الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مضارُّ الإسراف
(1)
تعظم الأمة، وترقى في سماء العزة والمنعة بخصال، من أكبرها أثراً: الاقتصاد في الإنفاق، والاقتصاد فضيلة بين رذيلتين، هما: البخل، والإسراف.
وتقديره يختلف باختلاف أحوال الأشخاص؛ من اليسار، وقلة ما في اليد، وضابطه: أن لا يتجاوز الإنسان في نحو مطعمه وملبسه ومسكنه وأثاث منزله سيرة من يماثلونه في مقدار ما يملك أو يكسب من المال، وهم يعيشون في مروءة وسلامة من هموم الدَّين.
ولما كان الاقتصاد يقوم على عدم الاسراف في الترف، اخترنا أن نجعل حديثنا في الإسراف وما يجرُّ إليه من عواقب وخيمة.
الإسراف يفضي إلى الفاقة، ذلك أن المسرف يطلق يده في الإنفاق إرضاء لشهواته حتى يفقده ما عنده، وينزل إلى طبقة المقلّين أو المعدمين، وكم من بيوت أسسها آباء مقتدرون، وعمَّروها بما يليق بها من المرافق والأمتعة، وأقاموا حولها وسائل للثروة؛ من نحو: المزارع أو المصانع أو المتاجر، ثم صارت إلى أبنائهم من بعدهم، وقد غلب عليهم حب الترف، فأطلقوا لشهواتهم العنان حتى أتلفوا وسائل الثروة، وتقوَّض بناء تلك البيوت،
(1) محاضرة الأمام في دار الإذاعة المصرية بالقاهرة بدعوة من صزارة الشؤون الاجتماعية. ونشرت في مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول والثاني من المجلد الرابع عشر.
والتحق أولئك الخلف بطبقة الذين لا يجدون ما ينفقون.
وإذا وقع الرجل في الفقر بعد اليسار، تجرّع مرارة الهوان المصحوب بحسرات، وكذلك الأمة تملك عزتها بقدر عمارة بيت مالها، قال أبو جعفر المنصور في وصيته للمهدي:
"فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً".
ومن ثم كان القاضي منذر بن سعيد البلوطي يواجه الخليفة عبد الرحمن الناصر بالنهي عن الإسراف في المباني وزخرفتها، ويلقي بحضرته الخطب الزاجرة، حتى خاطبه يوماً بقوله:
يا باني الزهراء مستغرقاً
…
أوقاته فيها أما تمهلُ
لله ما أحسنَها رونقاً
…
لو لم تكن زهرتها تذبل
ثم قال: اللهم اشهد فقد بلّغت.
والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة، من نحو: الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.
أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن، فلأن شدة تعلق النفوس بالزينة واللذائذ من العيش يقوّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن النفس والعرض والمال.
شأن المحفوف بالزينة وملاذ العيش أن تشتد كراهيته للموت، ولا يسابق إلى خوض غمار الحروب، لهذا ترى الرجل الذي يريد أن يجعل لشجاعة ممدوحه مزية زائدة، يحدثك أنه يندفع إلى الحروب غير مبال بما تركه وراءه من لذة وزينة، كما قال الحطيئة العبسي:
إذا همَّ بالأعداء لم يثن عزمَه
…
كَعابٌ عليها لؤلؤ وشنوفُ
حَصانٌ لها في البيت زيٌّ وبهجة
…
ومشيٌ كما تمشي القطاة قطوفُ
وإذا كان شأن المترفين الفرار من الموت، فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح.
وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور، فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا لا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.
دعي العلامة محمد بن بشير إلى ولاية القضاء بقرطبة، فاستشار بعض أصحابه في قبول الولاية، فسأله صاحبه عن أشياء؛ ليعلم مقدار قوته في العدل، ومما قاله له: كيف حبك للأكل الطيب، واللباس اللين، والمركوب الفاره؟ قال: والله! لا أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به بدني، وحملت به رحلي، قال: اقبل الولاية، فلا بأس عليك.
وأما أن الإسراف في الترف يذهب بالأمانة، فلأن الغريق في الترف إنما همه الوصول إلى الزينة، أو لذة مطعم ونحوه، وكثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي يؤتمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.
