المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نقد مقالة: سطوة الإلحاد على الأديان: - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(7)«مُحَاضَرَاتٌ إسْلاميَّةٌ»

- ‌المقدمة

- ‌الحرية في الإِسلام

- ‌ الحرية

- ‌ المشورة:

- ‌ المساواة:

- ‌ الحرية في الأموال:

- ‌ اكتسابها

- ‌ الطريق الوسط:

- ‌ التمتع بها:

- ‌ الاعتداء عليها:

- ‌ الحرية في الأعراض:

- ‌ الحرية في الدماء:

- ‌ الحرية في خطاب الأمراء:

- ‌ آثار الاستبداد:

- ‌علماء الإسلام في الأندلس

- ‌ سبب نهضة العلوم الإسلامية بالأندلس:

- ‌ مكانة علماء الأندلس في العلوم الإسلامية:

- ‌ تفسير القرآن:

- ‌ علم الحديث:

- ‌ علم الفقه:

- ‌ علم الكلام:

- ‌ علماء الأندلس والفلسفة:

- ‌ اعتزاز علماء الأندلس بمقاماتهم العلمية:

- ‌ نظر علماء الأندلس في أحوال الأمة، وغيرتهم على مصالحها:

- ‌السعادة عند بَعضِ عُلماء الإسلام

- ‌ الآراء الفلسفية اليونانية:

- ‌ رأي أبي نصر الفارابي:

- ‌ رأي ابن مسكويه:

- ‌التصوف قي القديم والحديث

- ‌ نشأة التصوف:

- ‌ ماذا حدث في التصوف بعد عهد الصحابة والتابعين:

- ‌ الطرق الصوفية في الوقت الحاضر:

- ‌الدهاء في السياسة

- ‌الزينة والرفاهية في الإسلام

- ‌ الغلو في ترك الزينة والطيب من الرزق:

- ‌ هل يدخل الورع في ترك المباح

- ‌ قبول عطايا الأمراء الظالمين:

- ‌الصّداقة

- ‌ ما هي الصداقة

- ‌ صداقة المنفعة:

- ‌ صداقة اللذة:

- ‌ صداقة الفضيلة:

- ‌ الصداقة فضيلة:

- ‌ الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء:

- ‌ الاستكثار من الأصدقاء:

- ‌ علامة الصداقة الفاضلة:

- ‌ الصداقة تقوم على التشابه:

- ‌ البعد من صداقة غير الفضلاء:

- ‌ الاحتراس من الصديق:

- ‌ هل الصداقة اختيارية

- ‌ دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة:

- ‌ الصديق المخلص عزيز:

- ‌ الإغماض عن عثرات الأصدقاء:

- ‌ معاملة الأصدقاء بالمثل:

- ‌ عتاب الأصدقاء:

- ‌ كتم السر عن الأصدقاء:

- ‌ أثر البعد في الصداقة:

- ‌ الصداقة صلة بين الشعوب:

- ‌مضارُّ الإسراف

- ‌تعاون العقل والعاطفة على الخير

- ‌ اختلاف العقل والعاطفة:

- ‌ توافق العقل والعاطفة:

- ‌ كيف تربى عاطفة الخير

- ‌حقوق الفقراء على الأغنياء في الإسلام

- ‌السمو الخلقي في الإسلام

- ‌‌‌المعتزلة

- ‌المعتزلة

- ‌ انتشار الاعتزال في صدر الدولة العباسية وأسبابه:

- ‌ أثر المعتزلة في الحياة العقلية:

- ‌ أهل السنة:

- ‌ الأشعرية:

- ‌ الماتريدية:

- ‌ أهل الحديث:

- ‌اختلاط الجنسين في نظر الإسلام

- ‌نقد آراء الأستاذ فريد وجدي من الناحية الدينية والاجتماعية

- ‌ المحاضرة الأولى

- ‌ نقد مقاله المدرج بمجلة "الحديث

- ‌ نقد مقالات الدعوة إلى التجديد:

- ‌ المحاضرة الثانية

- ‌ نقد مقالة: سطوة الإلحاد على الأديان:

الفصل: ‌ نقد مقالة: سطوة الإلحاد على الأديان:

