الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الأستاذ بهاء الدين الحموي: قد يكون في تركها ورع؛ فإن السلف كانوا يزهدون في كثير من المباحات، وساق في الاستشهاد على هذا الرأي قوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20].
والحق أن ترك المباح في نفسه ليس من الورع في شيء، فمن ترك طعاماً لذيذاً، أو ثوباً نفيساً، وهو يستطيعه، قاصداً التقرب إلى الله تعالى بهذا الترك، فقد أخطأ طريق التقوى، أما إذا ترك نوعاً من الزينة أو اللذة لغرض محمود في لسان الشارع؛ كأن يتركه في بعض الأوقات حذراً أن تجر المداومة عليه أو الإكثار منه إلى اعتياده، وصعوية الصبر عليه عند فقده، فذلك مما يصح أن يدخل في باب الورع، وعلى مثل هذا يحمل ما يروى عن بعض السلف من تركهم الزينة أو بعض الملاذ وهم يقدرون عليها.
وأما الآية، فإنما وردت فيما يقال للكفار يوم القيامة، وأصلها:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]؛ أي: ليس لكم حظ من الطيبات إلا ما أصبتموه في دنياكم، فلا شاهد في الآية على أنّ تناول المؤمن من الطيبات في الدنيا ينقص نصيبه منها في الآخرة، ولا أن تركه لجانب منها في هذه الحياة يستحق به المثوبة في تلك الحياة.
*
قبول عطايا الأمراء الظالمين:
اختلف الفقهاء في الاستمتاع بالمال يأتي ممن يغلب على ماله الحرام، فاستحلّه قوم، وحرّمه آخرون، واستدل المجيزون بأن جماعة من أئمة السلف أدركوا أيام بعض الأمراء الظالمين، وقبلوا عطاياهم؛ كما قبل أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري عطايا يزيد بن عبد الملك، وقبل ابن عمر، وابن عباس عطايا الحجاج، وأخذ مالك من الخلفاء أموالاً جمة، وأخذ الشافعي من هارون الرشيد
ألف دينار في دفعة، وكان أسد بن الفرات يقبل عطايا السلطان، فسئل عن ذلك فقال: هذا بعض حقنا، والله حسيبهم في الباقي.
وكثير منهم كانوا يتورعون عن قبول عطايا الظالمين؛ كسعيد بن المسيب؛ فإنه كان يتجر في الزيت، ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين.
والحق أن من يحس في نفسه الضعف، ويخشى أن ينحدر به قبولُ هبات الظالمين إلى التغاضي عن باطلهم، أو مجاراتهم في طغيانهم، فقبض يده عن قبولها، فقد أجاب داعي التقوى. قال أبو ذر للأحنف بن قيس: خذ العطاء ما كان نحلة، فإذا كان أثمان دينكم، فدعوه.
وقد حمل بعض أهل العلم ما فعله بعض الأئمة من قبولهم لجوائز أولئك الأمراء، على أنهم يأخذونها لينفقوها على أولي الحاجة، روي عن جابر بن زيد: أنه جاءه مال من السلطان، فتصدق به، وقال: رأيت أن آخذه منه، وأتصدقَ به أحبُّ إليّ من أن أدعه في أيديهم.
وروي أن ابن عمر كان يفرق ما يأخذه من الجوائز، حتى إنه استقرض مرة في المجلس الذي فرق فيه ستين ألفاً.
والخلاصة: أن الإسلام جرى بالنفوس في الاستمتاع بالزينة والملاذ في طريق وسط، فدلّ على أنه الدين الذي يهدي إلى السعادة في الأخرى، ويرضى لأوليائه أن يعيشوا عيشاً طيباً في الحياة الدنيا.