يكن الصحابة رضوان الله
(1) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 49، وابن عبد البر في جامع بيان العلم: 1: 64. والروايات عن عمر في ذلك كثيرة.
(2)
في تقييد العلم ص 43.
(3)
المرجع السابق: 53 - 56. وجامع بيان العلم: 1: 64 - 67.
(4)
تقييد العلم: 61.
(5)
المرجع السابق: 57.
عليهم يتداولون تلك الصحف من الحديث، ولم نجد في شيء من الروايات أن أحدا فعل ذلك. وإنما كانت تلك الصحف بين أيديهم بمثابة المذكرات فلما انتشر علم القرآن وكثر حفاظه وقراؤه وأمن على علمه أن لا يفي بكفاية المجتمع أو أن يلتبس به غيره لدى الناس أقبلت الأمة على تدوين الحديث تدوينا اتخذ صبغة العموم، وتداولت صحفه المكتوبة، وذلك بأمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز.
المرحلة الأولى: مرحلة جمع الحديث في صحف بمن يكتب دون أن تتداول بين الناس وهذه بدأت منذ عهده صلى الله عليه وسلم وبإذنه.
المرحلة الثانية: الكتابة التي تقصد مرجعا يعتمد عليه ويتداولها الناس وهذه بدأت من القرن الثاني للهجرة. وكانت في كل من هاتين المرحلتين مجرد جمع للأحاديث في الصحف غالبا لا يراعى فيها تبويب أو ترتيب معين، ثم جاء دور التصنيف الذي اتخذت فيه الكتابة طابع التبويب والترتيب من منتصف القرن الثاني، وبلغ أوجه وذروته في القرن الثالث المعروف بعصر التدوين.
وقد تناولت الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم قسما كبيرا من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنفا كبيرا من المصنفات الحديثية. ومما ورد كتابته من الحديث:
1 -
الصحيفة الصادقة: التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص، قال عبد الله بن عمرو: حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل (1)، وكان عبد الله يعتز بها يقول: "ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة
(1) أسد الغابة: 3: 233.
والوهط" (1). وقد انتقلت هذه الصحيفة إلى حفيده عمرو بن شعيب. وأخرج الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو من كتابه المسند قسما كبيرا من أحاديث هذه الصحيفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
2 -
صحيفة علي بن أبي طالب: وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل -أي مقادير الديات- وعلى أحكام فكاك الأسير.
أخرج نبأها البخاري (2) وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت هل عندكم كتاب؟ قال: قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال العقل. وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
3 -
صحيفة سعد بن عبادة الصحابي الجليل -15 هـ. أخرج الترمذي في سننه (3) عن ابن سعد به عبادة "وجدنا في كتاب سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد". لكن لم نعثر على
(1) سنن الدارمي: 1: 127. والوهط أرض وقفها أبوه عمرو في الطائف، كان عبد الله يقوم برعايتها.
(2)
في العلم باب كتابة العلم: 1: 29.
(3)
ج 3 ص 280 شرح تحفة الأحوذي، وانظر المسند: 5: 285. وقد وهم من قال: ويروي البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده، فإن لفظ البخاري بسنده عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له أن عبد الله بن أبي أوفى كتب إليه فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهذا ظاهر في أن ابن أبي أوفى كتب إلى عمر بن عبيد الله فمن أين جاء الزعم أن صحيفة سعد نسخة من صحيفة ابن أبي أوفى، ثم إن سعدا معروف بالكتابة منذ الجاهلية وهو أسبق إسلاما ووفاة، ولم يعرف عبد الله بالكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون سعد هو الكاتب عنه والأعجب منه أن بعض معاصرينا سرى عليه الوهم وأحال على صحيح البخاري بشرح السندي ص 143 ج 2. باب الصبر عند القتال -دون أن ينظر أو يتأمل لفظ رواية البخاري الذي ذكرناه .. ! ! .
غير هذا الحديث من هذا الكتاب. ولعل كثيرا من الأحاديث التي رويت عن سعد من هذا الكتاب (1).
4 -
كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله فيما يتعلق بتدبير شؤون الأقاليم الإسلامية وأحوالها، وفي بيان أحكام الدين، وهي كتب كثيرة تشتمل على مهمات أحكام الإسلام وعقائده، وخطوطه العريضة، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعية للزكاة، والديات والحدود والمحرمات وغير ذلك. ومن هذه الكتب:
أ- كتاب الزكاة والديات الذي كتب به أبو بكر الصديق وأخرجه البخاري في صحيحه (2) فقد روى أبو داود والترمذي (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه حتى قبض.
