الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلم يقدر أحد منا أن يرده عليه، فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خطأ أو تحريف فلا أرده.
فلعل قلب ذلك القاضي كان متعلقاً بزخرف الحياة حتى أصبح يؤثره على قول الحق، أما ابن خزيمة، فليس لزخرف الحياة وأبهة الإمارة في جانب قول الحق عنده من قيمة.
وإذا كان الموسر الذي يسرف في الزيية والملاذ موضع الملامة، فأولى باللوم والموعظة ذلك الذي يتكلف للملابس النفيسة، أو المطاعم الفاخرة، ويأتيها من طريق الاقتراض؛ فإن الهم والذل اللذين يجرهما الدَّين يقلبان كل صفو إلى كدر، وكلَّ لذة إلى مرارة، وقد أصاب الرمية ذلك الشاعر يقول:
إذا رمتَ أن تستقرض المالَ من أخٍ
…
تعوَّدتَ منه اليسر في زمن العُسرِ
فسلْ نفسك الإنفاق من كيس صبرها
…
عليك وإنظاراً إلى ساعة اليسر
فإن أسعفت كنت الغنيَّ وإن أبتْ
…
فكلُّ منوعٍ بعدها واسع العذر
وإنما رجل الدنيا وواحدها من تكون همته وإرادته فوق عواطفه وشهواته، فإذا نزعت نفسه إلى زينة أو لذة لا ينالها إلا أن يبذل شيئاً من كرامته، راضها بالحكمة، وأراها أن مثقال ذرَّة من الكرامة يرجح بالقناطير المقنطرة من زينة هذه الحياة وملاذها.
*
الغلو في ترك الزينة والطيب من الرزق:
ومما جاء في كراهة المبالغة في الامتناع من الزينة والطيب من الرزق: قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].
ففي هاتين الآيتين نهي عن الإفراط في ترك الزينة والطيب من الرزق، لتركها زهداً في الدنيا، وفيهما بيان أن ذلك الترك في نفسه لا يقرب من الله قيد أنملة، فللمؤمن أن يأخذ من الزينة، ويتناول من الطيبات ما شاء، وقوله تعالى:{وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] إما أن يكون نهياً عن تعدي حدود ما أحل لهم، أو نهياً عن الإسراف في الحلال، وفي الإسراف مفسدة أي مفسدة، قال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف، ومخيلة.
وكان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه شديد الزهد، حريصاً على أن يسير الناس سيرة القانع بالكفاف من القوت، فأخذ ينكر عليهم وهو بالشام الاتساعَ في المراكب والملابس، ويدعوهم إلى صرف ما زاد عن حاجتهم إلى وجوه البر، فوقع بينه وبين معاوية رضي الله عنه كلام، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، وجعل يدعوهم بتلك الدعوة في شدة، فقال له عثمان رضي الله عنه: لو اعتزلت! قال أبو بكر بن العربي: "معناه - أي: قول عثمان -: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً، وللعزلة مثلها، ومن كان كأبي ذر، فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربدة زاهداً فاضلاً، وترك جلة فضلاء، وكلٌّ على خير وبركة وفضل".
وهذا الحسن البصري، وهو من أفضل التابعين، ينكر على من يعد من الورع ترك بعض الأطعمة اللذيذة، دُعي الحسن مرة، ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها ألوان من الدجاج المسمّن والفالوذج
وغير ذلك، فاعتزل فرقدٌ ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه، وقال: يا فريقد! أترى لُعابَ النحل بلُباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟!.
وقد أنكر أبو بكر بن العربي ما يفعله بعض المتصوفة من اتخاذه ثوباً يصنعه من رقاع مختلفة، وعدّه من البدع المكروهة في الإسلام.
ومما ورد في الحث على التجمل: حديث جابر رضي الله عنه، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل عليه بُردان قد خلقا "بليا"، فقال:"أما له ثوبان غير هذين؟ " فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما. قال:"فادعه فمره أن يلبسهما"، قال: فدعوته، فلبسهما.
وفي هذا الحديث شاهد على أن الدين يأمر الشخص بالتجمل في الملبس، وينهاه عن الخروج في أثواب تزدريها العيون، وهو يستطيع أن يخرج في أثواب نقية غير بالية، وقال عمر بن الخطاب: إذا أوسع الله عليكم، فأوسعوا على أنفسكم. وحمل هذا الأثر بعضُ أهل العلم على معنى: أن الرجل إذا أوسع الله عليه في ماله، فليوسع على نفسه في ملبسه، فيحمل نفسه على عادة مثله. وسئل مالك عن قول الله تعالى:{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77]، فقال: أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه.
وكان أهل الأندلس فيما حكاه صاحب "نفح الطيب": أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون، وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً، ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها.