الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجعل الفخار محوراً يدير عليه سياسته، فيلقي له بالاً، وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها، أو مفاسد يدرؤها، ومن كان يريد التمجيد والثناء، فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره، وأشرف لسياسته من وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]؛ أي: لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وروي أن هذا دأبهم من قبل الإِسلام، ولعله هذا هو الوجه في مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده؛ حيث أورد في جملة اسمية؛ للدلالة على الثبوت والاستمرار.
ومن فوائدها: استطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.
*
المساواة:
خلق الله الناس بحسب فطرتهم متماثلين، وكذلك ولدتهم أمهاتهم أحراراً متكافئين، ولكن دخولهم في ملاحم الحياة الاجتماعية ينزع عنهم لباس التماثل والتساوي، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، وقد جمع هذه الأطوار الثلاثة قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. فقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} رمز إلى فطرتهم الأولى، وقوله:{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} إيماء إلى نشأتهم الاجتماعية، وقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} تلويح إلى طور التمايز والتفاضل، وإيذان منه تعالى بالوسيلة التي نبتغيها إلى مقام الكرامة عنده، وهي التقوى.
وقد روعي في الإسلامية فطرة الله التي فطر الناس عليها، فوضعت
تكاليفها على شكل التكافؤ، وأديرت سياستها على قطب المساواة، فلا فضل فيها لشريف على وضيع، ولا امتياز لملك على سوقيّ، والعقوبة الموضوعة على صعلوك الأمة هي المحمولة على سيدها بدون فارقة، فلو ادعى أبو بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب على أدنى الناس وأفسقهم درهماً واحداً، لم يقض له باستحقاقه إلا بشهادة عادلة، وهذا المعنى عام في جملة الشريعة وتفاصيلها، ولا يبعد استفادته من الآية التي كنا بصددها؛ فإن قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وضع جميع الامتيازات وطرحها عن محل العناية والاعتبار ما عدا التقوى، والتقوى نفسها لم يجعل الشارع لها أثراً في تغيير الحدود، أو الاختصاص بحظ زائد من الحقوق ضرورة، إن التقوى عبارة عن العمل طبق أحكام الشريعة بنية وإخلاص، فالشريعة سابقة على العمل، والعمل تابع لها، ولم يخرج عن هذا الأصل إلا بضعة أحكام خصّ بها النبي صلى الله عليه وسلم أفراداً من الصحابة بأعيانهم؛ كجعل شهادة خزيمة بشهادتين؛ فإنه أسرعَ دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قد بايع الأعرابي، واستند في شهادته إلى البراهين الدالة على وجوب تصدبقه صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به، لا فرق بين ما يخبر به عن الله، وبين ما يخبر به عن غيره، فتفطنه لأخذ حكم هذه القضية من الأدلة العامة مزيةٌ استحق بها هذه الخصوصية.
ونظراً إلى قاعدة المساواة، قال علماء الأصول: خطاب الشارع لواحد - إن لم يدل الدليل على اختصاصه بالحكم - يعم جميع الأمة. ولكن تنازعوا في طريق العموم، قالت الحنابلة: يتناولها بنفس الصيغة، وقال غيرهم: يتناولها بالدليل المرشد إلى تساوي الأمة واشتراكها في الأحكام.
ومن أدله المساواة: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. أخذت هذه الآية بعضد المستضعفين من الناس، وأوقفتهم في مرتقى أولي القوة جنبًا لجنب؛ إذ المعروف في الإخوة: اتحادهم في النسب، وهو يقتضي عدم تفاضلهم وتمايزهم في الحقوق، فالآية - وإن دلت على التوادد والتراحم من جهة - لا تخلو من الدلالة على المساواة من جهة ثانية.
وسار أبو بكر الصديق بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسيرة القرآن، فلم تشغله مقاليد الخلافة في يده أن يقوم خطيبًا على ملأ من المسلمين بقول:"أيها الناس! قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق -إن شاء الله تعالى". ثم قال: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم". فعين بهاته الخطبة للحكومة الإسلامية مركزاً ثابتاً تدير عليه أمور سلطتها، وذلك قوله:"أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم". وفتح في وجوه الرعية فُرَجاً يرددون منها أنفاس الحرية مع أولي الأمر، وأمر بالإنكار والمعارضة عندما تنحرف تلك السلطة عن مركزها يمينًا أو شمالًا، وذلك قوله:"وإن أسأت، فقوموني"، وجعل بيدهم عقدة عزل الأمير وتركه غير مأسوف عليه، إن لم يقوّم اعوجاجه، ويرجع بسلطته إلى دائرتها المرسومة لها شرعاً، وذلك قوله:"فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم"، وقوله:"والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق" من دلائل المساواة.
وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف يخاطب رعيته بقوله في بعض