الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته
1 -
غريب الحديث:
غريب الحديث: هو ما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة عن الفهم.
ومعرفة معاني هذه الألفاظ علم مهم بالنسبة للمحدث، كي لا يكون زاملة للأخبار لا يدري ما يرويه.
وقد نبه العلماء على وجوب التحري والتوقي في بحثه، لئلا يقع المتعرض له في تحريف الكلم عن مواضعه والقول على الله بغير علم.
سئل الإمام أحمد عن حرف من الغريب فقال: "سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطئ".
وسأل أبو قلابة الأصمعي اللغوي الجليل قال: قلت: يا أبا سعيد،
ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بسقبه (1)؟ " فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن العرب تزعم أن السقب: اللزيق".
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام " (224) هـ" عن كتابه غريب الحديث: "إني جمعت كتابي هذا في أربعين سنة، وهو كان خلاصة عمري"(2).
وأقوى ما يعتمد عليه في تفسير غريب الحديث أن يظفر به مفسرا في بعض روايات الحديث، مثل حديث:"من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدة". متفق عليه (3) والبدنة تطلق على الإبل والبقر، قال العلماء: المراد هنا الإبل، وقد ورد في مصنف عبد الرزاق بلفظ "فله من الأجر مثل الجزور" فهذا يفسر المراد بالبدنة (4).
وحديث عمران بن حصين في صلاة المريض: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" أخرجه البخاري وغيره (5).
وقد فسر قوله "على جنب" حديث علي رضي الله عنه ولفظه: "على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه"(6).
وقد عني العلماء بالتصنيف في شرح الغريب عناية كبيرة وكان أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى " (210) هـ" وكتابه صغير. ثم
(1) 1 البخاري في الشفعة: 3: 87. وأبو داود: 3: 286، والنسائي: 2: 234. وابن ماجه: 2: 833.
(2)
النهاية: 1: 6 وكتاب أبي عبيد يقع في جزء واحد.
(3)
البخاري "فضل الجمعة": 2: 3، ومسلم: 3: 4.
(4)
إرشاد الساري: 2: 193.
(5)
البخاري في أخر تقصير الصلاة: 2: 47.
(6)
سنن الدارقطني: 2: 42043.
لم يخل عصر وزمان ممن جمع في هذا الفن وانفرد فيه بتأليف، حتى جاء الإمام ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري المتوفى " (606) هـ" فصنف كتاب "النهاية"، جعله جامعا لما تفرق في غيره، وتوسع في شرح المفردات بحيث يلقي الضوء على معنى الجملة من الحديث، فجاء كتابا حافلا جامعا بمثابة تلخيص لشروح الأحاديث النبوية (1).
2 -
أسباب ورود الحديث:
وهو ما ورد الحديث متحدثا عنه أيام وقوعه.
ومنزلة هذا الفن من الحديث كمنزلة أسباب النزول من القرآن الكريم.
وهو طريق قوي لفهم الحديث، لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.
والسبب في ينقل في نفس الحديث (2)، مثل حديث عمر بن الخطاب "بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم
(1) راجع للتوسع في كتب الغريب مطلع النهاية لابن الأثير وتصدير محققيه.
(2)
التدريب: 540. والبيان والتعريف: 1: 3.
فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا
…
الحديث" (1).
وربما لا ينقل السبب في نفس الحديث، وينقل في بعض طرقه، وهو الذي ينبغي الاعتناء به، مثل حديث "الخراج بالضمان"(2) جاء في بعض طرقه عند أبي داود وابن ماجه أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". وللسيوطي كتاب في أسباب الحديث أسماه "اللمع".
وصنف المحدث إبراهيم بن محمد الدمشقي المشهور بابن حمزة المتوفى " (1120) هـ" كتابا سماه: "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف" هو أوسع مصنفات هذا الفن.
3 -
ناسخ الحديث ومنسوخه:
النسخ: هو رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر (3).
وقد وقع النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لحكم جليلة،
(1) البخاري في الإيمان: 1: 15. ومسلم أول صحيحه.
(2)
أبو داود: 3: 284، والترمذي: 3: 581 - 582، والنسائي: 7: 223. وابن ماجه: رقم 2242.
(3)
انظر التوسع في التعريف وشرحه كتاب الاعتبار: 7 - 9.
منها ضرورة التدرج بالناس من دحض الجاهلية إلى علو المثالية الإسلامية. ومعرفة ما وقع فيه النسخ من الحديث علم مهم لا ينهض به إلا كبار أئمة الفقه.
قال الزهري: "أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه".
ومر علي رضي الله عنه على قاص، فقال:"تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت"(1).
ويعرف النسخ بأمور:
منها -أن يثبت بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحديث "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". أخرجه مسلم وغيره (2).