ومن لزم الأوطان أصبح كالكلا

بمنبته منماه ثمة حطمه

هم غرسوا دوح التمدن فرعه الـ

ـرياضي والعلم الطبيعي جذمه

فكان لهم في ظله متقيلٌ

من الصول يحمي بالمكائد أطمه

أيجمل يا أهل الحفيظة أنهم

يبزوننا علماً لنا كل فخمه

لقد فاتنا في بادئ الرأي صوبنا

وأشفى لعمري أن يفوت ختمه

تباعد شوطاً مقدم ومقهقر

إذا لم يحن منه التفاف يزمه

لعمري ليس الميت من أودع الثرى

ولكن مطيق للغنى بأن عدمه

*‌

‌ نقد مقالة: سطوة الإلحاد على الأديان:

حكى الأستاذ في هذا المقال أن الإلحاد بدأ في القرن السابع قبل الميلاد على يد الفيلسوف اليوناني "طاليس"، وتقبل رأيه طائفة من فلاسفة اليونان، وكان مرماهم جميعاً التدليل على قيام الوجود بنفسه مستغنياً عن مدبر حكيم، فلم تقم لرأيهم قائمة بسبب شدة تمسك الناس بأديانهم، وقال من بعد:"ثم تطورت الآراء حتى جاء زمان أصبح الدليل فيه حاجة من حاجات العقول، فوجد الإلحاد مجالاً للظهور باعتبار أنه رأي علمي حق المثول بين الآراء المتباينة، ولم يكد يعطى هذا الحق، حتى نزع إلى الإعلان عن نفسه بأنه الرأي الوحيد الذي يوفي بحاجات العقول؛ إذ يستند إلى العلوم اليقينية القائمة على المشاهدة والتجربة، وأما ما عداه، فأساسه الهوى والخيال، وما قام الدليل المحسوس على منافاته للبداهات العقلية المقررة".

لا نناقش الأستاذ فيما تحدث به من بداية الإلحاد، ولا في إخفاقه حين قام يسعى بين المتمسكين بأديانهم، ولا في تطور الآراء حتى أصبح الدليل

ص: 221

حاجة من حاجات العقول، وللأستاذ أن يصف الإلحاد بأنه رأي علمي له حق المثول بين الآراء المتباينة، ولنا أن نقول: للإلحاد أن يمثل بين الآراء المتباينة، ريثما تتناوله العقول بالنقد، فإذا وضع على محك النظر، استبان أنه رأي زائف، منشؤه قلة الروية، والوقوف في البحث عند غاية تتجاوزها العقول وهي مهتدية بنور العلم، معتصمة بقانون المنطق، وإذا أعلن الإلحاد عن نفسه بأنه يفي بحاجات العقول، نادته العقول أنفسها أن ليس في إنكار مدبر حكيم ما يقضي لها حاجة واحدة، فضلاً عن أن يفي بحاجاتها، وما جاء في وصف الإلحاد من أنه يستند إلى العلوم اليقينية القائمة على المشاهدة والتجربة، وأن ما عدا الإلحاد قائم على أساس الهوى والخيال، مدفوع بأن ليس في العلوم اليقينية القائمة على المشاهدة والتجربة ما يصح أن يكون مستنداً للإلحاد، وليس فيها ما يعترض الدين في سبيل، فإن ادعى الإلحاد أنه يستند إلى العلوم اليقينية، فقد افترى على هذه العلوم كذباً.

ثم قال الأستاذ: "فنشبت بين الإلحاد والدين من ذلك العين - القرن السادس عشر - معركة فاصلة لا تزال رحاها دائرة، استخدم فيها رجال الدين في أول عهدهم بها ما كان لهم من سلطان على الحكومات والعامة، فأسرفوا في البطش بخصومهم، لا بقوة الدليل، ولكن بقوة الحديد والنار".

يذكر الأستاذ في حديثه رجال الدين باطلاق، ثم يقابلهم بالإلحاد، ويعبر في بعض الجمل برجال الأديان، فإذا ناقشناه، فمن ناحية تحقيق البحث بالنظر إلى رجال الدين الإسلامي.

