الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن محدثيها: ابن عبد البر صاحب كتاب "التمهيد" الذي قال فيه ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه؟!.
ومن دلائل عنايتهم بالحديث: أن حوالي قرطبة لذلك العهد قرى كثيرة، وفي كل قرية منبر وفقيه مقلس، وكان لا يضع على رأسه القالس إلا من حفظ "الموطأ"، وقيل: من حفظ عشرة آلاف حديث، وأضاف إلى ذلك حفظ "المدونة"، هذا حال مفتي القرية! فماذا يكون حال العلماء في مجلس الشورى والقضاء بقرطبة ونحوها من المدن ذات الأرباض الفسيحة، والضواحي العامرة؟!.
وقيام علماء الأندلس على منبعي الشريعة: التفسير، والحديث، هو الذي بلغ بهم أن كانوا في طليعة من حاربوا البدع والمحدثات، فقد كتب فيها أبو بكر الطرطوشي، وأثخنها أبو بكر بن العربي في مؤلفاته، وقاتلها أبو إسحاق الشاطبي في كتابي "الموافقات" و"الاعتصام" قتالاً عنيفاً.
*
علم الفقه:
ظهر في الشرق أعلام الاجتهاد والفتوى؛ أمثال الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وأخذ الناس يتلقون أقوالهم ومذاهبهم بالرواية والتدوين، وكان ممن اختص بالإمام الأوزاعي: صعصعة بن سلام، فقدم الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل، وبه انتشر مذهب الأوزاعي هناك، وأصبحت الفتوى تدور على هذا المذهب إلى أيام هشام بن عبد الرحمن.
في أيام هشام بن عبد الرحمن رحل فريق من أهل الأندلس إلى الشرق، وجلسوا إلى مالك بالمدينة، وأخذوا عنه، ثم عادوا بكتاب "الموطأ"، ووصفوا من فضل مالك وسعة علمه ما عظم به صيته، فانتشر مذهبه، وبقي العمل في
القضاء والفتوى عليه إلى أن أفلَتْ شمس الإسلام من تلكم الآفاق.
وذهب ابن حزم في سبب انتشار مذهب الإمام مالك بالأندلس إلى وجه آخر، فقال: إن يحيى بن يحيى الليثي أحد رواة "الموطأ" عن مالك، كان مكيناً عند السلطان، مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى لم يلِ قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم، وداعياً إلى قبول رأيه لديهم.
والتاريخ والمشاهدة يدلان على أن المذهب ينتشر في الناحية حيث يختص أصحابه بمنصب القضاء ونحوه، وينتشر في الناحية حيث يكون كبار علمائها أو معظمهم ممن تفقهوا عليه، وصاروا من أشياعه. ولعل انتشار مذهب مالك بالأندلس يرجع على السببين كليهما.
يتفقه أهل الأندلس على مذهب مالك بن أنس، إلا أن كثيراً منهم يأنسون في أنفسهم الكفاية للاجتهاد أو الترجيح، فيأخذون بما يرونه الصواب، وإن خالف مذهب مالك وأصحابه جميعاً.
وممن أصبح مستقل النظر في الأحكام: القاسم بن محمد بن سيار الذي قال فيه محمد بن عبد الحكم: "لم يقدم علينا من الأندلس أعلم من القاسم ابن محمد". وقال في شأنه ابن حزم: "وإذا سمينا القاسم بن محمد، لم نباه به إلا القفال، ومحمد بن عقيل الفريابي".
كان القاسم بن محمد مستقل النظر، وكان إذا استفتاه الناس، أفتى بمذهب مالك، ولما خاطبه أحمد بن خالد في هذا، وقال له: أراك تفتي
الناس بما لا تعتقد، وهذا لا يحل لك. أجابه بقوله:"إنما يسألونني عن مذهب جرى في البلد، وهم يتقلدونه، فأفتيهم به، ولو سألوني عن مذهبي، لأخبرتهم به".
وممن كان لا يأخذ بمذهب مالك: منذر بن سعيد البلوطي؛ فإنه مال إلى مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى الأخذ بالظاهر، واطراح القياس، ولغزارة علمه، ورسوخ فضله، قلده عبد الرحمن الناصر القضاء بقرطبة، وأخذ عليه أن لا يقضي إلا بمشهور مذهب مالك، فكان إذا جلس للفصل بين الناس، قضى على مذهب مالك؛ عملاً بما شرط عليه الخليفة.
وكذلك كان أبو محمد بن حزم، فإنه مال إلى مذهب الشافعي، ثم انتقل إلى الأخذ بالظاهر، والامتناع من القياس؛ بدعوى أن نصوص الشريعة تتناول كل حادثة إلى أن يأتي أمر الله، وصار لابن حزم هنالك شيعة، ومن مؤلفاته في أحكام الفقه كتاب "المحلى بالآثار" الذي قال في وصفه عز الدين بن عبد السلام:"لم يؤلف مثله في الإسلام".
وإنا لنجد الكاتبين في تاريخ الأندلس يقولون في وصف كثير من علمائها: "وكان يميل إلى النظر والحجة"، أو يقولون:"كان يميل في فقهه إلى النظر والأخذ بالحديث". أو يقولون: "له اختيارات في الفتوى والفقه خارجة عن المذهب". أو يقولون: "كانت له مذاهب أخذ بها في خاصة نفسه، وخالف فيها أهل قطره".
وهذا يدلنا على أن علماء الأندلس يتفقهون على مذهب مالك، ومنهم من يدرك مرتبة الاجتهاد أو الترجيح، فيرجع إلى الحجة والدليل.
هذا شأنهم في الفقه، أما شأنهم في أصول الفقه، فقد وصفهم أبو