الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون
يقول المستشرقون:
" .. إن وجهات النظر التي تبناها النقد الإسلامي للسنة لم يكن بإمكانها أن تساهم في تشذيب المادة المحترمة للأحاديث من الزيادات التي هي أكثر ظهورا إلا في مقياس محدود، ففي النقد الإسلامي للسنة تهيمن النزعة الشكلية في القاعدة التي انطلق منها هذا العلم.
والعوامل الشكلية هي بصورة خاصة العوامل الحاسمية للحكم على استقامة وأصالة الحديث، أو كما يقول المسلمون على صحة الحديث، وتختبر الأحاديث بحسب شكلها الخارجي فقط، ثم إن الحكم الذي يمس قيمة مضمونها يتعلق بالقرار الذي يعطونه حول تصحيح سلسلة الرواة. وعندما ينتصر إسناد في امتحان هذا النقد الشكلي ويكون قد نقل به فكرة مستحيلة ملوثة بتناقضات خارجية وداخلية وعندما يقدم هذا الإسناد سلسلة غير منقطعة لشيوخ جديرين بالثقة تماما وعندما يبرهن على أن هؤلاء الأشخاص كان في إمكانهم أن يكونوا على صلة فيما بينهم فإن الحديث يعتبر عند ذلك صحيحا، ولا يبادرن أحد لأن يقوفل: بما أن المتن يتضمن استحالة منطقية أو تاريخية فإني أشك في أن يكون الإسناد منتظما" (1).
هذا أخطر اشكالات المستشرقين وأشهرها، وإن كان أشدها ضعفا وأوضحها سقوطا، لكنهم عنوا بتسديده نحو قواعد المصطلح ليظهروا هذا العلم بمظهر العلم الناقص الذي يرى شيئا شكليا هو ما أسموه "النقد الخارجي" أي نقد السند، على حين أنه يعشو بصره عن أشياء خطيرة في النقد، حيث إنه بزعمهم لا يعتني بنقد المتن الذي يسمونه "النقد
(1) من الفصول التي ترجمها لنا الزميل الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ من كتاب "دراسات في السنة الإسلامية.
الداخلي"، وقد سرت العدوى بهذا الظن الخاطئ إلى بعض كتابنا ومفكرينا مثل الدكتور أحمد أمين (1)، والدكتور أحمد عبد المنعم البهي (2)، فقد كرر الدكتور أن هذا الطعن في المحدثين، بدافع من التقليد للمستشرقين وحب التظاهر على الناس بمعرفة شيء خفي بزعمهم عن الأئمة الكبار، من حيث إن هؤلاء المقلدة هم ومتبوعوهم ليسوا من علم المحدثين في ذلك المكان، ومَثَلُ الدكتورين في مقاليهما كمثَلِ تلميذ يتلقف ما يسمعه ثم يردده دون أن يدرك ما فيه من عظيم البهتان.
ومن الدليل على ما قلناه:
1 -
أن الدكتور أحمد أمين ذكر أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الخارجي إلى صحيح وحسن وضعيف وشاذ .. إلخ. والحقيقة التي نعرفها منذ حداثة عهدنا بعلم الحديث أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الداخلي والخارجي إلى الأقسام التي ذكرها، لا بحسب النقد الخارجي فقط.
بيان ذلك أنك تجد من شرط الحديث الصحيح والحسن أن لا يكون شاذا ولا معلا، ثم نقرأ كلام القوم وإذا بهم يقسمون الذوذ إلى شذوذ في المتن وشذوذ في السند، كذلك يقولون: إن العلة قد تكون في المتن كما قد تكون في السند، فلو كان ناقد المحدثين اطلع على مؤلف يسير في علم الحديث أكان يجترى على أن يقول ما قال، بل إنا نكتفي منه أن ينظر نظرة في تعريف علوم الحديث إذا لوجده علما يبحث في أحوال السند والمتن، لكنه سقط فيما عابه بزعمه على المحدثين
(1) في كتابه "ضحى الإسلام" 2: 130 و 131.