ب- كتاب لعمرو بن حزم عامله على اليمن وفيه أصول الإسلام، وطريق الدعوة إليه، والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات (4).
(1) هذه بعض الصحف المكتوبة في عصر النبوة، وقد ذكر بعض الباحثين صحفا لبعض الصحابة كجابر، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن أبي أوفى، لم نجد ما يدل على كتابتها في عهده صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها كتبها سامعوها عنهم، أو أنهم كتبوها بعد عصر النبوة.
(2)
في الزكاة مختصرا في أبواب متفرقة منها "باب زكاة الغنم": 2: 118، وأخرجه مطولا أبو داود 2: 96 - 97 والنسائي: 5: 13 - 14.
(3)
أبو داود نفس المكان. والترمذي: 3: 17.
(4)
أخرج بعضه مالك وغيره وأخرجه البيهقي مطولا في الدلائل. انظر تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 1: 157 - 159، وأبو عبيد في كتاب الأموال: 357 وما بعدها. والتراتيب الإدارية للكتاني: 1: 168 - 171. والمصباح المضي ق 96.
جـ- كتابه إلى وائل بن حجر لقومه في حضرموت فيه الأصول العامة للإسلام، وأهم المحرمات (1).
5 -
كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء. وإلى أمراء العرب يدعوهم فيها إلى الإسلام ككتابه إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس بمصر، وغير هؤلاء (2).
6 -
عقوده ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار، كصلح الحديبية، وصلح تبوك، وصحيفة المعاهدة التي أبرمت في دستور التعايش بين المسلمين في المدينة وبين من جاورهم من اليهود وغيرهم.
7 -
كتب أمر بها صلى الله عليه وسلم لأفراد من أصحابه لمناسبات ومقتضيات مختلفة، مثل كتابة خطبته لأبي شاه اليماني.
وغير ذلك مما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم مما لم نحصه هنا، أو لم نحط به علما. وهذا كاف لإثبات تواتر الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم وإثبات أن ما كتب فيه عهده صلى الله عليه وسلم تناول قسما كبيرا من حديثه، هو أهم هذه الأحاديث، وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور ذات الأهمية، وعلى أحكام دقيقة تتعلق بالأرقام تحتاج إلى ضبط دقيق، مما يجعل الكتابة عنصرًا هامًا في حفظ الصحابة للحديث ينضم إلى العوامل الأخرى ليدعمها ويؤازرها في تحقيق تحمل الصحابة للحديث النبوي تحملا حافظا أمينا كافلا بأن يؤدوه بعد ذلك كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) الطبقات: 287 و 349 و 351 والمصباح المضي ورقة 112.
(2)
جمعت هذه الكتب في رسالة اسمها إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين للحافظ محمد بن علي بن طولون الدمشقي. وعني بجمعها صاحب المصباح المضي وهو أجمع ما اطلعنا عليه في ذلك.
رأي بعض المستشرقين في كتابة الحديث:
هذا وعلى الرغم من توفر أسباب الحفظ المكين للحديث لدى الصحابة، فقد أطلق بعض المستشرقين لخيالهم العنان، وراحوا يقولون ما شاء لهم القول في هذه المسألة. وذلك أن كثيرا منهم وعلى رأسهم جودل زيهر قد سمحوا لأنفسهم أولا بإنكار وقوع تقييد الحديث في هذه الفترة حتى مطلع القرن الهجري الثاني بل إن بعضهم ليغلوا في ذلك حتى يزعم أن الحديث لم يدون حتى مطلع القرن الثالث، ثم بنوا على هذا زعمهم أن الحديث كان في تلك الفترة مضيعا لانقطاع كتابته بزعمهم خلال هذه الفترة الطويلة.