ومنها -ما يعرف بأخبار الصحابي، كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" أخرجه أبو داود والنسائي (3).
ومنها -ما يعرف بالتاريخ، كحديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أفطر الحاجم والمحجوم"(4) وحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم"(5).
(1) الاعتبار: 6، ونحوه عن ابن عباس للطبراني مجمع الزوائد: 1: 154، وانظر جمع الفوائد: 1: 51.
(2)
مسلم: 3: 65، وأبو داود: 3: 218، وانظر الترمذي: 1: 125. والنسائي: 4: 73. وابن ماجه: 1571.
(3)
أبو داود: 1: 49. والنسائي: 1: 90. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما.
(4)
الترمذي في الصوم: 1: 96. وأبو داود: 2: 308. وابن ماجه: 1: 537.
(5)
أخرجه البخاري في الطب: 7: 125.
بين الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي أن الثاني ناسخ للأول، وذلك ببرهان دقيق حيث إنه روي في حديث شداد أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح فرأى رجلا يحتجم في رمضان فقال:"أفطر الحاجم والمحجوم" وروي في حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم" فبان بذلك أن الأول كان زمن الفتح سنة ثمان، والثاني في حجة الوداع سنة عشر، فيكون الثاني ناسخا للأول (1).
وهذا الفن من ضرورات الفقه والاجتهاد، وقد ارتكب خطأ جسيما وركب مركبا صعبا من تسول له نفسه الفتوى بالحديث بزعمه مع عطله من هذا العلم فضلا عن الشروط الأخرى.
عن ابن سيرين قال: سئل حذيفة عن شيء؟ فقال: "إنما يفتي أحد ثلاثة: من عرف الناسخ والمنسوخ، قالوا: ومن يعرف ذلك؟ قال: عمر، أو رجل ولي سلطانا فلا يجد من ذلك بدا، أو متكلف".
وللعلماء تصانيف في هذا الفن أشهرها كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار". للإمام أبي بكر محمد بن موسى الحازمي " (584) هـ".
4 -
مختلف الحديث:
وربما سماه المحدثون "مشكل الحديث".
وهو ما تعارض ظاهره مع القواعد فأوهم معنى باطلا، أو تعارض مع نص شرعي آخر.
وهو من أهم ما يحتاج إليه العالم والفقيه، ليقف على حقيقة المراد من الأحاديث النبوية، لا يمهر فيه إلا الإمام الثاقب النظر.
(1) انظر هذا الفصل في كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" 4 - 10. وفي علوم الحديث وغيره.
وقد تهجم طوائف من أهل البدع على السنة وأهل الحديث بسبب زيغهم في فهم الأحاديث على وجهها حتى اتهموا المحدثين بحمل الكذب ورواية المتناقض ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تبعهم في عصرنا المستشرقون ومقدلدوهم ممن اغتر بالمادة واحتجرها على عقله، وغلف بحواجزها مشاعره. وإن كان بعضهم قد يتذرع باسم التحرر في فهم الدين، أو فتح باب الاجتهاد! ! .وهذا الصنف من الناس يوازي في ضرورة أولئك الجهلة المتزهدين الذين سوغوا الوضع والكذب في الحديث للترغيب والترهيب، فإن كلا من الفريقين استباح لنفسه التحكم في متن الحديث، فاختلق فيه أناس بجهلهم، وجحد الآخرون صحيحه بغرورهم.
وفي الواقع أن ادعاء التعارض ليس بالعسير ما دمام في النصوص مالا بد منه من عام وخاص مستثنى منه، أو مطلق ومقيد يقيد به
…
، فهل نطبق على هؤلاء الناقدين نقدهم، ونطرح فكرهم، وقانونهم، وهلا وسعتهم جملة الأحاديث العظمى المحكمة، التي لا إشكال فيها ولا سؤال. وقد عني أئمة الحديث وجهابذة نقده بهذا الفن، فدرسوا ما وقع من الإشكال في الأحاديث الصحيحة دراسة وافية من الناحية العامة الكلية، ومن الناحية التفصيلية الجزئية.
أما من الناحية العامة الكلية:
فقد قسموا الأحاديث المستشكلة نتيجة البحث فيها إلى قسمين:
القسم الأول: أن يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، وإبداء وجه من التفسير للحديث المستشكل يزيل عنه الاشكال، وينفي تنافيه مع غيره، فيتعين المصير إلى ذلك التفسير، وهذا هو الأكثر الأغلب في تلك الأحاديث. ومن أمثلة ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل
حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل" متفق عليه (1).
والملال: فتور يعتري النفس من كثرة شيء، وهو محال في حقه تعالى؟ ! . ويجاب عن هذا من وجهين (2):
الوجه الأول: أن "حتى" إن كانت بمعنى "إلى أن" فجوابه ما قال ابن فورك في كتابه القيم مشكل الحديث (3): "أن يكون معناه أن الله سبحانه لا يغضب علكم ولا يقطع ثوابه حتى تتركوا العمل وتزهدوا في سؤاله والرغبة إليه. فسمى الفعل مللا تشبيها بالملل، وليس بملل على الحقيقة".
