المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع - منهج النقد في علوم الحديث

[نور الدين عتر]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌التقريظ:

- ‌تصدير الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث

- ‌الفصل الأول: تمهيد في منشأ مصطلح الحديث:

- ‌الرواية والدراية في علم الحديث:

- ‌الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

- ‌مدخل

- ‌الدور الأول: دور النشوء

- ‌الدور الثاني: وهو دور التكامل

- ‌الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة

- ‌الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا

- ‌الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث

- ‌الدور السادس: عصر الركود والجمود

- ‌الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث

- ‌الباب الثاني: في علوم رواة الحديث

- ‌الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

- ‌الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي

- ‌المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية

- ‌المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة

- ‌الباب الثالث: في علوم رواية الحديث

- ‌الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي

- ‌الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله

- ‌نتيجة الباب

- ‌الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد

- ‌الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

- ‌الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود

- ‌نتائج الباب:

- ‌الباب الخامس: في علوم المتن

- ‌الفصل الأول: في علوم الحديث من حيث قائله

- ‌الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته

- ‌نتيجة عامة:

- ‌الباب السادس: في علوم السند

- ‌الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال

- ‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

- ‌نتائج مهمة:

- ‌الباب السابع: في العلوم المشتركة بين السند والمتن

- ‌الفصل الأول: في تفرد الحديث

- ‌الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم

- ‌الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث

- ‌نتيجة وموازنة:

- ‌الخاتمة:

- ‌مناقشات ونتائج عامة:

- ‌شبهات ومناقشات:

- ‌أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه

- ‌ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث

- ‌ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون

- ‌رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

- ‌ ثبت المصادر المخطوطة مع بيان أماكن وجودها مختصرا:

- ‌ ثبت المراجع المطبوعة:

- ‌للمؤلف:

الفصل: ‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

‌الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

الانقطاع مأخوذ من القطع، وهو لغة فصل شيء عن شيء، قطعته فانقطع. ضد الوصل والاتصال. والمقصود هنا وقوع سقط في سلسلة الإسناد.

ويشمل هذا الفصل الأنواع الآتية:

1 -

المنقطع.

2 -

المرسل.

3 -

المعلق.

4 -

المعضل.

5 -

المدلس.

6 -

المرسل الخفي.

وإليك تفصيل البحث في كل:

ص: 366

1 -

المنقطع:

اختلفت أقوال العلماء في هذا المصطلح الحديثي اختلافا كثيرا يرجع في رأينا إلى التدرج التاريخي لاستعمال هذا الاصطلاح بين المتقدمين والمتأخرين.

وأولى تعاريفه تعريف الحافظ ابن عبد البر (1) وهو:

المنقطع كل ما لا يتصل، سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره.

فهو ما سقط منه راو أو أكثر من أي موضع من السند، وفيه يقول صاحب المنظومة البيقونية:

وكل ما لم يتصل بحال

إسناده منقطع الأوصال

على ذلك درج المتقدمون، وقال النووي:"إنه الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء والخطيب وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين"(2).

وعليه يكون المنقطع أصلا عاما تندرج تحته أنواع الانقطاع.

أما المتأخرون فجعلوه قسما خاصا، وعرفوه بأنه: هو الحديث الذي سقط من رواته راو واحد قبل الصحابي في موضع واحد أو موضع متعددة

(1) في مطلع كتابه "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 1: 21.

(2)

التقريب نسخة الشرح: 126 - 127. وانظر الكفاية: 21. وعليه حمل الشراح كلام الحافظ في شرح النخبة، انظر شرح الشرح: 114، ولقط الدرر، 65 - 66 وفيه عندنا تأمل ونظر.

ص: 367

بحيث لا يزيد الساقط في كل منها على واحد وألا يكون الساقط في أول السند (1).

وهذا التعريف جعل المنقطع مباينا لسائر أنواع الانقطاع، حيث خرج بقولهم:"واحد" المعضل، و"بما قبل الصحابي" المرسل، وبشرط أن لا يكون الساقط أول السند خرج المعلق (2).

ومن أمثلة المنقطع:

1 -

حديث أبي داود (3): "حدثنا شجاع بن مخلد ثنا هشيم أخبرنا يونس بن عبيد عن الحسن أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولايقنت بهم إلا في النصف الباقي .. ".

فهذا إسناد منقطع، "الحسن البصري ولد سنة إحدى وعشرين، ومات عمر في أواخر سنة ثلاث وعشرين، أو في أول المحرم سنة أربع وعشرين"(4) فأنى يمكن للحسن أن يسمع عمر.

2 -

حديث الترمذي في العلل الكبير (5): "حدثنا علي بن حجر حدثنا معمر بن سليمان الرقي عن الحجاج بن أرطأة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: استكرهت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الشي أصابها .. الحديث".