والحقيقة أن إنكار تقييد الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأتي ممن يتحاكم إلى الانصاف، ويسلك نهج العلم، فإن روايات كتابته قد تعددت بالأسانيد الموثوقة الكثيرة جدا في مختلف مراجع السنة، مما يبلغ بها درجة التواتر الذي يقطع من يطلع عليه من العلماء، ويتحقق وقوع الكتابة للحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما تقييد العلم في عصر بن عبد العزيز فليس يعني أبدا أنه لم يدون من قبلن غاية الأمر أن هذا الخليفة العادل وجد كثيرا من العلماء يحجم عنه كما أنهم لم يكونوا يتداولون الكتب ليعتمدوا عليها، فأصدر أمره بكتابة الحديث لينتقل بالعلم إلى التدوين العام، الذي يعتمد مع الحفظ على الكتابة، ويجعل الكتابة مرجعا متداولا معتمدا لا يختص بصاحبه فقط. وذلك ما ترمي إليه عبارة الحفاظ ابن حجر حين قال:(1)"إن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة".
(1) في هدي الساري مقدمة شرح البخاري ج 1 ص 4.
ومن فهم من كلام الحافظ غير ذلك فقد وهم ولم يحقق النظر (1).
على أننا في دفاعنا هذا لا نزعم أن كل الحديث قد كتب، ونحن بالتالي لا نرتضي مسلك بعض الكاتبين حول هذه المسألة الذي ينجو إلى الغلو والزعم بأن التدوين تناول كل الحديث في عصر النبوة. وكأنهم يصدرون في ذلك عن رد الفعل من موقف بعض المستشرقين الذي يثير الحمية لإمعانه في تجاهل الحقائق.
بل إنا لا نبالي أن نقول إن شيئا من الحديث لم يكتب لولا توافر الدلائل العلمية التي تبلغ درجة المسلمات في نطاق العلم على إثبات الكتابة لقسم كبير من الحديث في عصر النبوة.
لقد أخطأ التوفيق جماعة المستشرقين وخانهم منذ الخطوة الأولى التي خطوها في فذلكة موضوع التدوين، حيث إنهم غفلوا أو تجاهلوا عوامل الحفظ الكثيرة التي توفرت في الصحابة، وهي بلا شك عوامل كافية كل الكفاء لحفظ الحديث النبوي فتوهموا أن القدح في تدوين الحديث يوصلهم إلى غرضهم.
وهذا دأب الذين يظلمون الحقائق إنهم لا بد أن يرجعوا بالخيبة والخسران، وإن تقليب أي كتاب في تاريخ الصحابة العلمي ليملأ القلب، والسمع والبصر، بما كانوا عليه من قوة الحفظ العجيب الذي فطروا عليه بجبلتهم، فكيف وقد وجدت لديهم تلك الدوافع التي تجعل الأحاديث تنقش في قلوبهم نقشها في الحجر.
(1) وأما ما زعمه "جولد زيهر" أن الأحاديث الواردة في كتابة الحديث موضوعة فنوع من جموح الخيال، أراد به صاحبه أن يلصق بعلماء الإسلام ما اجترحه الأحبار في ديانتهم المقدسة، فاخترع هذا الزعم، وهو فرية لا تستحق النظر، فضلا عن الرد. وانظر الرد عليها إن شئت تصدير تقييد العلم للدكتور يوسف العش.
قوانين الرواية في عهد الصحابة:
قام الصحابة رضوان الله عليهم بالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا من أجله غاية ما في الوسع البشري، لكن لم يغفلوا في وقدة حماسهم للدعوة، عن أمر جوهري هام ألا وهو صون هذا التراث من التحريف، وقد كان لهم في عوامل الحفظ الذاتية التي اشتمل عليها هذا الدين القويم، تلك العوامل المعجزة التي جعلته شامخا أمام الأحداث، وفي وجه التيارات الجارفة لا يأتيه الباطل من بيد يديه، ولا من خلفه، كان فيها خير ملهم لهم، وموضح لائمة العلم سبيل المحافظة على تراث النبوة، فهذه توجيهات الشريعة تضع الركن الأساسي لأصول النقل ولقانون العلم النقلي الصحيح الذي يجب أن يتحقق فيه كي يكون علما يتبع، كقوله تعالى:
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر عنه: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وكقوله تعالى في التثبت: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حمل ناقل الكذب إثم الكاذب المفتري وذلك في الحديث الصحيح المستفيض المشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
فتفرعت من هذه التوجيهات المعجزة أصول قوانين الرواية التي تكفل حفظ الحديث وصيانته، وكان الناس آنذاك على أصل العدالة
لا حاجة إلى الجرح والتعديل، لأن العصر هو عصر الصحابة، وهم جميعهم عدول، فلم يكن يحتاج لأكثر من التحرز عن الوهم (1).
