الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقائده وتكاليفه برغبة حريصة، واختيار من تلقاء أنفسهم.
وأحياناً تستند تلك السلطة إلى هيئة حكومة، كما مرَّ في الأزمنة الغابرة على أقوام مثل الجرمان، وهم على حالة قبائل بدوية، وحكومة كل منهم في قبضة رئيس يدير شؤونهم كيف يريد، ويسخّرهم كما تسخَّر الأنعام إلى حيث تشاء أغراضه الذاتية، ولما امتدت ولاية الرومانيين على كثير من أوروبا، ضمت تحت جوانحها أولئك الطوائف، فازداد خناق الاستعباد في أعناقهم ضيقاً وارتباطاً، ومن أثر ذلك: أن الحكومة لم تساو بينهم وبين أبناء جنسها فيما تمنحهم من الحقوق والامتيازات، إلى أن عانقوا الديانة المسيحية بواسطة انتشارها بين الرومانيين.
فالأمة التي بليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد، وهي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب
الحرية
.
* الحرية:
تنبئ هذه الكلمة بسائر تصاريفها في اللسان العربي على معان فاضلة ترجع إلى معنى الخلوص، يقال: حرَّ يَحَرُّ، كظلَّ يظل، حَراراً - بالفتح - بمعنى: عتق، والاسم: الحرية، والحرّ: خلاف العبد، والخيار من كل شيء، والفرس العتيق، والفعل الحسن، والحر من الطين والرمل: الطيب، والحُرّة ضد الأمة، والحرة من السحاب: الكثيرة المطر، وتطلق على الكريمة من النساء، ووردت صفة للنفس في كثير من أشعارهم. قال سحيم عبد بني الحسحاس:
إن كنتُ عبداً فنفسي حرةٌ كرماً
…
أو أسودَ اللون إني أبيض الخُلُق
وجاء لمعنى استقلال الإرادة، وعدم الخضوع لسلطان الهوى:
وترانا يوم الكريهة أحرا
…
راً وفي السلم للغواني عبيدا
وعليه بني الصوفية اصطلاحهم في إطلاق اسم الحر على من خلع عن نفسه إمارة الشهوات، ومرق سلطتها بسيوف المخالفة كل ممزق. قال الإمام الجنيد فيما روي عنه: لو صحت الصلاة بغير القرآن، لصحت بقول الشاعر:
أتمنَّى على الزمان محالاً
…
أن ترى مقلتاي طلعة حرِّ
وقد دارت هذه الكلمة، كلمة الحرية، على أفواه الخطباء، ولهجت بها أقلام الكاتبين، ينشدون ضالتها عند أبواب الحكومات، ويقفون للبحث عن مكانها، وتمكين الراحة من مصافحتها، وقوفَ شحيح ضاع في الترب خاتمه.
ينصرف هذا اللقب الشريف في مجاري خطابنا اليوم إلى معنى يقارب معنى استقلال الإرادة، ويشابه معنى العتق الذي هو فكُّ الرقبة من الاسترقاق، وهو أن تعيش الأمة عيشة راضية تحت ظل ثابت من الأمن وعلى قرار مكين من الاطمئنان، ومن لوازم ذلك: أن يعين لكل واحد من أفرادها حد لا يتجاوزه، وتقرر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يد غالبة؛ فإنّ في تعدي الإنسان الحدَّ الذي قضت عليه أصول الاجتماع بالوقوف عنده ضرباً من الإفراط، ويقابله في الطرف الآخر حرمانه من التمتع بحقوقه؛ ليستأثر غيره بمنفعتها، وكلا الطرفين شعبة من شعب الرذائل، والحرية وسط بينهما على ما هي العادة في سائر الفضائل، ومن كشف عن حقيقتها المفصلة ستار الإجمال، أشرف على أربع خصال مندمجة في ضمنها:
أحدها: معرفة الإنسان ما له وما عليه؛ فإن الشخص الذي يجهل حقوق الهيئة الاجتماعية ونواميسها، لا يبرح في مضيق الحجر مقيدَ السواعد عن التصرف حسب إرادته واختياره، حتى يستضيء بها خبرة، ويقتلها علماً؛ إذ لا يأمن أن تطيش أفعاله عن رسوم الحكمة والسداد، فيقع في خطيئة تحدث في نظام تلك الهيئة علة وفساداً، ولا يخالط الضمائر من هذا أن الحرية مقصورة على علماء الأمة العارفين بواجباتها؛ إذ للأمييّن منها مخلص فسيح، وهو باب الاستفتاء والاسترشاد. قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ثانيها: شرف نفس يزكي طويتها، ويطهر نواياها من قصد الاعتداء على ما ليس بحق لها، فلا ترمي بهمتها إلا في موضع تشير إليه العفة ببنانها.
ثالثها: إذعانٌ يدخل به تحت نظر القوانين المقامة على قواعد الإنصاف، ويستنزله ريثما تحرر ذمته من المطالب التي توجه إليها باستحقاق.
رابعها: عزة جانب، وشهامة خاطر يشق بها عصا الطاعة للباطل، ويدمغ بها في قوة من يسوم عنقه بسوء الضيم والاضطهاد:
ولا يقيم على ضيمٍ يراد به
…
إلا الأذلّان عَيْرُ الحي والوَتِدُ
نستنتج من هذا البيان: أن الأساس الذي ترفع عليه الحرية قواعدها ليس سوى التربية والتعليم، فيتأكد على الحكومة التي تنظر إلى فضيلة الحرية بعين الاحترام، أن تسعى جهدها في تهذيب أخلاق الأمة، وتنوير عقولهم بالتعليمات الصحيحة قبل كل حساب، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
يخال بعض الناشئة أن الحرية حق يبيح لصاحبه أن يجهر بكل ما يقدح في فكره من الآراء، وينشر في مقاله كل ما يؤلفه من الهجاء والأوصاف الشائنة كما يفعل الشاعر الحطيئة، وهذا المعنى بضعة من الحرية، ولكن بعد سبكه وإفراغه في قالب أصل من الأصول التي سنتلوها عليكم في مبحث: الحرية في الأعراض.
وتطرّف فريق من الناس، ففسروا الحرية بأسوأ تفسير، وتأولوها على معنى: امتثال داعية الهوى بإطلاق وتنفيذ الإرادة، وإن مسَّ غيره بأذى، أو حجره عن حق ثابت لا يعترضه فيه نزاع، وترى كثيراً منهم لا يتصور لها معنى سوى حمل السلاح تحت لواء القوة، وإعماله في سبيل الاغتصاب.
ولا يصح في نظر أي عقل كان أن يعنون على أثر من آثار سوء الضمير ودناءة الطمع، باسم فضيلة يدرك بها المحكوم شأو الحاكم، ويترشح بها لمشاركته في اللقب كما شاركه في استقلال الإرادة، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].
فتسمية بني إسرائيل جميعهم في ذلك العهد ملوكاً، انجرَّ لهم من الحرية التي نالوها بعد مغادرة أوطان الذلة، والتملص من سوء العذاب والاستعباد الذي سامهم به آل فرعون، ووضعوه في أعناقهم سلاسلاً وأغلالاً.
يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين هما: المشورة، والمساواة. بالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطَّرد نفاذها، وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها وسوّاها.