الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به في دين، فهو الرهن، وإن قصد الانتفاع به، ثم إعادته إلى ربه، فهي العارية، وإن قصد حفظه لربه، فهي الوديعة.
ثانيهما: ما كان بدون إذنه ورضاه، وهذا إن كان المالك مجهولاً، وكان المملوك معرضاً للضياع، فهو اللقطة، وإن علم صاحبه، وقصد التصرف فيه، والانتفاع به، فهو الغصب، ثم ينجر النظر إلى قيام ربها بمطالبتها، والعمل في إعادتها إليه، فينتظم في سلكها باب الاستحقاق.
النظر الثالث: أن المال الواحد قد يدخل في ملك متعدد، فإذا توجه النظر إلى حال دخوله في ذلك الملك المتعدد، وبقائه عليه، فهي الشركة، وإذا تعلق بتوحيد الملك، ورفع تعدده، فإما بانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وهي القسمة، أو بانفراد أحد الشريكين بالجملة، وهي الشفعة.
فإذا أنت تدبرت هذه الأبواب المدونة، ودققت النظر في أحكامها المفصلة؛ لتعلم أين مكانها من الإصلاح والنظام، ظفرت فيها بنظامات محكمة، وأصول عمرانية، لا تصل الناس إلى السعادة الاجتماعية، والمعاملة بشرف وفضيلة إلا من طريقتها الوسطى.
-
التمتع بها:
كما أذن الإسلام في اكتساب الأموال، واستئمار أرباحها من وجوهها المعتدلة، أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها على شريطة الاقتصاد، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
{وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14]. وقال تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. فذكرُ هذه الأشياء في معرض الامتنان والإذنِ في الانتفاع بها، دليلٌ واضح على دخولها في قسم المباحات، لا حرج في تناولها، ولا يعد الإعراض عنها طاعة يرجى ثوابها كما تقتضيه حقيقة الإباحة.
لما فتح أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنطاكية، عزم على الرحيل منها، وعدم الإقامة بعسكره فيها؛ مخافة أن يألفوا جودة هوائها، ويأنسوا بطيب نسيمها، فيخلدوا إلى الراحة والدعة، وأرسل بهذه النية إلى الخليفة عمر ابن الخطاب، فكان من جواب عمر: "أما قولك: إنك لم تقم بأنطاكية لطيب هوائها، فالله عز وجل لم يحرم الطيبات على المتقين الذين يعملون الصالحات.
فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]. وكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم، أو تدعهم يرغدون في مطعمهم
…
إلخ".
وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا، فلا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانباً للزينة، ميتَ الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق، وإنما يقصد منها-فيما نفهمه- حكم أخرى؛ كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومن قصرت أيديهم عن تناولها؛ كي لا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً، ومنها: تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشره والطمع؛ كيلا يخرجا بها عن قصد السبيل،
ويتطوحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة.
فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس، يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا، وقد بيّن لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذ الحياة، ولم يصح فؤاده عن اللهو بزخرفها، ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتهم السافلة.
وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده، فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة، فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة، لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة.
ولما كان السرف في صرف الأموال، وبسط الراحة بإنفاقها، يفضي إلى نفاذها، والتشوف إلى ما في أيدي الناس، أو يؤدي-في الأقل- إلى قلتها، وعيش صاحبها كاسفاً على ما فاته من السعة ورفاهية الحال، أمر الشارع بالاقتصاد في الاستمتاع بها، ولم يرسم لذلك حداً فاصلاً، بل أوكله إلى اجتهاد المكلف، وما يعلم من وسعه، فقال تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]. وقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]. وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]. وقال: {إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27].
ولما كان الشأن في الحرير، والنقدين - الذهب والفضة - غلاءُ الثمن؛ لنفاستها، وندرتها، منع من استعمالها على التعيين، وميّز النساء في حكمها على الرجال، فأباحها لهن لباساً؛ لاحتياجهن إلى الزينة والتحسين أكثر ما يحتاج الرجال، فالنهي عن استعمال الذهب والفضة ولبس الحرير مبني على رعاية حفظ المال عن التبذير والإنفاق لغير مصلحة، ويحسب كثير من الناس أنها لم تحرم إلا لقهر النفوس، وقطع أعناقها عن الفخر والتباهي، وليس بصحيح، وإلى هذه القاعدة - قاعدة الاقتصاد - ترجع أحكام الحجر على الصبي، ومن لا يحسن التصرف في ماله.
وحرمت الإسلامية من المطاعم ما كان رجساً يعافه الطبع، ويتقذره الذوق؛ كالميتة وما ألحق بها، أو موبقاً للبدن؛ كالسموم وما شاكلها، أو مؤثراً على العقل؛ كالمسكرات، ولا ينازع في قبيح مفسدتها إلا من غرق في سكرة من الجهل والغواية.
يقول أبناء الحانات في إطرائها: تغرس الشجاعة في النفوس، قلنا: في إرغام وجوههم، أما بعد مفارقتها صحواً، فإنكم تعودون إلى سجيتكم الأولى من الخور والجبن، وأما حال استيلائها على عقولكم، فلا حكمة ولا تدبير ولا شجاعة إلا بها.
قالوا: تسلي الهموم، قلنا: وتحل عقدة اللسان، فينثر ما في كنانات القلوب من أسرار تخشون إذاعتها، وتسلية الهموم تثقف العزائم عن مقاومة أسبابها الجالبة لها إن استطاع إليها حيلة، وإلا، فالعقل الصحيح أكبر مجلبة للسلوان، وأعز مدافع لها عند الهجوم.
قالوا: تبعث في الفؤاد سروراً، قلنا: تبعث في هيئة حركاتهم كياسة تسر الناظرين، أما ما زعمتموه من مسرتكم، فضرب من التوسع في الخيال؛ إذ السراء التي يتطلبها الخاطر، ويهنأ لها ارتياحاً: ما كانت ناشئة عن موجب يشمله الوجود.
ولا ننسى أن كثيراً من الشعراء قد طغى بهم الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديح الخمر صفات الجمال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال، فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون.
فالإسلام وإن عُني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح، لم يبخس الحواس حقها، وقضى للأجسام لبانتها من الزينة واللذة بالقسطاس المستقيم.
روي أن عبد الله بن أبي السمط أنشد بين يدي المأمون أبياتاً يمتدحه بها، فلما انتهى عند قوله:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً
…
بالدين والناس بالدنيا مشاغيلُ
قال له المأمون: ما زدت على أن جعلتني عجوزاً في محراب، وبيدها سبحة، أعجزت أن تقول كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز؟:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
…
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغلُه
وقد كان المتعبّدون من قبل يترهبون بالتخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها، فنفاها النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى المسلمين عنها، فقال:"لا رهبانية في الإسلام". وتدبَّر إن شئت قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف 31]؛ فقد تبين بهذه الآية أن الزينة من علائق العبادة، غير منافية لها، وأن العبادة