الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجودة التمييز هما اللذان يكسبان أفعالنا جودة وكمالاً.
فأبو نصر الفارابي يوافق أرسطو في أن الخير الأعلى هو السعادة، غير أن الفارابي يجعل الفضائل النفسية والسعادة شيئاً واحداً، فلا حرج عليه في أن يقصر الخير الأعلى على السعادة، وأما أرسطو، فإنه يذهب إلى أن الفضائل النفسية هي الركن الأعظم في تقويم حقيقة السعادة، ويجمعل من متمماتها: الخيرات البدنية والخارجية، وإذا كانت السعادة تتناول الثروة، وصحة البدن، والجمال، فليس من الصواب أن تكون الخير الأعلى؛ إذ مقتضاه: أن من بلغ في الحكمة والخلق الجميل غايتهما، فإنه أن يكون جميل الوجه، أو واسع الرزق، أو صحيح البدن، يعد محروماً من الخير الأعلى؛ لأنه لم يستوف وسائل السعادة، وهذا ما لا تقبله العقول التي قدرت الحكمة والفضيلة النفسية قدرهما:
إذا كان الفتى ضخم المعالي
…
فليس يضرّه الجسم النحيل
*
رأي ابن مسكويه:
يقول ابن مسكويه في مؤلف له في السعادة: إن الغايات التي يتوجه إليها الناس ترجع إلى قسمين:
أولهما: ما يشترك فيه الناس والحيوان؛ كالمأكل والمشرب ونحوهما مما يسميه الناس لذيذاً، وهذا مما يظنه أكثر الناس سعادة، وليس الأمر كما يظنون، فإن ما كان مشتركاً بيننا وبين البهائم ليس من شأنه أن يكون كمالاً لنا من حيث إن أنّا أناس، فلا يدخل في باب سعادتنا.
ثمانيهما: ما يختص به الإنسان، ولا يشاركه فيه غيره من الحيوان، وهو الأفعال الفاضلة، والخلق الجميل، وقوة الذهن، ولهذه الأمور الثلاثة
تتحقق السعادة.
هذا رأي ابن مسكويه في كتاب "السعادة"، وهو في أصله لا يختلف عن مذهب الفارابي في أن مصدر السعادة الفضائل النفسية، وإذا ذكر ابن مسكويه الأعمال الفاضلة، فهي مقصودة للفارابي وغيره ممن يجعلون السعادة في كمال النفس، وانظروا إلى قول الفارابي:"والخلق الجميل، وجودة التمييز هما اللذان يكسبان أفعالنا جودة وكمالاً".
والسعادة عند أبي نصر الفارابي وعند ابن مسكويه مما يدخل في استطاعة الإنسان، أما الأعمال الفاضلة، فإنها تصدر عن الخلق الجميل، وقوة الذهن، وأما الخلق الجميل، فيكتسب بمزاولة علم الأخلاق؛ فإنه يبين فيه الفضائل، والسبيل إلى اقتنائها، والرذائل، والسبيل إلى توقيها، وأما قوة الذهن وجودة التمييز، فتكتسب بدراسة علم المنطق، وهو صناعة إذا أتقنها الإنسان، جاد تمييزه، وعرف مراتب الإقناع وتقرير الآراء على ما ينبغي.
ويقرر ابن مسكويه أن للسعادة معنى خاصاً، وهو ما يختص به كل صاحب علم أو صناعة، فسعادة الطبيب في معرفة العلل ومعالجتها بالأدواء النافعة، وسعادة المحامي في تمييز الحقوق والدفاع عنها بحزم وأمانة، وسعادة الصحفي في تحريه الصدق فيما ينشر، وأخذه بالإخلاص فيما يكتب، وسعادة القاضي في فصل القضايا على وجه العدل والإنصاف، وسعادة العضو في مجلس النواب أن يسلك سبيل المصلحة العامة، قاطعاً النظر عن المنافع الشخصية أو الحزبية، وهكذا الشأن في كل صاحب علم أو صناعة، فإن سعادته على قدر إتقانه للعلم أو الصناعة، وإتيانه بالعمل على وجهه الصحيح.
ولابن مسكويه في كتاب "الأخلاق" رأي يميل به إلى مذهب أرسطو،
فإنه - بعد أن ذكر آراء الفلاسفة في السعادة - قصد إلى بيان ما يختاره في حقيقتها، فقال:"إن الإنسان ذو فضيلة روحية، وفضيلة جسمية، ومادام الإنسان إنساناً لا تتم له السعادة إلا بتحصيل الفضيلتين كلتيهما، ولا تحصل له الفضيلتان على التمام إلا بالأشياء النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية".
ويريد بالأشياء النافعة: أمثال الرياسة والثروة، وإلى نفع الثروة في الوصول إلى الحكمة يشير الطغرائي بقوله:
أريد بسطة مال أستعين بها
…
على أداء حقوق للعلا قِبَلي
وإذا قصرنا الخير الأعلى على كمال النفس الذي يحتوي معرفة الله، والأعمال الفاضلة، فلا بأس في أن تكون السعادة في هذا الكمال، ثم في الخيرات التي هي بمنزلة الوسائل إلى ما هو الخير الأعلى، ولا بأس في أن يكون الناس في السعادة على مراتب متفاوتة، أو أن يكون الإنسان وافي الحظ في السعادة في حال، قليل الحظ منها في حال، فيستقيم لنا إذاً أن نقول: السعادة حالة الإنسان الموافقة لإرادته وآماله المنبعثة في حدود الفضيلة.
* * *