وأما أن الإسراف في الترف يمسك الأيدي عن فعل الخير، فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه، كان أعظم قصده من جمع المال: إنفاقه فيما يلذه من مأمول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.
لذلك كان الغالب على المترفين المسرفين قبض أيديهم حيث يبسط غيرهم يده إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة من مجاملات الإخوان، ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئة أخرى، هي قطع صلة التعاطف والتواد بين كثير من أفراد الأمة.
وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة، والدعوة إلى الحق، ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وألفت نفسه العيش الناعم، يغلب عليه الحرص على هذا الحال، فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم؛ كسكوته عن كلمة حق بين يدي ذي جاه أو سلطان يكره أن يسمع صوت الحق، ومن ترك أن يواجه بكلمة حق ذا جاه أو سلطان يخشى أن يحول بينه وبين رفاهيته، سهل عليه أن يترك الدعوة إلى الحق جملة.
وللإسراف في الترف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي بها المقتصدون فيما يأكلون وما يشربون، وقد أورد ابن خلدون في "مقدمته" حديثاً عن الأمراض، ونبّه على أنها تكثر في أهل الحضر والأمصار؛ لخصب عيشهم، وكثرة مآكلهم، وقلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية، ثم نبه على أن تلك الأمراض تقل في أهل البادية؛ لقلة مأكولاتهم، وبساطة أغذيتهم.
وإذا كانت الصحة من متممات البطولة، كان حقاً على الأفراد والجماعات أن يأخذوا في مآكلهم ومشاربهم بحكمة الاقتصاد، فلا فضل للأمة في أن تضع على موائدها ألواناً من الأطعمة مختلفة، وإنما الفضل في أن يكون لها رجال سليمة أبدانهم، قوية عزائمهم، مضيئة بصائرهم.
والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم، ذلك أن النفس المحفوفة
بالرفاهية من كل جانب، يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذَّة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية، ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تدرَك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرف في الترف ضعيف العزيمة، لا يثبت أمام المكاره والشدائد.
هذا شأن الإسراف في الترف.
ولكن التاريخ قد حدثنا عن أفراد نشؤوا في بيوت توفرت فيها وسائل الرفاهية، ولم يكونوا بحال المترفين المستضعفين، بل نشؤوا وقد عظم في نفوسهم الطموح إلى معالي الأمور، فاحتقروا ما يسمى لذَّات حسيَّة، وإن كانت طوع أيمانهم وشمائلهم، وأقبلوا على العلم، أو على ضرب آخر من ضروب السيادة، فأدركوا فيه غاية قصوى؛ مثل: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد نشأ في بيت إمارة، وحينما تولى الخلافة، استطاع بما وهبه الله من الحكمة والروية أن لا يقيم للزينة والأطعمة الفاخرة وزناً، فعاش عيشة الكفاف، وخزائنُ الأرض طوع يمينه، وتوفي وقد أبقى سيرة غرًاء، وذكراً أطيب من ريح المسك. ومثل أبي محمد بن حزم الذي نشأ في بيت وزارة بالأندلس، وتولى هو نفسه الوزارة، ثم نفض يده، وانقطع للازدياد من العلم، حتى ارتقى إلى طبقة كبار العلماء بنظر مستقل، وقلم بارع.
ونحن إذا حذرنا من الإسراف في الترف، لا نريد من الناس أن يكونوا على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذ، فقد قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وإنما نريد: الدعوة إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الحرص على الزينة واللذيذ من العيش، حتى لا تجعلها مظهر الفخار والمباهاة:
يفاخرنا بمأكول ولبس
…
وذلك فخر ذي حظ هزيل
وقد سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم؛ أعني: طريق الاقتصاد، فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير، نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29]، وألحق المسرفين بقبيل الشياطين، فقال تعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الأسراء: 27]، وعدّهم في زمرة من يستحقون بغضه، فقال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ونفي محبة الله للطائفة كناية عن بغضه إياهم.
