الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعاون العقل والعاطفة على الخير
(1)
في النفس قوة النظر والفكر، وذلك ما نسميه بالعقل، وفي النفس قوة الميل إلى الشيء والرغبة فيه، وذلك ما نسميه بالعاطفة. فالعقل يدرك حسن الشيء أو قبحه، والعاطفة تجعل النفس محبة له راغبة فيه.
وإذا حدثنكم عن العقل، فإنما نريد: العقل السليم؛ فإن هذا هو العقل الذي يدرك في أغلب أحواله الخير أو الشر على ما هو عليه. ولا أسلم من عقل تربّى في أحضان الدين الحق، وتغذّى بلبان حكمته الغراء.
أما العاطفة، فقد تتجه إلى ما يألفه العقل، وتسير مع العقل جنباً لجنب، وهي العاطفة الشريفة المحمودة. وقد تتجه إلى ما ينكره العقل، ويكون العقل في وادٍ وهي في وادٍ، وهي العواطف التي نسميها: أهواء وشهوات جامحة.
*
اختلاف العقل والعاطفة:
يدرك العقل الخير والشر، ولا سيما عقلاً يزنهما بقسطاس الشريعة العادلة، ولكن العاطفة قد تنصرف عن الخير، وتأخذ بزمام النفس إلى ما هو شر، فتعد مناوئة للعقل، خارجة عن سلطانه، وقد نبّه القرآن المجيد لهذا النزاع، وحذّر من الانحطاط مع العواطف، فقال تعالى: {وَعَسَى أَنْ
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد الرابع عشر.
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
فالنفوس قد تحب الشيء، وحقُّها أن تكرهه؛ لأنه شر، وقد تنفر منه، وحقُّها أن ترغب فيه؛ لأنه خير. وينبني على هذا التنبيه: أن الإنسان لا ينبذ الشيء لأول ما تنقبض منه العاطفة، ولا يمد إليه يده لأول ما يحس تعلق العاطفة به، بل يرسل فكره في طلب الاستدلال على أنه خير حتى يتعاطاه، أو أنه شر حتى يتحاماه.
يختلف العقل والعاطفة، وإذا تعلقت العاطفة بما أنكره العقل، كانت العاطفة هي الخاطئة، ومن جرى في عمله على إرضائها، فقد ازدرى العقل، وضلَّ سواء السبيل، وليس من الممكن أن يدرك العقل الناشئ في مهد العلم الصحيح شيئاً، ويذعن له، ثم تخالفه العاطفة، فتميل إلى غير ما أذعن له العقل، ويكون كل منهما على هدى، وقد زعمت طائفة من المناوئين للدين الحق أن قضايا الدين تتقلبها العواطف، وقضايا العلوم تتقبلها العقول، وأن العواطف قد تتقبل أشياء لا تسلمها العقول، ولم يكبر عليهم أن يقولوا: إن قبول العاطفة للقضية الدينية وإنكار العقل لها لا يتنافيان.
قالوا هذا حين قصدوا لصرف الناس عن وجهة الدين من طريق المداجاة والمخاتلة، فتسمعهم يقولون لمن أرادوا إغواءه: إن الدين لا يلزم أن يكون مطابقاً للعلم؛ لأن العلم يجيء من ناحية العقل، فنقبله على أنه ثمرة الفكر، وإن الدين نتقبله بقلوبنا وعواطفنا، ولا يضره عدم تسليم العقل.
وقد يأتي أولئك المخادعون إلى أشياء قررها الدين، وهي في زعمهم مخالفة للعلم، ويتظاهرون بأنهم يؤمنون بما جاء به الدين، فيقولون: هذا
قرره العلم، فنتقبله بعقولنا، وهذا قرره الدين، فنتقبله بعواطفنا.
ونحن نفهم أن الدين الحق قد يقرر شيئاً من الأحكام يقصر العقل عن فهم حكمتها؛ ككون صلاة المغرب ثلاث ركعات، أو يخبر بشيء يعجز العقل أن يقيم الدليل على إثباته؛ كبعض الأخبار الواردة في الجنة أو النار، ولكنا ننفي نفياً قاطعاً أن يقرر الدين شيئاً، فينكره العقل؛ أي: إن العقل يستطيع أن يقيم الدليل المقبول على انتفائه.
الحقيقة التي نصدع بها موقنين، ونخرج من مقام الدفاع عنها ظافرين، هي أن كل ما يقرره الدين لا تجرؤ العقول على إنكاره، إلا عقولاً لا ترجع في إنكارها إلى منطق صحيح.
والذين يريدون استهواء أفراد أو جماعات إلى مذهب زائغ، أوعمل فاسد، يتجنبون أن يأتوهم من ناحية العقل والمنطق؛ لعلمهم أن العقل والمنطق إنما يقفان بجانب الحق والفضيلة، فتجدونهم يلجؤون إلى أن يأتوهم من ناحية العواطف، حتى إذا وجدوها مستعدة لأن تنحدر في طريق غير طريق العقل، أخذوا يجاذبونها، ويغذونها بما يزيد في عوجها، حتى تخرج عن سلطان الحكمة، وهذا مايفعله الدعاة إلى غير هداية؛ من نحو: إعداد مستشفيات أو ملاجئ ينصبونها حبائل لاصطياد الغافلين من المسلمين.