فابتع الصحابة من قوانين الرواية ما يحتاج إليه في عصرهم، للتثبت من صحة النقل، والتحرز من الوهم، وما زالت هذه القوانين تتفرع لتلبية المطالب المستجدة عصرا بعد عصر، حتى بلغت ذروتها.
وأهم قوانين الرواية في عهد الصحابة:
أولا: تقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تزل أقدام المكثرين بسبب الخطأ أو النسيان، فيقعوا في شبهة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون، فضلا عن قصدهم أن يتفرغ الناس لحفظ القرآن، ولا ينشغلوا عنه بشيء، فكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يشددان في ذلك. وقد سلك عموم الصحابة هذا السبيل، حتى اشتهر واستفاض عنهم مرفوعا وموقوفا:"كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع"(2).
ثانيا: التثبت في الرواية عند أخذها وعند أدائها. قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3): وكان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: "ما أجد لك في
(1) أما المنافقون فكانوا أحقر من أن يحملوا علما أو يؤخذ عنهم العلم، انظر أثبات هذا الموقع للمنافقين، قسم التاريخ: 62 و 517 - 522.
(2)
روي ذلك عن جماعة من الصحابة، انظر الرواية عن بعضهم في مقدمة صحيح مسلم ص 8. وقارن بالبخاري في العلم "باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم": 1: 29. وسنن ابن ماجه: 10 - 13 وانظر توجيه النظر: 14 - 16.
(3)
من تذكرة الحفاظ ص 2.
كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك. فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه".
وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربنا كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، فروى الجر يري -يعني سعيد بن إياس- عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن لهن فرجع، فأرسل عرم في أثرهن فقالك لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع" قال: لتأتيني على ذلك بينة أو لأفعلن بك. فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم، كلنا سمعه. فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره".
وقال في ترجمة علي رضي الله عنه (1): "كان إماما عالما متحريا في الأخذ بحيث إنه يستحلف من يحدثه بالحديث
…
".
ثالثا: نقد الروايات "وذلك بعرضها على نصوص وقواعد الدين، فإن وجد مخالفا لشيء منها ردوه وتركوا العمل به، هذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيما أخرج مسلم (2) عنه: يسمع حديث فاطمة
(1) ص 10.
(2)
في الطلاق: 4: 198. والقصة أخرجها أيضا البخاري "باب قصة فاطمة بنت قيس" ج 7 ص 73 وأبو داود: 2: 288، والترمذي ج 3 ص 484 والنسائي: 2: 116، وابن ماجه ص 653، والموطأ ج 2 ص 30 والمسند ج 6 ص 373 وسنن الدارقطني ج 4 ص 22 - 272 والبيهقي ج 7 ص 321 و 431 و 471 و 475. وأما زيادة "أصدقت أم كذبت" فلا أصل لها في رواية الحديث، وقد استغلها أعداء الإسلام، والعجب أن يذكرها بعض الكاتبين في "أصول الحديث" أو أصول الفقه، ثم يعزوها لمسلم أيضا، ومسلم وغيره منها براء! !
بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سكنى ولا نفقة، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .
وتلكم عائشة رضي الله عنها، فيما أخرجه الشيخان (1) سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". فقالت: رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال:"إن يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} زاد مسلم "إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ".
وجدير بالتنبيه أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ضبط الحديث لا لتهمة أو سوء ظن، فهذا عمر رضي الله عنه يقول:"إني لم أتهمك ولكن أحببت أن أثبت". وكذلك رد بعض الأحاديث كان اجتهادا منهم لمخالفتها ما استنبطوه من القرآن، لذلك نجد بعض الصحابة ومن بعدهم عملوا بما رده غيرهم، لأنهم باجتهادهم رأوه غير معارض للأدلة.
(1) البخاري في الجنائز: 2: 77 - 80، ومسلم: 3: 42 - 43. وذكره الزركشي في الإجابة 102 - 103 وانظر 76 - 77. والسيوطي في عين الإصابة ق 92 أ. وقد جمع هذا الإمامان في كتابيهما ما ورد من استدراك عائشة على الصحابة ومناقشاتها، فأفادا فوائد عظيمة.
ظهور الوضع ووسائل مكافحته:
برز قرن الفتنة التي أدت إلى مقتل الإمام الشهيد عثمان بن عفان ثم مقتل الإمام الحسين رضي الله عنهما، وظهرت الفرق المنحرفة، وراح المبتدعة يبحثون عن مستندات من النصوص يعتمدون عليها في كسب أعوان لهم، فعمدوا إلى الوضع في الحديث فاختلفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقلن فكان مبدأ ظهور الوضع في الحديث منذ ذلك الوقت.