(1) وعليه جرى الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها كما يوحي سياقه وأما على المذهب الأونل الذي اخترناه فإن هذا يدخل في عمومه ويأخذ حكمه منه.

(2)

حاشية الأبياري: 32، وانظر التدريب:127. إلا أنا لم نجد في كلام الحافظ العراقي ما ينص على إخراج المعلق. وفي البحث مجال واسع لتحرير عباراتهم لا نطيل به.

(3)

في "القنوت" من سننه: 2: 65.

(4)

تهذيب السنن للمنذري: 2: 127.

(5)

ق 42 - ب. وفيه كلام البخاري الآتي.

ص: 368

هذا منقطع في موضعين. قال البخاري: "الحجاج بن أرطأة لم يسمع من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه، ولد بعد موت أبيه".

وأدرج الحاكم في المنقطع الإسناد الذي ذكر فيه بعض رواته بلفظ مبهم. نحو "رجل" أو "شيخ". إذا لم يعرف اسمه، مثل الحديث الذي رواه الجريري عن أبي العلاء بن عبد اله بن الشخير عن رجلين من بني حنظلة عن شداد بن أوس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أحدنا أن يقول في صلاته: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد .. الحديث"(1).

وهذا يفيدنا التنبه إلى هذا الاصطلاح عند الحاكم خاصة في مؤلفاته الحديثية، أما عبارات أهل الفن، فقد جعلت ذلك "متصلا في إسناده مبهم". قال الحافظ العلائي (2):"والتحقيق أن قول الراوي عن رجل ونحوه متصل، ولكن حكمه حكم المنقطع لعدم الاحتجاج به".

2 -

المرسل:

الإرسال لغة: الاطلاق، أرسلت كذا إذا أطلقته ولم تمنعه.

وأما في اصطلاح المحدثين فقد اختلف العلماء في تعريف الحديث

(1) المعرفة: 27 - 28، والحديث أخرجه الترمذي: 2: 176، والنسائي 1:192.

(2)

في جامع التحصيل: 108، وانظر شرح الألفية: 1: 73 - 74.

ص: 369

المرسل، بسبب اختلاف موقعه عند المحدثين.

والمشهود أن الحديث المرسل: هو ما رفعه التابعي، بأن يقول:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، سواء كان التابعي كبيرا أو صغيرا.

مثاله: ما رواه الشافعي (1): "أخبرنا سعيد عن ابن جريج قال أخبرني حميد الأعرج عن مجاهد أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية لبيك اللهم لبيك .. " إلخ.

مجاهد تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث مرسل.

وعلى هذا المعنى اقتصر المتأخرون، فلا يطلقون المرسل إلا بهذا المعنى.

أما المتقدمون فأكثر ما يطلقون المرسل فيما ذكرناه، وقد يطلقونه بمعنى المنقطع أيضا. وعلى ذلك جرى الخطيب وابن الأثير في المرسل (2) وهو مذهب الفقهاء والأصوليين.

ومن أمثلة ذلك حديث موسى بن طحلة عن عمر بن الخطاب قال: طإنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة: الحنطة والشعير والزبيب والتمر" (3).

قال أبو زرعة: "موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل"(4). وقال يحيى بن معين: "ما روى الشعبي عن عائشة مرسل"(5)

(1) ترتيب مسند الشافعي: 1: 304 - 305. وسعيد هو ابن سالم القداح سمع من ابن جريج.

(2)

الكفاية: 384. وجامع الأصول: 62 - 64.

(3)

سنن الدارقطني: 2: 96.

(4)

المراسيل لأبي حاتم الرازي: 127 وانظر التلخيص الحبير: 179.

(5)

المراسيل: 105.

ص: 370

أي أنه لم يسمعها.

وقد بنى على هذا التوسع في المرسل كثير من المصنفين كتبهم في المراسيل، ومن أهمها:

1 -

"المراسيل" لأبي حاتم الرازي، بين فيه ما ليس متصلا من الأسانيد.

2 -

"جامع التحصيل لأحكام المراسيل" للحافظ خليل بن كليكدي العلائي، تكلم فيه على أنواع الحديث المنقطع، التي جمعناها في هذا المبحث، ثم أورد أسماء المدلسين، ثم الأسانيد المنقطعة.

حكم المرسل:

اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل اختلافا كثيران نورد منه أهم الآراء وأشهر الأقوال وهي ثلاثة:

المذهب الأول: مذهب جمهور المحدثين وكثير من الفقهاء والأصوليين وهو أن المرسل ضعيف لا يحتج به.

ودليلهم على ذلك: أن المحذوف مجهول الحال، لأنه يحتمل أن يكون غير صحابي، وإذا كان كذلك فإن الرواة "حدثوا عن الثقات وغير الثقات، فإذا روى أحدهم حديثا وأرسله لعله أخذه عن غير ثقة".

وإن اتفق أن يكون المرسل لا يروي إلا عن ثقة، فالتوثيق مع الابهام غير كاف" (1).