الوجه الثاني: قال القصري (4): "وإن جعلتها بمعنى "كي" فبكون المعنى: لا يمل الله من العطاء
…
على العبد كي يمل ويظهر عجزه حين أخذ مالا يطيق، وهذا بين في كلام العرب لا إشكال فيه".
ومن أمثلة ذلك أيضا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أرسل ملك إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة "قال أي رب ثم مه؟ " قال: "ثم الموت" قال: "فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر". متفق عليه (5).
(1) البخاري في اللباس: "الجلوس على الحصر": 7: 155. ومسلم في الصلاة: 2: 188 - 189.
وللحديث بقية اختصرناها.
(2)
إشار إليهما القصري في شرح مشكل الحديث ق 36 آ-ب.
(3)
ص 94.
(4)
في شرح مشكل الحديث: ق 36 آ. وقارن بتأويل مختلف الحديث: 349، والمعتصر: 264 ومشكل ابن فورك: 94.
(5)
البخاري في الجنائز: "من أحب أن يدفن في الأرض المقدسة": 2: 90. والأنبياء وفاة موسى": 4: 157 ومسلم واللفظ له: 7: 100.
انتقد بعض الملاحدة هذا الحديث فقال: لعلى عيسى ابن مريم عليه السلام قد لطم الأخرى فأعماه! .
وقد غفل الناقد عن حقيقة هامة، هي أن الملائكة مخلوقات نورانية وليست بمادية. لكن الله أعطاها قدرة على التشكل بالصور المادية ألا ترى أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي، ومرة في صورة أعرابي، فلما جادل الملك موسى وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل، وليست عينا حقيقية للملك، ولم يضر الملك بشيء (1).
وقال الإمام ابن فورك (2) "ومنهم من قال: أن معنى قوله لطم موسى عين الملك توسع في الكلام -أي مجاز-،
…
يريد بذلك إلزام موسى ملك الموت الحجة حين رادَّه في قبض روحه
…
".
القسم الثاني من مختلف الحديث: أن يتضاد الحديثان بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين:
الضرب الأول: أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ.
الضرب الثاني: أن لا تقوم دلالة على النسخ، فيفزع حينئذ إلى الترجيح ويعمل بالأرجح منها بكثرة عدد رواته، أو مزيد حفظ، أو مزيد ملازمة راوي أحد الحديثين لشيخه، في أوجه كثيرة من وجوه
(1) تأويل مختلف الحديث: 277 - 288. وانظر الإيمان بالملائكة لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين: 33 - 35 ففيه تحليل جيد.
(2)
في مشكل الحديث: 113. وفيه بسط لتحليل هذا لغة فانظره.
الترجيح (1). وهذا الضرب الثاني يدخل في الشاذ والمحفوظ (2). وإن تساويا ولم يمكن الجمع ولا الترجيح حكم بالاضطراب عليهما، وضعفا (3).
وأما الناحية التفصيلية الجزئية:
فقد عني العلماء بدراسة أي سؤال موجه على أي حديث، وأجابوا عن ذلك في شروحهم الموسعة على السنة، كما أنهم أفردوا هذا اللون العلمي بالدراسة في كتب خاصة كثيرة، نذكر منها:
1 -
تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة عبد الله بن مسلم النيسابوري " (276) هـ".
2 -
"مشكل الآثار" للإمام أبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي " (321) " وهو أوسع كتب هذا الفن وأحفلها بالفوائد.
3 -
"مشكل الحديث" لأبي بكر محمد بن الحسن بن فورك " (406) ".
5 -
محكم الحديث:
وهو نوع جليل ذكره الحاكم (4) وسماه تسمية تصلح لتعريفه: "الأخبار التي لا معارض لها بوجه من الوجوه".
مثال ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
(1) أورد منها الحازمي في الاعتبار خمسين وجها: 11 - 27 وأوصلها العراقي في نكته إلى أكثر من مائة. وقد ضبطها السيوطي بتقسيم جيد جعلها تنقسم كلها إلى سبعة أقسام انظر التدريب: 388 - 391.
(2)
انظرهما برقم عام 77 و 78 ص 428 - 429. وأما إن كان أحدهما ضعيفا فيطرح رأسا، ولا يلتفت إليه، ويكون من الحديث المنكر الآتي برقم 79 من 430 وقد أورد بعض الناقدين أحاديث لا أصل لها، وأثار الإشكال حولها! ! .
(3)
انظر المضطرب برقم 81 ص 433.
(4)
في معرفة علوم الحديث: 129 - 130، وانظره في شرح النخبة:23.