وقد انتدب الصحابة للمحافظة على الحديث، واجتهدوا في ذلك متبعين أقصى وأحكم ما يمكن من وسائل البحث والفحص الصحيحة.
ومن ذلك أنهم:
أولا: عنوا بالبحث في إسناد الحديث وفحص أحوال الرواة بعد أن كانوا من قبل يرجحون توثيق من حدثهم.
أخرج مسلم في مقدمة صحيحه والترمذي في علل الجامع عن محمد ابن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى حديث أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
ثانيا: حث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به دينا وورعا، وحفظا وضبطا، حتى شاعت في عرف الناس هذه القاعدة:"إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها"(1).
(1) أخرج ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: 1/ 1/ 15 عن عدد من التابعين بلفظ: "كان يقال: إنما هذه الأحاديث .. " وهذا التعبير يفيد اتفاق الصحابة.
وبذلك نشأ علم ميزان الرجال: "الجرح والتعديل" الذي هو عمود أصول الحديث.
فقد تكلم من الصحابة في الرجال: عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك. وكان كلاما قليلا، لقلة الضعف وندرته.
ثم تكلم من التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة " (93) هـ" وعامر الشعبي " (104) هـ" وابن سيرين " (110) هـ"(1).
ثالثا: الرحلة في طلب الحديث، لأجل سماعه من الراوي الأصل، والتثبت منه وقد وافتنا أخبار رحلاتهم بالعجيب المستغرب إذ بلغ بهم الأمر أن يرحل الرجل في الحديث الواحد مسافة شاسعة، على الرغم مما كان في مواصلاتهم من المشقات والتعب. ومن ذلك.
أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يرحل إلى عقبة بن عامر يسأله: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر على مؤمن في الدنيا ستره الله يوم القيامة". فأتى راحلته فركب ثم رجع (2).
فسن الصحابة الرحلة في طلب الحديث للتثبت منه وسلك التابعون سبيلهم فكانوا يرحلون إلى الصحابة ويسألونهم عن الأحاديث، كما روى الخطيب (3) بأسانيده عن سعيد بن المسيب قال:"إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد".
(1) توجيه النظر: 114.
(2)
المسند: 4: 153، وانظر الآثار في فتح الباري: 1: 158 - 159 وأول كتاب العلم في سنن أبي داود. وقد جمع الخطيب البغدادي أخبار الراحلين في الحديث الواحد من الصحابة ومن بعدهم في جزء لطيف سماه "الرحلة في طلب الحديث" حققناه واستدركناه عليه بقدر حجمه.
(3)
في كتابه الرحلة في طلب الحديث ص 127 - 128 بتحقيقنا.
وفي الصحيحين (1): جاء رجل إلى الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن أناسا عندنا يقولون: إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته؟ ! قال الشعبي حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين
…
". ثم قال الشعبي: خذها قد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة.
واستمل شأن العلماء على ذلك فيما بعد حتى أصبحت الرحلة من ضرورات التحصيل.
رابعا: ومن طريق معرفة الوضع والضعف في الحديث عرض حديث الراوي على رواية غيره من أهل الحفظ والاتقان، فحيث لم يجدوا له موافقا على أحاديثه أو كان الأغلب على حديثه المخالفة ردوا أحاديثه أو تركوها.
وغير ذلك من الوسائل التي اتبعوها وبها ميزوا الصحيح من السقيم والسليم من المدخول. وهكذا لم ينقض القرن الأول إلا وقد وجدت أنواع من علوم الحديث منها:
1 -
الحديث المرفوع
2 -
الحديث الموقوف
3 -
الحديث المقطوع
4 -
الحديث المتصل
5 -
الحديث المرسل
6 -
الحديث المنقطع
7 -
المدلس
وغير ذلك من أنواع، وكانت كلها تنقسم إلى قسمين:
1 -
المقبول: وهو الذي سمي فيما بعد بالصحيح والحسن.
2 -
المردود: وسمي بعد ذلك الضعيف وأقسامه كثيرة.
(1) البخاري في العلم: 1: 27، ومسلم: 1: 93 وانظر كتاب الرحلة: 141.