وأثنى الله تعالى على المصطفين من عباده بفضيلة الاقتصاد، فقال:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
ونظر الشارع الحكيم إلى أن الإسراف يذهب بسعادة الفرد والأسرة، فشرع إقامة أولياء على أموال من لم يبلغوا سن الرشد، أو من بلغوه وظهر عليهم السفه في تصرفاتهم؛ لينفق الأولياء عليهم باقتصاد، حتى يتبين رشدهم، قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وإذا كان المسرف في إنفاق ماله ملوماً أو مذموماً، فإن الذي يقترض مال غيره لينفقه في الشهوات أحقُّ بالملام أوالمذمة، قال الشاعر الحكيم:
إذا رمت أن تستقرض المال من أخ
…
تعودت منه اليسر في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كيس صبرها
…
عليك وإنظارها إلى ساعة اليسر
فإن أسعفت كنت الغني وإن أبت
…
فكل منوع بعدها واسع العذر
وقد نظر بعض الحكماء إلى ما يجره الدين من الذلة والهموم، فكرهه حتى لمن تحدثه نفسه أن يقترض مالاً لينفقه في تثبيت سؤدده، فقال:
أخذتُ الدَّين أدفع عن تلادي
…
وأخذُ الدين أهلكُ للتلاد
ولا حرج في الدين متى دعت إليه حاجة ملحة، وكان المقترض واثقاً بسماحة نفس المقرض، مع العزم على قضاء الدَّين عند حلول أجله.
يعيرني بالدين قومي وإنما
…
تداينت في أشياء تكسبهم حمدا
نحذر من عواقب الإسراف، وندعو إلى الاقتصاد، ولا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال؛ من نحو: النفقات الواجبة عليه لأقاريه، والزكوات المفروضة للفقراء والمساكين، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة؛ كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجئ، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة، والدفاع عن حقوقها.
وليس غنى إلا غنى زَيَّن الفتى
…
عشية يعرى أو غداة ينيل
ورُمي محمد بن عمران بالبخل، فقال:"والله إني لا أجمد في الحق، ولا أذوب في الباطل".
ويقولون: "لا تصن كثيراً عن حق، ولا تنفق قليلاً في باطل".
وقيل لكريم بذل في وجوه البر مالاً كثيراً: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
لا يضر أولي اليسار أن يقتصدوا في أطعمتهم وملابسهم متى كانوا يبذلون أموالهم فيما تكمل به المروءة، وتدعو إليه حقوق المجتمع، بل يزيدهم ذلك الاقتصاد مكرمة على مكرمة.
قال قتيبة بن مسلم: أرسلني أبي إلى ضرار بن القعقاع، وقال لي: قل
له: في قومك دماء وجراح، وقد أحبوا أن تحضر المسجد فيمن يحضر؛ لتقوم بقسطك من الديات، قال: فأتيته وأبلغته، فقال: يا جارية! هاتِ الغداء، فجاءت بأرغفة خُشن، ففتتهن في نقيع من التمر، ثم صب عليهن زيتاً، فأكل، وقال: الحمد لله، حنطة الأهواز، وتمر الفرات، وزيت الشام. ثم انطلق إلى المسجد، فصلى ركعتين، واجتمع من قومه الطالبون للديات والمطلوبون، فأكثروا الكلام، فقال ضرار: إلى ما صار أمركم؟ قالوا: إلى كذا وكذا من الإبل، فقال: هي عليَّ كلها، ثم قام وانصرف إلى منزله.
فلو كان ضرار بن القعقاع من المسرفين في الترف، لما تبرع بجميع ما لزم القوم من الديات، ولم يزد على أن تحمل قسطاً ضئيلاً من نحو ما يتحمله المسرفون في الترف وهم كارهون.
نشكو إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، ومن أمثلة هذا الإسراف الممقوت: مظاهر الأفراح والمآتم؛ فإنها تقام عندنا على غير حكمة وحسن تقدير، وتأكل من الأموال ما لا يجر إلى صاحبها حمداً، بل شأنه أن يسوق إليه ذماً أو إثماً.
وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضار كثيرة، كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل، حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم ومشاريهم، وملابسهم ومراكبهم، ومساكنهم وأمتعة بيوتهم، ويتحروا في جميع ذلك الطريقة المثلى.
قال ابن الخطيب في مقالته السياسية: "رعيتك ودائع الله عندك"، ثم قال:"ورِضْهم على الإنفاق بقدر الحال".