المذهب الثاني: مذهب الإمام المطلبي الشافعي، وهو -كما أورده في الرسالة (2) - قبول المرسل من كبار التابعين بشرط الاعتبار في الحديث المرسل والراوي المرسل:

(1) انظر ما سبق ص 104.

(2)

461 - 467، وقارن بعلوم الحديث: 49، وتعليقنا عليه.

ص: 371

أما الاعتبار في الحديث فهو أن يعتضد بواحد من أربعة أمور:

1 -

أن يروى مسندا من وجه آخر.

2 -

أو يروى مرسلا بمعناه عن راو آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول فيدل ذلك على تعدد مخرج الحديث.

3 -

أو يوافقه قول بعض الصحابة.

4 -

أو يكون قد قال به أكثر أهل العلم.

وأما الاعتبار في راوي المرسل فإن يكون الراوي إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوبا عنه في الرواية.

فإذا وجدت هذه الأمور كانت دلائل على صحة مخرج حديثه، كما قال الشافعي، فيحتج به.

المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة ومالك وأصحابهما، وهو أن المرسل من الثقة صحيح يحتج به، ودليلهم على ذلك:

1 -

أن الراوي الثقة لا يسعه حكاية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن من سمعه منه ثقة، والظاهر من حال التابعين خاصة أنهم قد أخذو الحديث عن الصحابة وهم عدول.

2 -

أن أهل تلك القرون كان غالب حالهم الصدق والعدالة، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فحيث لم نطلع على ما يجرح الراوي فالظاهر أنه عدل مقبول الحديث.

وقد دارت حول المسألة مناقشات كثيرة استوفاها دراسة وبحثا الحافظ العلائي في كتابه القيم "جامع التحصيل"، لا نطيل بها.

إلا أنا نلاحظ أن الحديث المرسل دائر بين احتمالي الصحة والضعف

ص: 372

فإذا اختلف بقرائن تقويه ينبغي أن يعمل به ويحتجن وذلك فيما نرى منتهى العمل في هذه المسألة بين الأئمة الفقهاء. والله أعلم (1).

تتمة في مرسل الصحابي:

مرسل الصحابي هو ما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه منه، إما لصغر سنه، أو تأخر إسلامه أو غيابه عن شهود ذلك.

ومنه كثير من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الزبيرن وغيرهما من أحداث الصحابة.

مثاله: ما أخرجه أحمد والترمذي: عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فأتته قريش وأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل فقعد فيه، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا. قال: ما شأن قومك يشكونك؟ قال: يا عم أريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي العجم إليهم الجزية. قال: ما هي؟ قال: لا إله إلا الله. فقاموا فقالوا: أجعل الآلهة إلاها واحدا .. " (2).

وهذا النوع قد تعرض لبحثه علماء أصول الفقه. أما المحدثون فلم يعدوه من المرسل، لأن ذلك في حكم الموصول المسند، لأن روايتهم عن الصحابةن والجهالة بالصحابي غير قادحة، لأن الصحابة كلهم عدول.

قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "لي كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب"(3).

(1) انظر تحقيق ذلك في كتابنا الإمام الترمذي: 203 - 204.

(2)

المسند: 3: 314 - 315. والترمذي وحسنه: 5: 365 - 366.

(3)

أخرجه الخطيب في الكفاية: 385 و 386. وانظر ما سبق في بيان عدالة الصحابة: 121 - 124. وانظر: 24.

ص: 373

لكن اعترض على ذلك بأنه يحتمل أن يكون من رواية الصحابي عن تابعي عن صحابي، وقد وقع ذلك في بعض الأحاديث (1). وجهالة التابعي تضر بصحة الحديث، حتى تغالى بعضهم فجعل مرسل الصحابي كمرسل التابيع.

غير أن نظر المحدثين الثاقب قد تتبع هذه الأحاديث، فتبين بالاستقراء أن رواية الصحابة عن التابعين نادرة جدا، وأن من روى منهم عن غير الصحابة فقد بين في روايته عمن سمعه. كما تبين أنها تقع غالبا في غير الحديث المرفوع، وإنما وقعت في نقلهم بعض أخبار الماضين، على قلة وندرة، والنادر لا حكم له فتحقق بذلك الحكم بالصحة لمرسل الصحابي.

3 -

المعلق:

يقع تعليق الحديث من المحدثين كثيرا لا سيما في مصنفاتهم، يقصدون به الاختصار في إيراد الأحاديث، أو تقوية الاستدلال على موضوع الباب بما لا يدخل في شرط الكتاب.

والحديث المعلق: هو ما حذف مبتدأ سنده، سواء كان المحذوف واحدا أو أكثر على سبيل التوالي ولو إلى آخر السند (2).

(1) كما سبق في رواية الأكابر عن الأصاغر رقم 14 ص 155 - 156.