(2)
في مقاله المنشور في مجلة العربي الكويتية عدد/ 89/ ص 13.
بسبب تقليده للمستشرقين حيث إنه لم يتثبت ولم يعتبر ظروف المستشرقين التي هي أكبر دافع يدفع لاختلاق المطاعن، فحق عليه المثل رمتني بدائها وانسلت".
2 -
أن المحدثين قد احتاطوا من النظرة الشكلية حيث قرروا قاعدة اتفقوا عليها وهي أنه لا تلازم بين صحة السند وصحة المتن، بالعكس أيضا فإنه لا تلازم بين ضعف السند وضعف المتن، وهذا واضح في قواعد هذا العلم مسلم به لا يحتاج إلى الاستكثار من النقول والتطويل بها (1). وهو يدل بما لا يدع مجالا للشك على أن المحدثين النقاد قد احتاطوا لكل احتمال وأعدوا له العدة العلمية في منهج موضوعي متعمق بعيد غاية البعد عن الشكلية والانخداع بالمظاهر.
3 -
أن النقد الداخلي كان أول علوم الحديث وجودا حين كان الناس على العدالة، وذلك في عصر الصحابة كما سبق بيانه (2). والعجيب أن الدكتور أحمد البهي قال في آخر مقالته التي أومأنا إليها: "وقد ذكر العلماء وجوها في رد المتن بناء على معناه مع صحة السند
…
"، ومثل لذلك بقصة فاطمة بنت قيس (3)، وقصة علي بن أبي طالب حين رد حديث معقل ابن سنان في مهر من مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يسم لها مهرا فقال علي رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا لقول أعاربي بوال على عقبيه" (4). الأمر الذي يبين أن الكاتب غلب عليه التقليد فجاءت مقالته متناقضة ينسف آخرها أولها! ! ، وتثبت هي نفسها أن النقد الداخلي قد عني به المحدثون منذ قديم العهد برواية
(1) انظر علوم الحديث 35 و 92، وغيره، وانظر ما سبق في ص 290 - 291 من هذا الكتاب.
(2)
في ص 53 - 54 من كتابنا هذا.
(3)
السابق ذكرها في ص 53 - 54 و 246.
(4)
انظر تحقيق نقد هذه الرواية عن علي في سبل السلام: 3: 151.
حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنا نجد أن نقد المتن يؤدي إلى الحكم على الحديث بأشد الأحكام وهو الوضع، حيث قرروا أن الوضع قد يعرف من النظر في المروي، كما سبق أن أوضحنا وجوهه العديدة.
4 -
أن فكرة الاعتماد على النظر في المتن وحده ليست من اختراع المستشرقين، بل أن تجربتها قد سبقت في تاريخ المسلمين القديم على أيدي أناس جعلوا الرأي وحده يتحكم في المتون سلبا وإيجابا نفيا وإثباتا، وقد أسفرت التجربة عن أسواء النتائج وأغرب التناقضات.
لقد استحسن بعض المتزهدين الجهلة وضع الحديث في الترغيب والترهيب وقالوا: "نحن نكذب له"، والوعليدإنما جاء لمن "كذب علي"، فجعلوا هذا العبث في النص الصريح ذريعة للاختلاق على النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم جهلوا أن فعل "كذب عليه" معناه ألصق به ما لم يقله، سواء أكان مؤيدا له أم طاعنا فيه، وهكذا أدى التصور الخاطئ بهذه الطائفة إلى أن تتصور أن كل كلام صحيح فإنه قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاروا يسندون ما يشاؤون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منه ومنهم براء.
