الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
14-
الجود بالنفس من أعظم مراتب الجود، وهذا أمر قد عرف به الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فهو صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقتل ثم يحيا ثم يقتل ثم يحيا ثم يقتل، وهذا الذي يجود هذا الجود ليس بغريب عليه أن يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي هذا واد من الإبل وغيره واد من الغنم.
فعلى من أراد الجنة أن يبذل مهرها، لأن سلعة الله غالية، وليس للمرء أغلى من نفسه، فمن قدمها مهرا فقد قدم أعظم ما عنده، وبذل أعظم ما يملك.
فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا
"
حادثة الإفك
" حادثة الإفك مصاب عظيم، وبلاء جسيم، وفتنة خبيث لئيم، أصابت قلب كل مسلم محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولال بيته قبل مصابهم بهذا البلاء المستعر، والشر المستطير.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
ومع هذا الحادث العظيم نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر بمظهر الكمال الإنساني تجاه هذه النائبة التي تقصم الظهور، وتهز العقول، والتي سرعان ما ينهار فيها الإنسان ويرتكب من الأعمال ما يندم عليه عند ما تهدأ النفوس، وتنجلي الحقائق.
لقد تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموقف، ولكنه مع ذلك أمسك بزمام نفسه، وسمت أخلاقه حتى احتوت هذه الفتن.
نعم، لقد تأثر وهذا شيء طبيعي. ولكنه أيضا تعامل مع الواقع بحكمة شديدة، نرى فيها كمال خلقه، وعظيم صبره، وقوة بأسه، ورجاحة عقله، وقوة فطنته وذكائه.
فصلى الله عليه وعلى اله جميعا إلى يوم الدين.
هذه الحادثة سردها يطول، ولكن سأحاول أن أجلّي بعض الصور التي صبر فيها رسول الله تجاه هذا الموقف وتلك المصيبة التي ألمت بال بيته جميعا، ولكنها ما فتئت أن كانت خيرا وصارت قرانا يتلى إلى يوم القيامة، وطهرا ينشر عبيره في أرجاء الكون كله، ودوحة باسقة يتقلدها المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولال بيته جميعا.
وعلى الجانب الاخر أصبح رأس الفتنة وموقدها يذكر بأسوأ ما يعلم، وتوعده الله بعذاب أليم لأن الحد لا يطهره من هذا الجرم القبيح فلعنة الله على المنافقين.
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة وكانت عائشة رضي الله عنها معه في تلك الغزوة، وأبعدت عنهم في ساعة لتقضي شأنها، فانفرط عقدها، فمكثت تلتمسه ووجدته، ثم جاءت منازل الجيش وليس بها داع ولا مجيب، فجلست تنتظرهم إذا ما فقدوها، لأنهم ظنوها في هودجها، وكانت إذ ذاك خفيفة اللحم، فحملوه وظنوها بداخله، فأخذها النوم في مكانها.
وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ من وراء الجيش فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال، أشاع ما شاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغترّ بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون الكلام.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريا بني «1» . في وجعي، أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف «2»
الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول، «كيف تيكم» ، ثم ينصرف، فذاك الذي يريا بني ولا أشعر بالشرّ حتى خرجت بعد ما نقهت «3» فخرجت معي أمّ مسطح، فأخبرتها الخبر فحزنت حزنا شديدا، وبكت بكاء مرّا ورجعت إلى البيت تقول رضي الله عنها:
ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني سلّم ثم قال: «كيف تيكم؟» فقلت: أتأذن لي أن اتي أبويّ.. فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله
…
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر «4» يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا. وما كان يدخل على أهلي إلا معي» .
(1) يريا بني: يقال: رابه وارابه، إذا أوهمه، وشككه.
(2)
اللطف: البر والرفق.
(3)
نقهت: الذي أفاق من مرضه ولم تتكامل صحته.
(4)
استعذر: أي طلب من يعذره منه، أي: ينصفه.
فقال سعد بن معاذ: أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
فرد عليه سعد بن عبادة ردا شديدا.
فتساور الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم.
قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع يظنّان أن البكاء فالق كبدي.
قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال:
قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فقلت- وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القران-:
إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة- والله يعلم أني بريئة- لا تصدّقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر- والله يعلم أني منه بريئة- لتصدّقنّي. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف/ 18]
قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي.
قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرّؤني الله بها.
قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه.
قالت: فلما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّي عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: «يا عائشة، أما الله عز وجل فقد برّأك
…
» «1»
ولك أن تتصور تلك الحالة النفسية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتمها في صدره وهو يعلم ما تلوكه ألسنة المنافقين على أهله.
فكم هي هذه الهموم التي عاشها رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وال بيته جميعا طيلة هذه المدة والتي فتر فيها الوحي كذلك.
ومع ذلك صبر صلى الله عليه وسلم وصمت حتى جاء الفرج وظهرت الحقيقة، وازدادت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها شرفا إلى شرفها، وذكرا حسنا إلى يوم القيامة يتلى. فلما أن سطع نور البراءة حدّ صلى الله عليه وسلم المؤمنين الذين زلت أقدامهم الحد الشرعي وطهرهم من هذا الإثم، وترك رأس الفتنة ولم يعمل فيه السيف لأن الحد لا يطهره، وأمثاله لعلو
(1) البخاري: كتاب التفسير: باب: " لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم
…
" رقم (4750)(فتح/ 8/ 578) .