(2)

شرح الشرح: 106، ولقط الدرر:62. وقارن بشرح الألفية: 1: 3 وغيره.

ص: 374

وقولهم: "واحدا أو أكثر" يدخل فيه المعضل الآتي، وقولهم "على سبيل التوالي" خرج به ما إذا حذف البعض وأبقي البعض، فإنه يدخل عندئذ في المنقطع، ولا يكون من المعلق.

وقد سمي هذا النوع من الحديث معلقا لأنه بحذف أوله صار كالشيء المقطوع عن الأرض الموصول من الأعلى بالسقف مثلا.

وحكم المعلق أنه مردود مثل حكم المنقطع، للجهل بحال المحذوف، غلا أن يقع في كتاب الترمت صحته، كصحيح البخاري ومسلم، فإن العلماء درسوا معلقاتهما وتوصلوا إلى نتيجة علمية خاصة بهما.

حكم المعلق في الصحيحين:

بيان ذلك بالنسبة للبخاري: ان تعليقه للحديث إما أن يكون بصيغة الجزم، مثل: قال فلان، أو حدث، أو روى، أو ذكر. وإما أن يكون بصيفة لا تفيد الجزم، مثل روي عن فلان، أو يحكى، أو عن فلان، أو يقال. وتسمى صيغة تمريض.

أما القسم الأول: وهو المعلق بصيغة الجزم، فغن هذه الصيغة تعتبر حكما بصحة الحديث إلى من علقه عنه فقط، لأنه لا يستجيز أن يجزم بالحديث عنه ونسبته إليه إلا وقد صح عنده أنه قاله.

فإذا جزم به عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابي عنه فهو صحيح. أما إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابة فلا يحكم بصحة الحديث حكما مطلقا، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله، وفي غير ذلك مما يشترط لصحة الحديث. فتتنوع هذه الأحاديث إلى الصحيح وغيره، بحسب ذلك.

مثال الصحيح: قوله في الصوم (1): وقال صلة عن عمار: من

(1): 3: 26 - 27. ووصله الترمذي: 3: 70.

ص: 375

صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". وصلة هو ابن زفر من فضلاء التابعين والحديث صحيح صححه الترمذي وغيره.

ومثال الضعيف: قوله في الزكاة: (1)"وقال طاووس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص، أو ليس في الصدقة". إسناده إلى طاووس صحيح، لكنه لم يسمع من معاذ، فالإسناد منقطع، غير صحيح.

ومن هذا البيان يتضح خطؤ علي بن حزم الظاهري في رده لحديث البخاري (2) قال: "وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عمار الأشعري أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف

".

فزعم ابن حزم أنه وإن رواه البخاري فهو غير صحيح، لأن البخاري قال فيه:"قال هشام بن عمار". فهو منقطع ضعيف، واستروح ابن حزم إلى ذلك من أجل تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي، وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث.

قال أبو عمرو بن الصلاح في شرحه لصحيح مسلم (3): "وهذا

(1): 2: 116.

(2)

في الأشربة: "باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه" 7: 106.

(3)

الذي سماه "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، وحمايته من الاسقاط والسقط": ق 4 ب-5 آ. وعنه النووي بحروفه في شرح مسلم: 1: 18 - 19. وانظر للتوسع إغاثة اللهفان: 139 - 140، وفتح الباري: 10: 41 - 43.

ص: 376

خطأ من وجوه والله أعلم.

أحدها: أنه لا انقطاع في هذا أصلا من جهة أن البخاري لقي هشاما وسمع منه ....

الثاني: أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري.

الثالث: أنه وإن كان ذلك انقطاعا فمثل ذلك في الكتابين، غير ملحق بالانقطاع القادح، لما عرف من عادتهما وشرطهما. وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة، فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت

".

وأما القسم الثاني من المعلق عند البخاري: وهو ما كان بغير صيغة الجزم (1) فهذه الصيغة ليست حكما بصحته عمن رواه عنه، لأنها تستعمل في الحديث الصحيح وتستعمل في الضعيف أيضا.

مثال الصحيح: قول البخاري في الصلاة: "ويذكر عن عبد الله ابن السائب قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (2).

ومثال الضعيف: قوله في الوصايا: "ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية". وقد رواه الترمذي

(1) ذكر ابن الصلاح أنه لم يجد في عباراتهم إطلاق المعلق على هذا القسم، لكن وجدنا المتأخرين استعملوا المعلق فيه أيضا كما نبه الحافظ العراقي في نكتة طبع مصر: 93 - 94. وانظر هدي الساري: 1: 12 - 13، والتدريب: 137، فجرينا على ذلك.

(2)

البخاري: 1: 154 ومسلم: 2: 39.

ص: 377

موصولا من طريق الحارث الأعور عن علي، والحارث ضعيف (1).

وقد عني العلماء بمعلقات البخاري وبحثوا فيها كثيرا، ولعل أوفى بحث فيها هو بحث الحافظ ابن حجر في الكتاب الذي أفرده لهذه الناحية الهامة، وسماه "تعليق التعليق".

