الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
داعي العاطفة الدينية، فأصدر حكمه في القضية على ما أذن به الدين، وأعرض عن داعي العاطفة الشخصية جانباً.
وقد يتجاذب العاطفةَ الشخصية - كعاطفة الصداقة - ناحيتان، تقتضي إحداهما مسلكاً، وتقتضي الأخرى مسلكاً غيره، والكيّس يزن الناحيتين، ويقدم الناحية التي ينصح بها الدين، ويرتضيها العقل.
قال السلطان صلاح الدين الأيوبي يوماً للقاضي الفاضل: لنا مدة لم نر فيها العماد الكاتب، فلعله مريض، امض إليه، وتفقد أحواله. فلما دخل القاضي الفاضل دار العماد، وجد أشياء أنكرها في نفسه؛ مثل: آثار مجالس الخمر وآلات الطرب، فخاطبه منشداً:
ما ناصحتك خبايا الودِّ من رجل
…
ما لم ينلك بمكروه من العذلِ
محبتي فيك تأبى أن تسامحني
…
بأن أراك على شيء من الخللِ
فلما قام من عنده، أقلع العماد عما كان فيه، ولم يعد إليه.
فعاطفة المودة قد تدعو إلى الإغضاء عن معايب الصديق؛ لأن تنبيهه إلى العيب قد يؤلمه، وربما أحدث جفاء بين الصديقين، وقد تدعو إلى تنبيهه لبعض ما يأخذه عليه الناس متى أبصروه، وهذا ما يدعو إليه الدين، وتنادي به الفضيلة.
وكان ابن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من صحبة مَن غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره، ومن لا يتلمس خالص مودة أصدقائه إلا بالتأتي لموافقة شهواتهم.
*
كيف تربى عاطفة الخير
؟
عواطف الخير كثيرة، وتربى العاطفة الشريفة ببيان ما يترتب على العمل
من فوائد عامة أو خاصة، فقد يعتقد الإنسان بصلاح عمل من جهة ثقته بحكمة من يأمره به، أو لأنه اطلع على فائدة من فوائده، فيجد داعية على إجابة الأمر، ولكن هذه الداعية قد تبدو ضعيفة حيث لم يكن بجانبها عاطفة قوية تسهل عندها الصعاب، وتتضاءل أمامها العقبات.
وتقوى العاطفة نحو الشيء يقدر ما تعرف النفس من فضله وحسن عواقبه، فصدور الأمر بالشيء من الشارع الحكيم- مثلاً - هو كاف لقبول الإنسان له، واعتقاده بصلاحه، ولكنه ينهض للعمل بنشاط أوفى، وعزم أمضى، متى ازداد علماً بما يترتب عليه من الآثار الحميدة.
وتربى العاطفة الشريفة بالأساليب البارعة؛ من نحو: التشابيه والاستعارات وضرب الأمثال؛ حيث يُعرض الشيء المطلوب فعله في صورة شيء تألفه النفوس، وترغب فيه؛ فقد تدرك النفس حسن الشيء المطلوب فعله، ولكن عرضه في صورة ما ألفته واتجهت إليه من قبل، يجعلها تزداد ارتياحاً له، ورغبة فيه، ومن هنا كان الشعر مثيراً للعواطف، وصح أن يستعان به في توجيه النفوس إلى كثير من أعمال الخير.
وقد سلك القرآن الكريم في تربيته العواطف هذا المسلك البديع، وكان لضربه الأمثال أثر عظيم في تثبيت حكمه البالغة في النفوس، وتنمية العواطف الدافعة إلى عظائم الأمور.
وخلاصة البحث: أن أطيب الناس حياة، وأرفعهَم في المجد مقاماً، وأوفرَهم من خصال الحمد ثروة، ذلك الرجل الذي رزق عقلاً سليماً، وديناً قيماً، ورزق بجانب ذلك عواطف شريفة تتوجه حيثما توجه العقل، ولا تنساق إلا إلى ما يرتضيه الدين الحق.