الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبه: "إن كان بيني وبين من هو منكم شيء من أحكامكم، أن أمشي معه إلى من أحبَّه منكم، فينظر فيما بيني وبينه"، وهذا نهاية ما يحتج به للمساواة؛ لما فيه من التصريح بأن كل واحد من الرعية محكوم من وجه، حاكم من وجه آخر، فلا يسوغ للحاكم أن يقضي لنفسه، كما لا يجوز له القضاء بشهادته لغيره، بل يرفع الخصومة إلى غيره من الحكام، وإن لم يكن معه حاكم، رفع ذلك إلى رجل من رعيته؛ كما فعل عمر وهو خليفة، حين قاضى رجلاً إلى أبيّ ابن كعب، وأبيّ بن كعب ليس بذي سلطان.
وكتب عمر في رسالته إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "وآس بين الناس في مجلسك ووجهك وعدلك، حتى لا ييئس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك"، ولم يقتصر على التعاليم القولية حتى عززها وشد نطاقها بمثلها من الأعمال المطابقة؛ كقصته مع جبلة بن الأيهم ملك غسان، وما شاكلها.
*
الحرية في الأموال:
هي إطلاق التصرف لأصحابها يذهبون في
اكتسابها
، والتمتع بها على الطريق الوسط، دون أن تلم بها فاجعة اغتصاب، أو تتخطفها خائنة كيد واحتيال، فاقتضى هذا البيان إجراء البحث في أربعة مطالب: اكتساب الأموال - طريقها الوسط - التمتع بها - الاعتداء عليها:
- اكتسابها:
لما كان المال معونة على الدين، ومادة لنشأة الحياة الطبيعية، حتمت الإسلامية السعي خلف اكتسابه، وأذنت في الاسترزاق بكل عمل لا يتبع صاحبه بأذى، ولا يلحق بغيره ضرراً، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، إلى غير ذلك من الآيات، وإنما لم يؤكد الطلب في هذا الموضع، ولا أُجري مجرى الواجبات، وكثيرٍ من المطالب في اقترانها بمؤكد الترغيب والترهيب؛ اكتفاء وحوالة على ما طبعت عليه نفوس البشر من الحرص في جمع الأموال، وقوة الرغبة في اكتسابها؛ لما فيها من الحظ العاجل، واللذة الحاضرة، بل غالب ما سيق في هذا الغرض جاء على صورة الإباحة ونفي الحرج؛ كقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وقوله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198].
فلا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة، ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل، وقد ذكر الله تعالى التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11]. ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية، وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها، ذكرها، ولم يهضم من حقها شيئاً، فقال تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]. فأثبت لهؤلاء الكفيل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية، أما ما يقوله بعضهم؛ من أنه نفي كونهم تجاراً وباعة، فخلاف ظاهر الآية، والسر في اختصاص الرجال بالذكر هنا: أن النساء لسن من أهل التجارات والجماعات، وما ينبغي لهن ذلك، كما أن تخصيص التجارة من بين سائر أسباب الملك؛ لكونها أغلب وقوعاً، وأوفق لذوي المروءات.