الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]. ولما كان الشاهد بالزنا يلتبس أمره بالقاذف التباساً شديداً، فربما ينوي الرجل قذف آخر، فيرميه بالزنا في صورة الشهادة عليه، والذي هو شاهد حقيقة قد يدفعه المشهود عن نفسه، ويزعم أنه قاذف يستحق العقوبة، أقام الشارع فرقاً فاصلاً بينهما، فاشترط في صحة الشهادة على الزنا أربعة عدول، فإن القاذف يتميز عن الشاهد بوصفين: التهاون بأمر الدين، والغل الواغر في صدره بالنسبة للمقذوف، ومن البعيد اتفاق هذين الوصفين في جماعة من المسلمين عرفوا بالعدالة، فإذا لم يتم نصاب الشهادة، التحق الشاهد بالقاذف، وأجري الحد عليه.
وكثير من أحكام الشريعة ما هو مبني على مبدأ صيانة الأعراض؛ كرعاية الكفاءة في الأزواج؛ فإن اقتران المرأة بمن هو أدنى منها حسباً، وأخفض منها حالاً لا يخلو عن حطة في العادة يشملها عارها، ثم يمتد إلى وليها وذوي قرابتها، ويعرض بولدها لأن يلاقي من عشيرته مقتاً وهواناً. قال الشاعر العربي:
وإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه
…
إذا لم يزاحم خاله بأب جلد
ويؤثر عدم الكفاءة في المعاشرة بين الزوجين شغباً واضطراباً بسبب فخار المرأة وتطاولها، وربما نزع من يد الزوج سلطته التي يحوط بها عفتها، ويصون بها كرامتها؛ لإباية النفوس طبيعة من الطاعة لمن هو دونها مدنية وآداباً.
*
الحرية في الدماء:
ينظر العمرانيون إلى الأمة التي تجمعها رابطة، فيشاهدونها في صورة جسم واحد، وأفرادها هي أعضاؤه المتلاصقة، وليس سفك دم الفرد منهم
إلا كالفصد لعرق من عروقها، واستفراغ دمه الذي هو بضعة من حياتها، والقصاص من القاتل - وإن كان فصداً لعرق ثان من ذلك الجسم العظيم - إلا أنه بمبضع طبيب عارف يخشى أن يسري دمه الفاسد إلى غيره من الأعضاء، فيحدث فيها مرضاً عضالاً. قال الله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]؛ لأن القصاص يكف يد العالم به عن إراقة الدماء، ونهب الأعمار؛ موافقة لداعية الهوى، والضغائن الواغرة في الصدور، فيكون سبباً لحياة نفسين في هذه الناشئة، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل أحياناً، فإذا قتل عبد أو امرأة من قبيلة، وكانت القبيلة ذات شوكة وحمية، لا ترضى إلا أن تقتل في مقابلة العبد حراً، والمرأة رجلاً، وربما قتلوا جماعة بواحد، فتهيج الفتنة، وتشتعل بينهم حرب البسوس، فإذا كان القصاص مقصوراً على القاتل، فاز الباقون بالحرية في حياتهم، واطمأنوا بها.
والقصاص كما يقع عند الفتك بالأرواح، يجري في الجراحات، والجناية على الأطراف. قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. وهذه الآية يشملنا حكمها، وإن نزلت تبياناً لما كتب على الأمة الإسرائيلية؛ لأن ما يقصه الله علينا من شرائع الأمم المتقدمة، ولم يرد في الشريعة الإسلامية ما يخالفه، أخذنا به أسوة، وكان العمل بموجبه ضربه لازب.
ولمكان العناية بحفظ الدماء بنيت أحكامها على أساس الاحتياط؛ حتى لا يجد الأشقياء ذريعة إلى إهدارها، ومن هذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل الجماعة الكثيرة بالواحد، وإن كان القصاص يقتضي المساواة، وقتل عمر
ابن الخطاب سبعة من أهل صنعاء، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، لقتلتهم به، ويقتص ممن قتل في حال سكر، وإن لم يكن متعمداً؛ لئلا يتخذ السكر وسيلة إلى أنهار الدماء في سبيل الأغراض.
وشرع الإسلام الدية على القاتل تخفيفاً ورحمة، وأقامها مقام القصاص إذا رضي بها أولياء القتيل، وآثروها على الأخذ بالثأر؛ فقد تكون الدية أصلح لهم من القصاص، وأجدى نفعاً، وزيادة عما فيها من إبقاء نفس مسلمة تتناسل ذريتها في الإسلام.