إذا تتبعنا تاريخ رجال الدين في الإسلام، نجدهم يرجعون في مقاومة الالحاد إلى الحجة، وما قامت طائفة الملاحدة بدعاية ظاهرة أو خفية،

ص: 222

فيخشى أولو الأمر من أن يتفشى وجاء الإلحاد في الناس، فيفسد النفوس، ويفتك بالأخلاق الفاضلة، فيقضي عليهم النصح للأمة، والعمل لسعادتها أن يقطعوا شر الإلحاد عن العامة والأحداث، ولو بالقوة.

وقد دلت المشاهدة على أن من دعاة الإلحاد من لا ينقطعون عن دعايتهم، ولو أقمت لهم على ضلالهم ألف دليل، وإذا كان لأحدهم سبيل على طائفة من نشئنا، أخذ ينفخ فيهم روح الإلحاد على طريقة مبيتة، ومتى كان في الرئيس الأعلى غفلة وقلة صفاء، وجد أولئك الدعاة تحت رعايته المجال واسعًا، فعاثوا في الفطر السليمة فساداً، فلا يمضي حين حتى يتولد حولهم جماعات مطويات على ما تنطوي عليه الأراقم من سموم قاتلة، فإن كان الرئيس على بصيرة، أشفق على تلك الفطر أن تشوَّه، ووقاها من كل دعاية خرقاء، والرئيس الحازم لا يفوته أن لحرية الفكر حدوداً إذا تجاوزتها، كان إثمها أكبر من نفعها، ولا يدخل في حدودها الطعن في الدين، أو الجهر بآراء تنتزع النفوس من العفاف، وتقودها إلى الإباحية العمياء.

ومن مثار العجب أن يشكو دعاة الإلحاد حزم الرئيس المصلح واحتراسه من مكرهم، ويسمونه، اعتداء على حرية الفكر، حتى إذا ملك أحدهم قوة، أرهق بها فضلاء الناس خسفاً، ولا يكون من أولئك الذين كانوا يندبون حرية الفكر إلا أن يتغنوا بمديحه في الصحف، ويسمون إرهاقه الغاشم إصلاحاً.

قال الأستاذ: "ثم تقدم الزمان، وأفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين، فاقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإقناع، في هذه الأثناء كان العلم الطبيعي يؤتي ثمراته من استكشاف المجهولات، وتخفيف الويلات، وتوقية الصناعات، وابتكار الأدوات والآلات، ويعمل على تجديد الحياة

ص: 223

البشرية تجديداً رفعها عن المستوى، فشعر الناس بفارق جسيم بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة، وتحت سلطان العلوم المادية، وبين ما كانوا عليه أيام خضوعهم لحفظة العقائد، فانتهز الإلحاد فرصة هذا الشعور الجديد، وازداد كليًا على مهاجمة الدين، واستهتر في مطامعه، فرمى إلى القضاء عليه القضاء الأخير".

عبّر الأستاذ بخروج الحكومات من سلطان رجال الدين، وهو يريد خروجها من سلطان الدين نفسه، وذكر أن عهد خروجها من سلطان الدين أرقى من عهد خضوعها له، وسمَّى الأول: عهد الحياة الحرة، والثاني: عهد الخضوع لحفظة العقائد.

والواقع أن في كل عصر من العصور الماضية طائفة يدرسون مع العلوم الدينية العلوم النظرية، والفنون الأدبية، وفي كل عصر علماء لا يغفلون في تقرير الأحكام الدينية عن المصالح الاجتماعية، فمن الإنصاف أن نقول: أشد الناس صداقة للعلوم والتجديد الصالح علماء الإسلام.

وشاهد هذا: أنه حين تيقظ بعض رجال الدولة الإسلامية لمقتضيات المدنية، وجدوا من الرجال الراسخين في العلم مساعدة على كل ما أرادوا القيام به من إصلاح، يعرف هذا من اطلع على تاريخ النهضة الإسلامية في مثل مصر وتونس، ولكن الذي يزعم أن علماء الدين كانوا عقبة في سبيل الرقي، إما أنه ينظر إلى بعض من ينتمون إلى الدين وهم لا يفقهون من روحه شيئاً، فيرسل حكمه على علماء الدين مطلقاً، وإما أن يعد إنكارهم للفسوق والخلاعة والطعن في الدين معارضة للحرية، ووقوفاً في سبيل التجديد، وهم لم يريدوا إلا حماية الفضيلة، وسد ذرائع الفساد.

