الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقول الفاصل في هذا: أن صديق المنفعة متى عرف الإنسان وجه صداقته، كان له أن يحترس منه، ويكون هذا موضع الأشعار التي تنصح بالاحتراس من الأصدقاء، أما من انعقدت بينك وبينه صداقة الفضيلة، وكنت على يقين من أن هذا وجه صداقتكما، فلا موضع للاحتراس منه.
فإن اجتهدت أيها الألمعي رأيك في صداقة شخص، وبدا لك أنها صداقةُ فضيلة، ثم رأيت منه ما لم تكن تحتسب، فلا يحملك هذا الخطأ في الاجتهاد على الاحتراس من كل صداقة، فإن ما وقع إنما هو أمر نادر، والأمور النادرة لا تتخذ مقياساً في معاملة الأصدقاء، ولا تستدعي أكثر من أن تستعيذ بالله من شرها، ثم تمضي مع أصدقائك الفضلاء في وداعة خلق، وسماحة نفس.
*
هل الصداقة اختيارية
؟
إذا كانت الصداقة الشريفة ترجع إلى محبة الشخص لفضيلته، كانت غير اختيارية؛ لأنها ترتبط بسبب هو الفضيلة. وقد أشار بعض الأدباء إلى أنه لا منّة له في الصداقة حتى يستحق عليها الحمد، فكتب إلى صديق له:"إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام؛ لأن النفس يتبع بعضها بعضاً".
والواقع أن الاختيار يرجع إلى فتح الصدر لها، وربط القلب عليها، والسير في الأقوال والأفعال على مقتضى عاطفتها، فإذا حمدت الرجل على صداقته، فإنما تحمده على أن أقرَّها في صدره مغتبطاً بها، ثم جرى على ما تستدعيه من نحو المواصلة والمؤانسة.
*
دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة:
يزعم بعض الأدباء أن الصداقة الخالصة من كل شائبة مفقودة، ومن
هؤلاء من ينفيها من الدنيا بإطلاق، كما قال أبو الجوائز الحسن بن علي:
دع الناس طراً واصرف الودَّ عنهم
…
إذا كنت في أخلاقهم لا تسامحُ
ولا تبغ من دهرٍ تظاهر رنقه (1)
…
صفاء بنيه والطباع جوامحُ
وشيئان معدومان في الأرض: درهمٌ .... حلالٌ، وخلٌّ في الحقيقة ناصحُ
وقال آخر:
زمانٌ كلُّ حِبٍّ فيه خَبٌّ
…
وطعم الخِلِّ خَلٌّ لو يذاقُ
له سوقٌ بضاعته نفاقٌ
…
فنافقَ فالنفاقُ له نَفاقُ
ومنهم من يشكو أهل زمانه، ويخبر بأنه لم يجد من بينهم من يصطفيه للصداقة؛ كما قال بعضهم:
خبرت بني الأيام طرّاً فلم أجدْ
…
صديقاً صدوقاً مسعداً في النوائبِ
وأصفيتهم مني الوداد فقابلوا
…
صفاء ودادي بالنوى والشوائبِ
وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته
…
فأحمدته في فعله والعواقبِ
وكما قال الطغرائي:
فلا صديق إليه مشتكى حزني
…
ولا أنيس إليه منتهى جذلي
والحق أن صاحب الفضيلة لا يعدم الصديق الفاضل، وتحمل هذه الأشعار وأمثالها على أن أصحابها قد نظموها في أحوال خاصة؛ كأن يروا من بعض من كانوا يعدونهم أصدقاء أموراً يكرهونها، أو يروا منهم سكوناً حيث يجب عليهم أن يتحركوا لإسعادهم.
(1) رنقه: كدره.