وأما المعلقات في صحيح: فقد بحثت وفرغ منها وتحققت صحتها وقد أوردها الحافظ أبو علي الغساني (2)، وبلغ بها أربعة عشر حديثا، ثم تبعه في ذكرها ابن الصلاح في مطلع شرحه لصحيح مسلم (3) وحقق أنها اثنا عشر حديثا فقط.

ثم قال: "ولا شيء من هذا والحمد لله مخرج لما وجد ذلك فيه من حيز الصحيح، وهي موصولة من جهات صحيحة، لا سيما ما كان منها مذكروا على وجه المتابعة، ففي نفس الكتاب وصلها، فاكتفي بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث".

4 -

المعضل:

المعضل: مأخوذ -على الراجح- من قول أهل اللغة: أعضله، أي أعياء.

وفي اصطلاح المحدثين: هو ما سقط من إسناده اثنان أو أكثر في موضع واحد، سواء كان في أول السند أو وسطه أو منتهاه.

(1) البخاري: ج 4 ص 5، والترمذي ج 2 ص 16.

(2)

في كتابه القيم "تقييد المهمل وتمييز المشكل" ق. 520 - 554.

(3)

ق 4 ب. ونقل النووي كلامه بنصه في شرح مسلم: 1: 16 - 18.

ص: 378

سمي بذلك لأن الحديث بسقوط واحد يصير مردودا، فإذا سقط منه اثنان أو أكثر كان أمره أشد، فكأن المحدث بهذا الإسقاط أعضله، أي أعياه فلم ينتفع به من يرويه عنه:

ويدخل في المعضل ما سقط من أول سنده اثنان فصاعدا، وهذا يدخل في المعلق كما سبق، فيكون بينهما عموم وخصوص من وه، فإنهما يجتمعان فيما إذا حذف مصنف من مبادئ السند اثنين فصاعدا، ويفترقان إذا وقع الحذف لاثنين فصاعدا في غير أول السند، فإنه يسمى معضلا، ولا يكون معلقا.

ومن أمثلة المعضل:

1 -

ما رواه مالك عن معاذ بن جبل قال: آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل".

وبين مالك ومعاذ أكثر من راويين، فهو معضل (1).

2 -

حديث مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا ولن تحصوا، واعملوا، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"(2).

فقد سقط رجال السند بين مالك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وهم رجلان على الأقل التابعي والصحابي، فهو معضل، كما أنه يصلح أن يسمى معلقا لأن السقط وقع في أول السند.

(1) لكن معناه صحيح مسند، انظر الموطأ بشرحه تنوير الحوالك: 2: 209 والتقصي: 249.

(2)

الموطأ وشرحه تنوير الحوالك: 1: 43. قال ابن عبد البر في التقصي: 250: "هذا يستند ويتصل من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحاح.

ص: 379

وجعل الحاكم النيسابوري من المعضل نوعا ثانيا هو الحديث الذي يرويه الراوي موقوفا على التابعي لا يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يوجد ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متصلا.

ومثل له بما رواه الأعمش عن الشعبي قال: "يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا! . فيقول ما عملته! . فيختم على فيه فتنطق جوارحه، أو قال ينطق لسانه فيقول لجوارحه: "أبعدكن الله، ما خاصمت إلا فيكن".

فقد أعضله الأعمش، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (1) من طريق أخرى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الصلاح:"هذا جيد حسن، لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين: الصحابي ورسول صلى الله عليه وسلم: فذلك باستحقاق اسم الاعضال أولى".

5 -

المدلس:

هذا النوع مهم على غاية من الخطورة، لما فيه من الغموض والخفاء. والتدليس في اللغة مشتق من الدلس، بالتحريك، وهو اختلاط الظلام بالنور، سمي المدلس بذلك لما فيه من الخفاء والتغطية.

(1) في الزهد: 8: 216. وانظر المعرفة: 37 - 38.

ص: 380

وقد قسم العلماء الحديث المدلس أقساما عدة، تنتهي إلى قسمين رئيسيين هما: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ.

القسم الأول: تدليس الإسناد: وهو على أربعة أضرب:

الأول: تدليس الإسقاط (1)

وهو أن يروي المحدث عمن لقيه وسمعه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه موهما أنه لقيه وسمع منه.

كأن يقول: عن فلان، أو أن فلانا قال كذا، أو قال فلان أو حدث بكذا .. ونحو ذلك مما يوهم السماع ولا يصرح به. وقد يكون بينهما واحدا وقد يكون أكثر.

أما إذا أتى بلفظ صريح في السماع، مثل: حدثني، أو سمعت فقد خرج عن كونه مدلسا، وصار كذابا مفروغا منه. لذل يعترف المدلس بتدليسه إذا استفسر عنه ووقع له من ينفر عن سماعه، بل كان كثير منهم يبادر من نفسه فيبين ما دلسه لئلا يغتر به الناس.