ص: 224

فلا عذر للحكومات التي تفلت من سلطان الدين ما دامت تجد في رجاله الراسخين من يهديها السبيل المستبين، ويريها أن الدين يفسح للناس المجال حتى ينتهوا إلى الحياة الحرة، ويخوضوا في العلوم المادية إلى أبعد مدى.

ويخيل الأستاذ لقراء مقاله أن الحياة الحرة في إفلات الحكومات من سلطان الدين، وقد دلنا التاريخ، بل العصر الحاضر أن من الحكومات التي تفلت من سلطان الدين، وتنكث يدها منه جملة، تطلق للناس مجال الطعن في الدين، وتناوئ كل من يعظها في منكر، وترميه بعدم الإخلاص أو الطاعة، فأين الحياة الحرة عند إفلات الحكومات من سلطان الدين؟!.

وليست الحياة الحرة هي التي تجعل الإلحاد يطمع في أن يقضي على الدين القضاء الأخير كما يقول الأستاذ، وإنما يطمع الإلحاد في القضاء على الدين متى رأى أميراً أو وزيراً أو رئيس معهد علمي يحمل في صدره الإنكار والفسوق، ويرفع الملحدين على المتدينين درجات.

قال الأستاذ: "فلو كان خطأ رجال الدين وقف عند هذا الحد - يعني: إسرافهم في البطش بخصومهم الملاحدة -، لكان- مع الاعتراف بأنه حوب كبير- من الأمور التي وقعت فيها الطوائف، قديماً وحديثًا في الاجتماع والسياسة معاً، ولكنهم يشتركون في أمر ليس له ضريب في تاريخ الطوائف، وهو إجماعهم في كل مكان على إحباط ما جدَّ في العالم العلمي من المباحث التي ترمي إلى الوقوف على حدود العالم الروحاني على أسلوب العلم الطبيعي نفسه من المشاهدة والتجربة، واعتبار القائمين بها من عليه العلماء، وجلة الفلاسفة والمفكرين، فضوليين يشتغلون بما ليس من اختصاصهم من أمور

ص: 225

الروح والروحانيات التي يحسبون أنفسهم من محتكريها دون غيرهم".

يريد الأستاذ بما جدّ في العالم الروحي: ما كان من قبيل التنويم المغناطيسي، واستحضار الأرواح، ويتهم رجال الدين بإحباط مساعي الباحثين في حدود العالم الروحاني، بدعوى أنهم يريدون احتكارها لأنفسهم دون غيرهم، ولو لم يقل الأستاذ:"في كل مكان"، لقلنا: يقصد طائفة خاصة من رجال الدين، ولكنه جرى على عادته في التعميم، فجرته المبالغة إلى الإخبار بما لا يعرفه الناس واقعاً.

والمشاهد أن من علماء الدين من يتلقى أحاديث هذه المباحث بقبول، فيثق بما يورده الكاتبون في شأنها، ويسبوقه تأييدًا لما قرره الدين من أن وراء هذه المادة عالماً روحانيًا، ومنهم من لا يبادر هذه الأحاديث بالإنكار، ولكنه يتحامى أن يعتمد عليها في بحثه العلمي؛ لأنه لم يدرس تلك المباحث بنفسه درس مشاهدة أو تجربة، وها نحن أولاء نخالط رجال الدين في العشي والإبكار، وكثيراً ما ينساق الحديث إلى هذا الذي جدَّ في العالم الروحي، فلم نشعر بهذا الذي يتهمهم به الأستاذ؛ أعني: اعتبارهم للقائمين بالمباحث الروحية فضوليين يشتغلون بما ليس من اختصاصهم.

قال الأستاذ: "فإلى أي حد ينتهي عجب القارئ إذا علم أن علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا والفلك، وتاريخ الأديان، والتاريخ العام، والفلسفة إلخ لم تدع في الأديان مذهباً مقرراً، ولا أصلاً مدعماً إلا أوسعته نقداً على أسلوبها، ونقضته وقوفًا مع مقرراتها الرسمية".

