الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي، أفلا أرعى له ذلك؟ والله! ما ضربني إلا وأنا ظالم له، أفأبقى على ظلمي بعد موته؟!.
*
توافق العقل والعاطفة:
يدرك العقل حسن الشيء وصلاحه، وتُسايره العاطفة. والأمر الذي يستحسنه العقل، وتتجه إليه العاطفة، تقبل عليه النفس بعزم صارم، وتعسى له بكل ما أوتيت من استطاعة، وذلك معنى تعاون العقل والعاطفة على الخير.
اتجاه العاطفة إلى ما يتجه إليه العقل، يجعل الأمر الصعب سهلاً، والغاية البعيدة قريبة، والطريق الوعر معبداً، لهذا نرى القرآن الكريم بعد أن يدعو الناس إلى ما فيه خيرهم، قد يأتي النفوس من ناحية العواطف؛ إذ يعقب الأمر بما شأنه أن يثير حماستها، وخذوا مثلاً لهذا: أمره بدفاع العدو في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]، فشأن المسلم أن يتلقى أمر الله بالامتثال؛ لقيام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير، ولكن الأهواء قد تستولي على القلوب، وتعوقها على امتثال أمر القتال، فأخذ القرآن يهز العواطف حتى تتضافر هي والعقل على العزم والثبات في مواقف الدفاع؛ إذ قال تعالى:{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، فذكّرهم فرض القتال بأنهم إذا تهاونوا بأمر الدفاع عن أوطانهم، بسط العدو عليهم سلطانه، واستبد فيهم لا يرعى لهم عهداً ولا ذمة، وليس من شك في أن التذكير بهذه العاقبة المشؤومة، يثير في نفوس الأمة رغبة شديدة في الاحتفاظ باستقلالها إن كانت مستقلة، أو في الأخذ بأسبابه إن كانت مستعبدة.
وإن شئتم أن تزدادوا خبرة بأثر العاطفة من الإقدام على العمل الصالح
بقوة، فانظروا إلى رجلين اتحدا في مقدار ما تلقياه من العلوم الدينية، وأحدهما متقد حماسة، مجدّ في الدعوة إلى سبيل الله، متفانٍ في الذود عن حياض الشريعة، والآخر منهما خِلْو من هذه الحماسة، فلا يؤلمه أن يرى حرمة الدين منتهَكة، وكلمته غير نافذة، ونفوس الناشئين عنه منصرفة، ذلك أن الأول متفقه في الدين، وتربّت له مع هذا التفقه عاطفة نحوه، أما الآخر، فتلّقى علوم الدين، وإنما صارت لمسائلة صور قائمة في ذهنه، دون أن تكون بجانبها عاطفة.
والعلماء الذين كانوا يواجهون ذوي السلطان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يبالون بما يلاقونه في سبيل الدعوة من الأذى؛ مثل: سعيد بن المسيب، وعز الدين بن عبد السلام، ومنذر بن سعيد البلوطي، إنما امتازوا عن غيرهم من أهل العلم بشدة العاطفة الدينية المتدفقة غيرةً وحماسة.
وقد تتعارض العاطفة الدينية والعاطفة الشخصية، والكيّس من يقدم العاطفة الدينية، ويرمي بالعاطفة الشخصية إلى وراء، وأسوق إلى حضراتكم مثلاً لهذا، هو: أن الخليفة هارون الرشيد كان جالساً بجانب القاضي أبي يوسف، فدخل يهودي رافعاً إلى القاضي دعوى على الخليفة، ومراعاةً للتسوية بين الخصمين في مجلس الحكم، قام أبو يوسف من مكانه، وأشار إلى اليهودي بأن يجلس به حتى يكون بجانب خصمه الذي هو الخليفة، وقضى لليهودي على الخليفة، ولكن أبا يوسف ذكر أن قلبه كان يميل إلى أن يكون الخليفة هو المحق، واليهودي مبطلاً، وكان يتألم من هذا الميل القلبي، ويستغفر الله منه.
فانظر كيف كان في نفس أبي يوسف عاطفة شخصية نحو هارون الرشيد جعلته يحب انتصاره على اليهودي، وكان في نفسه عاطفة دينية تدعوه إلى أن يصدر الحكم على نحو ما أمر به الدين من العدل، فأجاب رحمه الله-