هذا حكم القاتل عمداً، تؤخذ الدية من ماله، ويجلد مئة، ويسجن سنة كاملة؛ مزجرة له عن إتلاف النفس بغير حق، وأما إذا قتل خطأ، فتفرض على العاقلة من قرابته، وليست الدية في قتل الخطأ من قبيل العقوبة على الذنب حتى يشكل علينا وضعها على العاقلة؛ بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ونحوه من النصوص الدالة على أن الإنسان لا يؤخذ بزلة غيره، ولكنها فرضت للأخذ بخاطر المصابين، وتخفيفاً لوقع المصيبة عليهم، وإن كانت لا تخلو من حكمة التضييق على الجاني؛ ليأخذ حذره، ولا يتساهل في إهدار الدماء المعصومة، وإيجابها في ذمة القاتل وحده، وهي مقدار جسيم من المال، يضرّ به كثيراً، إذ لا يؤمن أن يتكرر خطؤه، فتأتي على جميع ماله، وعدم قصده للجناية عذر يقتضي التخفيف عنه، والرفق به، فناسب إيجابها على من عادتهم القيام بنصرته عند الشدائد، وهم عاقلته، ففرضت في أموالهم على وجه المساعدة والصلة الواجبة بحق القرابة؛ كما وجبت النفقات على بعض الأقارب، وكما يجب فكاك الأسير من بلد العدو.
لا يحل دم امرئ إلا لأسباب تكون الفتنة فيها أشد من القتل؛ مثل:
الزنا من المحصن؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه تجعل النسمة المخلقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباء، والنسب معدود من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد، فكان السِّفاح سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأولي قربى، يأخذون بساعده إذا زلت به نعله، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه، وفيه جناية عليه، وتعريض به لأن يعيش وضيعاً بين الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يستخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له في الهيئة الاجتماعية اعتباراً، ثم إن الغيرة التي طبعت في الإنسان على محارمه، والحرج الذي يملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته، مظنة لوقوع المقاتلات، وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار الفظيع، والفضيحة الكبرى، فاقتضى هذا الفساد الناقض لقاعدة العمران: أن يفرض له حد وجيع، هو الرجم إن كان ثيباً، وهذا من الحدود المتوارثة في الشرائع السماوية؛ كالقصاص، والقطع في السرقة، وأما إن كان بكراً، فيجلد مئة، قال تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2]. واكتفى بإيلام بدنه بالجلد، ولم يعاقب بالقتل؛ لأنه لم يتقدم له نكاح كالثيب عرف به طريق العفاف، وشاهد منه كيف يقع الاستغناء عن الفروج المحرمة، وهذا شيء من العذر فارق به الثيب، وأوجب له عصمة دمه.
* الحرية في الدين:
قرر الإسلام في معاملة الأمم التي يضمها تحت حمايته حقوقاً تضمن لهم الحرية في ديانتهم، والفسحة في إجراء أحكامها بينهم، وإقامة شعائرها بإرادة مستقلة، فلا سبيل لأولي الأمر على تعطيل شعيرة من شعائرهم،
ولا مدخل للسلطة القضائية في فصل نوازلهم الخاصة إلا أن يتراضوا عن المحاكمة أمامها، فتحكم بينهم على قانون العدل والتسوية، قال تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]. وإبقاء المحكومين على شرائعهم وعوائدهم، منظر من مناظر السياسة العالية، وباب من أبواب العدالة يدخلون من قبله إلى أكناف الحرية، وتذكروا إن شئتم قوله تعالى:{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74 - 75]. فجزاء السرقة في دين يوسف عليه السلام هو مضاعفة الغرم على السارق كما روي الكلبي، وفي رواية: ويضرب، وجزاؤه في شريعة يعقوب- عليه السلام أخذُ السارق، واسترقاقه سنة، وسؤال أصحاب يوسف عليه السلام إخوته عن جزاء من يوجد عنده الصواع ليعاقب به، وعدم إجراء حكم دين الملك عليه، مبني على رعاية معاملة المحكومين بشرائعهم.
الإسلام يحل للمسلم أن يتزوج المرأة من أهل الكتاب، مع استمرارها على دينها، والتمسك بعقائدها، ولا يسمح له بهضيمتها في أمر تستدين به، أو انتقاصها حقاً من حقوق الزوجية، بل تقاسم فيها امرأته المسلمة قسمة عادلة.