لا تنال هذه العلوم من حقائق الدين كثيراً أو قليلاً، وقد رأينا فيمن قتلوها علماً من يستنيرون بإيمان لا يحوم عليه ريب، والذين يحاربون الدين،

ص: 226

ويزعمون أنهم يستندون إليها، لم يستطيعوا أن يقيموا من مقرراتها الصحيحة شاهداً على أن فيها ما ينقض أصلاً من أصول الدين مدعمًا، وإذا زاغ فريق من أصحاب هذه العلوم، فإنما جاءهم الزيغ من الناحية التي يجيء منها إلى فريق لم يعرفوا لهذه العلوم إلا أسماء، وقد حاول بعض الملحدين أن يتخذ من هذه العلوم مستنداً، فلم يزد على أن دل الناس على أنه لم يفهم ما يقرره الدين، أو أنه لا يعرف قانون المنطق والشروط التي لا يستقيم الاستدلال إلا بمراعاتها.

قال الأستاذ: "قلنا: إلى أي حد ينتهي عجب القارى" إذا علم أن حفظة العقائد في كل مكان، أجمعوا أمرهم على محاربة هذه الفتوحات العلمية التي إذا ثبت في يوم من الأيام أنها ضلالة، فقدت أخص العقائد في الأديان كل أساس علمي، وأصبحت جميع مقرراتها مما لا يمكن الدفاع عنه بأية وسيلة من الوسائل".

قد أريناكم أن من حفظة العقائد من يتقبل هذا الذي يسميه الأستاذ: فتوحات علمية، ويورده تأييدًا لما عنده من أدلة على وجود عالم وراء المادة، ومنهم من وقف منها موقف المنتظر حتى يتسنى له أن يعلمها على طريق المشاهدة والتجربة، فدعوى الأستاذ إجماعَ حفطة العقائد في كل مكان على محاربة هذه الفتوحات، من قبيل المبالغات التي تقتحمها أقلام تسعى للتنفير من الدين على طريق الحط من شأن علماء الدين.

ثم ماذا يريد الأستاذ بدعوى أن المباحث الروحية التي يقوم بها بعض الأوروبيين متى ظهر بطلانها، فقدت العقائد في الأديان كل أساس علمي، وأصبحت جميع مقرراتها لا يمكن الدفاع عنها بأية وسيلة من الوسائل؟.

ص: 227

يريد: أنه إذا ثبت أن تلك المباحث غير صحيحة على معنى: أن أولئك الباحثين غير صادقين في دعواهم أنهم استندوا فيها إلى المشاهدة والتجربة، انتقضت العقائد الدينية من أساسها، وهذا مردود بأن العقائد الدينية تقوم على أساس من الأدلة العلمية متين، فلا يضرها أن يفشل أولئك الباحثون، فلا يصلوا إلى إدراك ما وراء الطبيعة على طريق المشاهدة أو التجربة.

قال الأستاذ: "إن كان الدينيون يعلمون من أين أتى مقرراتهم الوهن، وتطرق إلى أصولهم الانحلال، لتطلبوا الوسائل لتقوية معاقلهم الدفاعية، واتخذوا من الأسلحة ما يمكنهم من الوقوف أمام هجمات العلم المتوالية".

يرى الأستاذ أن الوهن والانحلال قد دخلا على مقررات الدين وأصوله، وأسباب الوهن والانحلال في زعمه هي هجمات العلم المتوالية، والواقع أن مقررات الدين لم يأتها وهن، وأصوله لم يتطرقها الانحلال، فإن أراد من العلم: النظريات التي استقرت على وجهها الصحيح، ورفع العلماء أيديهم من بحثها، فهذه لا تهاجم الدين في حال، وإن أراد من العلم: النظريات التي لم تتعد مراتب الظنون، فهذا الصنف قد يوجد فيه ما يخالف الدين، ولكنه لا يزلزل أصلاً قائماً على أساس من الدين، فضلاً عن أن ينقضه نقضًا، ومع هذا، فإننا ممن يحث المتدينين على أن يطلقوا أعنتهم في المباحث العلمية، مادية أو روحية؛ لأنها تزيد معاقلهم الدفاعية قوة على قوتها.