مثال هذا المدلس: الحديث الذي رواه أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلان في النار ينادي: يا حنان يا منان".

قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ . قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير ع نه". فقد دلس الأعمش الحديث عن إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه.

(1) كذا استحسن تسميته الإبياري في حاشيته: 35. وأدخل فيه اب الصلاح من حدث عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه. ويأتي مزيد تفصيل لذلك في بحث المرسل الخفي رقم 67 ص 386 - 388.

ص: 381

الضرب الثاني: تدليس التسوية

وهو أن يروي المدلس حديثا عن ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، فيسقط الضعيف ويجعل بين الثقتين عبارة موهمة، فيستوي الإسناد كله ثقات بحسب الظاهر لمن لم يخبر هذا الشأن. وقد سماه القدماء "تجويدا" لأنه ذكر من فيه من الأجود وحذف غيرهم.

وممن كان يعرف بذلك ويكثر منه: بقية بن الوليد الحمصي، والوليد بن مسلم الدمشقي، حتى تكلم فيهما بسبب ذلك: قال أبو مسهر: "أحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية"(1).

وقال أبو مسهر أيضا "كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين ثم يدلسها عنهم"(2).

وقال الحافظ ابن حجر في الوليد: "ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية"(3).

الضرب الثالث من تدليس الإسناد: تدليس القطع.

وهو أن يقطع اتصال أداة الرواية بالراوي.

مثاله: ما قاله علي بن خشرم: كنا عند ابن عيينة، فقال:"الزهري" فقيل له: "حدثك؟ ". فسكت! ثم قال "الزهري" فقيل له: سمعته منه؟ فقال: "لم أسمعه منه ولا ممن سمعه منه، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري"(4).

(1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي: 1: 332.

(2)

شرح الألفية: 1: 88.

(3)

تقريب التهذيب: 2: 336، وانظر ميزان الاعتدال: 4: 348.

(4)

علوم الحديث: 66، لكن في المعرفة: 105، بلفظ "عن الزهري". وعليه يكون من تدليس الإسقاط.

ص: 382

فهو مثل تدليس الاسقاط مع اسقاط أداة الرواية أيضا.

الرابع من تدليس الإسناد: تدليس العطف:

وهو أن يصرح بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخا آخر لم يسمع منه ذلك المروي.

قال الحاكم: حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوما على أن لا يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره:"حدثنا حصين، ومغيرة عن إبراهيم" فلما فرغ قال لهم: "هل دلست لكم اليوم؟ ". فقالوا: لا. فقال: "لم أسمع من مغيرة حرفا مما ذكرته، إنما قلت: حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي". أي أنه أضمر في الكلام محذوفا كما فسر عبارته (1).

وحكم تدليس الإسناد بأضربه كلها: أنه مكروه جدا، ذمه أكثر العلماء.

قال شعبة بن الحجاج: "التدليس أخو الكذب".

وقال سليمان بن داود المنقري: "التدليس والغش والغرور والخداع والكذب يحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد".

وقال عبد الله بن المبارك يذم المدلس:

دلس الناس أحاديثه

والله لا يقبل تدليسا

وشر أنواع التدليس تدليس التسوة، لأن الثقة الأول ربما لا يكون معروفا بالتدليس فيجده الناظر في السند بعد التسوية قد رواه عن ثقة

(1) قارن تفسيرنا هذا بشرح الزرقاني وحاشية الأجهوري: 61.

ص: 383

آخر فيحكم له بالصحة، وفي ذلك غرر شديد، قال الحافظ العلائي (1)"ولا ريب في تضعيف من أكثر من هذا النوع".

وأما حكم حديث المدلس تدليس الإسناد: فقد اختلفت فيه آراء العلماء، فمنهم من شدد فجرحه ولم يقبل حديثه مطلقا، ومنهم متساهل يقبله مطلقا.

والصحيح الذي عليه جمهور الأئمة التفصيل، وهو أن ما رواه المدلس الثقة بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المنقطع مردود، وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو "سمعت، وحدثنا، وأخبرنا" فهو متصل، يحتج به إذا استوفى باقي السند والمتن شروط الاحتجاج.

وهذا لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل (2). فإذا زال الاحتمال كان الإسناد متصلا. وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء، لا سيما الشافعي، فإنه أجراه فيمن عرفناه دلس مرة (3).

ويدل على صحة ذلك أيضا أن في الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة كثيرا من أحاديث هذا الضرب مما صرح فيه بالسماع، كقتادةن والأعمش، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وهشيم بن بشير، وغيرهم. فتصحيح الأئمة لأحاديثهم التي بينوا فيها اتصال السند يدل على ما قلناه (4).

(1) جامع التحصيل: 117. وانظر شرح الألفية: 1: 88.

