الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السعادة عند بَعضِ عُلماء الإسلام
(1)
إذا تناولت في صدر كلمتي بعض آراء فلسفية قديمة، فلأنبّه على صلة الفلسفة العربية بالفلسفة اليونانية، ولنرى فلاسفة العرب كيف أخذوا في شرح السعادة بالتي هي أقوم وأهدى.
*
الآراء الفلسفية اليونانية:
من يقاسي شدائد الفاقة والبؤس، يرى السعادة في الغنى، ومن تتقلب به الأوجاع يميناً وشمالاً، أو يفقد أحد أعضائه، يرى السعادة في صحة البدن، وسلامة الأعضاء، والمستضعف الذي تسلب حقوقه علانية، ولا يستطيع خلاصها، يرى السعادة أن يكون للإنسان سلطان، أو جاه عند ذي سلطان، ومن أشرب في قلبه الفسوق والخلاعة، يرى السعادة أن تحف به الشهوات من كل جانب، فيطلق فيها عنانه كيف يشاء، ومن وجد منفعته الخاصة في يد المستبد الغاشم، رأى السعادة في أن يبقى سلطان ذلك المستبد ويقوى.
هذه خواطر عامية لا تبلغ أن تسمى مذاهب في السعادة أوآراء، وإنما نحدثكم في هذا المقام عن المذاهب التي يقررها أصحابها بعد النظر والبحث. وسواء بعد هذا أوصلوا إلى حقيقة، أم وقعوا في خطأ وضلال؟!.
(1) محاضرة الإمام في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، في صفر سنة 1347 هـ. وقد نشرت في رسالة صغيرة عام 1348 هـ بالقاهرة.
والفرق بين الآراء العامية والآراء الفلسفية: أن الآراء العامية تنشأ عن إحساس خاص في أحوال خاصة، فالرجل الذي يبدو له أن السعادة في الغنى، أو في صحة البدن- مثلاً - إنما حدث له هذا الرأي من ألم الفقر، أو شدة المرض، ومن الجائز أن ينتقل إلى يسار أو صحة، فيتغير رأيه في السعادة، ويذهب في تصورها إلى شيء آخر أصبح يحس بشدة حاجته إليه؛ كصلاح حال الولد، أو الزوجة، أو الأصدقاء.
أما المذاهب الفلسفية، فإنما تتكئ على النظر والاستدلال، فالذي يقول: إن السعادة في اللذة الحسية، لو صدرت منه هذه المقالة وهو يرتع في الشهوات، ولم يذكر في الاستدلال عليها وجهاً يستوقف النظر، لقلنا: هذه المقالة وليدة الخلاعة، ولما صحّ لنا أن نضعها بجانب الآراء الفلسفية، ولكنها مقالة صدرت من طائفة أوردوا في الاستدلال عليها ما شأنه أن يعلق بكثير من النفوس البائسة، فكان من حقها أن تدخل في قبيل الفلسفة، ولو بوجه كاسف كئيب، وكان من حقنا أن نتعرض لها بالنقد، ونميطها عن الأذهان كما يماط الأذى عن الطريق.
فـ (أويدوكس) الفيلسوف اليوناني يعزو إليه أرسطو في كتاب "الأخلاق" ارتياء أن اللذة هي الخير الأعلى، ويذهب في الاستدلال على هذا إلى أنه يرى جميع الكائنات ترغب في اللذة، وتسعى لها، سواء كانت هذه الكائنات عاقلة، أم غير عاقلة، وما كان محط الرغبة من جميع الكائنات يجب أن يكون هو الخير الأعلى.
فهذا الاستدلال من (أويدوكس) يكفي لأن يعدّ رأيه في اللذة مذهباً فلسفياً. ولنا بعد هذا أن ننقده، ونستبين ما يحمله من غلط وفساد.