قال الأستاذ: "وهم - يعني: رجال الدين - يرون أن العلم والفلسفة ينقصان من أطرافهم كل يوم، وأن الناس يتسللون عنهم زرافات، حتى لم يبق سواهم في المجال الذي هم فيه، فابتنى على ذلك: أن الفلسفة المادية التهمت الطبقات المتعلمة، وأصبحت عنصراً من عناصر روح العصر الحاضر،

ص: 228

تنتزل منها العادات والآداب والأخلاق، بل والأنظمة والقوانين والمثل العليا".

لا ينقص العلم والفلسفة المعقولة من أطراف المتدينين ذرة، وإذا نقصت الفلسفة الزائفة من أطراف المتدينين نفراً، فلأنها وجدت نفوسًا لم تتلقن تعاليم الدين على طريقة الاستدلال الصحيح. وقد بالغ الأستاذ في دعواه أن الناس تسللوا عن المتدينين حتى لم يبق في المجال الذي هم فيه غيرهم. ولا أخال نظر الأستاذ إلا أنه قد سبق إلى بيئة يتجول فيها الزيغ في صلابة جبين، فقاس عليها البيئات التي لم يطأ أرضها، ولم يجس نبضها، ولو كان ممن يزنون القول وزناً، لما تطوح في المبالغة إلى هذا المكان البعيد.

فالفلسفة المادية لا تلتهم الطبقات المتعلمة، وإنما تلتهمهم سموم ينفثها فيهم بعض من يتولى تعليمهم من الزائغين وهم على فطرتهم الأولى. وقد دلنا تتبع حركة الإلحاد: أن في دعاة الإلحاد من لم يدرس الفلسفة المادية قط، أو لم يعرف منها إلا مبادئ يسيرة، ولكنه ينال مظهراً وجيهًا، فيفسد طائفة من النفوس، ويربيها على الجمود والإباحة تربية لا تمت للفلسفة المادية بصلة.

قال الأستاذ: "الذي يلوح في أن هذا الإلحاد سيبلغ أقصى مداه في الشرق والغرب معًا، وسيدفع في تياره الناس كافة، إلا أفرادًا تابعوا العلم في تطوره، وتطوحوا معه إلى أبعد مغامراته".

يحدثنا الأستاذ أن الإلحاد يستند إلى العلم والفلسفة المادية، وأن الناس يتسللون عن المتدينين أفواجًا أفواجًا، وزعم أن الإلحاد سيبلغ أقصى مداه في الشرق والغرب معًا، وسيأخذ في تياره الناس كافة، ما عدا أفراداً تابعوا العلم في تطوره، وأراد بهؤلاء الأفراد: من يشتغلون بالمباحث الروحية

ص: 229

على طريق المشاهدة والتجربة، فقد قال في هذا المقال:"وإن المبحث الوحيد الذي يصلح لأن يصد هذا التيار الجارف، هو ما ثبت بجهاد أولئك الكملة من وجود عالم أرقى من عالم المادة، هو المؤثر فيها، والمصرف لقواها".

ثم خطر على بال الأستاذ سؤال هو: أن يقول قائل: ما بال أولئك الكملة من أصحاب المباحث الروحية لا يتكلمون فينقذون العالم من تيار الإلحاد؟ فقال: "وهؤلاء لا يقوون على صد العالم أجمع محفوزاً بعوامل لا تغالب من مقررات الفلسفة المادية صاحبة السلطان اليوم".

يدعي الأستاذ أن الإلحاد - الذي هو أبو الإباحية - سائد في هذا العصر، ولا مخلص للعالم من سلطانه، بانياً هذه الدعوى على أن رجال الدين لا يملكون لمقاومة الإلحاد سلاحًا، وأصحاب المباحث الروحية لا يجدون أذنًا واعية، فعلى رجال الدين إذن أن لا يقفوا في وجه الإلحاد؛ فإن الأعزل لا يقف في وجه شاكي السلاح، وعلى أصحاب المباحث الروحية أن يسالموا الإلحاد؛ لأنه استولى على كل سمع، واحتل كل نفس، وفي يده من الفلسفة المادية سلاح لا يغالب، فكان الأستاذ يتيسر على علماء الدين أن يقلعوا عن دعايتهم، ويقبلوا على شأنهم، ولكن هؤلاء العلماء يشعرون بأن لديهم أسلحة تصرع الإلحاد على فيه، ويثقون بأن النفوس التي يسبق إليها تعليم ديني حكيم تصبح في حصانة من أن يمسها الإلحاد، ولو خاضت غمار الفلسفة المادية، وأمعنت في كل باب من أبوابها.