(2)

علوم الحديث: 67 - 68، وجامع التحصيل:112. وغيرهما.

(3)

كما هو صريح كلامه في الرسالة: 379 - 380. أما قول بعض الأفاضل: "وكان الشافعي يرد مطلقا من عرف بالتدليس في الإسناد ولو مرة واحدة". أخذا من ابن كثير في اختصاره لعلوم الحديث. ففيه نظر والصواب المنصوص عليه في سائر مراجع هذا الفن هو ما ذكرنا أعلاه.

(4)

وفي الموضوع مناقشات أخرى هامة سوف نستوفيها إن شاء الله في كتابنا في الجرح والتعديل.

ص: 384

القسم الثاني: تدليس الشيوخ

وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.

مثاله: أن الحارث بن أبي أسامة روى عن الحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان الشهير بابن أبي الدنيا، والحارث أكبر منه فدلسه فمرة قال: عبد الله بن عبيد، ومرة قال: عبد الله بن سفيان، ومرة: أبو بكر بن سفيان

يدلسه (1).

وكذلك فعل الخطيب البغدادي في كثير من شيوخه، فقد روى في كتابه "الرحلة في طلب الحديث" عن الحسن بن محمد الخلال، ثم دلسه فسماه الحسن بن أبي طالب (2). ووجدناه يروي فيه عن شيخه محمد بن الحسين بن الفضل القطان، ثم يقول:"ثنا ابن الفضل" ويقول "محمد بن الحسين"(3) وهو هو دلسه.

ويقع هذا النوع كثيرا في كتب المتأخرين. وقد استوفاه العلماء وبينوا هذه الأسماء فيما صنفوه من كتب في فن "من عرف بأسماء ونعوت متعددة"(4).

وحكم هذا القسم في الكراهة أخف إجمالا من القسم السابق، لأن الشيخ الذي دلس اسمه يمكن أن يعرفه الماهر الخبير بالرواة وأسمائهم إلا أن فاعل هذا التدليس يعرض الشخص المروي عنه للتضييع إذا لم يتوصل إلى معرفته، وذلك يجر إلى ضياع الحديث المروي أيضا.

ثم إن الكراهة في هذا القسم تختلف باختلاف المقصد الحامل على

(1) فتح المغيث: 79.

(2)

الرحلة بتحقيقنا رقم 10 و 43.

(3)

الرحلة رقم: 16، 18، 51.

(4)

السابق برقم 19 ص 166 - 167.

ص: 385

ذلك: فشر ذلك إذا كان المروي عنه ضعيفا، فيدلسه حتى لا تظهر روايته عن الضعفاء، أو يتوهم أنه راو من الثقات يوافق اسمه وكنيته.

وقد يكون الحامل على ذلك كون المروي عنه صغيرا في السن. أو تأخرت وفاته وشاركه فيه من هو دونه، وقد يكون الحامل على ذلك إيهام كثرة الشيوخ.

وكثيرا ما يقصد المحدث من ذلك امتحان أذهان الطلاب واختبار المشتغلين بالعلم، ولفت نظرهم إلى حسن التأمل في الرواة وأحوالهم وأنسابهم، وغير ذلك. وذلك فيما يبدو لنا من مقصد الخطيب في تدليسه، فإنه كثير الشيوخ جدا، وتدليسه كان لهذا الغرض، والأمثلة التي أوردناها من كلامه قد أمكن كشف الراوي فيها بالتأمل والنظر.

6 -

المرسل الخفي:

هذا نوع مهم عظيم الفائدة، دقيق المسلك، إنما يدركه نقاد الحديث وجهابذته، فإن الإسناد إذا عرض على كثير من العلماء قد يعتر بظاهره ولا يهتدي لما فيه من الانقطاع أو الاعضال أو الارسال.

وتختلف آراء العلماء في تعريف المرسل الخفي خلافا قويا متشابكا.

والمعتمد أن المرسل الخفي هو الحديث الذي رواه الراوي عمن عاصره ولم يسمع مه، ولم يلقه (1).

(1) وهو اختيار الحافظ ابن حجر وتحقيقه في شرح النخبة: 29.

ص: 386

وهو نوع من المنقطع، إلا أن الانقطاع فيه خفي، لما أن تعاصر الراويين يوهم اتصال السند بينهما.

ومن أمثلة المرسل الخفي ما رواه الترمذي في العلل الكبير (1): "حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي نا هشيم أنا يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على ملئ فاتبعه، ولا تبع بيعتين في بيعة".

فهذا الإسناد ظاهره الاتصال، يونس بن عبيد أدرك نافعا وعاصره معاصرة حتى عد فيمن سمع من نافع، لكن أئمة النقد قالوا إنه لم يسمع منه، قال البخاري:"ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع". وهو رأي ابن معين وأحمد بن حنبل وأبي حاتم أيضا (2). فهو من المرسل الخفي.

وأما الفرق بين المرسل الخفي وبين المدلس فوقع فيه كلام كثير لأئمة أصول الحديث، واختلفت فيه وجهاتهم، تبعا لاختلافهم حول ما يعتبر مندرجا في المدلس (3).

ونقدم إليك ههنا حاضل التفريق بينهما، وذلك من وجهين:

الأول: أن المدلس يروي عمن سمع منه أو لقيه ما لم يسمع منه بصيغة موهمة للسماع، وأما الرمسل فإنه يروي عمن لم يسمع منه ولم يلقه إنما عاصره فقط. فهما متباينان.

الثاني: إن التدليس إيهام سماع ما لم يسمع، وليس في الارسال إيهام، فلو بين المدلس أنه لم يسمع الحديث من الذي دلسه عنه لصار

(1) ق 36 - آ.

(2)

انظر جامع التحصيل: 377، والتهذيب: 11: 445.

(3)

ولعل ذلك دعا بعض الكاتبين إلى إغفال المرسل الخفي، ومنهم من جعله داخلا في المدلس! ! ونرجو أن نستوفي هذه النقطة الشائكة بتفصيل واف في مقام آخر إن شاء الله.

ص: 387

الحديث مرسلا لا مدلسا، نبه على ذلك النقاد المحققون كالخطيب البغدادي وابن عبد البر (1).

وكذلك فيما يرى من كان معروفا من أمره أن من يحدث عنه لم يسمع منه لاشتهار ذلك، أو اشتهار أنه سمع منه أحاديث، بعينها إذا لم يقصد الإيهام. فهذا ينبغي أن يكون مرسلا خفيا لا مدلسا. ويدل على ذلك أنهم لم يذكروا هذا النوع في المدلسين ولم يصفهم بالتدليس تلامذتهم ومن عرفهم من علماء الجرح والتعديل. ومن هنا ميز علماء الرجال بين الفريقين كما وجدناه في صنيع الحافظ العلائي وغيره، فإنهم ينبهون على المدلس أنه مدلس، ويصفون غيره بأنه "يرسل"، أو "كثير الإرسال".

وسائل معرفة الإرسال:

وقد عني العلماء بكشف هذا النوع لما فيه من الخفاء، ووضعوا لمعرفته ضوابط دقيقة، فصلها الحافظ العلائي (2)، وأخذ بتفصيله الحافظ العراقي وغيره، بعد تنقيحها وتحريرها. وهي:

1 -

أن يعرف عدم اللقاء بينهما بنص بعض الأئمة على ذلك، أو يعرف بوجه صحيح من البحث في تواريح الرواة. مثل حديث عمر بن

(1) الكفاية: 357 والتمهيدك 1: 15 - 19 و 27. وهذا هو الفرق بين المدلس والمرسل الخفي عند من جعلهما يشملان رواية الراوي عمن لقيه أو عاصره ولم يلقه. كما أفادنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله سراج الدين حفظه المولى، ويؤيده تقييد ابن الصلاح المدلس بالإيهام حيث قال:"هو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه". بينما لم يقيد المرسل الخفي بذلك، وإنما أحال على أنه يعرف فيه الإرسال "بمعرفة عدم السماع من الراوي فيه أو عدم اللقاء".

(2)

في جامع التحصيل: 145 وما بعد. ونحوه في شرح الألفية: 4: 25 - 26.

ص: 388

عبد العزيز عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله حارس الحرس". أخرجه ابن ماجه (1). قال المزي في الأطراف: إن عمر لم يلق عبة.

2 -

أن يعرف عدم السماع منه مطلقا بنص إمام على ذلك، أو نحوه، كأن يصرح الراوي نفسه بذلك كما سبق (2) أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع أباه.

3 -

أن يعرف عدم سماعه منه لذلك الحديث فقط، وإن سمع منه غيره، إما بنص إمام أو أخباره عن نفسه بذلك في بعض طرق الحديث، أو نحو ذلك.

4 -

أن يرد في بعض طرق الحديث زيادة اسم راو بينهما، كحديث رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن حذيفة مرفوعا:"إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين".

هذا منقطع في موضعين، لأنه روي عن عبد الرزاق قال: حدثني النعمان بن أبي شيبة عن الثوري، وروي عن الثوري عن شريك عن أبي إسحاق.

إلا أن في هذا المسلك الأخير لمعرفة الارسال إشكالا كبيرا! ! ، إذا يمكن أن يعارض بكونه من المزيد في متصل الأسانيد لا من المرسل الخفي. ووجه ذلك أننا لم نعرف عدم السماع بدليل خارجي، وإنما اكتشفناه بورود الواسطة بين الرجلين في الإسناد، فيمكن أن يكونا قد التقيا وسمع الراوي ممن فوق المحذوف، فيكون السند متصلا بهما،

(1) في الجهد "فضل الحرس"، برقم 2769 ص 925.

(2)

ص 161. وانظر اللطائف للحافظ أبي موسى المديني ق 96 ب.

ص: 389