الإسلام يمنح المسلم أن يعطي لغير المسلم عهداً بتأمينه، ولا مساغ لأحد بعد ذلك في نقض ميثاقه، أو تبديل شرطه، بل يحتم السعي في تأكيده ورعايته، وفي الحديث الشريف:"إن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم".
تنظر إلى أبواب الشريعة، فتبصر في جملتها أحكاماً كثيرة مبنية على التسامح مع غير المحاربين، تطالع أبواب الهبة والوقف والوصية، فتستفيد
من أحكامها أن الإسلام لم يقتصر على إباحة معاملتهم بمعاوضة، بل أجاز للمسلم أن يهب جانباً من ماله، أو يوقفه، أو يوصي به لبعض أهل الذمة، ويجب تنفيذه، والقضاء بصحته، وأحل لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، وأن نطعمهم. قال تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. وأمر بالإحسان إليهم، والرفق بضعفهم، وسد خلة فقرهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف والرحمة، واحتمال إذايتهم في الجوار، وعلى وجه الكرم والحلم، وحرّم الاعتداء عليهم، ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم.
وحكى ابن حزم في "مراتب الإجماع": أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لهم.
فمن نظر في طبيعة الإسلام جيداً، تحقق صفاء سريرته من مقاصد تضرم في أحشاء أهله جمرة التعصب الباطل ضد ديانة أخرى؛ كما يزعم بعض من لم يسمعوا دعوته إلا من وراء حجاب.
وشدد الإسلام العقوية على من ارتد عن الدين بعد أن لبس هديه القويم، فأمر بدعوته إلى الإنابة والتوبة، فإن رجع، وإلا، ضرب بالسيف على عنقه، وإنما جبر المرتد على البقاء في الإسلام؛ حذراً من تفرق الوحدة، واختلال النظام، فلو خلي السبيل للذين ينبذون الدين جهرة، ونحن لا نعلم مقدار من يريد الله أن يضله، نخشى من انحلال الجامعة، وضعف الحامية، وأهل الردة - وإن أصبحوا كاليد الشلاء لا تعمل في الجامعة خيراً - لا يخلو بقاؤهم في شمل المسلمين، وهم في صورة أعضاء صحيحة، من إرهاب يلقيه كثرة
السواد في قلوب المحاربين، ثم إن لكل أمة سرائر من حيث الدولة لا ينبغي لها أن تطلع عليها غير أوليائها، ومن كان متلبساً بصفة الإسلام شأنه الخبرة بأحوال المسلمين، والمعرفة بدواخلهم، فإذا خلع ربقة الدين، وقد كان بطانة لأهله يلقون إليه سرائرهم، اتخذه المحاربون أكبر مساعد، وأطولَ يد يمدونها لنيل أغراضهم من المؤمنين، هذا تأثير أهل الردة على الإسلام من جهة الدولة والسياسة، وأما تأثيرهم عليه من جهة ديناً قيماً، فإن المرتد يحمله المقلّدون من المخالفين على معرفته بحال الدين، والخبرة بحقيقته تفصيلاً، فيتلقون منه كل ما ينسبه إليه من خرافات وضيعة، أو عقائد سخيفة، يختلقها عليه بقصد إطفاء نوره، وتنفير القلوب منه، ولما كان عثرة في سبيل انتشار الدين، وجبت إماطته كما يماط الأذى عن الطريق.
وفي جعل عقوبة المرتد إباحة دمه زاجرٌ للأمم الأخرى عن الدخول في الدين مشايعة للدولة، ونفاقاً لأهله، وباعث لهم على التثبت في أمرهم، فلا يتقلدونه إلا على بصيرة وسلطان مبين؛ إذ الداخل في الدين مداجاة ومشايعة يتعسر عليه الاستمرار على الإسلام وإقامة شعائره.
وأنت إذا جئت تبحث عن حال من ارتدوا بعد الإسلام، لا تجد سوى طائفتين: منهم من عانق الدين منافقاً، فإذا قضى وطره، أو انقطع أمله، انقلب على وجهه خاسراً، وبعضهم ربي في حجور المسلمين، ولكنه لم يدرس حقائق الدين، ولم يتلق عقائده ببراهين تربط على قلبه ليكون من الموقنين، فمتى سنحت له شبهة من الباطل، تزلزت عقيدته، وأصبح في ريبه متردداً، وارجع بصرك إلى التاريخ كرتين، فإنك لا تعثر على خبر ارتداد مسلم نبت في بلد طيب نباتاً حسناً.