الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لوددت أن أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل
..
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة/ 111]
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
فليتأمل العاقل مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجلّه، فإن الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنات النعيم، والفوز برضاه، والتمتاع برؤيته هناك، والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر، وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
…
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكها الذي اشتراهما من المؤمنين فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة؟!
بالله ما هزلت فيستامها المفلسون؛ ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون!
لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح
أن يكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة/ الاية 54] .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام بالجهاد في سبيل الله حق القيام، فجاهد بيده، وبلسانه، وبقلبه، طيلة عمره، وعدد أنفاسه، وها هو صلى الله عليه وسلم نراه في هذا الموقف النبوي يقسم قسما عظيما أنه لولا خشيته أن يشق على المسلمين بما سنراه في الحديث ما قعد خلف سرية أو غزوة.
وهذا والله هو الإيمان الكامل، والثبات الراسخ، والشجاعة المتناهية، وقوة القلب العميقة المتأصلة في نفسه عليه السلام، والجود الوافر الذي ليس وراءه منتهى، وهل هناك أعظم من الجود بالنفس!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسولي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده! ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك.
والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلفوا عني.
والذي نفس محمد بيده! لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» «1»
قال ابن القيم رحمه الله:
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادّعى الخليّ حرفة الشّجيّ، فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فسلموا ما وقع عليه العقد، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشترى وقدر الثمن، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد، عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم
(1) مسلم: كتاب الجهاد، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله رقم (4836)(نووي/ 13/ 23)
معدودة، تذهب لذتها وشهوتها، وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء.
فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضىّ واختيارا من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد، وسلموا المبيع، قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والان رددناها عليك أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معه لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ال عمران/ 69] لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجلّ الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن.
فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق، فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن، ووفق لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعاض عليه أجلّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه.