الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقد آراء الأستاذ فريد وجدي من الناحية الدينية والاجتماعية
*
المحاضرة الثانية
(1):
لا نود التعرض لما تكتبه أقلام ليس علينا من حسابها من شيء، ولكنَّ قلمًا كان قد وقف في جانب الإسلام حينًا، ثم تزحزح عن موقفه متحيزًا إلى ناحية أخرى، نخشى أن يتمادى هذا التحيز، فيغير ما في النفوس من رشد، ذلك قلم الأستاذ فريد وجدي، وقد أوردنا في المحاضرة الأولى قِطَعاً من مقالات حاد فيها عن السبيل، واليوم ننقل لحضراتكم من تلك المقالات قطعاً أخرى؛ لتزدادوا خبرة بأن الأستاذ قد خلط بعض الآراء المنبوذة بشيء من الحقائق المألوفة؛ لتسيغها الأسماع، وتتقبلها القلوب وهي في غفلة عن سوء مغبتها.
قال الأستاذ في المقال الثالث المنشور تحت عنوان: "الدعوة إلى التجديد":
"الانقلاب التركي متهم بمجافاته للدين، ولكنه من هذه الناحية على منهاج كل انقلاب حدث في العالم، ومن يدرس تاريخ الانقلابات الإنكليزية والفرنسية والروسية، يجد ذلك مائلاً أمام عينيه، وسبب هذه المجافاة: أن
(1) المحاضرة الثانية للإمام في نادي جمعية الهداية الإسلامية بالقاهرة، ونشرت في الجزء التاسع من المجلد الرابع لمجلة "الهداية الاسلامية".
المجددين يتطلبون جواً حراً خالصاً من كل تحكم، فيحدث بطبيعة الحال خلاف بينهم وبين رجال الدين، حتى يتولد العهد الجديد، ويألفه الناس، فيعرف كل قبيل حده الطبيعي، ويقف عنده".
ذكر الأستاذ وصف الناس للانقلاب التركي بالمجافاة للدين، وسمّاه اتهامًا، وقد ظننا أنه سينفي عنهم هذه المجافاة، ولكنه اعترف بها، وحاول الاعتذار عنها بأنها جاءت على منهاج كل انقلاب حدث في العالم، وادعى أن لها سبباً يدفع الإنكار، هو: تطلب المجددين لجو حرٌّ خالص من كل تحكم.
ونحن نقول: ليس التجافي عن الدين من طبيعة كل انقلاب اجتماعي إلا أن يكون زعماء الانقلاب منصرفين عن الدين انصراف من لا يفقهون حكمته، ومتى كانت نفوس زعماء الانقلاب عامرة بشيء من احترامه، لم يكن منهم إلا أن يوجهوا قوتهم إلى التجديد المعقول، محافظين - في الأقل - على ما أجمع الناس على أنه أصل من أصول الدين الصحيحة، والقوة التي تسطو على الدين، وترهق أولياءه عسفاً، تستطيع أن تتوجه إلى الخير، وتقيم الإصلاح في جو هادئ كيف تشاء، وتجد من الأعوان أكثر مما تجد يوم تتجافى عن الدين، وتتولاها الإباحية الخرقاء، وها هو ذا الانقلاب الأفغاني الأخير لم يجد زعماؤه أنفسهم في حاجة إلى العثور على الدين، بل اتخذوه أساس نهضتهم المباركة، متى استمر زعماؤه على هذه السيرة، دخلوا في حياة راضية، وبلغوا من المدنية الطاهرة ما لا يبلغون منها لو كانوا قوماً يجحدون.
فإن قال الأستاذ - ولا أخاله يقول -: لا أسمي نهضة الأفغان الأخيرة انقلاباً اجتماعياً؛ لأنهم لم يثوروا على الدين، ولم يبيحوا رقص الفتيان مع
الفتيات، ولم ينقلوا قانوناً من بلاد أوربية ليتبدلوه بالشريعة الإسلامية، طوينا بساط البحث معه، وقلنا له:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
زعم الأستاذ أن الأتراك مضطرون إلى مجافاة الدين بحكم الانقلاب، والتفت يرائي جماعة المسلمين، ويهدئ من روعهم، فزعم أن الخلاف الذي يحدث بين المجددين ورجال الدين سيولد عهدًا يألفه الناس، فيعرف كل من الفريقين حده الطبيعي، فيقف عنده.
وهذه المراءاة والتهدئة قد قرأناها لأحد زعماء الزيغ منذ ثلاث سنين، فإن كان الأستاذ قد استمدها منه، أو من المنبع الذي استمد منه ذلك الزعيم، فقد راجت في ذهنه كلمة اخترعت لإرضاء الناقمين على من يحارب الدين بقوة، أما المسلمون، فإنهم ينظرون بنور الله، ويميزون بين الكلمة التي تصدر عن نصيحة، والكلمة التي تلقى إليهم على وجه الاحتيال.
قال الأستاذ: "ولكنا نحن من أمر الدين في حال لم يعهد له في تاريخ الأمم شبيه، فإن حركة التجديد عندنا، حتى على ما آلت إليه من تسلط المسترزقة عليها، لم تصطدم بمقاومة من رجال الدين". ثم قال: "فثورة مجددينا على الدين ليس لها معنى ما دامت المقاومة معدومة كما رأيت، فحركة التجديد عندنا - والحال كما ترى - لم تستكمل عناصرها المقومة لها، فسهل على دعاة الشهوات من المسترزقة أن يدفعوها في طريق الإباحة البحتة".
لا يتحامى الأستاذ أن يسلك إلى الغاية التي يرمي إليها مسالك تزلزل مكانه العلمي زلزالًا عنيفًا، فقد قال في مجددي تركيا: إنهم ثاروا على الدين ليقيموا الإصلاح في جو حر، ولقن قراء مقالاته: أن حركة التجديد هنالك
صودمت بمقاومة من رجال الدين، فكانت هذه المقاومة الداعي إلى الثورة على الدين، ثم انتقل إلى الحديث عن حركة التجديد في مصر، فذكر أنها لم تصطدم بمقاومة من رجال الدين، وأقبل على المجددين يعظهم بأن لا معنى للثورة على الدين ما دام رجال الدين لا يعارضونكم في حركة التجديد، ونبه على أنه يريد بهذه الموعظة القدح في رجال الدين في مصرة إذ جعل مقاومة رجال الدين في تركيا عنصرًا من العناصر المقومة للتجديد، وانتهى إلى أن حركة التجديد عندنا ينقصها عنصر هو مقاومة رجال الدين التي تمنعها من الاندفاع في طريق الإباحة.
وملخص حديث الأستاذ: أن المجددين في تركيا خير من المجددين في مصرة لأن أولئك يهدمون العقائد والتقاليد، ويضعون بدل الهدم بناء، وهؤلاء يهدمون الأركان أو الأحجار، ولا يضعون بعد الهدم ركنًا ولا حجرًا، ولأن مجددي الأتراك ثاروا على الدين من أجل مقاومة رجال الدين لحركة تجديدهم، ومجددي مصر ثاروا على الدين من غير سبب؛ لأن رجال الدين في مصر يلقون حبل حركة التجديد على غاربها.
ونحن نعود فنذكر الأستاذ بأن ثورة من ثار على الدين في تلك البلاد، لا يصح أن يذكر في أسبابها مقاومة رجال الدين لحركة التجديد، فرجال الدين في تركيا كرجال الدين في مصر، قد ينكرون بعض المحدثات، ولا يزيدون على أن يعبروا عن هذا الإنكار بأقلامهم أو ألسنتهم، وقد أقمنا بمرأى ومسمع من رجال الدين في تركيا سنين غير قليلة، فلم نرهم يقاومون التجديد بأشد مما يقاومه رجال الدين في مصر، فدعوى أن علة ثورة المجددين في تركيا على الدين هي مقاومة رجال الدين لحركة التجديد غير معقولة.
وما ذكره الأستاذ من عدم مقاومة رجال الدين في مصر لحركة التجديد أقل ما يقال فيه: إنه كلام غير مستبين، فإن كان الأستاذ يريد التجديد الخارج عن الكياسة، والذي هو شقيق الإباحية، فما قعد رجال الدين عن مقاومته، وما زالوا يكتبون ويخطبون في تفنيد آراء الفئة التي تدعو إلى تقليد أوربا فيما لا خير فيه، ولعل الأستاذ لم يتيسر له أن يقرأ في أيام عزلته أو سكوته إلا بعض الصحف أو المؤلفات التي تدعو إلى الإباحة أو الجحود، ولو كان يقرأ ما يكتبه أهل العلم في تقويم عوجها، وكشف الغطاء عن سوء سريرتها، لعرف أن العلماء يقاومون حركة التجديد الأرعن، وأقام لثورة المجددين على الدين في مصر من هذه المقاومة عذراً.
فإن أراد الأستاذ: أن رجال الدين في مصر لا يقاومون حركة التجديد الصالح- ولا أخاله يريد هذا -، قلنا له: إن رجال الدين في مقدمة الداعين إلى التجديد النافع؛ ففي مصر وغيرها من بلاد الإسلام رجال وصلوا في علم الدين إلى اللباب، وعرفوا ما تقتضيه المدنية من إصلاح، وماذا يجري في الشرق والغرب من أطوار، ولجهاد هؤلاء أثر في بعث الشرق من خموله يفوق كل أثر.
ولا يسع المقام لأن أسوق المشاهد على أن لعلماء الإسلام أكبر يد في نهضة الشرق، فاكتفي بأن أورد شاهداً من تلك الشواهد المفحمة، هو أثر من آثار المفتي بتونس الشيخ محمود قبادو (1) المتوفى سنة 1288، فقد قام يدعو إلى الإصلاح ومجاراة أوربا في العلوم والفنون والصنائع في قصائد مختلفة، وأذكر من قصيدة له تلاها على الوزير خزندار الأبيات الآتية:
(1) انظر كتاب: "تراجم الرجال" للإمام.
وما خسر الإنسانُ وجهَ سعادة
…
إذا من فنون العلم وفِّر سهمُه
فما الجسم إلا خادمُ المالِ ساعيًا
…
وما المال إلا خادم الجاه لمّه
وما الجاه إلا خادم الملك لائذاً
…
وما الملك إلا خادم الشرع حزمُه
وما الشرع إلا خادم الحق مرشداً .... وبالحق قام الكون وانزاح ظلمُه
ثم قال:
فمن علم الأشياء وفى حقوقها
…
ودان له فيما يحاول خصمه
وكل فنون العلم للملك نافع
…
ولا سيما ما ساير الملك حكمه
أرى الملك مثل الفلك تحت رئيسه
…
عويزًا إلى الأعوان فيما يؤمه
فذلك نوتيٌّ يعين بفعله
…
وآخر خِرّيت قصاراه علمه
ومقصده جري السفين وحفظها
…
ليسلم كلٌّ أو ليعظم غنمه
أيركب هوله البحر دون مقاوم
…
وفي طيه حرب كما يؤذن اسمه
لذاك ترى ملك الفرنج مؤثلاً
…
بعلم على الأيام يمتد يمه
ومملكة الإسلام يقلص ظلها
…
وينقص من أطرافها ما تضمه
على أنها أجدى وأبسط رقعة
…
وأوسط إقليماً من الطبع عظمه
وأعرق في منمى الحضارة موقعًا
…
وأطول باعاً يفلق الهام دمه
وقدمًا تناهت في الفنون توغلاً
…
وجمع طم الصنع فيها ورمه
ثم قال:
فمن لم يجس خبر أوربا وملكها
…
ولم يتغلغل في المصانع فهمه
فذلك في بن البلاهة داجن
…
وفي مضجع العادات يلهيه حلمه