وفي الطرف المقابل نهض أناس لرفض المتون الصحيحة لمجرد بعدها عن خيالاتهم ومألوفاتهم، كما فعل بعض المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، وإذا بهم يبلغون من الإسفاف مبلغا عظيما، حيث راحو يتحكمون إلى المشاهدات المادية المعتادة يقيسون عليها ما ورد من النصوص في عوالم مغيبة غير عادية، كالأحاديث في الملائكة أو الجن ينكرونها أو يتأولونها تأويلات هزيلة، حتى خرجوا بذلك عن نصوص الإسلام القطعية، بل عن الأديان السماوية، فلو رام أحدهم أن ينتقل إلى النصرانية لما وجد له فيها متنقلا، أو إلى اليهودية لم يجد متسعا .. ! ! .
وهذا كله يثبت أبلغ إثبات أن نقد المتون ليس له بمفرده تلك الجدوى إلا إذا كان في ضمن الاطار العام لنظرية النقد الشامل الذي سلكه المحدثون وانتهجواه.
5 -
أن النقد الخارجي للأحاديث أن نقد الأسانيد الذي عابه العائبون وسموه شكليا يتصل اتصالا وثيقا بالنقد الداخلي أن نقد المتون، لأن إثبات ثقة الرواة وكونهم جديرين بالثقة هذا الذي استخف به تسيهر وأشياعه ليس عملا شكليا سطحيا، بل إنه مرتبط بالمتن ارتباطا قويا، وذلك لأن توثيق الراوي لا يثبت بمجرد عدالته وصدقه بل لا بد من اختبار مروياته بعرضها على روايات الثقات، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا (1).
وهذه كتب الجرح والتعديل ملأى بالجرح لرواية المناكير والأباطيل نسوق أمثلة لذلك من كتاب المغني في الضعفاء للإمام الذهبي:
80 -
إبراهيم بن زكرياء الواسطي. قال ابن عدي: حدث بالبواطيل. وقال أبو حاتم: حديثه منكر.
82 -
إبراهيم بن زيادة القرشي، عن خصيف، وعنه محمد بن بكار الريان بخبر منكر جدا، ولا يدر من هو؟ .
85 -
إبراهيم بن زيد الأسلمي، عن مالك، وهاه ابن بان والدراقطني، وله عن مالك خبر كذب.
86 -
إبراهيم بن سالم النيسابوريز قال ابن عدي: له مناكير.
(1) انظر ما سبق في ص 83 - 84.
89 -
إبراهيم بن سلم، قال ابن عدي: منكر الحديث لا يعرف.
فهذه ست تراجم اخترناها من عشرة فقط من كتاب مختصر جدا في نقد الرواة يأتي جرحهم بنقد مروياتهم. وذلك يوضح قوة ارتباط نقد السند بالمتن وعلاقته بمرويات الرواة علاقة وشيجة لا يصح أن يدور حولها جدال.
6 -
سبق أن بينا أن ظهور الفرق دعا علماء الأمة إلى تحري أحوال الرواة ودراستها من كافة الوجوه، ولا سيما بيئة الراوي ومذهبه، حتى إنهم لم يقبلوا رواية من يدعو لبدعة ولو كان الحديث الذي يرويه غير متعلق ببدعته (1)، فقد كانوا في الاحتياط أبلغ مما يريده المتطفلون عليهم
وإننا ندعوا الناقدين كلهم أن يأتوا بحديث من كتب السنة الأصول يدل على وضعه ما ذكروه من عامل سياسي كدعم بني أمية أو غيرهم، أو عامل بيئة أو غير ذلك.
اللهم إلا أن يكون بعض هؤلاء الوالغين في علم المحدثين قد اطلع على بعض تلك الأحاديث في كتاب "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للإما السيوطي، أو في كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" للحافظ أبي الحسن بن عراق فحسب بما أوتي من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر نقل السنة النبوية؟ ! فحق له أن يقول ما شاء له القول .. ! !
وحق للعقلاء المنصفين أن يقروا بحقيقة الجهود العظيمة والوسائل العلمية الدقيقة التي اتبعها المحدثون في خدمة الحديث.
(1) انظر ما سبق في ص 83 - 84.