زعم الأستاذ أن لا غالب للإلحاد في هذا العصر؛ لأنه عصر الفلسفة المادية، وتخبط في حديثه تخبط من لا يقدر الدعوة إلى الهداية قدرها، وكأنه

ص: 230

خشي أن يكون في صدور المتدينين من هذه الاراء الجافية حرج، فعاد إلى أن قال: إذا تم الظفر للإلحاد، وبشمت النفوس من الرتوع في حمأة الإباحية، وغرقت المواهب الإنسانية في قذر الحياة الحيوانية، عادت الفطرة الإنسانية، فحولت قوى الإنسان المعنوية إلى عادة النظر في موقفها، فوجدت ذخرًا من العلم الصحيح عن الروح وعالمها، فأصابت ما يقيمها على الصراط السوي في حياتيها معاً.

كذلك الذي لا يثبت في حياته الأدبية على خطبة صريحة خالصة، فإنه يريد أن يرضي عواطفه إرضاء بالغًا، ولا يغضب قراء ما يكتبه إغضابًا شديداً، فلا مفر له من أن يقع إما في رياء، وإما في تناقض.

يذهب الأستاذ إلى أن الإلحاد يستند إلى الفلسفة المادية، وأن الفلسفة المادية هي عنصر من عناصر العصر الحاضر، ويصرح بأن تيار الإلحاد قد جرف الناس في هذا العصر، ويعترف بأن الإلحاد مدعاة إلى الرتوع في حمأة الإباحة، والغرق في قذر الحيوانية، ويقول مع هذا كله: إن العصر الحاضر نفحة إلهية.

فالأستاذ إما أن يكون معتقداً أن العصر الحاضر نفحة إلهية، ويعد الإلحاد السائد فيه من جملة العناصر الأدبية التي فضل بها كل ما تقدمه من العصور، وتكون هذه الكلمات التي عاب بها الإلحاد قد صدرت عن غير عقيدة، وإما أن يكون معترفًا بأن الإلحاد منشأ كل شر، فيضطر إلى الاعتراف بأن العصر الذي يسود فيه الإلحاد، وتتفشى فيه الإباحة، لا تكون عناصره الأدبية أرقى من كل ما سبقها في العصور الماضية.

فلنعتمد في تأويل هذه الكمات على أن الأستاذ قد نقض قوله: "إن

ص: 231

العصر الحاضر نفحة إلهية"، ويبقى لنا أن نرد عليه زعمه أن الإلحاد سيشمل من في الأرض جميعاً، إنما يتخلص منه من بعد على يد تلك المباحث الروحية، ونقول له: في كل سكينة وطمأنينة: إن تلك المباحث الروحية لا تقوى على مكافحة الإلحاد، وإنقاذ الناس من قذر الشهوات الحيوانية، والنفوس التي لا تهتدي بالحجج الساطعة، والحكم البالغة، لا يخرجها من ظلمات الإلحاد أن تستكشف بالمشاهدة أو التجربة شيئاً من وراء هذه المادة يسمى: "روحاً".

وها نحن أولاء نلقى في كل يوم من يحدثنا عن هذه المباحث الروحية حديث المستيقن بصحتها، ثم لا يتحاشى أن يبسط لسانه، أو يطلق قلمه بتحبيذ الإلحاد، والدعوة إلى الإباحية باسم التجديد، فإن كان لا يشعر بأنه يشد أزر الإلحاد، ويغري الإباحية على أن تنتشر في الأرض، فإن في هداية القرآن ما يفرق بين الإلحاد والإيمان، ويفصل الإباحية عن العدل والعفاف، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]

ص: 232