تصدى (أرسطو) لنقض هذا المذهب في بحث اللذة من كتاب "الأخلاق"، ومن ذا يقبل أن تكون اللذة الحسية الخير الأعلى في هذه الحياة، إلا من يريد أن يفرق بين حياة الإنسان وحياة غيره من الحيوان؟ والفرق بين الحياتين قررته الشرائع، وآمنت به الفلسفة، وإذا كنا على يقين من أن الرغبة قد تتوجه إلى الأشياء التي لا يختلف العقلاء في أنها شر، كان من الخطأ أن نجعل توجهها إلى اللذة دليلاً على أنها الخير الأعلى في هذه الحياة.
ويقابل مذهب القائلين: إن السعادة في اللذة، مذهب فريق من اليونان أيضاً، يزدرون اللذة أيما ازدراء، ويرون السعادة كلها في قوى النفس التي هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة، وقالوا: إن هذه الفضائل كافية في تحقيق السعادة، ولا يحتاج معها إلى ما هو خارج عن النفس من نحو الصحة والثروة والرياسة، ومن أصحاب هذا المذهب: بقراط، وأفلاطون، وفيثاغورس، وسقراط، فالفضيلة والسعادة في رأي هؤلاء مترادفتان، توجد إحداهما أينما وجدت الأخرى.
وذهب آخرون في فهم السعادة إلى وجهة ثالثة، فلم يجعلوها اللذة، ولم يقصروها على الفضائل النفسية، بل نظروا إلى الإنسان مركباً من نفس وبدن، فقالوا: إن سعادة النفس لا تكون كاملة حتى تقترن بسعادة البدن؛ كالصحة وسلامة الأعضاء، وبالخيرات الخارجة عن البدن؛ كالثروة والرياسة.
وقد نحا (أرسطو) في كتاب "الأخلاق" هذا النحو، فصرح بأن السعادة هي الخير الأعلى، ولم يجعلها - مع هذا - مقصورة على كمال النفس، بل جعلها الفضائل النفسية الركن الأعلى للسعادة، وأضاف إليها أشياء أخرى جعلها من متمماتها؛ كصحة البدن، وسعة الرزق، والنفوذ السياسي، وشرف
المنبت، ووسامة المحيا، وحسن السمعة، وأطال حساب هذه المتممات حتى قال:"وربما لا يستطاع القول على إنسان: إنه سعيد، إذا كان له أولاد أو أصدقاء ذوو أخلاق سيئة، أو إذا فقد من كان له من أولاد أو أصدقاء".
وبعد هذه الآراء الثلاثة: رأي الارتيابيين الذين يجعلون السعادة في الخلو من الألم، ويقولون: من يبغي السعادة، يسعى إلى أن يكون هادئ البال، مرتاح الضمير، وهذه الراحة تتحقق- فيما يزعمون- حيث يقف الرجل بين اليقينيين والسفسطائيين، فلا يقطع في الأحكام بإثبات مثلما يفعل اليقينيون، ولا يقطع فيها بنفي مثلما يفعل السفسطائيون، فالذي لا يعتمد في حكمه على سلب أو إيجاب، هو البالغ منتهى السعادة.
لم يذهب أحد من فلاسفة العرب أو الإسلام - فيما أعلم - على أن السعادة في اللذة المحسوسة، وليس من المعقول أن يدرس القرآن دارس، ثم ينحط إلى هذا المذهب السخيف، بل يذهب فريق منهم؛ كفخر الدين الرازي إلى نفي أن يكون هناك لذة غير الحكمة، وقالوا: لا لذة إلا في المعارف، وما يسميه الناس لذة حسية؛ كالمأكل والمشرب إنما هو دفع ألم الجوع والعطش، وما يسمونه لذة خيالية؛ كالرياسة إنما هو دفع ألم القهر والغلبة.
ومن البديهي أن لا يكون في فلاسفة الإسلام من يذهب إلى أن السعادة في الخلو من الألم، على النحو الذي يصوره الارتيابيون، وإنما تدور آراؤهم في السعادة حول الفضائل النفسية وحدها، أو هذه الفضائل مضافة إليها الخيرات البدنية والخارجية، ونخص بالبحث في هذه الكلمة برأي أبي نصر الفارابي، ورأي أحمد بن مسكويه؛ فإنهما قد خاضا في هذا الموضوع