وكذلك يفعل الملاحدة والإباحيون؛ إذ يتخذون في وسائل إغواء فتياننا وفتياتنا، وإبعادهم عن حظيرة الدين، فتح باب الشهوات في وجوههم؛ من نحو: استحسان التبرج، واختلاط الجنسين، حتى يبلغ بعضهم أن يقول في غير استحياء: إن الدين لا يمنع من اختلاط الفتيان بالفتيات.
وقد حذر بعض الحكماء من الطائفة التي تأتي الناس من ناحية أهوائهم،
فقال: أخوك من صدقك، وأتاك من ناحية عقلك، لا من ناحية هواك.
والظالمون المستبدون يعملون على هذه الشاكلة، حيث لا يجدون من ذوي العقول الراجحة أولياء، فيفتشون عمن ينقادون إلى عواطفهم- أي: أهوائهم - دون عقولهم، فيتخذون منهم أعواناً، ويشبعون أطماعهم بالأموال والمناصب وغيرها من الملاذّ المادية.
ولو رجعنا إلى التاريخ، لوجدنا أكثر أعوان الظالمين هم من ذوي النفوس التي تجري مع العواطف السافلة، ولا تقيم لنصائح العقول وزناً.
وقد جاء القرآن الكريم إلى عواطف شأنها أن تجمح بالإنسان إلى حيف، أو تصده عن القيام بواجبه، فحذر من الإفراط في مسايرتها؛ مثل: الأبوة والبنوة، والزوجية والصداقة، قال تعالى:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
ونظر شارع الإسلام إلى عواطف يغلب عليها الخروج عن حد الاعتدال، وبنى الحكم على ما هو الغالب عليها من الإفراط والغلو، كما جعل الأبوة والبنوة والزوجية من وجوه الطعن في الشهادة، فلا تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا شهادة الأب لابنه، وإن كانا معروفين بالعدالة، ذلك أن عاطفة الأبوة أو البنوة قد تطغى، فتقع بصاحبها في شهادة غير صادقة.
وقد يتنازع العقل والعاطفة إرادةَ الشخص إلى أن يتغلب سلطان أحدهما على سلطان آخر، وكثيراً ما تحذر الشريعة السمحة من الانقياد إلى العاطفة التي
تثور على سلطان العقل؛ كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور: 2].
فالعقل يتجه إلى ما يوجهه إليه الدين من إنكار السفاح، واستحسان إقامة الحد على مرتكبه، ولكن عاطفة الشفقة قد تهز في القلب، فتجعله ينفر من إجراء العقوبة على الزاني، وهذا ما يحذر منه كتاب الله بقوله:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} .
والذين ينكرون بعض ما شرع الله من الحدود؛ كقطع يد السارق، وجلد القاذف، ورجم الزاني المحصن، لا يرجعون في إنكارهم إلى رويَّة ونظرات في المصالح والمفاسد صحيحة، وإنما أخذوا إلى ما يقولون بعاطفة عمياء، أو ذوق غير سليم.
تقوى العواطف وتضعف، والتغلب على العاطفة القوية دليل قوة البصيرة، وإيثار الفضيلة على الرذيلة، فمن يخرج للحرب - مثلاً -، وقد ترك وراءه رزقاً واسعاً، وأهلاً يعزّ عليه فراقهم، يفضُل من خرج إلى الحرب، ولم يترك من ورائه شيئاً يأسف عليه.
وأراد جرير أن يبالغ في مدح قوم بطموحهم إلى أقصى مراقي المجادة، فنبه على أن العواطف التي شأنها أن تصرفهم عن هذه الوجهة، لا تنال من عزائمهم شيئاً، حيث قال:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
دون النساء ولو باتت بأطهار
ونبه آخر على أن عاطفة المحبة لا تشغله عن واجب الدفاع، فقال:
وترانا يوم الكريهة أحرا
…
راً وفي السلم للغواني عبيدا
وإذا كانت الشجاعة درجات، فإن هذه الدرجات ترتفع على قدر
ما يقاوم الإنسان من العواطف الشخصية، ويرمي بها وراء ظهره.
قال عبد الملك بن مروان لجلسائه: من أشجع الناس؟ فأكثروا من ذكر الأبطال، فقال لهم: أشجع الناس مصعب بن الزبير: جمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عباس، وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب، فبذلتُ له الأمان والمال والولاية، فأبى أن يقبل ذلك، واطّرح كل مشغوف به في ماله وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قَرْماً، يقاتل ما بقي سبعة نفر، حتى قتل كريماً.
وعلى هذا المنوال يجري كثير من خصال الحمد؛ كالكرم، والإنصاف، قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
…
الجود يُعْدِم والإقدام قتّالُ
والمشقة التي تعرض لطالب السيادة هي التعب الذي يلاقيه في مخالفة ميول نفسه، من نحو حب الحياة، والحرص على الاستئثار بالمال، والتوسع في الاستمتاع به.
وشأن الإنسان حب الانتقام ممن ألحق به أذى، فإذا كان للأذى الذي لحقه وجه من الحق، وكان الذي ألحق به الأذى على جانب من الفضل، كان مدحه له بدل هجائه تقديماً لداعي العقل على العاطفة الجامحة، وذلك هو الإنصاف.
كان سعيد بن الجودي عاقب المقدام بن المعافى، وكان شاعراً، وشأن هذا العقاب أن يهيج في نفس المقدام بغض سعيد، وحب الانتقام منه بما يقدر عليه من الهجاء، ولكن المقدام رثى سعيداً بعد موته، فقيل له: أترثيه، وقد أصابك بالضرب؟! فقال: والله! إنه نفعني حتى بذنوبه، ولقد نهاني ذلك الأدب